فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة بل هي سنة بقول رسول الله وفعله فانه قال إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه

ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلاها رسول الله في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثا وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات وقال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن

وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد

وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده ويقرهم وإقراره سنة منه

وأما قول عمر نعمت البدعة هذه فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا قول الصاحب ليس بحجة فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث

فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب

نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة أما غيرها فلا

ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل مالم يدل عليه دليل شرعي

فإذا كان نص رسول الله قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي المهاجرين إلى الحبشة إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف

ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة

فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة

وقد علم أن قول النبي كل بدعة ضلالة لم يرد به كل عمل مبتدأ فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ وإنما أراد ما ابتديء من الأعمال التي لم يشرعها هو

وإذا كان كذلك فالنبي قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فعلل عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد واسرج المسجد فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل فسمي بدعة لأنه في اللغة يسمى بذلك وإن لم يكن بدعة شرعية لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض وخوف الافتراض قد زال بموته فانتفى المعارض

وهكذا جمع القرآن فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله كان أن الوحي كان لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت فلما استقر القرآن بموته واستقرت الشريعة بموته أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه وأمنوا من زيادة الايجاب والتحريم والمقتضي للعمل قائم بسنته فعمل المسلمون بمقتضى سنته وذلك العمل من سنته وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهم من أرض العرب فإن النبي عهد بذلك في مرضه فقال أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة كما قال له اليهود كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا كتابك بخطك فامتنع من ذلك لأن ذلك الفعل من عمر كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان محدثا بعده ومغيرا لما فعله هو

وكذلك قوله خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية كان من امتنع من أخذه متبعا لسنة رسول الله وإن كان ترك قبول العطاء من أولى الأمر محدثا لكن لما أحدثوا ما أحدثوه أحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله

وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي سيفا وقوله قاتل به المشركين فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره فإن كسره لسيفه وإن كان محدثا حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على عهد رسول الله لكن هو بأمره

ومن هذا الباب قتال أبي بكر لمانعي الزكاة فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث إن النبي لم يقاتل أحدا على إيتاء الزكاة فقط لكن لما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقد علم أن الزكاة من حق لا إله إلا الله فلم يعصم مجرد قولها من منع الزكاة كما بينه في الحديث الآخر الصحيح حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهذا باب واسع

والضابط في هذا والله أعلم أن يقال إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحجوج إليه أمرا حدث بعد النبي لكن تركه النبي من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله لكن تركه النبي لمعارض قد زال بموته

وإما مالم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل يعلم أنه لبس بمصلحة

وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة

ثم هنا للفقهاء طريقان

أحدهما أن ذلك يفعل مالم ينه عنه وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة

والثاني أن ذلك لا يفعل مالم يؤمر به وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة وهؤلاء ضربان

منهم من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره وهم نفاة القياس

ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون

فأما ما كان المقتضى لفعله موجودا لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه فوضعه تغيير لدين الله تعالى وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد أو من زل منهم باجتهاد كما روي عن النبي وغير واحد من الصحابة إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم أو جدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون

فمثال هذا القسم الأذان في العيدين فإن هذا لما احدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى اذكروا الله ذكرا كثيرا وقوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع

بل يقال ترك رسول الله له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة

فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك وكذلك لو أراد أن ينصب مكانا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره لم يكن له ذلك وليس له أن يقول هذه بدعة حسنة بل يقال له كل بدعة ضلالة

ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة

فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرا

فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله ومع هذا لم يفعله رسول الله فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس

ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم

فيقال له سبب هذا تفريطك فإن النبي كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم

وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة فإنه قد روي عن النبي أنه قال ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها

وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم وبينت أن الشرائع أغذية القلوب فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث

وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها وعقوبات على الجرائم لا تجوز لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ووضعوه حيث يسوغ وضعه طالبين بذلك إقامة دين الله لا رياسة أنفسهم وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع والقريب والبعيد متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ولا إلى العقوبات الجائرة ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم

وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله وما فيه من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله وهي سنته لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة حيث يقول عز و جل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ولا استغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون من الحجج الفاسدة التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون به فروع الدين وما كان من الحجج صحيحا ومن الرأي سديدا فذلك له أصل في كتاب الله وسنة رسوله فهمه من فهمه وحرمه من حرمه

وكذلك العباد إذا تعبدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا وذاقوا طعم الكلم الطيب والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية والمقامات العلية والنتائج العظيمة ما يغنيهم عما قد حدث من نوعه كالتغيير ونحوه من السماعات المبتدعة الصارفة عن سماع القرآن وأنواع من الأذكار والأوراد لفقها بعض الناس أو في قدره كزيادات من التعبدات أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء قد يكون معذورا فيما أحدثه لنوع اجتهاد

فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح وإن كان التارك له قد يكون معذورا لاجتهاده بل قد يكون صديقا عظيما فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا وعمله كله سنة إذ قد يكون بمنزلة رسول الله وهذا باب واسع

والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها لا يتسع له هذا الكتاب وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه والتعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع مما يجب العمل بها

والوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين

واعلم أنه ليس كل واحد بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذاالنوع من البدع ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد

والواجب على الخلق اتباع الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة فننبه على بعض مفاسدها

فمن ذلك أن من أحدث عملا في يوم كإحداث صوم أول خميس من رجب والصلاة في ليلة تلك الجمعة التي يسميها الجاهلون صلاة الرغائب مثلا وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة وتوسيع في النفقة ونحو ذلك فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب

وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله وأن الصوم فيه مستحب فيه استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله والذي بعده مثلا وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصا وسائر الليالي عموما إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع

وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ونص على تأثيره فهو من معاني المناسبة المؤثرة فإن مجرد المناسبة مع الاقتران يدل على العلة عند من يقول بالمناسب القريب وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن لا يقول إلا بالمؤثرة فلا يكتفى بمجرد المناسبة حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم وهو قول كثير من الفقهاء أيضا من أصحابنا وغيرهم

وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر عللوا ذلك الحكم المنصوص به

وهنا قول ثالث قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضا وهو أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به ولا يكتفى بكونه علل به نظير أو نوعه

وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم ودل على علته كما قال في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات فهذه العلة تسمى المنصوصة أو المومى إليها علمت مناسبتها أو لم تعلم فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث وإن اختلفوا هل يسمى هذا قياسا أو لا يسمى

ومثاله في كلام الناس ما لو قال السيد لعبده لا تدخل داري فلانا فإنه مبتدع أو فإنه أسود ونحو ذلك فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعا أو من كان أسود وهو نظير أن يقول لا تدخل داري مبتدعا ولا أسود ولهذا نعمل نحن بمثل هذا في باب الإيمان فلو قال لا لبست هذا الثوب الذي يمن به علي فلان حنث بما كانت منته فيه مثل منته وهو ثمنه ونحو ذلك

وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته لكن قد ذكر علة نظيره أو نوعه مثل أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة فهل نعتقد أن علة ولاية النكاح هي الصغر مثلا كما أن ولاية المال كذلك أم نقول بل قد يكون لنكاح الصغيرة علة أخرى وهي البكارة مثلا فهذه العلة هي المؤثرة أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم

فالفريقان الأولان يقولان بها وهو في الحقيقة إثبات للعلة بالقياس فإنه يقول كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان كذلك يؤثر فيه في هذا المكان

والفريق الثالث لا يقول بها إلا بدلالة خاصة لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة

ومن هذا النوع أنه نهى عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو يخطب الرجل على خطبة أخيه فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين كما علل به في قوله لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه مالا يظهر في الأول فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا

وأكبر دليل خاص على العلة ونظيره من كلام الناس أن يقول لا تعط هذا الفقير فإنه مبتدع ثم يسأله فقير آخر مبتدع فيقول لا تعطه وقد يكون ذلك الفقير عدوا له فهل يحكم بأن العلة هي البدعة أم يتردد لجواز أن تكون العلة هي العداوة

وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ورأينا فيه وصفا مناسبا له لكن الشارع لم يذكر تلك العلة ولا علل بها نظير ذلك الحكم في موضع آخر فهذا هو الوصف المناسب الغريب لأنه لا نظير له في الشرع ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه

فجوز الفريق الأول اتباعه ونفاه الآخران وهذا إدراك لعلة الشارع بنفس عقولنا من غير دلالة منه كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه والأول إدراك لعلته بنفس كلامه

ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالصبر وبدلالات أخرى

فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع المؤثرة في موضع آخر

وذلك أن النبي نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو بصيام وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص

فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوما بعده وهذا لفظ البخاري

وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا قالت لا فأفطري

وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله عن صيام يوم الجمعة قال نعم ورب هذا البيت وهذا لفظ مسلم

وعن ابن عباس أن النبي قال لا تصوموا يوم الجمعة وحده ورواه أحمد

ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصم ذلك اليوم لفظ البخاري يصوم عادته

فوجه الدلالة أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام

قسم شرع تخصيصه بالصيام إما إيجابا كرمضان وإما استحبابا كيوم عرفة وعاشوراء

وقسم نهى عن صومه مطلقا كيوم العيدين

وقسم إنما نهى عن تخصيصه كيوم الجمعة وسرر شعبان

فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره فإذا خصص بالفعل نهى عن ذلك سواء قصد الصائم التخصيص أو لم يقصده وسواء اعتقد الرجحان أو لم يعتقده

ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره لكان إما أن ينهى عنه مطلقا كيوم العيد أولا ينهى عنه كيوم عرفة وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة

فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص مالا خصيصة له كما أشعر به لفظ الرسول فإن نفس الفعل المنهي عنه أو المأمور به قد يشتمل على حكمة الأمر والنهي كما في قوله خالفوا المشركين

فلفظ النهي عن تخصيص وقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص فإذا كان يوم الجمعة يوما فاضلا يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة مالا يستحب في غيره كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي فنهي النبي عن التخصيص دفعا لهذه المفسدة التي لا تنشأ إلا من التخصيص

وكذلك تلقي رمضان قد يتوهم أن فيه فضلا لما فيه من الاحتياط للصوم ولا فضل فيه في الشرع فنهى الني عن تلقيه لذلك

وهذا المعنى موجود في مسألتنا فإن الناس قد يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة ومتى كان تخصيص هذا الوقت بصوم أو بصلاة قد يقترن باعتقاد فضل ذلك ولا فضل فيه نهي عن التخصيص إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص

ومن قال إن الصلاة والصوم في هذه الليلة كغيرها هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها فلا بد أن يكون باعثه إما تقليده غيره وإما اتباع العادة

وإما خوف اللوم له ونحو ذلك وإلا فهو كاذب فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك عن الاعتقاد الفاسد أو عن باعث آخر غير ديني وذلك الاعتقاد ضلال

فإنا قد علمنا يقينا أن النبي وأصحابه وسائر الأئمة لم يذكروا في فضل هذا اليوم ولا في فضل صومه بخصوص وفضل قيام هذه الليلة بخصوصها حرفا واحدا وأن الحديث المأثور فيها موضوع وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة

ولا يجوز والحال هذه أن يكون لها فضل لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي ولا أصحابه ولا التابعون ولا سائر الأئمة امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله مالم يعلمه النبي ولا الصحابة التابعون وسائر الأئمة وإن علموه امتنع مع توفر دواعيهم على العمل الصالح وتعليم الخلق والنصيحة أن لا يعلموا أحدا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم

فإذا كان هذا الفضل المدعى مستلزما لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه وكل واحد من اللازمين منتف إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدعى

ثم هذا العمل المبتدع مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين أو عمل دين لغير الله والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو التدين لغير الله لا يجوز

فهذه البدع وأمثالها مستلزمة قطعا أو ظاهرة لفعل مالا يجوز فأقل أحوال المستلزم إن لم يكن محرما أن يكون مكروها وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة

ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال وتلك الأحوال أيضا باطلة ليست من دين الله

ولو فرض أن الرجل قد يقول أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد ولو أنه توهم أو ظن أن هذا أمر ضروري فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنعت مع ذلك أن تعظمه ولكن قد تقوم به خواطر متقابلة

فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه ومن حيث شعوره بما روي فيه أو بفعل الناس له أو بأن فلانا وفلانا فعلوه أو بما يظهر له فيه من المنفعة يقوم بفعله وتعظيمه

فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله وأنها تورث القلب نفاقا ولو كان نفاقا خفيفا

ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل أو عبد الله بن أبي بن سلول لرياسته وماله ونسبه وإحسانه إليهم وسلطانه عليهم فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه أو أمر بإهانته أو قتله فمن لم يخلص إيمانه وإلا يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة

فمن تدبر هذا علم يقينا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للايمان

ولهذا قيل إن البدع مشتقة من الكفر

وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع إذا جاز أن يتوهم لها مزية كالصلاة عند القبور والذبح عند الأصنام ونحو ذلك وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية لكن

نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية وكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود فرع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضا

فإن قيل هذا يعارضه أن هذه المواسم مثلا فعلها قوم من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه من طهارة قلبه ورقته وزوال آثار الذنوب عنه وإجابة دعائه ونحو ذلك مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام كقوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وقوله الصلاة نور وبرهان ونحو ذلك

قلنا لا ريب أن من فعلها متأولا مجتهدا أو مقلدا كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع وكان ما فيه من المبتدع مغفورا له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه كالصوم والذكر والقراءة والركوع والسجود وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه وما اشتملت عليه من المكروه وانتفى موجبه بعفو الله لاجتهاد صاحبه أو تقليده وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة

لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضا فوائد وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع في جنسه كما أن قولهم لا بد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الانبياء ثم مع ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحا لما أهملتها الشريعة

فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكثر من نفعها وذلك هو الموجب للنهي

وأقول إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره كما يزول اسم الربا والنبيذ المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف ثم مع ذلك يجب بيان حالها وأن لا يقتدى بمن استحلها وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها

وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة

ثم يقال على سبيل التفصيل إذا فعلها قوم ذوو فضل فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها وأنكرها قوم كذلك وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم في الفضل ولو فرضوا دونهم في الفضل فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولو الأمر فترد إذن إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيها

ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكرين

وأما ما فيها من المنفعة فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة

منها مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن حتى تجد كثيرا من العامة يحافظ عليها مالا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس

ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسبها عنايتهم بالفرائض والسنن وتفتر رغبتهم فيها فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها مالا يفعله في الفرائض والسنن حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة وهذا عكس الدين فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع وإجابة الدعوة وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك من الفوائد وإن لم يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله

ومنها ما في ذلك من مصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وما يترتب على ذلك من جهالة أكثر الناس بدين المرسلين وانتشار زرع الجاهلية

ومنها اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل تأخير الفطور وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة والمبادرة إلى تعجيلها والسجود بعد السلام لغير سهو وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته وسلمت سريرته

ومنها مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره فينسلخ القلب عن حقيقة الاتباع للرسول ويصير فيه من الكبر وضعف الايمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

ومنها ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين النوع الذي فيه مشابهة والنوع الذي لا مشابهة فيه

والكلام في ذم البدع لما كان مقررا في غير هذا الموضع لم نطل النفس في تقريره بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم

فصل

قد تقدم أن العيد يكون اسما لنفس المكان ولنفس الزمان ولنفس الاجتماع

وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء

أما الزمان فثلاثة أنواع ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال

أحدها يوم لم تعظمه الشريعة أصلا ولم يكن له ذكر في وقت السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم

والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزية أصلا

وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود فإن تعظم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا

النوع الثاني ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسما ولا كان السلف يعظمونه كثامن عشري ذي الحجة الذي خطب فيه النبي بغدير خم مرجعه من حجة الوداع فإنه خطب فيه خطبة وصى فيها باتباع كتاب الله ووصى فيها بأهل بيته كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي بعد أن فرش له وأقعده على فرش عالية وذكروا كلاما باطلا وعملا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص وغصبوا الوصي حقه وفسقوا وكفروا إلا نفرا قليلا

والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ثم ما كان عليها القوم من الأمانة والديانة وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا يمتنع كتمانه

وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدا محدث لا أصل له فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيدا حتى يحدث فيه أعمالا إذ الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخوله المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادا وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادا أو اليهود وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها كما جاء في الحديث ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم

واعلم أن من الاعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع وفيه أيضا شر من بدعة وغيرها فيكون ذلك العمل شرا بالنسبة إلى الاعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين

وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة فعليك هنا بأدبين

أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا في خاصتك خاصة من يطيعك واعرف المعروف وأنكر المنكر

الثاني أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذا النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون فإن منها ما يكون واجبا على الاطلاق ومنها ما يكون واجبا على التقييد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها وكما يجب على من أتى الذنوب أن يأتي بالكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية وما يجب على من كان إماما أو قاضيا أو مفتيا أو واليا من الحقوق وما يجب على طالبي العلم أو نوافل العبادة من الحقوق

ومنها ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة

ومنها ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها

وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به

ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فلا ينهى عن منكر ولا يؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس قد خلقت لتعمل لا لتترك وإنما رأوا الترك مقصودا لغيره فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم تترك العمل السيء أو الناقص لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نهيت عنه حفظا للعمل الصالح

فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ولهذا قيل للامام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال

مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط

وليس مقصود أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها

فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسماء أوالأشعار أو حكمة فارس والروم

فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه وتنكر أنكر المنكرين وترجح أقوى الدليلين فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين فالمراتب ثلاث

أحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه

والثانية العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها إما لحسن القصد أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع

الثالثة ما ليس فيه صلاح أصلا إما لكونه تركا للعمل مطلقا أو لكونه عملا فاسدا محضا

فأما الأول فهو سنة رسول الله باطنها وظاهرها قولها وعملها في الأمور العلمية والعملية مطلقا فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب

والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان

وأما المرتبة الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضا وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع أو من يكون عمله من جنس المحرم كالكفر والكذب والخيانة والجهل ويندرج في هذا أنواع كثيرة

فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك قد يكون حاله خيرا من حال البطال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله من العلم النافع والعمل الصالح أو في أحدهما لا يحبونها ولا يرغبون فيها لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع

ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهرا في الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين

فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها

النوع الثالث ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين والعشر الأواخر من شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة وليلة الجمعة ويومها والعشر الأول من المحرم ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة وتوابع ذلك ما يصير منكرا ينهى عنه مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله ولا رسوله ولا أحد من السلف لا من أهل بيت رسول الله ولا من غيرهم لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه أحد سيدي شباب أهل الجنة وطائفة من أهل بيته بأيدي الفجرة الذين أهانهم الله وكانت هذه مصيبة عند المسلمين يجب أن تتلقى به أمثالها من المصائب من الاسترجاع المشروع فأحدث بعض أهل البدع في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة البرآء من فتنة الحسين وغيرها أمورا أخرى مما يكرهها الله ورسوله وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث لها استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثلها يوم أصيب رواه الإمام أحمد وابن ماجه

فتدبر كيف روى مثل هذا الحديث الحسين بن علي رضي الله عنهما وعنه بنته التي شهدت مصابه