وأما اتخاذ أمثال أيام المصائب مأتما فليس هذا من دين المسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب ثم هم قد فوتوا بذلك ما في صوم هذا اليوم من الفضل وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها مثل فضل الاغتسال فيه أو التكحل أو المصافحة وهذه الأشياء ونحوها من الأمور المبتدعة كلها مكروهة وإنما المستحب صومه

وقد روى في التوسع فيه على العيال آثار معروفة أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته رواه ابن عيينة وهذا بلاغ منقطع لا يعرف قائله والأشبه أن هذا وضع لما ظهرت للعصبية بين الناصبة والروافضة فإن هؤلاء أعدوا يوم عاشوراء مأتما فوضع أولئك فيه آثارا تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيدا وكلاهما باطل

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب المختار بن أبي عبيد وكان يتشيع وينتصر للحسين ثم أظهر الكذب والافتراء على الله وكان فيها الحجاج بن يوسف وكان فيه انحراف على علي وشيعته وكان مبيرا

وهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذبا وأسوأ حالا

لكن لا يجوز لأحد أن يغير شيئا من الشريعة لأجل أحد وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء وتوسيع النفقات فيه هو من البدع المحدثة المقابلة للرافضة وقد وضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه من الاغتسال والاكتحال وغير ذلك وصححها بعض الناس كابن ناصر وغيره ليس فيها ما يصح لكن رويت لأناس اعتقدوا صحتها فعملوا بها ولم يعلموا أنها كذب فهذا مثل هذا

وقد يكون سبب الغلو في تعظيمه من بعض المنتسبة لمقابلة الروافض فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط المستقيم ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا فينبغي أن يجتنب هذه المحدثات

ومن هذا الباب شهر رجب فإنه أحد الأشهر الحرم وقد روى عن النبي أنه كان إذا دخل شهر رجب قال اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان ولم يثبت عن النبي في فضل رجب حديث آخر بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي كلها كذب والحديث إذا لم يعلم أنه كذب فروايته في الفضائل أمر قريب أما إذا علم أنه كذب فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله لقوله من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين

نعم روي عن بعض السلف في تفضيل العشر الأول من رجب بعض الأثر وروي غير ذلك

فاتخاذه موسما بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره كما روى عن عمر بن الخطاب وأبي بكر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم

وروى ابن ماجة أن النبي نهى عن صوم رجب رواه عن إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا داود بن عطاء حدثني زيد بن عبد الحميد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن سليمان بن علي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس بقوي

وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله أو أن لا يقرن به شهر آخر فيه للأصحاب وجهان

ولولا أن هذا موضع الإشارة إلى رءوس المسائل لأطلنا الكلام في ذلك ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم من الخلف من أنكر فضلها وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب وقال لا فرق بينها وبين غيرها

لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها وعليه يدل نص أحمد لتعدد الأحاديث الواردة فيها وما يصدق ذلك من الآثار السلفية وقد روى بعض فضائلها في المسانيد والسنن وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر

فأما صوم يوم النصف مفردا فلا أصل له بل إفراده مكروه وكذلك اتخاذه موسما تصنع فيه الأطعمة وتظهر فيه الزينة هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها

وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدور والأسواق فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة مقيدة بزمان وعدد وقدر من القراءة مكروه لم يشرع فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث وما كان هكذا لا يجوز استحباب صلاة بناء عليه وإذا لم يستحب فالعمل المقتضي لاستحبابها مكروه ولو سوغ أن كل ليلة لها نوع فضل تخص بصلاة مبتدعة يجتمع لها لكان يفعل مثل هذه الصلاة أو أزيد أو أنقص ليلتي العيدين وليلة عرفة كما أن بعض أهل البلاد يقيمون مثلها أول ليلة من رجب وكما بلغني أنه كان بعض أهل القرى يصلون بعد المغرب صلاة مثل المغرب في جماعة يسمونها صلاة بر الوالدين وكما بعض الناس يصلي كل ليلة في جماعة صلاة الجنازة على من مات من المسلمين في جميع الأرض ونحو ذلك من الصلوات الجماعية التي لم تشرع

وعليك أن تعلم أنه إذا استحب التطوع المطلق في وقت معين وجوز التطوع في جماعة لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة بل ينبغي أن تفرق بين البابين

وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع أو استماع قرآن أو ذكر الله ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحيانا فهذا أحسن فقد صح عن النبي أنه صلى التطوع في جماعة أحيانا وخرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون فجلس معهم يستمع وكان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا واحدا يقرأ وهم يستمعون وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله ورسوله وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف

مثل قوله ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده

وورد أيضا في الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر فإذا وجد قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم الحديث

فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج وذلك هو المبتدع المحدث

ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة فإن ذلك يضاهي المشروع

وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة

فروى أبو بكر الخلال في كتاب الأدب عن إسحاق بن منصور الكوسج أنه قال لأبي عبد الله يكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم قال ما أكره للإخون إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا

وقال إسحاق بن راهويه كما قال الإمام أحمد

وإنما معنى أن لا يكثروا أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا هذا كلام إسحاق

قال المروزي سألت أبا عبد الله عن القوم يبيتون فيقرأ قارئ ويدعون حتى يصبحوا قال أرجو أن لا يكون به بأس

وقال أبو السري الحربي قال أبو عبد الله وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلون ويذكرون ما أنعم الله به عليهم كما قالت الأنصار

وهذه إشارة إلى أن ما رواه أحمد حدثنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله المدينة قالوا لو نظرنا يوما فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا فقالوا يوم السبت ثم قالوا لا نجامع اليهود في يومهم قالوا فيوم الأحد قالوا لا نجامع النصارى في يومهم قالوا فيوم العروبة وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة فذبحت لهم شاة فكفتهم

وقال أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي سألت أحمد بن حنبل عن القوم يجتمعون ويقرأ لهم القارئ قراءة حزينة فيبكون وربما أطفؤا السراج فقال لي أحمد إن كان يقرأ قراءة أبي موسى فلا بأس

وروى الخلال عن الأوزاعي أنه سئل عن القوم يجتمعون فيأمرون رجلا يقص عليهم قال إذا كان ذلك يوما بعد الأيام فليس به بأس

فقيد أحمد الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يتخذ عادة

وكذلك قيد إتيان الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء

قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد ويذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي أنه يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما يتبع مواضع النبي وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه

وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم ولفظه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتبع مواضع سير النبي وفعله حتى رؤي يصب في موضع ما فسئل عن ذلك فقال رأيت رسول الله يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس

قال ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده

وهذا الذي كرهه أحمد وغيره من اعتياد ذلك مأثور عن ابن مسعود وغسره لما اتخذ أصحابه مكانا يجتمعون فيه للذكر فخرج إليهم فقال يا قوم لأنتم أهدى من محمد أو لأنتم على شعبة ضلالة

وأصل هذا أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سننا ومواسم قد شرع الله منها ما فيه كفاية للعباد فاذا أحدث اجتماع زائد على هذه الإجتماعات معتاد كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة أحيانا ولهذا كره الصحابة إفراد صوم رجب لما يشبه برمضان وأمر عمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي توهموا أنها الشجرة التي بايع الصحابة النبي تحتها بيعة الرضوان لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة وكذلك لما رآهم قد عكفوا على مكان قد صلى فيه النبي عكوفا عاما نهاهم عن ذلك وقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد أو كما قال رضي الله عنه

فكما أن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع من غير أن يتخذ جماعة عامة متكررة تشبه المشروع من الجمعة والعيدين والصلوات الخمس فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء جماعة وفرادى وتطوع قصد بعض المشاهد ونحو ذلك كله من نوع واحد يفرق بين الكثير الظاهر منه والقليل الخفي والمعتاد وغير المعتاد وكذلك كل ما كان مشروع الجنس لكن البدعة اتخاذه عادة لازمة حتى يصير كأنه واجب ويترتب على استحبابه وكراهته حكم نذره واشتراط فعله في الوقف والوصية ونحو ذلك حيث كان النذر لا يلزم إلا في القرب

وكذلك العمل المشروط في الوقف لا يجوز أن يكون إلا برا ومعروفا على ظاهر المذهب وقول جمهور أهل العلم

وسنومئ إلى ذلك إن شاء الله

وهذه المسائل تفتقر إلى بسط أكثر من هذا لا يحتمله هذا الموضع وإنما الغرض التنبيه على المواسم المحدثة

وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع فهذا لا يحتاج إلى ذكر لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب مثل رفع الأصوات في المسجد أو اختلاط الرجال والنساء أو كثرة إيقاد المصابيح زيادة على الحاجة أو إيذاء المصلين أو غيرهم بقول أو فعل فإن قبح هذا ظاهر لكل مسلم وإنما هذا من جنس سائر الأقوال المحرمة في المساجد سواء حرمت في المسجد وغيره كالفواحش والفحش أو صين عنها المسجد كالبيع والشراء وإنشاد الضالة وإقامة الحدود ونحو ذلك

وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم أنه يستحب قيام هذه الليلة بالصلاة التي يسمونها الألفية لأن فيها قراءة قل هو الله أحد ألف مرة وربما استحبوا الصوم أيضا وعمدتهم في خصوص ذلك الحديث الذي يروى عن النبي في ذلك

وقد يعتمدون على العمومات التي تندرج فيها هذه الصلاة على ما جاء في فضل هذه الليلة بخصوصها وما جاء من الأثر باحيائها وعلى الاعتياد حيث فيها من المنافع والفوائد ما يقتضي الاستحباب لجنسها من العبادات

فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث

وأما العمومات الدالة على استحباب الصلاة فحق لكن العمل المعين إما أن يستحب بخصوصه أو يستحب لما فيه من المعنى العام

فأما المعنى العام فلا يجب جعله خصوصا مستحبا ومن استحبها ذكرها في النفل المقيد كصلاة الضحى والتراويح وهذا خطأ ولهذا لم يذكر هذا أحد من الأئمة المعدودين لا الأولين ولا الآخرين وإنما كره التخصيص لما صار يخص مالا خصوص له بالاعتقاد والقصد كما ذكره النبي إفراد يوم الجمعة وسرد شعبان بالصيام وإفراد ليلة الجمعة بالقيام فصار نظير هذا مالو أحدثت ليالي العشر صلاة مقيدة أو بين العشاءين ونحو ذلك

فالعبادات ثلاثة

منها ما هو مستحب بخصوصه كالنفل المقيد من ركعتي الفجر وقيام رمضان ونحو ذلك وهذا منه المؤقت كقيام الليل

ومنها المقيد بسبب كصلاة الاستسقاء وصلاة الآيات

ثم قد يكون مقدرا في الشريعة بعدد كالوتر وقد يكون مطلقا مع فضل الوقت كالصلاة يوم الجمعة قبل الصلاة

فصارت أقسام المقيد أربعة

ومن العبادات ما هو مستحب بعموم معناه كالنفل المطلق فإن الشمس إذا طلعت فالصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر

ومنها ما هو مكروه تخصيصه إلا مع غيره كقيام ليلة الجمعة وقد يكره مطلقا إلا في أحوال مخصوصة كالصلاة في أوقات النهي

ولهذا اختلف العلماء في كراهة الصلاة بعد الفجر والعصر هل هو لئلا يفضي إلى تحري الصلاة في هذا الوقت فيرخص في ذوات الأسباب العارضة أو هو نهي مطلق لا يستثنى منه إلا قدر الحاجة على قولين هما روايتان عن أحمد وفيها أقوال أخر للعلماء والله أعلم

فصل عدل

وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني فيغلظ قبح هذا ويصير خروجا عن الشريعة

فمن ذلك ما يفعل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة والإجتماع العظيم عند قبره كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب والتعريف هناك كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله ومضاهاة للحج الذي شرعه الله واتخاذ القبور أعيادا

وكذلك السفر إلى البيت المقدس للتعريف فيه فإن هذا أيضا ضلال مبين فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره

ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام وتشبيه له بالكعبة ولهذا قد أفضى إلى مالا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام

وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة أو من حلق الرأس هناك أو من قصد النسك هناك

وكذلك ما يفعله بعض الضلال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفات كما يطاف بالكعبة

فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء والضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه فمن أقبح المنكرات من وجهات أخرى

منها فعل ذلك في المسجد الأقصى ونحوه فإن ذلك مما ينهى عنه خارج المساجد فكيف بالمسجد الأقصى

ومنها اتخاذ الباطل دينا

ومنها فعله في الموسم

فأما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه هذا هو المشهور عنه

وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم

ومن كرهه قال هو من البدع فيندرج في العموم لفظا ومعنى ومن رخص فيه قال فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم ينكر عليه وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة

لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد في المساجد بالدعاء وأنواع من الخطب والأشعار الباطلة فمكروه في هذا اليوم وغيره

قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول ينبغي أن يسر دعاءه لقوله ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا قال هذا في الدعاء قال وسمعت أبا عبد الله يقول وكانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء

وروى الخلال بإسناد صحيح عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال أحدث الناس الصوت عند الدعاء

وعن سعيد بن أبي عروبة أن مجالد بن سعيد سمع قوما يعجون في دعائهم فمشى إليهم فقال أيها القوم إن كنتم أصبتم فضلا على من كان قبلكم لقد ضللتم قال فجعلوا يتسللون رجلا رجلا حتى تركوا بغيتهم التي كانوا فيها

وروى أيضا بإسناده عن ابن شوذب عن أبي التياح قال قلت للحسن إمامنا يقص فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون أصواتهم بالدعاء فقال الحسن إن رفع الصوت بالدعاء لبدعة وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة

فرفع الأيدي فيه خلاف وأحاديث ليس هذا موضعها

والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه وتلك التعريفات التي لم يخلف فيها أن في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها كقبر الصالح أو المسجد الأقصى وهذا تشبيه بعرفات بخلاف مسجد المصر فإنه قصد له بنوعه لا بعينه ونوع المساجد مما شرع قصدها فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل اسمه وحكمه وإنما الغرض بيت من بيوت الله بحيث لو حول ذلك المسجد لتحول حكمه ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه

وأيضا فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه مثل الحج بخلاف المصر

الا ترى أن النبي قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

هذا مما لا أعلم فيه خلافا

فقد نهى النبي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة

ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره إما واجب كالجمعة وإما مستحب كالاعتكاف فيه

وأيضا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا وهذا بنفسه محرم سواء كان فيه شد للرحل أو لم يكن وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره وهو من الأعياد المكانية مع الزمان

وأما ما أحدث في الأعياد من ضرب البوقات والطبول ! فإن هذا مكروه في العيد وغيره لا اختصاص للعيد به وكذلك لبس الحرير أو غير ذلك من النهي عنه في الشرع وترك السنن من جنس فعل البدع

فينبغي إقامة المواسم على ما كان السابقون الأولون يقيمونها من الصلاة أو الخطبة المشروعة والتكبير والصدقة في الفطر والذبح في الأضحى

فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال ثم النساء كما كان رسول الله يخطب الرجال ثم النساء

ومنهم من لا يذكر في خطبته ما ينبغي ذكره بل يعدل إلى ما تقل فائدته

ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة إلى أمور أخر من غير السنة فإن الدين هو فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه

فصل عدل

وأما الأعياد المكانية فتنقسم أيضا كالزمانية إلى ثلاثة أقسام

أحدها مالا خصوص له في الشريعة

والثاني ماله خصيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه

والثالث ما يشرع العبادة فيه لكن لا يتخذ عيدا

والأقسام الثلاثة جاءت الآثار بها مثل قوله للذي نذر أن ينحر ببوانة أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قال لا قال فأوف بنذرك

ومثل قوله لا تتخذوا قبري عيدا

ومثل نهي عمر عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادا كما سنذكره إن شاء الله

فهذا الأقسام الثلاثة أحدها مكان لا فضل له في الشريعة أصلا ولا فيه ما يوجب تفضيله بل هو كسائر الأمكنة أو دونها فقصد ذلك المكان أو قصد الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك ضلال بين

ثم إن كان به بعض آثار الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم كان أقبح وأقبح ودخل في هذا الباب وفي الباب قبله من مشابهة الكفار وهذه أنواع لا يمكن ضبطها بخلاف الزمان فإنه محصور وهذا الضرب أقبح من الذي قبله

فإن هذا يشبه عبادة الأوثان أو هو ذريعة إليها أو نوع من عبادة الأوثان إذ عباد الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله تعالى وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كما ذكر الله ذلك في كتابه حيث يقول أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى فقد كان كل واحد من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة مكة والمدينة والطائف

فكانت اللات لأهل الطائف ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة وقصتها معروفة لما بعث النبي لهدمها المغيرة بن شعبة لما افتتح الطائف بعد فتح مكة سنة تسع من الهجرة

وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون فبعث النبي إليها خالد بن الوليد عقب فتح مكة فأزالها وقسم النبي مالها وخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها فيئست العزة أن تعبد

وأما مناة فكانت لأهل المدينة يهلون لها شركا بالله تعالى وكانت حذو قديد الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل

ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله فلينظر سيرة النبي وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء

ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم

فأنكر النبي مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه

فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله سبحانه عندها أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا

وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به ويقول إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم منهم أحمد في المشهور عنه وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما أنه يستغفر الله من هذا النذر ولا شيء عليه والمسألة معروفة

وكذلك إذا نذر طعاما من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين أو البئر

وكذلك إذا نذر مالا من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة الذين كانوا لللات والعزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم الخليل إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وآله وسلم ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون و قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين والذين أتى عليهم موسى عليه السلام وقومه بعد مجاوزتهم البحر كما قال تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم

فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاورين بها نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها أو سدنة الأبداد التي بالهند والمجاورين عندها

ثم هذا المال المنذور إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين الذين يستعينون بالمال على عبادة الله وحده لا شريك له كان حسنا

فمن هذه الأمكنة ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك أو يظن أنه مقام له وليس كذلك

فأما ما كان قبرا له أو مقاما فهذا من النوع الثاني وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه

فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق مثل مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي ولا خلاف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق والله أعلم قبر من هو لكنه ليس بقبر أبي بن كعب صاحب رسول الله بلا شك

وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال إن فيه قبر هود عليه السلام وما علمت أحدا من أهل العلم ذكر أن هودا النبي مات بدمشق بل قد قيل إنه مات باليمن وقيل بمكة فإن مبعثه كان باليمن ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة فأما الشام فلا هي داره ولا مهاجره فموته بها والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه بل ذكروا خلافه في غاية البعد

وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق يقال إنه قبر أويس القرني وما علمت أن أحدا ذكر أن أويسا مات بدمشق ولا هو متوجه أيضا فإن أويسا قدم من اليمن إلى أرض العراق وقد قيل إنه قتل بصفين وقيل إنه مات بنواحي أرض فارس وقيل غير ذلك وأما الشام فما ذكر أحد أنه قدم إليها فضلا عن الممات بها

ومن ذلك ايضا قبر يقال له قبر أم سلمة زوج النبي ولا خلاف أنها رضي الله عنها ماتت بالمدينة لا بالشام ولم تقدم الشام أيضا

فإن أم سلمة زوج النبي لم تكن تسافر بعد رسول الله بل لعلها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فإن أهل الشام كشهر بن حوشب ونحوه كانوا إذا حدثوا عنها قالوا أم سلمة وهي بنت عم معاذ بن جبل وهي من أعيان الصحابيات ومن ذوات الفقه والدين منهن أو لعلها أم سلمة امرأة يزيد بن معاوية وهو بعيد فإن هذه ليست مشهورة بعلم ولا دين وما أكثر الغلط في هذه الأشياء وأمثالها من جهة الأسماء المشتركة أو المغيرة

ومن ذلك مشهد بقاهرة مصر يقال إن فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما وأصله المكذوب أنه كان بعسقلان مشهد يقال إن فيه رأس الحسين فحمل فيها يقال الرأس من هناك إلى مصر وهو باطل باتفاق أهل العلم لم يقل أحد من أهل العلم إن رأس الحسين كان بعسقلان بل فيه أقوال ليس هذا منها فإنه حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد بالكوفة حتى روي له عن النبي ما يغيظه وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام ولا يثبت ذلك فإن الصحابة المسمين في الحديث إنما كانوا بالعراق

وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين قد علم أنها ليست بمقابرهم

فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلا وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة اللهم إلا أن يكون قبرا لرجل مسلم فيكون كسائر المسلمين ليس لها من الخصيصة ما يحسبه الجهال وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادا ولا أن يفعل فيها ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة أو تكون قبرا لرجل صالح غير المسمى فيكون من القسم الثاني

ومن هذا الباب أيضا مواضع يقال إن فيها أثر النبي أو غيرها ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة كما يقول الجهال في الصخرة التي ببيت المقدس من أن فيها أثرا من وطء قدم النبي وبلغني أن بعض الجهال يزعم أنها من وطء الرب سبحانه وتعالى فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم

وفي مسجد قبلي دمشق يسمى مسجد القدم به أيضا أثر يقال إن ذاك أثر قدم موسى عليه السلام وهذا باطل لا أصل له ولم يقدم موسى دمشق ولا من حولها

وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رؤي في المنام هناك ورؤية النبي أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب وربما صوروا فيها صورة النبي أو الرجل الصالح أو بعض أعضائه مضاهاة لأهل الكتاب كما كان في بعض مساجد دمشق مسجد يسمى مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى هدم الله ذلك الوثن

وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد

وفي الحجاز منها مواضع كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال إنه الغار الذي أوى النبي إليه هو وأبو بكر وأنه الغار الذي ذكره الله في قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الغار المذكور في القرآن إنما هو غار بجبل ثور قريب من مكة معروف عند أهل مكة إلى اليوم

فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من الإسلام تعظيمها بأي نوع من التعظيم فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة فيها وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها وكما ينهي عن إفراد الجمعة سرر شعبان بالصوم وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم

فإن ما كان مقصودا بالتخصيص مع النهي عن ذلك ينهى عن تخصيصه أيضا بالفعل

وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم فإن ذلك المسجد لما بني ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل نهى الله نبيه عن الصلاة فيه وأمر بهدمه

وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله وتعظيما لما لم يعظمه الله وعكوفا على أشياء لا تنفع ولا تضر وصدا للخلق عن سبيل الله وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله واتخاذها عيدا والاجتماع واعتياد قصدها فإن العيد من المعاودة

ويلتحق بهذا الضرب ولكنه ليس منه مواضع تدعى لها خصائص لا تثبت مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي أو قبر صالح أو مقام نبي أو صالح ونحو ذلك وقد يكون ذلك صدقا وقد يكون كذبا

وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جدا

وكان غير واحد من أهل العلم يقول لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد وغيره قد يثبت غير هذا أيضا مثل قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق فإن الأرض غيرت مرات فتعيين قبر أنه قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت إلا من طريق خاصة وإن كان لو ثبت لم يتعلق به حكم شرعي مما قد أحدث عندها

ولكن الغرض أن نبين هذا القسم الأول وهو تعظيم الأمكنة التي لا خصيصة لها إما مع العلم بأنه لا خصيصة لها أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهي عنه ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أهمل ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ

وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله

وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلا دعا عندها فاستجيب له أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام

فإن القوم كانوا أحيانا يخاطبون من الأوثان وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد من أهل الهند وغيرهم

وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله كأنه يمينه والمساجد التي هي بيوته

وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض

وقد صح عن النبي أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه ولا يأتي بخير فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع

وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه وقد يكون سبه مجرد رحمة الله له وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي

فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون وينصرون ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها

وقد قال الله تعالى كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا

وقال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها ليس هذا موضع تفصيلها وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة ولعلي إن شاء الله أبين بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر

فصل عدل

النوع الثاني من الأمكنة ماله خصيصة لكن لا يقتضي اتخاذها عيدا ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده

فمن هذه الأمكنة قبور الأنبياء والصالحين وقد جاء عن النبي والسلف النهي عن اتخاذها عيدا عموما وخصوصا وبينوا معنى العيد

فأما العموم فقال أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن صالح قال قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم وهذا إسناده حسن فإن رواته كلهم ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه

قال يحيى بن معين هو ثقة وحسبك بابن معين موثقا وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ هو لين يعرف حفظه وينكر

فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن

إذ لا خلاف في عدالته وفقهه وأن الغالب عليه الضبط لكن قد يغلط أحيانا

ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر لأنه سنة مدنية وهو محتاج إليها في فقهه ومثل هذا يضبطه الفقيه

وللحديث شواهد من غير طريقه فإن هذا الحديث يروى من جهات أخرى فما بقي منكرا

وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي بأسانيد معروفة وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيدا

فمن ذلك ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه

وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني

وقال سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء

فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين وكيف وقد تقدم مسندا

ووجه الدلالة أن قبر النبي أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى النهي كائنا من كان ثم قرن ذلك بقوله ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور وهذا عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا

وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه