ثم إنه أعقب النهي عن اتخاذها عيدا بقوله صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم

وفي الحديث الآخر فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم

يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا

والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة

مثل ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام

وهذا الحديث على شرط مسلم

ومثل ما روى أبو داود ايضا عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله قال أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء

وفي مسند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال قال رسول الله من صلى علي سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته رواه الدارقطني بمعناه وفي النسائي وغيره عنه أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام إلى أحاديث أخر في هذا الباب متعددة

ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره واستدل بالحديث وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره

فتبين أن قصد قبره للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا

وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد القبر للسلام ونحوه غير دخول المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا

فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط

والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله

وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبورا لهم بتقدير كونها قبورا لهم بل وسائر القبور أيضا داخلة في هذا

فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة إذ هو بيت المسلم الميت فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يوطأ ولا يداس ولا يتكأ عليه عندنا وعند جمهور العلماء ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه والدعاء له وكلما كان الميت أفضل كان حقه أوكد

قال بريدة بن الحصيب رضي الله عنه كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية رواه مسلم

وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون

وروي أيضا عن عائشة في حديث طويل عن النبي قال إن جبريل أتاني فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون

وروى ابن ماجه عن عائشة قالت فقدته فإذا هو بالبقيع فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين انتم لنا فرط ونحن بكم لاحقون اللهم لاتحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب

وقد ثبت عنه أنه بعد أحد بثمان سنين خرج إلى الشهداء فصلى عليهم كصلاته على الميت

وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال كان النبي إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل

وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام

وروي في تلقين الميت بعد الدفن حديث فيه نظر لكن عمل به رجال من أهل الشام الأولين مع روايتهم له فلذلك استحبه أكثر أصحابنا وغيرهم

فهذا ونحوه مما كان النبي يفعله ويأمر به أمته عند قبور المسلمين عقب الدفن وعند زيارتهم أو المرور بهم إنما هو تحية للميت كما يحيى الحي ويدعي له كما يدعي له إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده وفي ضمن الدعاء للميت دعاء الحي لنفسه ولسائر المسلمين كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي ولسائر المسلمين وتخصيص الميت بالدعاء له

فهذا كله وما كان مثله من سنة رسول الله وما كان عليه السابقون الأولون هو المشروع للمسلمين في ذلك وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي وغيره

وروى ابن بطة في الابانة بإسناد صحيح عن معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون قال سأل رجل نافعا فقال هل كان ابن عمر يسلم على القبر فقال نعم لقد رأيته مائة أو أكثر من مائة مرة كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على عمر أبي

وفي رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد محتجا بها ثم ينصرف

وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ

وزيارة القبور جائزة في الجملة حتى قبور الكفار فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي

وفيه أيضا عنه قال زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت

وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها

وفي رواية لأحمد والنسائي فمن أراد أن يزر فليزر ولا تقولوا هجرا

وروى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله قال إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة

فقد أذن النبي في زيارتها بعد النهي وعلل ذلك بأنها تذكر الموت والدار الآخرة وأذن لنا إذنا عاما في زيارة قبر المسلم والكافر

والسبب الذي ورد عليه هذا اللفظ يوجب دخول الكافر والعلة وهي تذكر الموت والآخرة موجودة في ذلك كله

وقد كان يأتي قبور أهل البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار فهذا المعنى يختص بالمسلمين دون الكافرين

فهذه الزيارة وهي زيارة القبور لتذكر الآخرة أو لتحيتهم والدعاء لهم هي الذي جاءت به السنة كما تقدم

وقد اختلف أصحابنا وغيرهم هل يجوز السفر لزيارتها على قولين

أحدهما لا يجوز والمسافرة لزيارتها معصية لا يجوز قصر الصلاة فيها وهذا قول ابن بطة وابن عقيل وغيرهما لأن هذا السفر بدعة لم يكن في عصر السلف وهو مشتمل على ما سيأتي من معاني النهي ولأن في الصحيحين عن النبي قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب والعبادة

بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري لما رأى أبا هريرة راجعا من الطور الذي كلم الله عليه موسى قال لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته لأن النبي قال لا تشد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد

فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في العموم وأنه لا يجوز السفر إليها كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة

وأيضا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير المساجد الثلاثة لا يجوز مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قصد المساجد من الفضل مالا يحصى فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أولى أن لا يجوز

والوجه الثاني أنه يجوز السفر إليها قاله طائفة من المتأخرين منهم أبو حامد الغزالي وأبو الحسن بن عبدوس الحراني والشيخ أبو محمد المقدسي وما علمته منقولا عن أحد من المتقدمين بناء على أن هذا الحديث لم يتناول النهي عن ذلك كما لم يتناول النهي عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الوالدان والعلماء والمشايخ والإخوان أو بعض المقاصد من الأمور الدنيوية المباحة

فأما ما سوى ذلك من المحدثات فأمور

منها الصلاة عند القبور مطلقا واتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها قد تواترت النصوص عن النبي بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه

فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه ومن العلماء من أطلق فيه لفظ الكراهة فما أدري عني به التنزيه أو التحريم ولا ريب في القطع بتحريمه لما روى مسلم في صحيحه عن جندب ابن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا منكم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك

وعن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عباس قالا لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذااغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا أخرجه البخاري ومسلم

وأخرجاه جميعا عن أبي هريرة أن رسول الله قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي رواية لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك

قالت عائشة قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا رواه البخاري ومسلم

وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود أن النبي قال إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه أبو حاتم في صحيحه

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه الإمام أحمد

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي

وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار ليس هذا موضع استقصائها

فهذه المساجد مبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخر وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحدا وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد هل حدها ثلاثة أقبر أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ وإن لم يكن عنده قبر آخر على وجهين

ثم يتغلظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة مثل ما بني على قبر بعض العلماء أو الصالحين أو غيرهم ممن كان مدفونا في مقبرة مسبلة فبني على قبره مسجدا أو مدرسة أو رباطا أو مشهدا وجعل فيها مطهرة أو لم يجعل فإن هذا مشتمل على أنواع من المحرمات

أحدها أن المقبرة المسبلة لا يجوز الانتفاع بها في غير الدفن من غير تعويض بالاتفاق فبناء المسجد أو المدرسة أو الرباط فيها كدفن الميت في المسجد أو كبناء الخانات ونحوها في المقبرة أو كبناء المسجد في الطريق الذي يحتاج الناس إلى المشي فيه

الثاني اشتمال غالب ذلك على نبش قبور المسلمين وإخراج عظام موتاهم كما قد علم ذلك في كثير من هذه المواضع

الثالث أنه قد روى مسلم في صحيحه عن جابر أن رسول الله نهى أن يبنى على القبور

الرابع أن بناء المطاهر التي هي محل النجاسات بين مقابر المسلمين من أقبح ما تجاور به القبور لا سيما إن كان محل المطهرة قبر رجل مسلم

الخامس اتخاذ القبور مساجد وقد تقدم بعض النصوص المحرمة لذلك

السادس الإسراج على القبور وقد لعن من يفعل ذلك

السابع مشابهة أهل الكتابين في كثير من الأقوال والأفعال والسنن بهذا السبب كما هو الواقع إلى غير ذلك من الوجوه

وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة فقيل إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك مناما فنقبت لذلك

وقيل إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك ثم ترك ذلك مسجدا بعد الفتوح المتأخرة

وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها اتباعا لأمر رسول الله واتقاء لمعصيته كما تقدم

وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقا لا يجوز بلا خلاف أعلمه للنهي الوارد ولا يجوز الوفاء بما ينذ لها من دهن وغيره بل موجبه موجب نذر المعصية

ومن ذلك الصلاة عندها وإن لم يبن هناك مسجد فإن ذلك أيضا اتخاذها مسجدا كما قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا ولم تقصد عائشة رضي الله عنها مجرد بناء مسجد فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وإنما قصدت أنهم خشوا أن الناس يصلون عند قبره وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدا وإن لم يكن هناك بناء كما قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا

وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار وغيرهم بأسانيد جيدة ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه

واعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا لكونها مظنة النجاسة لما يختلط بالتراب من صديد الموتى وبنى على هذا الاعتقاد الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل أولا يكون ونجاسة الأرض مانعة من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة أو لم تكن لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وقال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وروى عنه أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وقال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهى عن ذلك

فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا كما قال الشافعي رضي الله عنه وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس

وقد ذكر هذا المعنى أبو بكر الأثرم في ناسخ الحديث ومنسوخه وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء

فإن قبر النبي أو الرجل الصالح لم يكن ينبش القبر الواحد لا نجاسة عليه

وقد نبه هو على العلة بقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وبقوله إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد وأولئك إنما كانوا يتخذون قبورا لا نجاسة عندها ولأنه قد روى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن النبي قال لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ولأنه قال كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة

فجمع بين التماثيل والقبور

وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك وقد ذكروا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح عليهما السلام

فروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى عن محمد بن قيس ويعوق ونسرا قال كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال قتادة وغيره كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ثم اتخذها العرب بعد ذلك

وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله ولهذا تجد أقواما كثيرين يتضرعون عندها ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد بل ولا في السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال

فهذه المفسدة التي هي مفسدة الشرك كبيره وصغيره هي التي حسم النبي مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة ونحو ذلك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ذلك سدا للذريعة

فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن الله به فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله من أن الصلاة عند القبر أي قبر كان لافضل فيها لذلك ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا بل مزية شر

واعلم أن تلك البقعة وإن كان قد تنزل عندها الملائكة والرحمة ولها فضل وشرف ولكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه

فإن النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم والأمة الوسط عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود ولهذا قال فيما صح عنه لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله

فإذا قدر أن الصلاة هناك توجب من الرحمة أكثر من الصلاة في غير ذلك البقعة كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربوا على هذه المصلحة حتى تغمرها أو تزيد عليها بحيث تصير الصلاة هناك مذهبة لتلك الرحمة ومثبتة لما يوجب اللعنة والعذاب ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشيء من الصلاة عندها فيكفيه أن يقلد الرسول فإنه لولا أن الصلاة عندها مما غلبت مفسدته على مصلحته لما نهى عنه كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة وعن صوم يومي العيدين بل كما حرم الخمر فإنه لولا أن فسادها غالب على ما فيها من المنفعة لما حرمها وكذلك تحريم القطرة منها ولولا غلبة الفساد فيها على الصلاح لما حرمها

وليس على المؤمن ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المفاسد وإنما عليه طاعتهم قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال من يطع الرسول فقد أطاع الله

وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والمال والأهل وإيثار طاعتهم ومتابعة سننهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم كما أن عامة من يشرك بهم شركا أكبر أو أصغر يترك ما يجب عليه من طاعتهم بقدر ماابتدعه من الإشراك بهم

وكذلك حقوق الصديقين المحبة والإجلال ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة

وقد اختلف الفقهاء في الصلاة في المقبرة هل هي محرمة أو مكروهة وإذا قيل محرمة فهل تصح مع التحريم أم لا

المشهور عندنا أنها محرمة لا تصح

ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك وأن صلاته عندها لا تصح

وليس الغرض هنا تقرير المسائل المشهورة فإنها معروفة إنما الغرض التنبيه على ما يخفى من غيره

فمما يدخل في هذا قصد القبور للدعاء عندها أو لها فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين

أحدهما أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها كمن يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور أو من يزورها فيسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فهذا ونحوه لا بأس به

الثاني أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا النوع منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه وهو إلى التحريم أقرب والفرق بين البابين ظاهر فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو كان يدعو في بقعة وكان هناك بقعة فيها صليب وهو عنه ذاهل أو دخل إلى كنيسة ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل أو بات في بيت بعض أصدقائه ودعا الله لم يكن بهذا بأس

ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب أو كنيسة يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة لكان هذا من العظائم بل لو قصد بيتا أو حانوتا في السوق أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها يرجو الإجابة بالدعاء عندها لكان هذا من المنكرات المحرمة إذ ليس للدعاء عندها فضل

فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب بل هو أشد من بعضه لأن النبي نهى عن اتخاذها مساجد وعن اتخاذها عيدا وعن الصلاة عندها بخلاف كثير من هذه المواضع

وما يرويه بعض الناس من أنه قال إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور أو نحو هذا فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء

والذي يبين ذلك أمور

أحدها أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع الشرك بقصدها وبالعكوف عليها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة

ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء أو لدفع شر كالاستنصار فحاله بافتتانه بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية فإن أكثر المصلين في حال العافية لا تكاد تفتن قلوبهم بذلك إلا قليلا أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جدا فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهى عن الصلاة عندها متحققة في حال هؤلاء كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد وهذا واضح لمن فقه في دين الله فتبين له ما جاءت به الحنفية من الدين الخالص لله وعلم كمال سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد ونفي الشرك بكل طريق

الثاني أن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجاءها بالدعاء في غير ذلك الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا ذكره أحد من العلماء والصالحين المتقدمين بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية وأصحاب رسول الله قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب غير ذلك فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا عند قبر النبي بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به ولم يستسق عند قبر النبي بل قد روى عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي لينزل المطر فإنه رحمة تنزل على قبره ولم تستسق عنده ولا استغاثت هناك

ولهذا لما بنيت حجرته على عهد التابعين بأبي وهو وأمي تركوا في أعلاها كوة إلى السماء وهي إلى الآن باقية فيها موضوع عليها شمع على أطرافه حجارة تمسكه وكان السقف بارزا إلى السماء وبنى ذلك لما احترق المسجد والمنبر سنة بضع وخمسين وستمائة وظهرت النار بأرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى وجرب بعدها فتنة التتر ببغداد وغيرها

ثم عمر المسجد والسقف كما كان وأحدث حول الحجرة الحائط الخشبي ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف وأنكرها من أن كرها

على أنا قد روينا في مغازي محمد بن إسحق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءة مثل ما قرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية ما كان فيه فقال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت ما كانوا يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع

ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس وهو إنكار منهم لذلك

ويذكرون أن قبر أبي أيوب الأنصاري عند أهل القسطنطينية كذلك ولا قدوة بهم فقد كان من قبور أصحاب رسول الله بالأمصار عدد كثير وعندهم التابعون ومن بعدهم من الأئمة وما استغاثوا عند قبر صحابي قط ولا استسقوا عنده ولا به ولا استنصروا عنده ولا به

ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه

ومن تأمل كتب الآثار وعرف حال السلف تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيون عند القبور ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم كما قد ذكرنا بعضه

فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة أولا يكون

فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم ويعلمه من بعدهم ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه نوع كراهة فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه هذا محال طبعا وشرعا

وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية كما لو تحرى الدعاء وقصده عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها من شطوط الأنهار ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق وجوانب الطرقات ومالا يحصي عدده إلا الله

وهذا قد دل عليه كتاب الله في مواضع مثل قوله تعالى ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه فمن شرعه فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله

وقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرك بالله مالم ينزل به سلطانا لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله مالا يعلم

وما أحسن قول الله مالم ينزل به سلطانا لئلا يحتج بالمقاييس والحكايات

ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم

فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يخوفون المخلصين بشفعائهم فيقال لهم نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم فإنهم خلق من خلق الله لا يضرون إلا بعد مشيئة الله فمن مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله وأنتم قد أحدثتم في دينه من الشرك مالم ينزل به وحيا من السماء فأي الفريقين أحق بالأمن من كان لا يخاف إلا الله ولم يبتدع في دينه شركا أم من ابتدع في دينه شركا بغير إذنه بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك فهؤلاء هم الذين لهم الأمن وهم مهتدون

وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم درجات

فإن قيل قد نقل عن بعضهم أنه قال قبر معروف الترياق المجرب وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى عند قبر أحمد ويتوخى الدعاء عنده وأظنه ذكر ذلك المروزي ونقل عن جماعات بأنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم الدعاء وعلى هذا عمل كثير من الناس

وقد ذكر المتأخرون المصنفون في مناسك الحج إذا زار قبر النبي فإنه يدعو عنده

وذكر بعضهم أن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له

وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر أنها بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها فجازت القراءة عندها كغيرها

وقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي وغيره

وقد أدركنا في أزمامنا وما قاربها من ذي الفضل عند الناس علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها وفيهم من كان بارعا في العلم وفيهم من له عند الناس كرامات فكيف يخالف هؤلاء

وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق أهل العلم والدين لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون

قلنا الذي ذكرنا كراهته لم ينقل في استحبابه فيما علمناه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله حيث قال خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مع شدة المقتضى عندهم لذلك لو كان فيه فضيلة فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه

وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى فعل ذلك وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك فإنه لا يمكن أن يقال اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين

أحدهما أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره قديما وحديثا

الثاني أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه فإن هذا من باب تناقض الاجماعات وهي لا تتناقض وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا

فكيف وهذا والحمد لله لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة رحمه الله فأجاب أو كلاما هذا معناه وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل

فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة بل ولم يكن هذا على عهد االشافعي معروفا وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة

ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره

ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها

وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه

وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روى لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت فكيف بالمنقول عن غيره

ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ فيه ويصيب أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرف النقل عنه كما أن النبي لما أذن في زيارة القبور بعد النهي عنها فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها

ثم سائر هذه الحجج دائر بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به أو قياس لا يجور استحباب العبادات بمثله مع العلم بأن الرسول لم يشرعها وتركه لها مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله وإنما تثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن أبناء النصارى وأمثالهم وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله وسبيل السابقين أو الأولين ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا استنباطا بحال

والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل

أما المجمل فالنقض فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير بل المشركون الذين بعث اليهم رسول الله كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة

فإن كان هذا وحده دليلا على أن يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل وذلك كفر متناقض

ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثنا وأحسن الظن به وأساء الظن بآخر وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره فمن المحال إصابتهم جميعا وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجع بلا مرجح والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد

فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه دون ما ينفونه بضعف التأثير على زعمهم فإن الواحد إذا أحسن للظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثره مثل تأثر من حسن الظن بواحد دون آخر وهذا كله من خصائص الأوثان

ثم قد استجيب لبلعم بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان

والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون

وأما الجواب المفصل فنقول

مدار هذه الشبهة على أصلين

منقول وهو ما يحكى من نقل هذا الدعاء عن بعض الأعيان

ومعقول وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة

فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط وليس بحجة بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك

وأما المعقول فنقول عامة المذكور من المنافع كذب فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات فيستجاب له في واحدة ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات الأسحار ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلواتهم وفي بيوت الله فإن هؤلاء إذا ابتهلوا ابتهالا من جنس القبوريين لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله القبوريون إذا فعله المخلصون لم يرد المخلصون إلا نادرا ولم يستجب للقبوريين إلا نادرا والمخلصون كما قال النبي ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل الله له دعوته أو يدخر له من الخير مثلها أو يصرف عنه من الشر مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر فهم في دعائهم لا يزالون بخير

وأما القبوريون فإنهم إذا استجيب لهم نادرا فإن أحدهم يضعف توحيده ويقل نصيبه من ربه ولا يجد في قلبه من ذوق طعم الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون ولعله لا يكاد يبارك له في حاجته اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله على اجتهاده وغفر له خطأه

وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريجات الفلكية والتوجهات النفسانية كالعين والدعاء المحرم والرقي المحرمة والتمريجات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية فقل أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة دع الآخرة والمخبل من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم فهي في نفسها مضرة لا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا وإذا حصل فضرره أكثر من منفعته والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب المباحة أو المستحبة سواء كانت طبيعية كالتجارة والحراثة أو كانت دينية كالتوكل على الله والثقة به وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين كالصدقة وفعل المعروف يحصل بها الخير المحض أو الغالب وما يحصل من ضرر بفعل مشروع أو ترك غير مشروع مما نهى عنه فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة

وهذا الأمر كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فهو ايضا معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة فإن الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة ويجلبان كل خير ويدفعان كل شر

فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك الأسباب المحرمة لا خير محض ولا غالب ومن كان له خبرة بأحوال العالم وعقل تيقن ذلك يقينا لا شك فيه

وإذا ثبت ذلك فليس علينا من سبب التأثير أحيانا فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو أما أعيانها فيلا ريب وكذلك أنواعها أيضا لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم وينهونهم عما فيه فسادهم ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر