ثم هذا الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا مجتهدا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكا من أعلم الناس بمثل هذه الأمور فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء ويذكر أنه لم يفعله السلف وقد أجدب الناس على عهد عمر رضي الله عنه فاستسقى بالعباس

ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي في حياته وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق ولما مات النبي توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به

ولهذا قال الفقهاء يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي وقال اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى أمطروا وذهب الناس ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به

والعلماء استحبوا السلام على النبي للحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي أنه قال ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام هذا مع ما في النسائي وغيره عنه أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام وفي سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء

فالصلاة عليه بأبي هو وأمي والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله

وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة بها عشرا

والمشروع لنا عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين هو من جنس المشروع عند جنائزهم فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له كما ثبت عن النبي في الصحيح والسنن والمسند أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم

فهذا دعاء خاص للميت كما في دعاء الصلاة على الجنازة الدعاء العام والخاص اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم متقلبنا ومثوانا أي ثم يخص الميت بالدعاء قال الله تعالى في حق المنافقين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية

فلما نهى الله نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأجل كفرهم دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلي عليه ويقام على قبره ولهذا جاء في السنن أن النبي كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل

وأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت أو الإقسام على الله به أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة ولا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل زرنا قبر النبي

وقال القاضي عياض كره مالك أن يقال زرنا قبر النبي وذكرنا عن بعضهم أنه علله بلعنه زوارات القبور

قال القاضي عياض وهذا يرده قوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها

وعن بعضهم أن ذلك لما قيل إن الزائر أفضل من المزور قال وهذا أيضا ليس بشيء إذ ليس كل زائر بهذه الصفة وقد ورد في حديث زيارة أهل الجنة لربهم ولم يمنع هذا اللفظ في حقه

قال والأولى أن يقال في ذلك إنما كراهة مالك له لإضافة الزيارة إلى قبر النبي وأنه لو قال زرنا النبي لم يكرهه لقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بأولئك قطعا للذريعة وحسما للباب

قلت غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ زرنا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على استعمال لفظ زيارة القبور في الزيارة البدعية الشركية لا في الزيارة الشرعية ولم يثبت عن النبي حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ولا روى أحد في ذلك شيئا لا أهل الصحيح ولا السنن ولا أئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره

وأجل حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة و من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي و من حج ولم يزرني فقد جفاني ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة

لكن النبي رخص في زيارة القبور مطلقا بعد أن كان قد نهى عنها كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وفي الصحيح عنه أنه قال استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة

فهذه زيارة لأجل تذكير الآخرة ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك وكان يخرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم فهذه زيارة مختصة بالمسلمين كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين

وقد استفاض عنه في الصحيح أنه قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا

وفي الصحيح أنه ذكرت له أم سلمة كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها وتصاوير فيها فقال أولئك إذا مات فيها الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهذه في الصحيح

وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك

وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني

وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عنه أنه قال إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد

ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه بأبي هو وأمي وكذلك عن أصحابه

فهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى والدعاء لهم فالزيارة المشروعة من جنس الثاني والزيارة المبتدعة من جنس الأول

فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها وعن قصد الصلاة عندها وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص

واتفقوا أيضا على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها وإن كان في هذا نزاع

والمقصود هنا أن هذا ليس بواجب ولا مستحب باتفاقهم بل هو مكروه باتفاقهم والفقهاء قد ذكروا في تعليل كراهة الصلاة في المقبرة علتين

إحداهما نجاسة التراب باختلاطه بصديد الموتى وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة وهذه العلة في صحتها نزاع لاختلاف العلماء في نجاسة تراب القبور وهي من مسائل الاستحالة وأكثر علماء المسلمين يقولون إن النجاسة تطهر بالاستحالة وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وقد ثبت في الصحيح أن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان حائطا لنبي النجار وكان فيه قبور من قبور المشركين ونخل وخرب فأمر النبي بالنخيل فقطعت وبالخرب فسويت وبالقبور فنبشت وجعل النخل في صف القبلة فلو كان تراب القبور نجسا لكان ترب قبور المشركين نجسا ولأمر النبي بنقل ذلك التراب فإنه لا بد أن يختلط ذلك التراب بغيره

والعلة الثانية ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور لما يفضي إليه ذلك من الشرك وهذه العلة صحيحة باتفاقهم

والمعللون بالأولى كالشافعي وغيره عللوا بهذه أيضا وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك كأبي بكر الأثرم صاحب أحمد وغيره وعلله بهذه الثانية أيضا وإن كان منهم من قد يعلل بالأولى

وقد قال تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم قد ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره وأصحاب قصص الأنبياء كوثيمة وغيره

ويبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنبش ولا يكون ترابها نجسا وقد قال عن نفسه اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وقال لا تتخذوا قبري عيدا

فعلم أن نهيه عن ذلك من جنس نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ فسد الذريعة وحسم المادة بأن لا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ولا يدعو إلا الله وكذلك نهى عن اتخاذ القبور مساجد وإن كان المصلي عندها لا يصلي إلا لله لئلا يفضي ذلك إلى دعاء المقبورين والصلاة لهم وكلا الأمرين قد وقع

فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعو لها بأنواع الأدعية والتعزيمات ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبته لها ويتحرى الأوقات والأمكنة والأبخرة المناسبة لها في زعمه وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام وصنف فيه بعض المشهورين كتابا سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم على مذهب المشركين من الهند والصابئين والمشركين من العرب وغيرهم مثل طمطم الهندي وملكوشا البابلي وابن وحشية وأبي معشر البلخي وثابت بن قرة وأمثالهم ممن دخل في الشرك وآمن بالجبت والطاغوت وهم منتسبون إلى أهل الإسلام كما قال تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا وقد قال غير واحد من السلف الجبت السحر والطاغوت الأوثان وبعضهم قال الشيطان وكلاهما حق

وهؤلاء يجمعون بين الجبت الذي هو السحر و الشرك الذي هو عبادة الطاغوت كما يجمعون بين السحر وعبادة الكواكب وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل ودين جميع الرسل أنه شرك محرم بل هذا من أعظم أنواع الشرك الذي بعثت الرسل بالنهي عنه ومخاطبة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه لقومه كانت في نحو هذا الشرك وكذلك قوله تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض إلى قوله تعالى إن ربك عليم حكيم

فإن إبراهيم عليه السلام سلك هذه السبيل لأن قومه كانوا يتخذون الكوكب أربابا يدعونها ويسألونها ولم يكونوا هم ولا أحد من العقلاء يعتقد أن كواكبا من الكواكب خلق السموات والأرض وإنما كانوا يدعونها من دون الله على مذهب هؤلاء المشركين ولهذا قال الخليل عليه السلام أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقال الخليل أيضا إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين والخليل صلوات الله عليه أنكر شركهم بعبادة الكواكب العلوية وشركهم بعبادة الأوثان التي هي تماثيل وطلاسم لتلك الكواكب أو هي تماثيل لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم وكسر الأصنام كما قال تعالى عنه فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون

والمقصود هنا أن الشرك بعبادة الكواكب وقع كثيرا وكذلك الشرك بالمقبورين من دعائهم والتضرع إليهم والرغبة إليهم ونحو ذلك

فإذا كان النبي قد نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده خالصا عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم فكيف إذا وجد ما هو عين الشرك من الرغبة إليهم سواء طلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك ولو لم يكن عند قبره كما لا يقسم بمخلوق مطلقا وهذا القسم منهي عنه غير منعقدباتفاق الأئمة وهل هو نهي تحريم أو تنزيه على قولين أصحهما أنه نهي تحريم ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي خاصة فإن فيه قولين في مذهب أحمد وبعض أصحابه كابن عقيل طرد الخلاف في الحلف بسائر الأنبياء لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق ألبته ولا يقسم بمخلوق ألبته وهذا هو الصواب

والإقسام على الله بنبيه محمد ينبني على هذا الأصل ففيه هذا النزاع

وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي في منسك المروزي ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به فكذلك هذا

وأما غيره فما علمت بين الأمة فيه نزاعا بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك واتفقوا على أن الله تعالى هو الذي يسأل وحده ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما يقسم على غيره بذلك كالأدعية المعروفة في السنن اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله الحنان المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام وفي الحديث الآخر اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وفي الحديث الآخر أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فهذه الأدعية ونحوها هي المشروعة باتفاق العلماء

وأما إذا قال أسألك بمعاقد العز من عرشك فهذا فيه نزاع رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به ونقل عن أبي حنيفة كراهته

قال أبو الحسن القدوري في شرح الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت ابا يوسف قال أبو حنيفة رحمه الله لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وهو قول لأبي يوسف قال أبو يوسف بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام بهذا الحق يكره

فقد قالوا جميعا فالمسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقا عليه ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو بالخالق فيه نزاع بينهم فلذلك تنازعوا فيه وأبو يوسف بلغه الأثر فيه أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة فجوزه لذلك

وقد نازع في هذا بعض الناس وقالوا في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن النبي في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فاني لم أخرج اشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي وقد قال تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام على قراءة حمزة وغيره ممن خفض الأرحام وقال تفسيرها أي تساءلون به والأرحام كما يقال سألتك بالله وبالرحم

ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا باعادة الجار فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار وإلا فقد سمع من الكلام العربي نثره ونظمه العطف بدون ذلك كما حكى سيبويه ما فيها غيره وفرسه ولا ضرورة هنا كما يدعى مثل ذلك في الشعر ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر قال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون

وفي النسائي والترمذي وغيرهما حديث الأعمى الذي صححه الترمذي أنه جاء إلى النبي فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها اللهم فشفعه في ودعا الله فرد الله عليه بصره

والجواب عن هذا أن يقال

أولا لا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وكما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة

وفي الصحيحين أنه قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق

وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين

ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة وبقوله في الحديث القدسي الصحيح إني حرمت الظلم على نفسي الخ والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر

وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال إنه كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك

وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه ليس من باب المعاوضة ولا من باب ما أوجبه غيره عليه فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك

وإذا سئل بما جعله سببا للمطلوب من التقوى والأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته وأنه يجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون فيستجيب دعاءهم ومن أدعية عباده الصالحين ومن شفاعة ذوي الوجاهة عنده فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا

وأما إذا سئل بشيء ليس هو سببا للمطلوب فإما أن يكون إقساما به عليه فلا يقسم على الله بمخلوق وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة

فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة ورحمته لهم أن ينصرهم ولا يخذلهم وأن يمنعهم ولا يعذبهم وهم وجهاء عنده يقبل من شفاعتهم ودعائهم مالا يقبله من دعاء غيرهم

فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان وفلان لم يدع ربه وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة فهو لم يسأله بسبب يوجب المطلوب

وحينئذ فيقال أما نفس التوسل والتوجه إلى الله ورسوله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم فهذا مما لا نزاع فيه بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وقوله سبحانه أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه

فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا هو الدعاء بمعنى العبادة والدعاء بمعنى المسألة وإن كان كل منهما يستلزم الآخر لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كربته فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع وإن كان ذلك من العبادة والطاعة ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب من الرزق والنصر والعافية مطلقا ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز و جل ومعونته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية

وقد يفعل العبد ابتداء ما أمر به لأجل العبادة لله والطاعة له ولما عنده من محبته والإنابة إليه وخشيته وامتثال أمره وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية

وقد قال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقال النبي في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره الدعاء هو العبادة ثم قرأ قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين

قيل ادعوني أي اعبدوني وأطيعوا أمري استجب دعاءكم وقيل سلوني أعطكم وكلا النوعين حق

وفي الصحيحين في قول النبي في حديث النزول ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر

فذكر أولا إجابته الدعاء ثم ذكر إعطاء المغفرة للمستغفر

فهذا جلب المنفعة وهذا دفع المضرة وكلاهما مقصود الداعي المجاب

وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون وقد روى أن بعض الصحابة قال يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله هذه الآية

فأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ثم أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به كما قال بعضهم فليستجيبوا لي إذا دعوتهم وليؤمنوا بي إذا دعوتهم

قالوا وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة بكمال الطاعة لألوهيته وبصحة الإيمان بربوبيته فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه حصل مقصوده من الدعاء وأجيب دعاؤه كما قال تعالى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله أي يستجيب لهم يقال استجابه واستجاب له

فمن دعاه موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه وقد يكون مشركا وفاسقا فإنه سبحانه هو القائل وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه وهو القائل سبحانه وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وهو القائل سبحانه قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون

ولكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسوله كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق

وقال تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن يريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا وقد دعا الخليل عليه الصلاة و السلام بالرزق لأهل الإيمان فقال وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر فقال الله تعالى ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير

فليس كل من متعه الله برزق ونصر إما إجابة لدعائه وإما بدون ذلك يكون ممن يحبه الله ويواليه بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق

وقد ذكروا أن بعض الكفار من النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد ماؤهم العذب فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم فاشتور ولاة أمر المسلمين وقالوا بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم فقام أولئك فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم فاضطرب بعض العامة فقال الملك لبعض العارفين أدرك الناس فأمر بنصب منبر له وقال اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقد دعوك مضطرين وأنت تجيب المضطر إذا دعاك فأسقيتهم لما تكفلت به من أرزاقهم ولما دعوك مضطرين لا لأنك تحبهم ولا لأنك تحب دينهم والآن فنريد أن ترينا آية يثبت بها الايمان في قلوب عبادك المؤمنين فأرسل الله عليهم ريحا فأهلكتهم أو نحو هذا

ومن هذا الباب من قد يدعو دعاء معتديا فيه إما بطلب مالا يصلح أو بالدعاء الذي فيه معصية الله من شرك أو غيره فإذا حصل بعض غرضه ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح بمنزلة من أملى له وأمده بالمال والبنين فظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات قال تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون

وقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

وقال تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين والإملاء إطالة العمر وما في ضمنه من رزق ونصر

وقال تعالى فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين

وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع

وقال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين

والمقصود هنا أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله فيثاب العبد عليه في الآخرة مع ما يحصل له في الدنيا وقد يكون دعاء مسألة تقضي به حاجته ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة وقد يكون سببا لضرر دينه فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله سبحانه وعلى ما تعداه من حدوده

فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته

فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها وبدعاء أحياء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته

ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي يوم القيامة فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره

وقول عمر رضي الله عنه إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا معناه نتوسل إليك بدعائه وشفاعته وسؤاله ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته ليس المراد به إنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله المبتدعون بعد موته وفي مغيبه كما يقول بعض الناس أسألك بجاه فلان عندك ويقولون إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ويروون حديثا موضوعا إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك به بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس

فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء دون الأموات وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره

وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له ليرد الله عليه بصره فعلمه النبي دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه

فهذا يدل على أن النبي شفع فيه وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته وأن قوله أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر كنا نتوسل إليك بنبينا فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد ثم قال يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفعه في فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه وقوله يا محمد يا نبي الله هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه إن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب

فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال وإشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته فلا يكون التوسل بشيء منه ولا بشيء من السائل بل بذاته أو لمجرد الإقسام به على الله

فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب وقد يراد به الإقسام

ومن الأول حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا ليدعوا كل رجل منكم بأفضل عمله فقال أحدهم اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وأنها طلبت مني مائة دينار فلما أتيتها بها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم الا بحقه فتركت الذهب وانصرفت فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فأفرجت فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فناء بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت عنهم غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منها الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت أنا لا استهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون

فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى ويتوجه به إليه ويسأله به لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به من العمل الصالح وسؤاله والتضرع إليه

ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال بحبي إياك إلا ما فرجت عني ففرج عنه

وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله أبنها لما قالت اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك وسألت الله أن يحيي ولدها وأمثال ذلك

وهذا كما قال المؤمنون ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد

فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه وفعل ما يحب من العبودية والطاعة هو من جنس فعل ذلك رجاء لرحمة الله وخوفا من عذابه وسؤال الله بأسمائه وصفاته كقوله أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض وبأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ونحو ذلك يكون من باب التسبب فإن كون المحمود المنان يقتضي منته على عباده وإحسانه الذي يحمد عليه

وكونه الأحد الصمد يقتضي توحده في صمديته فيكون هو السيد المقصود الذي يصمد الناس إليه في كل حوائجهم المستغنى عما سواه وكل ما سواه مفتقرون إليه لا غنى بهم عنه وهذا سبب لقضاء المطلوبات

وقد يتضمن ذلك معنى الإقسام عليه بأسمائه وصفاته

وأما قوله في حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف

لكن بتقدير ثبوته فهو من هذا الباب فإن حق السائلين عليه سبحانه أنه يجيبهم وحق المطيعين له أن يثيبهم فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به والتوجه به ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله

فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق

ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره عن النبي أنه كان يقول أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق قالوا والاستعاذة لا تكون بمخلوق

فأورد بعض الناس لفظ المعافاة فقال جمهور أهل السنة المعافاة من الأفعال وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم يقولون أن أفعال الله قائمة به وأن الخالق ليس هو المخلوق وهذا قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد ومالك وهو قول أصحاب أبي حنيفة وقول عامة أصحاب أهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام والفلسفة

وبهذا يحصل الجواب عما أوردته المعتزلة ونحوهم من الجهمية نقضا

فإن أهل الإثبات من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره واتصف به ذلك المحل لا غيره فإذا خلق الله لمحل علما أو قدرة أو حركة أو نحو ذلك كان هو العالم به القادر به المتحرك به ولم يجز أن يقال أن الرب المتحرك بتلك الحركة ولا هو العالم القادر بالعلم والقدرة المخلوقين بل بما قام به من العلم والقدرة

قالوا فلو كان قد خلق كلاما في غيره كالشجرة التي نادى بها موسى لكانت الشجرة هي المتصفة بذلك الكلام فتكون الشجرة هي القائلة لموسى إنني أنا الله ولكان ما يخلقه الله من إنطاق الجلود والأيدي وتسبيح الحصى وتأويب الجبال وغير ذلك كلاما له كالقرآن والتوراة والإنجيل بل كان كل كلام في الوجود كلامه لأنه خالق كل شيء وهذا قد التزمه مثل صاحب الفصوص وأمثاله من هؤلاء الجهمية الحلولية الاتحادية

فأوردت المعتزلة صفات الأفعال كالعدل والإحسان فإنه يقال إنه عادل محسن بعدل خلقه في غيره وإحسان خلقه في غيره فأشكل ذلك على من يقول ليس لله فعل قائم به بل فعله هو المفعول المنفصل عنه وليس خلقه إلا مخلوقه

وأما من طرد القاعدة وقال أيضا إن الأفعال قائمة به ولكن المفعولات المخلوقة هي المنفصلة عنه وفرق بين الخلق والمخلوق فأطرد دليله واستقام

والمقصود هنا أن استعاذة النبي بعفوه ومعافاته من عقوبته مع أنه لايستعاذ بمخلوق فهي كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لا يسأل بمخلوق

ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وفي لفظ الترمذي من حلف بغير الله فقد أشرك قال الترمذي حديث حسن

ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر الله ونحو ذلك مما ثبت عن النبي والحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله لأن لفظ الغير قد يراد به المباين المنفصل ولهذا لم يطلق السلف وسائر الأئمة على القرآن وسائر صفات الله أنها غيره ولم يطلقوا عليها أنها ليست غيره لأن لفظا الغير فيه إجمال قد يراد به المباين المنفصل فلا يكون صفة الموصوف أو بعضه داخلا في لفظ الغير وقد يراد به ما يمكن تصوره دون تصور ما هو غير له فيكون غيرا بهذا الاصطلاح ولهذا تنازع أهل النظر في مسمى الغير والنزاع في ذلك لفظي ولكن بسبب ذلك حصل في مسائل الصفات من الشبهات مالا ينجلي إلا بمعرفة ما وقع في الألفاظ من الاشتراك والإبهامات كما قد بسط في غير هذا الموضع

ولهذا يفرق بين قول القائل الصفات غير الذات وبين قوله صفات الله غير الله فإن الثاني باطل لأن مسمى اسم الله يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات ولهذا لا يقال صفات الله زائدة عليه سبحانه وإن قيل الصفات زائدة على الذات لأن المراد هي زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات المجردة والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة فليس اسم الله متناولا لذات مجردة عن الصفات أصلا ولا يمكن وجود ذلك ولهذا قال أحمد رحمه الله في مناظرته للجهمية لا نقول الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد وقد بسط في غير هذا الموضع