وأما قول الناس أسألك بالله وبالرحم وقراءة من قرأ تساءلون به والأرحام فهو من باب التسبب بها فإن الرحم توجب الصلة وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته فسؤال السائل بالرحم لغيره متوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما ليس هو من باب الإقسام ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب بل هو توسل بما يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم وبالصلاة عليهم

ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه قلت له بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه أو كما قال

فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر أو من باب قولهم أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك وليس ذلك بل جعفر هو أخو علي وعبد الله هو ابنه وله عليه حق الصلة فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر كما ثبت في الحديث إن من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أو يولي وقوله إن من برهما بعد موتهما الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاد عهدهما من بعد موتهما وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما

ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر ولكان علي إلى تعظيم رسول الله ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره لكن بين المعنيين فرق

فإن السائل بالنبي طالب به متسبب به فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه وإلا كان يسأل ما به باطلا

وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم بالمقسم به وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار المقسم وفي مثل هذا قيل إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره

وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به

فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع

والثاني سؤال للمسؤل بما عنده من محبة المسؤل به وتعظيمه ورعاية حقه فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال كسؤال الإنسان بالرحم

ومن هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم

وأما بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم ورعايته لحقوقهم التي أنعم بها عليهم فليس في ذلك ما يوجب حصول مقصود السائل إلا بسبب بين السائل وبينهم إما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك وإما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه

فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين إما بطاعتهم واتباعهم وإما بدعائهم وشفاعتهم أما مجرد دعاء الداعي وتوسله بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له فلا ينفعه وإن أعظم جاه أحدهم عند الله تعالى

وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنه إذا كان السلف والائمة قالوا في سؤال الله بالمخلوق ما قد ذكرنا فكيف بسؤال المخلوق الميت سواء سئل الميت أن يسأل الله أو سئل قضاء الحاجة ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس إما عند قبر الميت وإما مع غيبته وصاحب الشريعة حسم المادة وسد الذريعة بلعنة من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وأن لا يصلي عندها لله ولا يسأل إلا الله وحذر أمته ذلك فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك وأسباب الشرك

وقد تقدم الكلام على الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد

وقد تبين أن أحد من السلف لم يكن يفعل ذلك إلا ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي والصلاة في المواضع التي صلى فيها حتى أن النبي توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله فإنه قصد أن يفعل مثل فعله في نزوله وصلاته وصبه للماء وغير ذلك ولم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها

والكلام هنا في ثلاث مسائل

إحداها أن التأسي به في صورة الفعل الذي فعله من غير أن يعلم قصده فيه أو مع عدم السبب الذي فعله فهذا فيه نزاع مشهور وابن عمر مع طائفة يقولون بأحد القولين وغيرهم يخالفهم في ذلك والغالب والمعروف عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رضي الله عنهما وليس هذا مما نحن فيه الآن

ومن هذا الباب أنه لو تحرى رجل في سفره أن يصلي في مكان نزل فيه النبي وصلى فيه إذا جاء وقت الصلاة فهذا من هذا القبيل

المسألة الثانية أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتا لصلاته بل أراد أن ينشىء الصلاة والدعاء لأجل البقعة فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره وإن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك وتواتر عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك فيمتنع أن يكون فعل ابن عمر لو فعل ذلك حجة على أبيه وعلى المهاجرين والأنصار

والمسألة الثالثة أن لا تكون تلك البقعة في طريقه بل يعدل عن طريقه إليها إو يسافر إليها سفرا طويلا أو قصيرا مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ليصلي فيه ويدعو أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال التي يقال فيها مقامات الأنبياء وغيرهم أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء مثل مكان مبني على نعله ومثل ما في جبل قاسيون وجبل الفتح وجبل طور سيناء الذي ببيت المقدس ونحو هذه البقاع فهذا ما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله وحال أصحابه من بعده أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك ولهذا قال أبو طالب في شعره ... وراق ليرقى في حراء ونازل ...

وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ثم يرجع فيتزود لذلك حتى فجأه الوحي وهو بغار حراء فأتاه الملك فقال له اقرأ فقال لست بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ثم قال اقرأ فقلت لست بقارئ مرتين أو ثلاثا ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم فرجع بها رسول الله ترجف بوادره الحديث بطوله

فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث ثم أنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه أقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم افضل الخلق ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم عند المساجد التي يقال إنها مساجد عائشة والجبل الذي عن يمينك يقال له جبل التنعيم والحديبية غربيه ثم إنه اعتمر من العام القابم عمرة القضية ودخل مكة هو وكثير من أصحابه وأقاموا بها ثلاثا ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة فقاتل هوازن بوادي حنين ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة فأتى بعمرته من الجعرانة إلى مكة ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع وحج معه جماهير المسلمين لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله وهو في ذلك كله لا هو ولا أحد من اصحابه يأتي غار حراء ولا يزوره ولا شيئا من البقاع التي حول مكة ولم يكن هناك إلا بالمسجد الحرام وبين الصفا والمروة وبمنى ومزدلفة وعرفات وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة وضربت له القبة - يوم عرفة بنمرة المجاورة لعرفة ثم بعده خلفاءه الراشدين وغيرهم من السابقين الأولين لم يكونوا يسيرون إلى حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء

وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى ثاني اثنين إذ هما في الغار وهو غار بجبل ثور يماني مكة لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء ولا بنى رسول الله بمكة مسجدا غير المسجد الحرام بل تلك المساجد كلها محدثة مسجد المولد وغيره ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى وقد بنى هناك مسجد

ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه لكان النبي أعلم الناس بذلك وأسرعهم إليه ولكان علم أصحابه ذلك وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم وشرع من الدين مالم يأذن به الله

وإذا كان حكم مقام نبينا في مثل غار حراء الذي ابتدىء فيه بالإنباء والإرسال وأنزل عليه فيه القرآن مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته على رسوله

فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد أن يشرع قصدها والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك إذا كانت صحيحة ثابتة فكيف إذا علم أنها كذب أو لم يعلم صحتها

وهذا كما أنه قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين فلم يستلم الركنين الشاميين ولا غيرهما من جوانب البيت ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر وأما التقبيل فلم يقبل إلا الحجر الأسود

وقد اختلف في الركن اليماني فقيل يقبله وقيل يستلمه ويقبل يده

وقيل لا يقبله ولا يقبل يده والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد وغيره

والصواب أنه لا يقبله ولا يقبل يده فإن النبي لم يفعل هذا ولا هذا كما تنطق به الأحاديث الصحيحه

ثم هذه مسألة نزاع وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم أنه لا يقبل الركنين الشاميين ولا شيئا من جوانب البيت فإن النبي لم يستلم إلا الركنين اليمانيين وعلى هذا عامة السلف وقد روي أن ابن عباس ومعاوية طافا بالبيت فاستلم معاوية الأركان الأربعة فقال ابن عباس أن رسول الله لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس شيء من البيت متروكا فقال ابن عباس لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فرجع إليه معاوية

وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى

فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحه باليد فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد

وأيضا فإن المكان الذي كان النبي يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها

فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله فكيف بما يقال أن غيره صلى فيه أو نام عليه

وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره هذا إذا كان النقل صحيحا فكيف بما لا يعلم صحته أو بما لا يعلم أنه كذب كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم ويزعمون عند الجهال أن هذا موضع قدم النبي

وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه وقدمي إبراهيم الخليل الذي لا شك فيه ونحن مع هذا قد أمرنا أن نتخذه مصلى فكيف بما يقال أنه موضع قدميه كذبا وافتراء عليه كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس وغير ذلك من المقامات

فإن قيل قد أمر الله أن تتخذ من مقام إبراهيم مصلى فيقاس عليه غيره

قيل له هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة سواء أريد به المقام عند الكعبة موضع قيام إبراهيم أو أريد به المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات بما لم يشركها فيه سائر البقاع كما خص البيت بالطواف فما خصت به تلك البقاع لا يقاس عليها غيرها وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها

ونحن قد استدللنا على أن ما لم يشرع هناك من التقبيل والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع منه مثل ما شرع فيها

ومن ذلك البنيه التي على جبل عرفات التي يقال إنها قبة آدم فإن هذه لا يشرع قصدها للصلاة والدعاء باتفاق العلماء بل نفس رقي الجبل الذي بعرفات الذي يقال له جبل الرحمة واسمه الأول على وزن هلال ليس مشروعا باتفاقهم وإنما السنة الوقوف بعرفات إما عند الصخرات حيث وقف النبي وإما بسائر عرفات فإن النبي قال عرفة كلها موقف وادفعوا عن بطن عرنة

وكذلك سائر المساجد المبنية هناك كالمساجد المبنية عند الجمرات وبجنب مسجد الخيف مسجد يقال له غار المرسلات فيه نزلت سورة المرسلات وفوق الجبل مسجد يقال له مسجد الكبش ونحو ذلك لم يشرع النبي قصد شيء من هذه البقاع لصلاة ولا دعاء ولا غير ذلك

وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعة رسول الله

وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل ان أحج في أول عمري لبعض الشيوخ جمعته من كلام العلماء ثم تبين لي أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئا من ذلك وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد من دعاء وصلاة وغير ذلك إذا فعله في المسجد الحرام كان خيرا له بل هذا سنة مشروعة وأما قصد مسجد غيره هناك تحريا لفضله فبدعة غير مشروعة

وأصل هذا أن المساجد التي تشد الرحال إليها هي المساجد الثلاثة كما ثبت في الصحيحين عن النبي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا وقد روي هذا من وجوه أخرى وهو حديث ثابت عن النبي باتفاق أهل العلم متلقى بالقبول عنه

فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف من الاعمال الصالحة وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه فإن في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان ابن عمر يفعله وفي لفظ لمسلم فيصلي فيه ركعتين وذكره البخاري بغير إسناد

وذلك أن الله تعالى نهاه عن القيام في مسجد الضرار فقال والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم

وكان مسجد الضرار قد بني لأبي عامر الفاسق الذي كان يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية وكان المشركون يعظمونه فلما جاء الإسلام حصل له من الحسد ما أوجب مخالفته للنبي وفراره إلى الكافرين فقام طائفة من المنافقين يبنون هذا المسجد وقصدوا أن يبنوه لأبي عامر هذا والقصة مشهورة في ذلك فلم يبنوه لأجل فعل ما أمر الله به ورسوله بل لغير ذلك

فدخل في معنى ذلك من بنى أبنية يضاهي بها مساجد المسلمين لغير العبادات المشروعة من المشاهد وغيرها لا سيما إذا كان فيها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لأهل النفاق والبدع المحادين لله ورسوله ما يقوى بها شبهها بمسجد الضرار فقال الله تعالى لنبيه لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه وكان مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء كما ثبت في الصحيحين عنه أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال مسجدي هذا فكلا المسجدين أسس على التقوى ولكن اختص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي مسجد قباء يوم السبت

وفي السنن عن أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه عن النبي قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن غريب

وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال قال رسول الله من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة رواه أحمد والنسائي وابن ماجة

قال بعض العلماء قوله من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها

وأما المساجد الثلاثة فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها ولكن لو نذر ذلك هل يجب بالنذر فيه قولان للعلماء

أحدهما أنه لا يجب بالنذر إلا إتيان المسجد الحرام خاصة وهذا أحد قولي الشافعي وهو مذهب أبي حنيفة وبناء على أصله في أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع

والقول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما أنه يجب إتيان المساجد الثلاثة بالنذر لكن إن أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول فإذا نذر إتيان مسجد المدينة ومسجد إيلياء أغناء إتيان المسجد الحرام وإن نذر إتيان مسجد إيلياء أغناه إتيان أحد مسجدي الحرمين

وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وهذا يعم كل طاعة سواء كان جنسها واجبا أو لم يكن وإتيان الأفضل إجراء للحديث الوارد في ذلك

وليس هذا موضع تفصيل هذه المسألة بل المقصود أنه لا يشرع السفر إلى مسجد غير الثلاثة ولو نذر ذلك لم يجب فعله باتفاق الأئمة وهل عليه كفارة يمين على قولين مشهورين

وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد العامة ولم يخصها النبي بإتيان ولهذا كان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئا من تلك الأماكن إلا قباء خاصة

وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي دعا في مسجد الفتح ثلاثا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الاربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة وفي إسناد هذا الحديث كثير بن زيد وفيه كلام يوثقه ابن معين تارة ويضعفه أخرى

وهذا الحديث يعمل به طائفة من اصحابنا وغيرهم فيتحرون الدعاء في هذا كما نقل عن جابر ولم ينقل عن جابر رضي الله عنه أنه تحرى الدعاء في المكان بل في الزمان

فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها النبي وبنيت بإذنه ليس فيها ما يشرع قصده بخصوصه من غير سفر إليه إلا مسجد قباء فكيف بما سواها

فصل

عدل

وأما المسجد الأقصى فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال وكان المسلمون لما فتحوا بيت المقدس على عهد عمر بن الخطاب حين جاء عمر إليهم فسلم النصارى إليه البلد دخل إليه فوجد على الصخرة زبالة عظيمة جدا كانت النصارى ألقتها عليها معاندة لليهود الذين يعظمون الصخرة ويصلون إليها فأخذ عمر في ثوبه منها وأتبعه المسلمون في ذلك ويقال أنه سخر لها الأنباط حتى نظفها ثم قال لكعب الأحبار اين ترى أن أبني مصلى المسلمين فقال ابنه خلف الصخرة فقال يا ابن اليهودية خالطتك يهودية أو كما قال فقال عمر ابنيه في صدر المسجد فإن لنا صدور المساجد فبناه في قبلي المسجد وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم الاقصى والأقصى اسم للمسجد كله ولا يسمى هو ولا غيره حرما وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة وفي وادي وج الذي بالطائف نزاع بين العلماء

فبنى عمر المصلى الذي هو في القبلة ويقال أن تحته درجا كان يصعد منها إلى أمام الأقصى فبناه على الدرج حيث لم يصل إلا أهل الكتاب ولم يصل عمر ولا المسلمون عند الصخرة ولا تمسحوا بها ولا قبلوها بل يقال إن عمر صلى عند محراب داود عليه السلام الخارج

وقد ثبت أن عبد الله بن عمر كان إذا أتى بيت المقدس دخل إليه وصلى فيه ولا يقرب الصخرة ولا يأتيها ولا يقرب شيئا من تلك البقاع وكذلك نقل عن غير واحد من السلف المعتبرين كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم

وذلك أن سائر بقاع المسجد لا مزية لبعضها عن بعض إلا ما بنى عمر رضي الله عنه لمصلى المسلمين

وإذا كان المسجد الحرام ومسجد المدينة اللذان هما أفضل من المسجد الأقصى بالإجماع فأحدهما قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والآخر هو المسجد الذي أوجب الله حجه والطواف له فيه وجعله قبلة لعباده المؤمنين ومع هذا فليس فيه ما يقبل بالفم ولا ما يستلم باليد إلا ما جعله الله في الأرض بمنزلة اليمين وهو الحجر الأسود فكيف يكون في المسجد الأقصى ما يستلم أو يقبل

وكانت الصخرة مكشوفة ولم يكن أحد من الصحابة لا ولاتهم ولا علماؤهم يخصها بعبادة وكانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما مع حكمهما على الشام وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه وإن كان لم يحكم عليها ثم كذلك في إمارة معاوية وابنه وابن ابنه

فلما كان في زمن عبد الملك وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى كان هو الذي بنى القبة على الصخرة وقد قيل أن الناس كانوا يقصدون الحج فيجتمعون بابن الزبير أو يقصدونه بحجة الحج فعظم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف ليكثر قصد الناس للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير والناس على دين الملوك وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا وصار بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار عند عبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير حاضر أن الله قال للصخرة أنت عرشي الأدنى فقال عروة يقول الله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض وأنت تقول أن الصخرة عرشه وأمثال هذا ولا ريب أن الخلفاء الراشدين لم يبنوا هذه القبة ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة ولا يتحرون الصلاة عندها حتى ابن عمر رضي الله عنهما مع كونه كان يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى كان لا يأتي الصخرة وذلك أنها كانت قبلة ثم نسخت وهي قبلة اليهود فلم يبق في شريعتنا يوجب تخصيصها بحكم كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت وفي تخصيصها بالتعظيم مشابه لليهود وقد تقدم كلام العلماء في يوم السبت وعاشوراء ونحو ذلك

وقد ذكر طائفة من متأخري الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أن اليمين تغلظ ببيت المقدس بالتحليف عند الصخرة كما تغلظ في المسجد الحرام بالتحليف بين الركن والمقام وكما تغلظ في مسجده بالتحليف عند منبره لكن ليس لهذا أصل في كلام أحمد ولا غيره من الأئمة بل السنة أن تغلظ اليمين فيه كما تغلظ في سائر المساجد عند المنبر ولا تغلظ اليمين بالتحليف عند ما لم يشرع للمسلمين تعظيمه كما لا تغلظ بالتحليف عند المشاهد ومقامات الأنبياء ونحو ذلك ومن فعل ذلك فهو ضال مبتدع مخالف للشريعة

وقد صنف طائفة من الناس مصنفات من فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي بالشام وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم مالا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم وأمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليات كعب الأحبار وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الإسرائيليات وقد قال معاوية رضي الله عنه ما رأينا من هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحيانا وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وإما أن يحدثكم بحق فتكذبوه

ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة مع هذه الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة إذا حدث بعض أعيان التابعين عن النبي بحديث كعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأبي العالية ونحوهم وهم من خيار علماء المسلمين وأكابر أئمة الدين توقف أهل العلم في مراسيلهم فمنهم من يرد المراسيل مطلقا ومنهم من يتقبلها بشروط ومنهم من يميز بين من عادته أن لا يرسل إلا عن ثقة كسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومحمد ابن سيرين وبين من عرف عنه أنه قد يرسل عن غير ثقة كأبي العالية والحسن وهؤلاء ليس بين أحدهم وبين النبي إلا رجل أو رجلان أو ثلاثة مثلا وأما ما يوجد في كتب المسلمين في هذه الأوقات من الأحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة فلا يجوز الحكم بصحتها باتفاق العلماء إلا أن يعرف أن ذلك من نقل أهل العلم بالحديث الذين لا يحدثون إلا بما صح كالبخاري في المعلقات التي يجوز ! فيها بأنها صحيحة عنده وما وقفه كقوله وقد ذكر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ونحو ذلك فإنه حسن عنده هذا وليس تحت أديم السماء بعد القرآن كتاب أصح من البخاري فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء وبين كعب وبين النبي الذي ينقل عنه ألف سنة وأكثر وأقل وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة بل غايته أن ينقل عن بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود وقد أخبر الله عن تبديلهم وتحريفهم فكيف يحل للمسلم أن يصدق شيئا من ذلك بمجرد هذا النقل بل الواجب أن لا يصدق ذلك ولا يكذبه أيضا إلا بدليل يدل على كذبه وهكذا أمرنا النبي

وفي هذه الإسرائيليات مما هو كذب على الأنبياء أو ما هو منسوخ في شريعتنا مالا يعلمه إلا الله

ومعلوم أن أصحاب النبي من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلاد بعد موت النبي وسكنوا بالشام والعراق ومصر وغير هذه الأمصار وهم كانوا أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه

فما كان من هذه البقاع لم يعظموه أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء أو نحو ذلك لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والذين فعل ذلك لأن اتباع سبيلهم أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها

وقد ثبت في الصحيح أن النبي لما أتى بيت المقدس ليلة الاسراء صلى فيه ركعتين ولم يصل بمكان غيره ولا زاره وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح وفيه ما هو في السنن أو في المسانيد وفيه ما هو ضعيف وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات مثل ما يرويه بعضهم فيه أن النبي قال له جبرائيل هذا قبر أبيك إبراهيم انزل فصل فيه وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصل فيه

وأعجب من ذلك أنه قد روي فيه أنه قيل له في المدينة انزل فصل ههنا قبل أن يبني مسجده وإنما كان المكان مقبرة المشركين والنبي بعد الهجرة إنما نزل هناك لما بركت ناقته هناك فهذا ونحوه من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة وبيت لحم كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين سواء كان مولد عيسى أو لم يكن بل قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده ولا الدعاء ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلا وقد قدم المسلمون إلى الشام غير مرة مع عمر بن الخطاب واستوطن الشام خلائق من الصحابة وليس فيهم من فعل شيئا من هذا ولم يبن المسلمون عليه مسجدا أصلا لكن لما استولى النصارى على هذه الأمكنة في أواخر المائة الرابعة لما أخذوا البيت المقدس بسبب استيلاء الرافضة على الشام لما كانوا ملوك مصر والرافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صحيح ولا نقل صريح ولا دين مقبول ولا دنيا منصورة قويت النصارى وأخذت السواحل وغيرها من الرافضة وحينئذ نقبت النصارى حجرة الخليل صلوات الله عليه وجعلت لها بابا وأثر النقب ظاهر في الباب فكان اتخاذ ذلك معبدا مما أحدثته النصارى ليس من عمل سلف الأمة وخيارها

فصل

عدل

وأصل دين المسلمين أنه لا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع هو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه

ثم المساجد جميعها تشترك في العبادات فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر المساجد إلا ما خص به المسجد الحرام من الطواف ونحوه فإن خصائص المسجد الحرام لا يشاركه فيها شيء من المساجد كما أنه لا يصلى إلى غيره

وأما مسجد النبي والمسجد الأقصى فإن ما يشرع فيهما من العبادات يشرع في سائر المساجد كالصلاة والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف ولا يشرع فيهما جنس مالا يشرع في غيرهما لا تقبيل شيء ولا استلامه ولا الطواف به ونحو ذلك لكنهما أفضل من غيرهما فالصلاة فيهما تضاعف على الصلاة في غيرهما

أما مسجد النبي فقد ثبت في الصحيح أن الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وروي هذا عن النبي من غير وجه

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةفي غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ص - قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام

وفي مسلم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن امرأة اشتكت شكوى فقالت إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي فأخبرتها بذلك فقالت اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول فإني سمعت رسول الله يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة

وفي المسند عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي بمائة صلاة قال أبو عبد الله المقدسي إسناده على رسم الصحيح

ولهذا جاءت الشريعة بالاعتكاف الشرعي في المساجد بدل ما كان يفعل قبل الإسلام من المجاورة بغار حراء ونحوه فكان النبي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله

والاعتكاف من العبادات المشروعة بالمساجد باتفاق الأئمة كما قال تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد أي في حال عكوفكم في المساجد لا تباشروهن وإن كانت المباشرة خارج المسجد ولهذا قال الفقهاء إن ركن الاعتكاف لزوم المسجد لعبادة الله ومحظوره الذي يبطله مباشرة النساء

فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر تمثال أو غير تمثال أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي أو غير نبي أو مقام نبي أو غير نبي فليس هذا من دين المسلمين بل هو من جنس دين المشركين الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه حيث قال ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون

وقال تعالى واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي أنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

وقال تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون

فهذا عكوف المشركين وذاك عكوف المسلمين

فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له وعكوف المشركين على ما يرجونه ويخافونه من دون الله ومن يتخذونهم شركاء لله وشفعاء عند الله

فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول إن العالم له خالقان ولا إن الله معه إله يساويه في صفاته هذا لم يقله أحد من المشركين بل كانوا يقرون بأن خالق السموات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم بقوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فقال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم

وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم كما قال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض

وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض

وقال تعالى عن صاحب يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون

وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون

وقال تعالى مالكم من دونه من ولي ولا شفيع

وقال تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون

وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق طرفان ووسط

فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة اثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن

والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا في أهل الكبائر من أمته بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الانسان بشفاعة غيره ودعائه كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه وأنكروا الشفاعة بقوله تعالى من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وبقوله تعالى ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع وغير ذلك

وأما سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعاته وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة

وقالوا إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته والصدقة عنه بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء كما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة وما كان في معنى الصوم

وقالوا إن الشفيع يطلب من الله ويسأله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه قال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى

وقد ثبت في الصحيح أن سيد الشفعاء إذا طلبت منه الشفاعة بعد أن تطلب من آدم وأولي العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى فيردونها إلى محمد العبد الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال فأذهب إلى ربي فإذا رأيته خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فاقول رب أمتي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة