وروى مسلم أيضا في صحيحه عن شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن بن الأشعث قال فأمر أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى فقال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله وركوعه وإذا رفع رأسه من ركوعه وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا

وروى البخاري هذا الحديث ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء وذلك لأنه لا شك أن القيام قيام القراءة وقعود التشهد يزيد على بقية الأركان لكن لما كان يوجز القيام ويتم بقية الأركان صارت قريبا من السواء

فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى وإنما البراء تارة قرب ولم يحدد وتارة استثنى وحدد وإنما جاز أن يقال في القيام مع بقية الأركان قريبا بالنسبة إلى الأمراء الذين يطيلون القيام ويخففون الركوع والسجود حتى يعظم التفاوت

ومثل هذا أنه صلى صلاة الكسوف فقرأ في الركعة الأولى بنحو من سورة البقرة وركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكذلك سجوده ولهذا نقول في أصح القولين إن ركوع صلاة الكسوف وسجودها يكون قريبا من قيامه بقدر معظمه أكثر من النصف

ومن أصحابنا وغيرهم من قال إذا قرأ البقرة يسبح في الركوع والسجود بقدر قراءة مائة آية وهو ضعيف مخالف للسنة

وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره أن النبي كان يقول بعد الرفع من الركوع من الذكر ما يصدق حديث أنس والبراء وكذلك صلاة رسول الله التطوع فإنه كان إذا صلى بالليل وحده طول لنفسه ما شاء وكان يقرأ في الركعة بالبقرة وآل عمران والنساء ويركع نحوا من قيامه ويرفع نحوا من ركوعه ويسجد نحوا من قيامه ويجلس نحوا من سجوده

ثم هذا القيام الذي وصفه أنس وغيره بالخفة والتخفيف الذي أمر به النبي قد فسره النبي بفعله وأمره وبلغ ذلك أصحابه فإنه لما صلى على المنبر قال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه صلوا كما رأيتموني أصلي

وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه ويسمى طويلا بالنسبة إلى ما هو أخف منه فلا حد له في اللغة وليس الفعل في الصلاة من العادات كالإحراز والقبض والاصطياد وإحياء الموات حتى يرجع في حده إلى عرف اللفظ بل هو من العبادات والعبادات يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع في أصلها إلى الشارع ولأنه لو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل أو في مسمى التخفيف لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة التي أمرنا بها في غالب الأوقات عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو القصر اختلافا مباينا لا ضبط له ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لكل أهل حي وسكة بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ وفي عادة الفعل مخالفا لعرف الآخرين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يقل كما يسميه أهل أرضكم خفيفا أو كما يعتادونه وما أعلم أحدا من العلماء يقول ذلك فإنه يفضي إلى تغيير الشريعة وموت السنن إما بزيادة وإما بنقص وعلى هذا دلت سائر روايات الصحابة

فروى مسلم في صحيحه عن زهير عن سماك بن حرب قال سألت جابر ابن سمرة عن صلاة رسول الله فقال كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال وأنبأني أن رسول الله كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد ونحوها

وروى أيضا عن شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال كان النبي يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك

وهذا يبين ما رواه مسلم أيضا عن زائدة عن سماك عن جابر بن سمرة أن النبي كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد وكان صلاته بعد تخفيفا أنه أراد والله أعلم بقوله وكانت صلاته بعد أي بعد الفجر أي أنه يخفف الصلوات التي بعد الفجر عن الفجر فإنه في الرواية الأولى جمع بين وصف صلاة رسول الله بالتخفيف وأنه كان يقرأ في الفجر بقاف

وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي يقرأ في الفجر بالطور في حجة الوداع وهي طائفة من حول الناس تسمع قراءته وما عاش بعد حجة الوداع إلا قليلا والطور نحو من سورة قاف

وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله يقرأ بها في المغرب فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل لم تكن من المهاجرات بل هي من المستضعفين كما قال ابن عباس كنت أنا وأبي من المستضعفين الذين عذرهم الله فهذا السماع كان متأخرا

وكذلك في الصحيح عن زيد بن ثابت أنه سمع النبي يقرأ في المغرب بطولى الطوليين وزيد من صغار الصحابة

وكذلك صلى بالمؤمنين في الفجر بمكة وأدركته سعلة عند ذكر موسى وهارون فهذه الأحاديث وأمثالها تبين أنه كان في آخر حياته يصلي في الفجر بطوال المفصل وشواهد هذا كثيرة ولأن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله التي ما زال يصليها ولم يذكر أحد أنه نقص صلاته في آخر عمره عما كان يصليها وأجمع الفقهاء على أن السنة أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل

وقوله ولا يصلي صلاة هؤلاء إما أن يريد به من كان يطيل الصلاة على هذا ومن كان ينقصها عن ذلك أي إنه كان يخففها ومع ذلك فلا يحذفها حذف هؤلاء الذين يحذفون الركوع والسجود والاعتدالين كما دل عليه حديث أنس والبراء أو كان أولئك الأمراء ينقصون القراءة أو القراءة وبقية الأركان عما كان النبي يفعله كما روى أبو قزعة قال أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وهو مكثور عليه فلما تفرق الناس عنه قلت إني لا أسألك عما سألك هؤلاء عنه قلت أسألك عن صلاة رسول الله فقال مالك في ذلك من خير فأعادها عليه فقال كانت صلاة الظهر تقام فينظلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله في الركعة الأولى

وفي رواية مما يطولها رواه مسلم في صحيحه

فهذا يبين لك أن أبا سعيد رأى صلاة الناس أنقص من هذا

وفي الصحيحين عن أبي برزة قال كان رسول الله يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة هذا لفظ البخاري

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن كان رسول الله ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات رواه أحمد والنسائي

وعن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من فلان قال سليمان كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخيرتين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بأوساط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل رواه النسائي وابن ماجه وهو إسناد على شرط مسلم

والضحاك بن عثمان قال فيه أحمد ويحيى هو ثقة وقال فيه ابن سعد كان ثبتا

ويدل على ما ذكرناه ما روى مسلم في صحيحه عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا

فقد جعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل وأمر باطالتها

وهذا الأمر إما أن يكون عاما في جميع الصلوات وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة

فإن كان اللفظ عاما فظاهر وإن كان المراد به صلاة الجمعة فإذا أمر بإطالتها مع كون الجمع فيها يكون عظيما من الضعفاء والكبار وذوي الحاجات ما ليس في غيرها ومع كونها تفعل في شدة الحر مسبوقة بخطبتين فالفجر ونحوها التي تفعل وقت البرد مع قلة الجمع أولى وأحرى والأحاديث في هذا كثيرة

وإنما ذكرنا هذا التفسير لما في حديث أنس من تقدير صلاة رسول الله إذ قد يحسب من يسمع هذه الأحاديث أن فيها نوع تناقض أو يتمسك بعض الناس ببعضها دون بعض ويجهل معنى ما تمسك به

وأما ما في حديث أنس المتقدم من قول النبي لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ففيه نهي النبي عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع

والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة

وفي هذا تنبيه على كراهة النبي لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين أو غير متأولين ولا معذورين

وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر

فأما بالشرع فمثل ما كان النبي يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم ومثل أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب

وأما القدر فكثيرا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم مثل كثير من الموسوسين في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة

وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال

والآصار ترجع إلا الإيجابات الشديدة والأغلال هي التحريمات الشديدة فان الإصر هو الثقل والشدة وهذا شأن ما وجب والغل يمنع المغلول من الانطلاق وهذا شأن المحظور وعلى هذا دل قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وسبب نزولها مشهور

وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة رسول الله فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من رسول الله وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا وقال الآخر وأنا اصوم الدهر أبدا وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وافطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه البخاري وهذا لفظه ورواه مسلم ولفظه عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي سألوا أزواج النبي عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فرش فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد في العبادة وفي ترك الشهوات خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره والغلو في العبادات صوما وصلاة

وقد خالف هذا بالتأويل ولعدم العلم طائفة من الفقهاء والعباد

ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه عن العلاء بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة قال رسول الله إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله فأخبر النبي بأن أمته سياحتهم الجهاد في سبيل الله

وفي حديث آخر إن السياحة هي الصيام والسائحون هم الصائمون ونحو ذلك وذلك تفسير لما ذكره الله تعالى في القرآن من قوله السائحون وقوله سائحات

وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي لا رهبانية في الإسلام

والغرض هنا بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله وعما أنزل من الهدى الذي به حياة القلوب ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا ومن هذا ففيهم شبه بهؤلاء وهؤلاء

ومثل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله غداة العقبة وهو على ناقته القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا ثم قال أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عوف بن أبي جميلة عن زياد بن حصين عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم

وقوله إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال

والغلو هو مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك

والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم

وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه مثل رمي الحجارة الكبار ونحو ذلك بناء على أنه قد بالغ في الحصى الصغار ثم علل ذلك بأن ما أهلك من كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه في النصارى

وذلك يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا

ومن ذلك أنه حذرنا عن مشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الاشراف والضعفاء وأمر أن يسوى بين الناس في ذلك وأن كثيرا من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في شأن المخزومية التي سرقت لما كلم أسامة رسول الله قال يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها

وكان بنو مجزوم من أشرف بطون قريش واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم فبين النبي أن هلاك بني إسرائيل إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات وأخبر أن فاطمة ابنته التي هي أشرف النساء لو سرقت وقد أعاذها الله من ذلك لقطع يدها ليبين أن وجوب العدل والتعميم في الحدود لا يستثنى منه بنت الرسول فضلا عن بنت غيره

وهذا يوافق ما في الصحيحين عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال مر على النبي بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم فقالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم قال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله عز و جل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه يقول ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها

وأيضا ما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله

أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك

وصف رسول الله أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد وعدى هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء أن لا يتخذوا القبور مساجد وقال إنه ينهانا عن ذلك ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا إما مظهر للنهي وإما موجب للنهي

وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها أو أنها علة مقتضية للنهي وعلى التقديرين يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة

والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي لفظ لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتنم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا

وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله كنيسة رأتاها بأرض الحبشة يقال لها مارية وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال رسول الله أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز و جل

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي حديث حسن وفي بعض نسخه صحيح

فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا ودليل على الحذر عن جنس أعمالهم حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس

ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد بلا بناء وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار إذ الغرض القاعدة الكلية وإن كان تحريم ذلك قد ذكره غير واحد من علماء الطوائف من اصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا وفيه من الآثار ما لا يليق ذكره هنا حتى روى أبو يعلى الموصلي بسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسن أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن النبي قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مستخرجه

وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهيل قال رآني علي الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر قلت سلمت على النبي فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء

ولهذا ذكر الأئمة أحمد وغيره من أصحاب مالك وغيرهم إذا سلم على النبي وقال ما ينبغي له أن يقول ثم أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره

فصل في ذكر فوائد خطبته العظيمة في يوم عرفة

روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن ابيه عن جابر في حديث حجة الوداع قال حتى إذا زالت الشمس يعني يوم عرفة أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحرث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون قالوا نحن نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن فأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث

فقوله كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات مثل دعواهم يال فلان ويال فلان ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم

ثم خص بعد ذلك الدماء والأموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية من الربا الذي كان في ذمم أقوام ومن قتيل قتل في الجاهلية قبل إسلام القاتل وعهده أو قبل إسلام المقتول وعهده إما لتخصيصها بالذكر بعد العام وإما لأن هذا إسقاط لأمور معينة يعتقدون أنها حقوق لا لسنن عامة لهم فلا تدخل في الأول كما لم تدخل الديون التي ثبتت ببيع صحيح أو قرض ونحو ذلك

ولا يدخل في هذا اللفظ ما كانوا عليه في الجاهلية واقره الله في الإسلام كالمناسك وكدية المقتول بمائة من الإبل وكالقسامة ونحو ذلك لأن أمر الجاهلية معناه مفهوم منه ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه

وأيضا ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عياش بن عباس عن أبي الحصين المصري يعني الهيثم بن شفي قال خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر رجل من المعافر لنصلي بإيلياء وكان قاصهم رجل من الأزد يقال له أبو ريحانة من الصحابة قال أبو الحصين فسبقني صاحبي إلى المسجد ثم ردفته فجلست إلى جنبه فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة قلت لا قال سمعته يقول نهى رسول الله عن عشر عن الوشر والوشم والنتف وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار وأن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرا مثل الأعاجم وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان وفي رواية عن أبي ريحانة قال بلغني أن رسول الله

وهذا الحديث محفوظ من حديث عياش بن عباس رواه عنه المفضل ابن فضالة وجيوة بن شريح المصري ويحيى بن أيوب وكل منهم ثقة وعياش بن عباس روى له مسلم وقال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم صالح وأما أبو الحصين الهيثم بن شفي قال الدارقطني شفي بفتح الشين وتخفيف الفاء وأكثر المحدثين يقولون شفي وهو غلط وأبو عامر الحجري الأزدي فشيخان قد روى عن كل واحد منهما أكثر من واحد وهما من الشيوخ القدماء

وهذا الحديث قد أشكل على أكثر الفقهاء من جهة أن يسير الحرير قد دل على جوازه نصوص متعددة ويتوجه تحريمه على الأصل وهو أن يكون إنما كره أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه أو على منكبيه حريرا مثل الأعاجم فيكون المنهي عنه نوعا كان شعارا للأعاجم فنهى عنه لذلك لا لكونه حريرا فإنه لو كان النهي عنه لكونه حريرا لعم الثوب كله ولم يخص هذين الموضعين ولهذا قال فيه مثل الأعاجم والأصل في الصفة أن تكون لتقييد الموصوف لا لتوضيحه

وعلى هذا يمكن تخريج ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن نبي الله قال لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير فأومأ الحسن إلى جيب قميصه قال قال ألا وطيب الرجال ريح لا لون له ألا وطيب النساء لون لا ريح له قال سعيد أراه قال إنما حملوا قوله في طيب النساء على أنها إذا خرجت فأما إذا كانت عند زوجها فلتطيب بما شاءت أو يخرج هذا الحديث على الكراهية فقط وكذلك قد يقال في الحديث الأول لكن في ذلك نظر

وأيضا ففي الصحيحين عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدي أفنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة

نهى النبي عن الذبح بالظفر معللا بأنها مدي الحبشة كما علل السن بأنه عظم

وقد اختلف الفقهاء في هذا فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق أو هو مظنة الخنق والمنخنقة محرمة وسوغوا على هذا الذبح بالسن والظفر المنزوعين لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة لا خنق فيها

والجمهور منعوا من ذلك مطلقا لأن النبي استثنى السن والظفر مما أنهر الدم فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به ولو كان لكونه خنقا لم يستثنه والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية أو غير منضبطة فأما مع ظهورها وانضباطها فلا

وأيضا فإنه مخالف لتعليل رسول الله المنصوص في الحديث

ثم اختلف هؤلاء هل يمنع من التذكية بسائر العظام عملا بعموم العلة على قولين في مذهب أحمد وغيره

وعلى الأقوال الثلاثة فقوله أما الظفر فمدي الحبشة بعد قوله سأحدثكم عن ذلك يقتضي أن هذا الوصف وهو كونه مدي الحبشة له تأثير في المنع إما أن يكون علة أو دليلا على العلة أو وصفا من أوصاف العلة أو دليلها والحبشة في أظفارهم طول فيذكون بها دون سائر الأمم فيجوز أن يكون نهيه عن ذلك لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به

وأما العظم فيجوز أن يكون نهيه عن التذكية به كنهيه عن الاستنجاء به لما فيه من تنجيسه على الجن إذ الدم نجس

وليس الغرض هنا ذكر مسألة الذكاة بخصوصها فإن فيها كلاما ليس هذا موضعه

وأيضا في الصحيحين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء وقال قال أبو هريرة قال رسول الله رأيت عمرو بن العاص الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب

وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله رأيت عمرو بن لحي بن قمعة ابن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار

وللبخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله قال عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة

هذا من العلم المشهور أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول البيت ويقال إنه جلبها من البلقاء من أرض الشام متشبها بأهل البلقاء وهو أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي فأخبر النبي أنه رآه يجر قصبه في النار وهي الأمعاء ومنه سمى القصاب بذلك لأنها تشبه القصب

ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم على شريعة التوحيد والحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم فتشبهوا بعمرو بن لحي وكان عظيم أهل مكة يومئذ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله وإليها الحج ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام فتشبه عمرو بمن رآه في الشام واستحسن بعقله ما كانوا عليه ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيما لله ودينا فكان ما فعله أصل الشرك في العرب أهل دين إبراهيم وأصل تحريم الحلال وإنما فعله متشبها فيه بغيره من أهل الأرض فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله عز و جل وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام واقام التوحيد وحلل ما كانوا يحرمونه

وفي سورة الأنعام من عند قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله إلى آخر السورة خطاب مع هؤلاء الضرب ولهذا يقول تعالى في اثنائها سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء

ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا وأصل هذا التدين هو من التشبه بالكفار وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم

فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين كما أن من أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين ولهذا جاء في الحديث ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها

وأيضا فقد روى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك قال فذكروا له القنع شبور اليهود فلم يعجبه ذلك وقال هو من أمر اليهود قال فذكر له الناقوس فقال هو من فعل النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم النبي فأري الأذان في منامه قال فغدا على رسول الله فأخبره فقال يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما قال ثم أخبر النبي فقال له ما منعك أن تخبرنا فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت فقال رسول الله يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله قال فأذن بلال قال أبو بشر فحدثني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا لجعله رسول الله مؤذنا

وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر الشعبي أن رسول الله اهتم بأمر الصلاة اهتماما شديدا ليتبين ذلك فيه وكان فيما اهتم به من أمر الصلاة أن ذكر الناقوس ثم قال هو من فعل النصارى ثم أراد أن يبعث رجالا يؤذنون الناس بالصلاة في الطرق ثم قال أكره أن أشغل رجالا عن صلاتهم بأذان غيرهم وذكر رؤيا عبد الله بن زيد

ويشهد لهذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس قال لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا ويضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة

وفي الصحيحين عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة وليس ينادي بهم أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أو تبعثون رجلا ينادي بالصلاة فقال رسول الله يا بلال قم فناد بالصلاة

ما يتعلق بهذا الحديث من شرح الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر وأمر عمر أيضا بذلك وما روي من أن النبي كان قد سمع الأذان ليلة أسري به إلى غير ذلك ليس هذا موضع ذكره وذكر الجواب عما قد يستشكل منه

وإنما الغرض هنا أن النبي لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علل هذا بأنه من أمر اليهود وعلل هذا بأنه من أمر النصارى لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى هذا مع أن قرن اليهود يقال إن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام وأنه كان يضرب بالبوق في عهده وأما ناقوس النصارى فمبتدع إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم وهو يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة أيضا لأنه من أمر اليهود والنصارى فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم

وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للاعلان بذكر الله سبحانه الذي به تفتح أبواب السماء وتهرب الشياطين وتنزل الرحمة

وقد ابتلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار شعار اليهود والنصارى حتى إنا رأيناهم في هذا الخميس الحقير الصغير يبخرون البخور ويضربون له بنواقيس صغار حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق والدبادب في أوقات الصلوات الخمس وهو نفس ما كرهه رسول الله ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار تشبها منه كما زعم بذي القرنين ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف

وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس لما غلبت على ملوك الشرق هي وأمثالها مما خالفوا به هدى المسلمين ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله سلط الله عليهم الترك الكافرين الموعود بقتالهم حتى فعلوا في العباد والبلاد مالم يجر في دولة الإسلام مثله وذلك تصديق قوله لتركبن سنن من كان قبلكم كما تقدم

وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا يعرفون وقت الحرب إلا بالسكينة وذكر الله تعالى

قال قيس بن عبادة وهو من كبار التابعين كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند الجنائز

وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه كما أن حالهم في الصلاة كذلك وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث عادة أهل الكتاب والأعاجم ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة وليس هذا موضع استقصاء ذلك

وأيضا فعن عمرو بن ميمون الأزدي قال قال عمر رضي الله عنه كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير قال فخالفهم النبي وأفاض قبل طلوع الشمس وقد روى في هذا الحديث فيما أظنه أنه قال خالف هدينا هدي المشركين وكذلك كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب فخالفهم النبي بالإفاضة بعد الغروب وبهذا صار الوقوف إلى ما بعد الغروب واجبا عند جماهير العلماء وركنا عند بعضهم وكرهوا شدة الإسفار بالفجر صبيحة جمع

ثم الحديث قد ذكر فيه قصد المخالفة للمشركين