الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: العلل الباطنية للآراء والمعتقدات


الفصل الأول

العلل الباطنية للاراء والمعتقدات :
«الخلق ، المثل الأعلى ، الاحتياجات ، المنفعة ، الحرص»


١ - تأثير علل الآراء والمعتقدات .

جاء في جريدة ( الكومانتر ) الانكليزية – بمناسبة كتابي المسمى روح السياسة - ما يأتى : « لربما يظهر يومًا ما كتاب غريب في فن الاقناع ، فلو فرضنا أن علم النفس يصل في المستقبل الى درجة راقية كعلم الهندسة والميكانيك لأمكننا أن نُنبيء بتأثير الدليل والبرهان في روح الانسان كما ننبىء بخسوف القمر ، وسيكون لعلم النفس الذي يبلغ تلك الدرجة قواعد نحول بها الرجل الى أي رأى فتصبح روحه حينئذٍ كالآلة الكاتبة حيث يكفي ضغط زر منها ليظهر الحرف المطلوب حالاً » .

قد سلم نظر يًا باحداث ذلك العالم - الذي عرف أقطاب السياسة وزعماء الشعوب منه بضع نبذ - في المستقبل ، ولكن ايجاده كاملاً يتطلب ذكاء في البشر اسمى من ذكائه الحاضر كثيراً ، وسبب ذلك جلى واضح : إن من أشد مسائل عـلم الفلك صعوبة المسئلة التي لم يحل منها العلماء حتى الآن سوى جزء على رغم ما بذلوه من الجهود العظيمة والتي هي عبارة عن تعيين المواضع لثلاثة أجسام مختلفة جرماً وسرعة مؤثر بعضها في البعض الآخر في آن واحد، والعناصر النفسية التي يقتضى تعيينها هي أكثر عدداً ويختلف تأثيرها باختلاف قوة الحس والشعور في الاشخاص .

( ٦ ) – الآراء
على أن التنبؤ في سير الناس ليس مستحيلاً على الدوام ، وبيان ذلك أنه يوجد في تركيب المشاعر المعقد – الذي يتألف الخلق منه . عناصر راجحة تعين وجبة الأخرى كعناصر البخل والأثرة وحب الذات والعجب الخ ، فالذي تغلبت عليه هذه المشاعر تسهل قيادته إذ يعلم حينئذ ما هو وتره العاطفي الذي يضرب عليه ، وأما الرجل الذي توازنت فيه المشاعر دون أن يستحوذ بعضها على البعض الآخر فيصعب اكتناهه وتسييره .

ولا شأن للعوامل كليا في تكوين الرأي ، فالذي يؤثر منها في رجل لا يؤثر في الآخر ، والذي يوقد نار الحرص في شعب لا يحرك ساكن شعب مجاور .

والحقيقة هي أن تكوين أكثر الآراء والمعتقدات لا يستلزم سوى قليل من العوامل ، فعوامل العرق والبيئة والعدوى تكفى لانشاء المعتقدات العظيمة وعاملا الانفعال والمنفعة الشخصية يكفيان لتكوين الآراء اليومية ، ومع ذلك فانك ترانا مكرهين على البحث في عوامل أخرى ، ذلك لأن هذه العوامل إذا لم تكن ذات تأثير على الدوام فانه ليس فيها ما هو غير مؤثر في أحد الأوقات .

۲ - الخالق

يوجد بجانب أخلاق العرق العامة اخلاق الفرد المتقلبة ، وشأن الأخلاق في تكوين الآراء والمعتقدات عظيم الى الغاية ، فأعقل الحكماء لا يقدر على التخلص من تأثيرها ، وما في مبادئه الفلسفية من تفاؤل او تطير فناشيء عن خلقه أكثر منه عن ذكائه ، وعليه فقد أصاب ( ويليام جيمس ) حيث قال : « إن تاريخ الفلسفة تاريخ التصادم بين الأمزجة البشرية ، وهذا الاختلاف بين الامزجة له أيضا شأنه في ميدان الأدب والفن والحكومة والطبائع ، فاذا نظرنا إلى الطبائع نرى من الناس من يبدو عليه التكلف ومنهم من لا يبدو عليه ، وإذا نظرنا الى الحكومة نرى بين اعضائها من هو محب للسلطة ومن هو فوضوى ، وإذا نظرنا إلى الأدب نرى بين حملة لوائه من هو لغوی مفرط او مغال في الاسلوب ومن هو مبالغ في تصوير الاشياء كما هي .» وإذا طبقنا تأثير الخلق الشخصي في الآراء تعلم لماذا بعض الناس محافظون و بعضهم ثوريُّون ، فالثوريُّون يميلون بفعل مزاجهم الى الثورة ضد جميع غير مبالين بنظام الأمور نفسه ، وتتألف كتائبهم على العموم من الذين انحلت أخلاقهم الثابتة الارثية بتأثير مختلف العوامل فصاروا لا يلتئمون بالبيئة التي يعيشون فيها ، ونعتبر كثيرين منهم من فصيلة المنحطِّين ذوى الأمراض والعاهات الذين لم يلتئموا بالمجتمع فأصبحوا حاقدين عليه بحكم الطبيعة كما يحقد الهمجي على مدنية أكره على الخضوع لمبادئها .

وجيش الثورِّيين في الوقت الحاضر يتكون على الخصوص من المنحلين الذين ضافت المدن الكبيرة بأمراضهم الكحولية والافرنجية والحمية والسمية ذرعا ، وعلى نسبة تقدم الحضارة يزداد عدد هذا الجيش وسيكون إنقاذ المجتمعات من هجماته العنيفة من أشد مشاكل المستقبل خطراً

في بعض الأحيان يكون شأن أولئك العديمي الالتئام في التاريخ عظيما ، ذلك لأنهم ذوو قدرة عظيمة على الاقناع يؤثرون بها في روح الشعوب ، فالمنهوسون أمثال بطرس الراهب ولوثر قلبوا العالم رأساً على عقب .

٣ – المثل الأعلى

مثل الأمة الأعلى يدل على كثير من آرائها ومعتقداتها ، فهو خلاصة رغائبها العامة واحتياجاتها وأمانيها ، والناظم لهذه الخلاصة هو العرق وماضيه وغير ذلك من العوامل التي لا أبحث عنها الآن ، وقد بينت في كتاب آخر قوة المثل الأعلى فأثبت أنه لا يتزعزع من غير أن يتزلزل دعائم البنيان الاجتماعي الذي يقوم عليه ، وإذا كان كثير من الناس يترددون اليوم في آرائهم ومعتقداتهم ويسيرون طائعين خلف اندفاعات كثيرة التناقض فذلك لأنهم ذوو مثل أعلى ضعيف على رغم ما يتصفون به أحيانا من ذكاء هو غاية من السمو والرقى .

وما في المتعصبين من قوة فيشتق من خضوعهم لمثلهم الأعلى الخطِر خضوعاً تامًا ، واليوم نشاهد ذلك في الاشتراكيين الذين سحرهم مثلهم الأعلى ، فقد ثقلت وطأة هذا المثل على حياتنا القومية وهو السبب في سن قوانين مهددة لنمو هذه الحياة .

إذاً لم يكن المثل الأعلى مبدأ نظر يا يمكننا أن نتغاضى عن تأثيره ، فمتى يعم أمره فانه يكون ذا تأثير عظيم في أدق شؤون الحياة ، حتى إن الذين ينكرون نفوذه يعانون هذا النفوذ على رغم أنوفهم .

والمعتقدات دينية كانت أم اجتماعية أم سياسية لا تكون ذات قوة الا إذا أصبحت مثلاً أعلى مقبولاً بوجه عام ، وعندما يلتئم المثل الأعلى المذكور مع مقتضيات عظمة الأمة التي تعتنقه ، ولكن حينما يكون مناقضًا لسير الزمن وممكناته فإنه لسبب الأمور الطبيعي فانه يؤدى الى انقراض تلك الأمة .

٤ – الاحتياجات

الاحتياجات هي من أكبر العوامل في تكوين الرأى وكل تطور اجتماعی ، ونعد الجوع أكثرها شدة ، فهو الذي ساق أجدادنا الأولين من الكهوف والمغاور الى سلم الحضارة ، وهو الذي تسعى لقضائه أكثرية البشر ، ولولاه لما ترك البرابرة أرضهم البور وغيروا مجرى التاريخ بتدهورهم على روما ، وليس شأنه اليوم بأقل في الماضي ، فلقد أصاب من قال إن الاشتراكية هي مسئلة مِعَدٍ .

وكلما تقدمت الحضارة فانه يضاف الى قائمة الاحتياجات القديمة احتياجات جديدة ، وما الاحتياج الى الأكل والى التناسل واللباس والدين والأمور الأدبية والكمال سوی عناوين لمقتضيات الحياة والعاطفة التي تقودنا والتي تنشأ . عن علتي الحركة في الموجودات أعنى اللذة والألم ، ويؤدي ايجاد احتياجات جديدة في الجموع الى ظهور آراء حديثة ، ويعرف اقطاب السياسة أن يحدثوا احتياجات تفيد بلادهم ، فما الاحتياج الى الاتحاد في المانيـا ثم الى إنشاء اسطول حربی قوى سوى احتياجين مصنوعين أُكِّرهت البلاد عليهما .

وقد أوجب تطور الصناعة العلميُّ حدوث احتياجات جديدة كالخطوط الحديدية والتلفون ، ومن سوء الحظ أن بلغت هذه الاحتياجات من النمو مبلغًا زاد على الوسائل الضرورية لقضائها ، فصارت مصدراً للاستياء الذي هو عامل قوى في انتشار الاشتراكية .

والاحتياجات هي أيضًا سبب التسليح المؤدي إلى الإفلاس في أوروبا ، لأنهُ لا عظمت الاحتياجات كثيراً في اوروبا واصبح تنازع البقاء فيها أشد منه في الماضي صارت كل دولة فيها تطمع في الاغتناء على حساب الدول المجاورة لها ، فالالماني الذي كان منذ خمسين سنة قانعا بأكل السكرنب كان سلميَّا لقلة احتياجاته ، ولكن عند ما زادت احتياجاته بغتـة أصبح محاربًا متوعداً ، ثم لما كان الالمان يزدادون عدداً وأوشكوا أن يكونوا من الكثرة بحيث لا تكفى بلادهم لإطعامهم فان الوقت الذي تتعلل فيه المانيا باحدى العلل الواهية كي تستولى على الأمم المجاورة وتشاركها في أمر معيشتها قد قرب ، وهذا السبب وحده هو الذي يدفعها الآن الى بذل نفقات باهظة في سبيل جيشها وبحريتها .

٥ – المنفعة .

ليس من الضروري أن نطنب في بيان تأثير المنفعة في تكوين آرائنا ، ذلك لأن هذا الأمر شی، مسلم به ، ويمكننا أن نعتبر ا كثر الأشياء عدة وجوه أي من حيث المنفعة العامة أو من حيث المنفعة الخاصة .

وللمنفعة ما للحرص من قدرة على تحويل ما يلائمها إلى حقيقة ، ولذلك فهي في الغالب أقوى من العقل حتى في المسائل التي يظهر أن العقل هو المهيمن عليها ، خذ الاقتصاد السياسي مثلا تر أن مبادئه المختلفة مشبعة من البحث في المنفعة الشخصية بحيث نستطيع أن نقدر بها مقدما ميل الرجل ذي المهنة المعينة إلى نظام حرية المبادلة أو نظام الحماية .

وتقلباتُ الرأى تتبع تقلباتِ المنفعة بحكم الضرورة ، فالمنفعة الشخصية هي العامل الأصلي في الأمور السياسية ، فالنائب الذي انتقد ضريبة الدخل بما أوتى من قوة لا يلبث أن يدافع عنها بعزم لا يقل عن السابق عند ما يأمل أن وزيراً ، وكذلك الاشتراكيون فانهم يصبحون محافظين بعد أن يغتنوا .

ولا يقتصر أمر المنفعة على تكوين الآراء بل إنها بعد أن تستفزها الاحتياجات تضعف أدب الانسان وحسن سيرته ، فالقاضي الذي يطمع في الرقى والجراحي الذي

يعمل عملية جراحية لا تفيد والمحامي الذي يزيد الدعوى تعقيداً تنحط أخلاقهم أكثر من ذي قبل عند ما يحرك احتياجُهم الى النفائس منفعتهم .

وشأن المنفعة الادبية هو كشأن المنفعة المادية في تكوين الآراء ، فاذا أوردنا عزة النفس المكلومة مثلا ترى أنها تولد أحقاداً شديدة وما ينشأ عن هذه الاحقاد من آراء ، فمصدر حقد أبناء الطبقة الوسطى على الأشراف وانتقامهم منهم أيام الثورة الفرنسوية هو على الخصوص ازدراء هؤلاء لاولئك في العهد السابق ، ولو أدرك ( مارا ) – الذي انتقم لنفسه من سادته السابقين – و ( هبرت ) – الذي أوجب قطع كثير من الرؤوس بعد أن كان ملكيا متحمسا -- دور الامبراطورية ونالا فيه وظائف وألقابا لأصبحا كخصومهما من المحافظين المتأججين. 6 -- الحرص .

إن المشاعر الثابتة الموصوفة بالحرص هي أيضا مصدر الآراء والمعتقدات والحركة ، و بما أن بعض أنواع الحرص تنتقل بالعدوى فانه يسهل عليها أن تتسرب في الجموع حيث تصبح ذات تأثير لا يُقاوَم ، وما أكثر المرات التي تدهورت فيها بعض الأمم بفعل الحرص على البعض الآخر في غضون أجيال التاريخ .

وقد يحرك الحرص نشاط الانسان ، ولكنه في الغالب يفسد سداد الرأى ويمنع الانسان من أن يرى الأمور كما هي وأن يفهم صورة تكوينها ، وسبب كثرة الاغلاط في كتب التاريخ أن الحرص هو الذي أملى أنباءها

نرى مما تقدم أن الحرص ذو تأثير عظيم في آرائنا وفى تكوين الحوادث ، ومن دواعي الأسف أن أنواع الحرص ذات التأثير الكبير هي التي ليست محلاً للاعتناء والاعتبار ، فلقد حقق ( كانت ) ما لهذه الأنواع الرديئة من الشأن الاجتماعي العظيم حيث بين أن الخبث هو عامل كبير في رقيّ البشر، ويظهر أن الناس لو اتبعوا مبدأ الانجيل القائل « لِيُحِبَّ بعضكم بعضاً » بدلاً من أن يتبعوا مبدأ الطبيعة الذي يشير عليهم بأن يقتتلوا لظلوا عائشين في الكهوف .