الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثاني: العوامل الخارجية للآراء والمعتقدات


الفصل الثاني

العوامل الخارجية للآراء والمعتقدات
التلقين، الانطباعات الأولى، الاحتياج الى التفسير، الالفاظ، الصور، الأوهام، الضرورة


١ – التلقين

اكثر آرائنا ومعتقداتنا سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية نتيجة التلقين ، قال ( جيمس ) : « ان التلقين عبارة عن القوة التي تؤثر بها الأفكار في المعتقدات والسير » وعندي أن هذا التعريف غير صحيح ، فالتلقين هو بالحقيقة كناية عن قوة الاقناع ليس بالأفكار وحدها بل بأي عامل آخر كالتوكيد والنفوذ الخ ، ولو نظرنا الى الأفكار دون غيرها لرأيناها ذات تأثير ضعيف .

وللتلقين مناهج كثيرة نعد منها البيئة والكتب والجرائد والخطب والعمـل الشخصي الخ ، والكلام من أكثر هذه المناهج تأثيراً ، وتوكيد الكلام يزيده قوة ونفوذاً .

وشدة التلقين تختلف باختلاف العوامل ، فهذه الشدة تبتدئ من التأثير الضئيل للبائع الذي يحاول أن يحملنا على ابتياع شيء من سلعه وتنتهى الى التأثير الذي يؤثر به المنوم في المصاب بمرض الأعصاب حيث يجعله سليب الإرادة ، وفى عالم السياسة يكون الزعيم ذو النفوذ العظيم هو المنوم .

وتكون نتائج التلقين بحسب حالة الملقن النفسية ، والملقن بتأثير احد المحرضات – كالحقـد والحب – التي تضيق دائرة شعوره أكثر انفعالا فيسهل تحويل آرائه .

ولا يتخلص أولو الفضـل من سلطان التلقين ، فلقد بين ( جول لوميتر ) في محاضرته عن ( فينيلون ) أن هذا الحبر الشهير أصبح مقوداً من ( مدام كو يون ) ذات المرض العصبي بعد أن اتخذته مرشدا لها ، إذ استطاعت أن تقنعه بصحة آرائها في المذهب الصوفي الداعي إلى عدم المبالاة بالنجاة الأبدية وبالاعمال . وقد بلغ تأثيرها فيه مبلغًا جعله يعرض ذلك المذهب على مؤتمر من الاساقفة برآسة ( بوسويه ) الذي لم يلبث أن اكتشف تلقين ( مدام كو يون ) للحبر المشار اليه فقال : « أنصاع مبهوتاً من رؤيتي امرأةً ذات بصيرة محدودة قليلة الفضل كثيرةَ الوهم تؤثر في رجل ذي روح عالية . » غير أن الذين يطلعون على التاريخ الحديث لا يعتريهم الدهش كما اعترى ( بوسويه ) لأن كثيراً من الحوادث (كمسئلة هومبرت ومسئلة دوبرى دولاماهيري الخ ) أثبتت لهم أن عدداً كبيراً من الصيارفة الماهرين والمحامين القديرين والقادة المدبرين تركوا ثروتهم بين أيدي أناس محتالين معدودين من الرُقاة المشعوذين .

وما الشعوذة سوى نوع من التقلين ، والانسان يعانى أمرها كما يعانى الطير شعوذة الثعبان ، ومما لا ريب فيه أن بعض الناس النادرين يؤثرون في الحيوان بما يتخذونه من ضروب الرقية كما يشاهد ذلك مربو الحيوانات ، وما أكثر الجرائم التي اقتُرفت بفعل الشعوذة والرقية ، فما لقيت كونتة ( تارنوسكا ) صعوبة في جعل عشاقها يقتلون رجالا كثيراً ، وقد أصبحت من النفوذ والتأثير بحيث كان يجب تبديل فرسانها وحرس سجنها تبديلا مستمراً .

و يوجد شبه بين الأمثلة المذكورة و بين أعمال الوسطاء أو الدراويش الذين يحيط فيجعلونهم يعتقدون أموراً لا أساس لها . على هذا الوجه ذهب كثير من مشاهير العداء ضحية تلقين الوسيطة المشهورة المسماة ( اوزابيا ) كما سأبين ذلك في فصل آخر .

وبما أن شأن الجماعات يزيد بالتدريج وكان التلقين هو المؤثر فيها فان نفوذ الزعماء يعظم يوماً فيوماً ، وما الحكومات الشعبية إلا حكومات بعض زعماء يتجلى استبدادهم في كل آن ، لأن الزعماء هم الذين يأمرون بالاعتصابات ويكرهون الوزراء على إطاعتهم ويسببون وضع قوانين عقيمة مخالفة للعقل والصواب .

قدرة الزعماء على التلقين كبيرة جداً، وبها يرغمون الجموع على الخضوع والانقياد، فلقد بين مدير شركة ( اورليان ) في عيد هذه الشركة السنوى أن موظفيها اعتصبوا في زمان اضطر فيه الى التسليم بجميع مطاليبهم ، ثم قال : « إن سبب هذا الاعتصاب هو بضعة محرضين التجأوا في تحريضهم إلى إقامة الوعيد والسب والشتم مكان الدليل والبرهان » ، ولو كان عند ذلك المدير اطلاع كافٍ على سنن النفس لعلم أن إبطال تلقين اولئك المحركين يتم باخراجهم من الشركة ، فالتلقين لا يقاوم إلا بالتلقين ، ولا يؤدى الإذعان لما يقترحه الزعماء سوى زيادة نفوذهم.

۲ – الانطباعات الاولى

الانطباعات الأولى هي أول ما يشعر به المرء عند مصاقبته اول مرة ما جهله سابقًا من رجل أو حادثة أو شيء آخر ، وحيث أن التدقيق في الأمر متعب شاق فان الناس يكتفون على العموم بالانطباعات الأولى .

والانطباعات في بعض عناصر الحياة الاجتماعية تسير أحياناً هي والبرهان ، ولكن يوجد عناصر أخرى تظل فيها انطباعاتنا الأولى وحدها دليلاً ، ونعد من هذه العناصر الفنون والآداب على الخصوص ، ولما كانت الانطباعات تابعة لمشاعر متبدلة فان ما تولدهُ في النفوس من صور وآراء يتحول بسهولة ، وهذا هو سر اختلافها باختلاف الأزمنة والاشخاص والشعوب ، فالانطباعات الأولى التي تورثها الاشياء نفسها في أمير اقطاعي أوأسقف من أشياع ( كالفين ) أو رجل متعلم أو عامي أو عالم لا تكون واحدة ، وأما مسائل العلم التي لا تأثير للعاطفة فيها فانه قلما يشاهد فيها مثل هذا الاختلاف ، وعلة ذلك كون أقوالنا ومبادئنا فيها لا تتم بتأثير الانطباعات الأولى .

وأحيانًا تزول الانطباعات الأولى بغتةً بتأثير انطباعات أخرى مناقضة لها ، ولكنها قد تكون قوية لا تتلاشي الا شيئًا فشيئًا بفعل البلى والدثور

و يقتضى اعتبار الانطباعات الأولى دلائل مبهمة وعلائم غير صحيحة يجب نقدها والبحث عن حقيقتها على الدوام ، والا فان عدم تمحيصها - كما يفعل الناس في الغالب – يؤدى الى وقوع المرء في الضلال مدة حياته ، ذلك لأنه ليس لهـا دعامة تستند اليها سوى العواطف والكراهة الغريزية التي لا يرشدها أي عقل ولأن مبادئنا في العدل والظلم والخير والشر والصواب والخطاء تقوم في أكثر الاحيان على هذه الأسس الواهية .

۳ – الاحتياج الى التفسير

الاحتياج الى التفسير كالاحتياج الى الاعتقاد يلازم الانسان من المهد الى اللحد ، وقد ساعد على تكوين الآلهة ويساعد على ظهور عدد غير قليل من الآراء ، ويسهل قضاؤه ، فأبسط الأجوبة تكفيه ، وهذه السهولة هي مصدر من الأغلاط

وبما أن روح البشر مولعة بالقضايا القاطعة فانها تحافظ على آرائها الباطلة الصادرة عن الاحتياج الى التفسير زمنًا طويلاً معتبرة كل من يحارب هذه الآراء عدواً مقلقًا للراحة ، والمحذور الاساسي للآراء القائمة على تفاسير باطلة هو ان الانسان بعد أن يعدها جازمة لا يسعى في البحث عن غيرها ، فلقد أوجب جهلنا جهل أنفسنا تأخر العلوم قرونًا كثيرة وتضييق دائرتها في الوقت الحاضر .

والتعطش الى التفسير يتناول على الدوام أموراً لا تُدْرَك، فالنفس تسلم بأن ( المشتري ) هو الذي يرسل الرعد والصواعق عوضاً عن أن تعترف بأنها تجهل العلل التي تسببها ، والعلم نفسه بدلا من أن يقر بجهله بعض المواضيع فانه يكتفى في الغالب بمثل هذا التفسير لايضاحها .

4 – الالفاظ والصيغ والصور

الألفاظ والصيغ من أكثر العوامل توليداً للآراء والمعتقدات ، وهي لما فيها من قدرة رهيبة قد أوجبت هلاك أناس أكثر من الذين قتلتهم المدافع ، وما في الالفاظ قدرة فناشيء عن أنهـا توقظ في المرء مشاعر دالة عليها ، وقد بينت في مؤلفات أخرى مالها من الشأن في أمور السياسة 1

إن قوة الصيغ عظيمة في المجالس ، فبها يحرك رجال السياسة مشاعر السامعين

ولم يلبث رئيس الوزارة الفرنسوية الموسيو ( كليانسو ) أن سقط بغتة بتأثير لفظ واحد أيقظ في أعضاء البرلمان مشاعر الخزى التي تكونت أيام حادثة ( فاشودا ) ، وكذلك خلفه فانه سقط للملة نفسها ، وللفظين الآتيين الذين تلوكهما أفواه المشتغابن بالسياسة مثل ذلك التأثير وهما : النمول والصعلكة .

وقد تبلغ الألفاظ في فعلها مبلغًا يجعلها تؤثر أحياناً في أكثر الرجال تأملا ، وعند ما تكون النفس إزاء حادثة يتعذر اكتناهها فانها تكتفى بايجاد صيغة ، فاما جهل العلماء أسرار الحياة وعجزوا عن بيان السبب في تحول حبة البلوط الى سنديانة وعن بيان الكيفية التي تتطور بها ذوات الحياة اكتفوا بصيغ تقوم مقام التفسير والايضاح

والالفاظ توقظ في المرء صوراً نفسية ، ولكن الصور المرسومة أجلب للانسان ، وإلى ذكرت في كتابي المسمى ( روح السياسة ) مقدار ما أوجبته الاعلانات المصورة من تأثير كبير في الانتخابات الأخيرة التي وقعت في انكلترا ، وقد أدرك أرباب الصناعة والطباعة هذا الأمر فتفننوا في استعمال الاعلانات المصورة ترويجًا لسلعهم .

وولاة الأمور أنفسهم قد اطلعوا على شأن الصور في تكوين الآراء ، فبعدما قل الاكتتاب الاختياري في كتائب الفرسان فكر منذ بضع سنين أحد رجال الحرب الواقفين على سنن النفس في تعليق إعلانات مصورة تمثـل فرساناً نشيطين يقومون بانواع التمرينات ، وعلى رأس الاعلانات أشير إلى الفوائد التي ينالها المتطوعون ، وقد كانت نتيجة ذلك أن استغنت اكثر الكتائب فكيفت من قبول اكتتابات جديدة

٥ – الاوهام

تكتنفنا الأوهام منذ عهد الطفولة حتى الموت ، فنحن لا نعيش الا بالأوهام ولا تتبع سوى الاوهام ، و باوهام الحب والحقد والحرص والفخر نحافظ على قوة السير والحركة فينا غافلين عن قسوة المصير

والاوهام العقلية هي قليلة بالنسبة الى الاوهام العاطفية ، واذا كانت تنمو فذلك لأننا نود على الدوام أن نشرح بالعقل مشاعر هي في الغالب مطمورة في دياجير اللاشعور، ويحملنا الوهم العاطفى أحيانا على الاعتقاد بأننا نحب أناسا وأشياء لا يهمنا بالحقيقة أمرها، ويجعلنا هذا الوهم نعتقد أيضا دوام مشاعر لا بد من اختفائها بفعل تطورنا الشخصي.

بهـذه الأوهام نحيا وهي التي تزوق لنا الطريق المؤدية الى الفناء الأبدي، ولا نأسف على كونه يندر تحليلها، فالعقل لا يحللها من غير أن يقضى على بواعث الحركة فينا، والعوامل التي تشل الارادة تكثر عند البحث عن علل الارادة، وحينئذ يغوص المرء في بحر من التناقض والتردد، كتبت مدام ( دوستائيل ) : « ان الاطلاع على كل شيء و إدراك كل شيء يؤديان الى التذبذب ». فلو وجد ذكاء له ما نعزوه الى الآلهة من قدرة على إدراك الحال والمستقبل في لحظة واحدة لمـا اهتم باى أمر ولبطلت بواعث سيره الى الأبد.

يظهر لنا بعد بيان ما تقدم أن الوهم هو ركن حياة الأفراد والشعوب الحقيقي وأنه هو الذي يمكن أن يعتمد عليه وحده، ومع ذلك فان كتب الفلسفة تغفل عنه أحيانا.

٦ - الضرورة

يوجد فوق أهواء المشترعين الذين لا يفتأون يسنون القوانين في سبيل اصلاح المجتمع سيد قاهر أعنى : الضرورة، فالضرورة – وهي لا تبالى بتأملاتنا – تمثـل القدر القديم الذي كانت الآلهة نفسها مكرهة على الخضوع له.

والاختلاف بين أوامر المشترعين العمى وبين الضرورة المسيطرة على الأشياء يزيد كل يوم، ومع هذا الاختلاف نرى أن المجتمع الفرنسوي يعيش على رغم قوانينه لا بقوانينه.

والمشترعون لظنهم أنهم قادرون على عمل كل شيء لا يبقى ما هو غير ممكن في نظرهم، فيكفى عندهم أن يكون الشيء مسـديداً ليكون ممكنا، ولكن الضرورة لا تلبث أن تبدد بيدها الحديدية جميع أوهامهم وخيالاتهم، ونرى في التدابير القاسية التي أملتها الضرورة في اوستراليا ضد الاعتصابات المهددة لحياة تلك البلاد والمؤدية الى خرابها مثالاً بارزاً على ذلك، والغريب في هذه المسألة هو أن أعضاء الوزارة الاسترالية كانوا من الاشتراكيين المتطرفين.



  1. قالت جريدة الطان في عددها الصادر في ٢٩ كانون الثاني سنة ١٩١١ مايأتي :
    « لقد أجاد الدكتور غوستاف لوبون — في كتابه الذي يبحث فيه عن روح السياسة والاجتماع بحنا عميقاً — عند ما أشار بحذقه النادر وبصيرته الثاقبة إلى تأثير الالفاظ السحري في الجماعات والمجالس نيابية كانت أم غير نيابية ، فقد أتى مجلسنا النيابي بهل يؤيد صحة نظره ، إذ أن هذا المجلس أصبح منذ بضعة أيام مسحوراً من لائحة « اللامركزية » .