الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: تدخُّل المعتقدات في أمر المعرفة
الفصل الأول
تدخل المعتقدات في أمر المعرفة ، تكوين الاوهام العالمية
١ – لماذا تظل المعرفة مشوية بالمعتقدات
لا يقدر عالم على الافتخار بأنه خرج من دائرة المعتقد خروجًا أبديًا ، فهو مكره في الحوادث التي لم تعرف تمامًا على ايجاد نظريات وفرضيات أي معتقدات لا يسلم الناس بها الا لما له نفوذ وتأثير .
وقد نضطر أيضًا الى التسليم بالحوادث التي دُرست كثيراً كما نسلم بالمعتقدات عندما لا نستطيع أن نحققها جميعها ، ولو نظرنا الى تر بيتنا المدرسية لرأينا أنها عبارة عن الايمان بمبادىء لم تدخل في نفوسنا الا بنفوذ الاستاذ ، وإذادعمها الأستاذ أحيانًا بالتجربة فذلك ليبين للطالب إمكان تحقيقها بالتجربة وليعلمه أن الاختبار والتجربة هما أساس الحقائق .
إن تحقيق معارفنا جميعها بالتجربة متعذر تعذراً يجعـل نصيحة ديكارت في كتابه « قواعد الاصول » خيالية وهمية . فقد قال : «لا تسلم بصحة شيء مالم تعرف أنه كذلك وارفض كل شيء ترتاب فيه » ، ولو طبق ( ديكارت ) قواعده على العمل لمـا صرح بأقوال نسخر منها الآن ، فالمعتقد هو الذي ران على قلبه كما ران - ۱۲ - على قلوب كثير من معاصريه وخلفائه : حقا إن اللا أدرية المتطرفة هي في الواقع لا نشك الا قليلا ، قال لوك « من يشك في أمور حياته العادية التي لا تؤيدها الادلة والبراهين لا بد من هلاكه في وقت قصير ، لأنه بذلك لايجرؤ على الاغتذاء بطعام ولا بشراب . وأضيف الى هـذا قائلا ان المجتمع لا يعيش بتحليل آرائه ومعتقداته تحليلاً انتقاديا ، وليس شأن المعتقد سوى كفاية المجتمع مؤونة مثل ذلك التحليل . وبما أن العلماء يضطرون إلى التسليم بكثير من القضايا العلمية كما يسلمون بالمعتقدات فاننا لا نعجب مما يبدو عليهم أحيانا من السذاجة كما يبدو على الجهلة الأميين ، فالعالم قلما يكون أسنى من الجاهل في الأمور التي ليست من دائرة اختصاصه ، وبهذه الملاحظات ندرك السبب في كون أفاضل العلماء يؤمنون بأشد الأوهام خطلاً .
. ۲ – تكوين الاوهام العلمية يتعذر تكر ير جميع التجارب ، ولذلك يبقى مبدأ نفوذ العالم وتأثيره مرشدنا الاساسي كما ذكرت آنها ، فالناس يؤمنون بالعالم الذي اكتسب مقامه العلمي نفوذاً كبيراً فيظنون أنه لا يأتى بمزاعم مختلة يتعرض فيها للتكذيب حقا إن العالم لا يخبر بشي يراه غير صحيح ، غير أن الوهم قد يتطرق اليه بتأثير التلقين – حتى في الأمور المضبوطة – فيظن الأضاليل التي أملته عليه مخيلته حقائق، وأكبر كبر دليل على ذلك حكاية أشعة ( 8 ) التي كان اشهر علماء الطبيعة يقيسون انحرافها مع أنه ثبت بعد ذلك أنه لا أساس لتلك الأشعة . وقد اسهبت في بيان هذه الموضوع لأننى باظهاري الخطأ في مباحث علم الطبيعة - التي يتوخى العلماء الضبط والدقة في درسها .. أوضح السهولة التي تستحوذ بها الأوهام على النفوس إزاء حوادث لا تنالها يد التحقيق الا قليلا ، و إنى أختار أمثلة تشاهد في العلماء وحدهم لأثبت أنه بتأثير النفوذ والتلقين والعدوى يحدث في جميع الناس ومنهم اولو المدارك السامية معتقدات وآراء مختلة تلك الأمثلة المؤثرة الضلال الذي وقع فيه أعضاء المجمع العلمي منذ أربعين ومن - ۱۹۶ - سنة وحمل ( الفونس دوده ) على هجو ذلك المجمع في رواية سماها « الخائد » ، فقد نشر هذا المجمع مئات من الرسائل التي نسبها احد المزورين القصيري الباع في الادب الى باسكال وغليله وكاسيني وغيرهم، وحازت القبول مع ما فيها من الأغلاط الكثيرة والسقطات الكبيرة نظراً لنفوذ المؤلفين المنسوبة اليهم ونفوذ المهندس العالم الذي عرضت بواسطته ،ولم يشك أعضاء المجمع حتى سكرتيره في صحتها وظلوا على ذلك حتى اعترف لهم المزور بأنه هو الذي لفتها ، وحينئذ زال النفوذ وأعلنوا أن اسلوب الرسائل ركيك جدا بعد أن عدوه من افصح الأساليب وقالوا إنه خليق بأولئك المؤلفين . قد يقال إنه يصعب على أولئك الاعضاء أن يحققوا أمراً ليسوا متخصصين به فحكموا حسبا لزميلهم من التأثير والنفوذ ، نجيب ذلك بأن نبين أن أعضاء المجمع العلمي المتخصصين قد انخدعوا فيه أيضا، ثم إن الاعتراض المذكور يزول عند البحث في حوادث جديدة أخرى ضل فيها رجال متخصصون دون غيرهم . ومن أوهام النفوذ والعدوى ما فصله منذ خمس عشرة سنة الموسيو ( بيكريل ) - أحد مشاهير علماء الطبيعة واستاذ الحكمة الطبيعية في مدرسة (البوليتكنيك ) -- في مجمع العلوم قال : - « « لقد ثبت من تكرار التجارب الدقيقة أنه يصدر عن معدن الأورانيوم اشعة تستطيع أن تزيغ وتنحرف وتنعكس كأشعة الاجسام الفوسفورية» وعلى رغم ما أبداه احـد علماء الطبيعة في فرنسا – المعروف عند قراء هذا الكتاب الأدلة المخالفة أصر ذلك العالم المشهور على رأيه مدة ثلاث سنوات وشاطره خطأه في أثناء ذلك جميع علماء أوروبا ، وما اعترف العلماء بخطاهم الا بعد ان أثبت احد علماء اميركا ـ الذين لم يؤثر فيهم باطل العالم المذكور لبعد الشقة بين البلادين - أن تلك الأشعة لا تنحرف ولا تنعكس وأنها شيء غير الضياء ، فلو بحثنا عن أسباب ذلك الخطا الذي ران على العلماء ثلاث سنين لرأينا أنها نفسية بحتة . وتاريخ اشعة ( 7 ) التي المعنا اليها آنفا بارز" ، يتجلى فيه شأن النفوذ والتلقين والعدوى النفسية ، وليست حكاية هذه الاشعة كحكاية الأمثلة السابقة التي سلم بها الناس من دون تحقيق بل صرح كثير من علماء الطبيعة بأنهم حققوا أمرها بالتجربة . ظن أحد أساتذة الحكمة الطبيعية المشهورين الموسيو ( بلوندلو ) أنه شاهد كثيراً من الاجسام تنشر أشعة خاصة نعتها بأشعة ( 1 ) يمكن قياس تموجها بضبط ودقة ، وبما أن العالم المذكور ذو نفوذ كبير سلم أكثر علماء فرنسا بصحة زعمه غير مجادلين ، وقد كرروا التجربة ذاتها بأنفسهم فرأوا صحة ما تلقنوه ، ثم إن مجمع العلوم رأى أن يكافى، صاحب ذلك الاكتشاف الخطير فأوفد كثيراً من أعضائه ومنهم العالم الطبيعي ماسكار - الى المكتشف كي يحققوا عنده صحة مباحثه ، فعادوا مشدوهين وجود بما شاهدوه منه ومنحة المجمع جائزة قدرها خمسون ألف فرنك . وفي أثناء ذلك أنى علماء الأجانب الذين لا تأثير العلماء فرنسا فيهم بتجارب مكررة في الموضوع فلم يظفروا بشيء ، وعندئذ عزم عدد غير يسير منهم على شد الرحال الى المكتشف ليختبروا الأمر أمامه ، وسرعان ما علموا أن هذا الأخير ذهب ضحية أوهام تطرقت اليه من قياسه انحراف أشعة ( 8 ) بمنشور من زجاج ، وعلى أثر ذلك قامت ، « المجلة العلمية » ببحث ضاف في المسئلة فظهر أن أشعة ( 7 ) هي نتيجة للتلقين ام والعدوى وأنه لا لها --- ۱۹۹ . -
محادثات تدلنا هذه القصة العجيبة على ما للنفوذ والتلقين والعدوى من السلطان الكبير ، وبها تتضح لنا كيفية تكوين المعتقدات وكثير من الحوادث التاريخية وجميع السحر فالناس يسحرون بالتلقين ، وإذا كان تأثير التلقين في المسائل العلمية هو كما وصفنا فما أحرى به أن يكون عظيما في إحداث أمور خارقة للعادة . لم أبحث هنا الا عن أوهام عامية شهيرة ، ولو ذكرت ما تسرب في مختلف المسائل العلمية من الأوهام التي مصدرها النفوذ لاستوعب ذلك سفراً كبيراً ، ولذا فأنى اقتصر على ايراد المثال الآني إعتقد أحد طلاب الموسيو ( لييان ) أنه اكتشف أن الجسم المكهرب وهو في دور الحركة لا يجتذب الابرة المغناطيسية ، وقد كان أمر هذا الطالب مجهولاً ، ولكنه لما أتى بتجاربه في حضرة الموسيو ( ليمان ) واستعان بنفوذه العلي العظيم اتبعه علماء الطبيعة الى أن أثبت أحد علماء الاجانب أن الطالب واستاذه كانا على ضلال. جميع وأكثر ما تكون الاوهام في العلوم التي هي في طور التكوين – كعلم الطب مثلا -- حيث يتعب تحقيقها ، فتعدادها عبارة عن تدوين التاريخ الطب وإثبات لكون النظريات والأدوية تتغير في كل خمس وعشرين سنة ، وإلى اختار المثال الآتى كدليل على ذلك :
كان الاطباء منذ خمسين سنة يعتبرون معالجة ذات الرئة بالفصد من أهم ما اكتشفه فن الطب ، وقد استندوا في ذلك الى الاحصاءات التي دلت على أن عدد الوفيات من المصابين بالداء المذكور . بعد معالجتهم بالفصد هو ثلاثون في المئة ، وقد استمر استعمال طريقة الفصد إلى أن زار طبيب ماهر احد مستشفيات لندن فحقق فيه أن عدد الوفيات من المصابين بذات الرئة هوخمسة في المئة بدلاً من أن يكون ثلاثين في المئة وأن علة هذا النقص في الوفيات هي أن الاطباء يعالجون المرضى هنا لك بعدم التعرض لهم بدواء .
وإني لأرجو أن يكون القاري، قداقتهم من الأمثلة السابقة بأنه يجب نعت أكثر آرائنا العالمية بالمعتقدات لا بالمعارف ، فالآراء المذكورة التي هي من فصيلة المعتقدات تتكون بفعـل بعض المؤثرات كالنفوذ والتوكيد والتلقين والعدوى وغيرها من العوامل البعيدة من العقل والتي هي ذات سلطان أكبر من سلطانه .