الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: صفات المعتقد الأساسية
الفصل الأول
صفات المعتقد الأساسية
١ – المعتقد احتياج نفسي مهيمن
لقد عرَّفنا المعتقد في الفصل الأول من هذا الكتاب بأنَّه الايمان وذكرنا الفرق بينه وبين المعرفة وتكلمنا بإيجاز عن شأنه ، وأما الآن فسأبحث عن حياة المعتقدات.
إن العناصر التي يتألف منها كياننا تتصل بثلاثة أنواع من الحياة أعنى : الحياة العضوية والحياة العاطفية والحياة العقلية ، والاحتياج الى الاعتقاد هو من مظاهر الحياة العاطفية ، وهو في تجبره وسيطرته كالجوع والحب ، وبما أن المعتقد هو احتياج مهيمن على طبيعتنا العاطفية فانه لا يكون إراديا عقليا ، ولا يقدر العقل على تكوينه وتسييره .
ومهما يكن عرق الناس ووقت ظهورهم ودرجة جهلهم وعلمهم فإنهم سواء في عطشهم الى المعتقد ، فكان المعتقد غذاء نفسي ضروري لحياة الروح كضرورة الغذاء المادي لحفظ الجسم ، وما مبدأ الشك العام الذي قاله ( ديكارت ) غير خيال وهمي ، فاذا دخل المرء في طور اللاأدرية فذلك لأجل قصير ، والحكيم وان كان لا يعتقد الأمور كالجاهل الا أن الأشياء التي يؤمن بها قلما تكون قائمة على الدليل والبرهان .
وقد أوضحنا الفرق بين المعتقد والمعرفة في أوائل هذا السفر ايضاحاً كافيا فرأينا أن المعتقد إيمان أينع في عالم اللاشعور ولا يحتاج لإثبات أمره الى أية حجة تدعمه مع أن المعرفة هي بنت الحياة الشاعرة وتقوم على التجربة والاختبار ، والمعرفة تعلم و بالمعتقد نسير ، ولو ألزم الانسان اكتساب المعرفة قبل أن يسير لاعترته البطالة والجمود زمنا طويلاً ، وقد ظلت المعتقدات وحدها أدلاء البشر قرونا عديدة ، فهي التي أنارت لهم السبل في جميع المسائل ، ولم تكن الأديان منشـأ احتياج الناس الى الايمان ، بل إن هذا الاحتياج هو بالمكس علة الأديان ، فمتى ترك المرء دينه لم يلبث أن يعتنق بغريزته معتقداً آخر صنا كان أم سحراً أم خرافة سياسية الخ . عدم التسامح في أمر المعتقدات . عدم التسامح هو احدى صفات المعتقدات العامة الثابتة ، وكلما كان المعتقد قويا قل تساهله ، فالناس بعد أن يدخل إيمان في قلوبهم لا يصطبرون على من ليس عليه ، هذه هي سنة أجرت حكمها في جميع الأجيال ولا تزال تجربه ، وكل يعلم درجة ما يصل اليه المعتقدون من صولة دينية كفاراً كانوا أم قانتين ، فالحروب الدينية ومحكمة التفتيش وملحمة السان بارتلمي والغاء مرسوم نانت والهول الأكبر واضطهاد الأكابروس في الوقت الحاضر الخ أمثلة على تلك الصولة . t وإذا كان لتلك السنة شواذ نادرة سهل إيضاحها ، فالرومان لم يعترفوا بآلهة مختلف الشعوب التي دخلت في ذمتهم إلا لأن هذه الآلهة في نظرهم عبارة عن سلسلة من الموجودات العلوية يجب اجتذابها بالعبادة ، وكذلك البوذية فانها لم تؤد الى اضطهاد ، إذ هي متساهلة بما تأمر الناس به من التجرد عن الرغائب والشهوات و باعتبارها الآلهة والموجودات أوهاما لا أهمية لها ، وليس من سبب يجعلها عدية التسامح . ا إذا مثل هذه الشواذ توضح نفسها بنفسها ، وليس فيها ما يناقض الناموس العام القائل إن المعتقد عديم التساهل بحكم الضرورة . ا والمعتقدات السياسية في كالمعتقدات الدينية في عدم تسامحها ، فليس من يجهل الشدة التي أباد بها رجال العهد الذين اعتقدوا أنهم على الحق المطلق خصوم ايمانهم السياسي ، وأنصار إلاهة العقل في الوقت الحاضر هم کهؤلاء شدة وتعصبا وتعطشا الى القرابين البشرية ، وستظل كلمة القديس ( طوماس ) الآنية مبدأ لكل مؤمن حقيقي ا وهي : « إن الإلحاد إثم يستحق صاحبه القتل » ، ولذلك أصاب الموسيو ( جورج صوريل ) حيث أنبأ بأن أول عمل تأتي به الاشتراكية المنتصرة هو قتل أعدائها بلا رحمة ، وإلا فكيف يستقيم أمرها حينا من الزمن إذا لم تفعل ذلك ؟ وعدم التسامح في أمر المعتقد وما ينشأ عنه من الاضطهاد ليسا عند العوام أقل منهما عند المتعلمين ، بل قد يكونان عند هؤلاء أنمى واكثر استمراراً ، قال (ميشليه ): « أعجب أحيانا من قسوة المتعلمين الشديدة التي قد لا يأتي بمثلها من هم أقل علماً وأدنى معرفة . » --- استقلال الرأي ، شأن عدم التسامح الاجتماعي إذا درس عدم التسامح في أمر المعتقد ، ثقيلا لا يطاق ، وأما إذا نظر اليه من الوجهة العملية فإنه لا يكون كذلك ، لأن الوجهة المقلية وحدها بدا شيئا من ا ا الرغبة في الاستقلال الذي يتخلص به المرء من سلطان المعتقد العام أمر شاذ ، وكل يتحمل استعباد البيئة الاجتماعية المحددة للاستقلال الشخصي من غير أن يتظلم، وفى الغالب لا يشعر الإنسان بذلك الاستعباد ، ولا بد له في البداءة من التحرر من رب البيئة - كأن يعيش منزويا - لكى يصبح حراً حقيقيا . ربقة وكل ما يمكن المرء أن يناله . الاستقلال هو أن يقدر أحيانا على مقاومة ما يشيع بين الناس من تلقين شامل ، وبذلك يمتاز من أفراد زمرته الذين يتبعون ما يطرأ على هذه الزمرة من معتقدات وآراء وأوهام كالهشيم الذي تذروه الرياح . وصفوة الناس القليلة هي وحدها ذات آراء شخصية في بعض الأحيان، والى هذه الصفوة المالية يعود فضل الإنيان بمبتكرات الحضارة ، ولا نتمنى زيادة عددها كثيراً ، لأنه لما كان المجتمع لا يقدر على ملاءمة مبتكرات متتابعة صادرة عن صفوة كثيرة العدد فإنه يقع في الفوضى بعد ظهور صفوة كبيرة ، فالثبات الضروري لبقاء المجتمع قد تم أمره بفعل جماهير الناس ذوي النفوس البطيئة القليلة الذكاء التي تقودها البيئة والتقاليد . فمن المفيد أن تكون أكثرية المجتمع مؤلفة من متوسطى العقـل الذين لا رائد لهم سوى ما في البيئة من آراء ومعتقدات عامة ، ومن المفيد أيضا أن تكون الآراء العامة قليلة التسامح ، إذ الخوف من انتقاد الآخرين هو أحد الأسس الأخلاقية المتينـة ، ويكون التوسط في العقل اكثر فائدة للأمة إذا اجتمع مع بعض المزايا الخلقية ، وقد اطلعت انكلترا على ذلك بغريزتها فبقيت على رغم كونها من اكثر بلاد العالم حرية تقت كل فكر متطرف . ٤ – اشتداد المعتقد ، الشهداء . بين الرأي الموقت و بين المعتقد التام الذي يستولى على العقل وقوة التمييز مراحل قلما قطعت ، وحينها تجاز في بعض الأدوار النادرة تشتد اندفاعات المرء الدينية وما توجبه من المشاعر حتى لا تقدر على ردعها جميع الزواجر الاجتماعية وعقوبات القوانين ، ووقتئذ يظهر أمثال (بوليوكت) الذي حطم الأصنام والشهيد الذي لم يبال بسيف الجلاد والعدمي الذي رمى قنبلة بين جم غفير ليقتل أميراً . ومتى بلغ معتقد المرء هذه الشدة لم يقم وجهه حاجز فيستولى على أوضح منافعه وأعز مشاعره ويجعله يرى الخطأ صوابا والصواب خطأ ويدفعه إلى التضحية بنفسه في سبيل نشر ايمانه والذود عنه . والشهداء جميعهم ذوو نفسية واحدة ، أي لا فرق بين نفسية من ذهب منهم ضحية السياسة ونفسية من ذهب ضحية الدين أو المبادىء الاجتماعية ، ولا سحرتهم حلاوة المبدإ ضحوا بأنفسهم بوجوه مبتسمة انتصاراً له غير طامعين بثواب في الدنيا ولا في الآخرة أحيانا ، يؤيد ذلك تاريخ العدميين والارهابيين في روسيا الذين يلقون بأنفسهم الى التهلكة غير راجين دخول ملكوت السماوات . الحظان عدد هؤلاء المتهوسين قليل في كل دور ، ولو زادوا لقلبوا ومن حسن العالم ، والبحث عن الشهداء هو من خصائص عالم الأمراض النفسية ، ولما بين المتهوسين من شبه كبير على رغم التباين بين معتقداتهم فان درس اثنين أو ثلاثة منهم يؤدى الى الوقوف على حقيقة الباقين . ولا ينشأ عن الايمان تحول في الآراء فقط بل تتبدد أمام سلطانه مشاعر قوية الى الغاية كالخوف والحشمة وحب الأبوين ، و يشهد بصحة هذا القول تاريخ الشهداء الذين نعد القديسة ( بير بيتوا ) التي ظهرت في عهد الامبراطور ( سبتيم سيثير ) الرومانى مثالاً لهم ، فهذه القديسة الجميلة المثرية التي هي بنت رئيس مجلس شيوخ ( قرطاجنة ) والتي اعتنقت الديانة المسيحية سراً فضلت عرضها عارية أمام الجمهور اتلتقمها الحيوانات المفترسة على أن تحرق اللبان في الهيكل الامبراطوري .
ومما يعتقده المؤمنون أن هذه الأحوال دليل على قدرة آلهتهم ، فلا في أن هذا الاعتقاد وهم باطل ، ذلك لأن جميع الأديان والمذاهب السياسية لها شهداء كالذين أشرنا اليهم .
ومن بين ألوف الأمثلة نورد الديانة البابية التي انتشرت منذ ستين سنة في بلاد فارس مثلا على ما ذكرنا :
لقد ظن الشاه آنئذِ أنه يقدر على إطفاء هذا الايمان الجديد بسوم العذاب ، ولكن انظر ماذا حدث حسب تقرير ( غوبينو ) : « تقدم الأطفال والنساء نحو السيافة وهم ينشدون بصوت عال «الله خلقنا واليه مردنا» ، وكان الشهيد وقتها يبقره السياف ينهض قائما وهو يقول بحاسة «الله خلقنا واليه مردنا»، ومما شوهد على الخصوص أن جلادا قال لوالد إنه سيضرب على كتفيه عنقى ولديه إذ الم يرجع عن مذهبه ، فأجاب الوالد ملقيا نفسه على الأرض أنه لا يبالى بذلك ، ثم تقدم ولده الكبير - وكان في الرابعة عشرة – طالباً بصفته أكبر الأبنين أن يذبح قبل أخيه ، وكان أحد أشياع الباب وهو "معلق على سور تبريز لا ينطق الا بهذه الكلمة وهي : إلهى ، هل أنت راض عنى ؟ » .
ومثل ذلك الاضطهاد الذي عاناهُ في هذه الأيام أنصار مذهب ( السكوبسي ) في روسيا وأتباع مذهب ( المورمون ) في الولايات المتحدة ، وقد فضل جميع هؤلاء العذاب على الرجوع عن ايمانهم .
تثبت هذه الحوادث وما شاكلها ما في الروح الدينية من قوة قادرة على تبديد والألم على قهر المشاعر التي يقوم عليها كيان الانسان، فماذا يستطيع العقل أن يفعل أمامها؟ لا تحُرّك الجموع بالبراهين العقلية ، وأما بالمعتقد فيمكن التغلب عليها على الدوام ، والعقل، على ما فيه من سلطان يقدر أن يقاتل به الطبيعة، يعجز عن تكوين المعتقدات .
و بفضل المعتقدات التي تخرب أحيانا وتبدع غاليا وتنتصر دائما تتأسس دول التاريخ الرهيبة ودعائم الحضارات الصادقة ، ولولا المعتقدات لما عاشت الأمم .