الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثاني: ما ينشأ عن المعتقدات من اليقين وما يقنع به المؤمنون من الأدلة

​الفصل الثاني: ما ينشأ عن المعتقدات من اليقين وما يقنع به المؤمنون من الأدلة​ المؤلف غوستاف لوبون


الفصل الثاني

ما ينشأ عن المعتقدات من اليقين وما يقنع به المؤمنون من الأدلة


١ – ما ينشأ عن المعتقدات من اليقين.

ينشأ عن المعتقد القوى يقين لا يزعزعه شيء ، ومن مثل هذا اليقين تشتق اكثر حوادث التاريخ أهمية ؛ فقد أيقن محمد ( صلعم ) أن الله أمره بالدعوة إلى دين جديد أوحى به لتجديد العالم فاستطاع بفضلى يقينه أن يقلب الدنيا ، وايقن بطرس الراهب أن الرب يريد استرداد قبر المسيح من يد الكفار فاستطاع بقوة ايمانه أن يسوق ملايين من الرجال الى الهلاك ، وأيقن لوثر أن البابا عدو المسيح وأن لا أساس للمطير في النصرانية فاستطاع بذلك اليقين أن يشعل في أوربا حروبا امتدت قرونا طويلة ، وأيقن قساوسة محكمة التفتيش أن الرب يريد حرق الخوارج فاستطاعوا فعل هذا اليقين أن يستأصلوا أهل اسبانيا ، وأيقن شارل التاسع ولويس الرابع عشر أن خالق السماوات والأرض لا يسمح ببقاء البروتستان فأوجب الأول حدوث ملحمة السان برتامى وطاردهم الثاني شر مطاردة ، وأيقن رجال العهد بوجوب ضرب كثير من الرقاب في سبيل سعادة البشر فأدى ذلك الى وقوع حروب كثيرة ثم الى اعلان الحكم المطلق ، وهلك من أجل هذا ثلاثة ملايين من الرجال في أوربا ، ويوقن اليوم مئات من أبناء الطبقات الوسطى بأن الاشتراكية ستصلح الكون فهم بهذا اليقين يقوضون غاضبين دعائم المجتمع الذي يعيشون فيه .

ومن نتائج اليقين الناشيء عن المعتقد ظهور بضمة مبادى، خلقية قوية هي السبب

في حدوث شعور جديد يكون دليلاً على السير ، ومما يدل على ذلك أن الثورة الفرنسوية لم تكد تقع حتى اقترف الذين كانوا في العهد السابق مسالمين أعمالاً دامية خاضعين لحكم اندفاعات أورثهم إياها إيمانهم الجديد ، ومن هؤلاء المندفعين سفاكو شهر ايلول الذين طلبوا أجراً قومياً على ما اجترحوه ومنهم زعماء العصابات الذين خربوا مقاطعة ( ثاندة ) (1) - ۱۲ - ويتضمن اليقين الديني واليقين العاطفي في الانسان احتياجا يدفعه الى حمل الناس عليهما ، فالمرء عند ما يؤانس من نفسه قوة لا يتحمل أن يرى يقينا غير يقينه عند الباقين ، ولا يتأخر ثانية عن اقتراف اشد المظالم والأتيان بافظع المذابح في هـذا السبيل ، حقا لقد خرب أولو اليقين العالم في كل زمان ، ومما يخشى على الأمة أن يقودها هؤلاء وإن كانوا كما قال (ريبو ) يقبضون على زمام تلك الأمة في بعض ادوارها . فليوقن رجل ذو قوة كامبراطور المانيا أنه يقتبس قوته من الله ثم ليتوهم أن الله أمره بشهر الحرب على الملاحدة لنرى كيف يقلب أوربا كما قلبت في الماضي بفعل مثل ذلك اليقين . T ا الأدلة التي يقنع بها المؤمنون المعتقد هو ايمان لا يتطلب لثبات امره أدلة وكثيراً ما لا يتحقق بالادلة ، ولو قام الأيمان على الدليل العقلى وحده لكان عدد المعتقدات التي ظهرت على مر الاجيال قليلة ، وبراهين المؤمنين في الغالب صبيانية بالنسبة الى العقل ، ومع ذلك فليس من خصائص العقل أن يقضى فيها لاشتقاقها من عناصر دينية أو عاطفية لا صلة بينه و بينها. ا


( 1 ) تتجلى نفسية هؤلاء بمطالعة الكتاب الذي أرسله وقتئذ الجندي ( جوليكار )و نشرته حديثاً جريدة الطان في عددها الصادر في ٢٦ تشرين الأول سنة 1910 ، واليك بعض ما جاء فيه : - -:غزو ونخرب مقاطعتی ( دوسيفر ) و ( فانده ) ، وستعمل فيهما الحديد والنار وستحمل البنادق في يد والمشامل في الاخرى وسوف نقتل النساء والرجال بالسيف ، هذا وقد حرقنا حتى الآن سبعة فراسخ فاغتنى بذلك كثير من الجنود » t - - - ولما كان العقل غير مشترك في تكوين المعتقدات فانه لأحد السرعة التصديق في المؤمن، ولا يتخيل المؤمن أنه يعتقد الاشياء من غير برهان بدليل أنه يستشهد بالبرامين على الدوام ، غير أن هذه البراهين التي يقنع بها تدل على ما فيه من سذاجة متناهية وسرعة تصديق متأصلة . ويتجلى لنا هذا الامر . مطالعة الكتب التي بحثت عن الوسائل التي استعان رسائل علم بها القضاة المنعونون في الماضي بالجهابذة لكشف السحرة . فانها تدل اللاهوت على الهوة العميقة بين الدليل الذي يتطلبه العلماء والدليل الذي يقنع به المؤمنون المقذوف بهم في دائرة المعتقد ، ولا فائدة ایراد کثیر الأمثلة على ذلك ، فانها كلها تشابه ما حدث في الدعوى التي اقيمت على الكاتب ( البانو ) ا ا الايطالي ، فقد استشهد على أنه تعلم « سبع المهن الحرة » من سبعة عفاريت من الجن بأكتشاف زجاجة علاج مركب من سبعة أدوية مختلفة في بيته ، ومع مركونه في الرابعة عشرة من عمره فقد أوشك القضاء أن يحكم عليه بالحرق حيا لو لم يمت فجأة بفضل حماته من العفاريت ! ، حينئذ اكتفى القضاة بنبش قبره وحرقه ميتا في أحد الميادين العامة وقد قدر حرق السحرة في عهد لويس الرابع عشر، ولكن ما من أحد كان ينكر قدرتهم ، وقد كشفت قضية الساحرة ( قوارين ) أن أكابر ذلك الوقت - ومنهم المارشال ( دولكسنبرغ ) وأسقف ( لانغر ) الذي كان واعظ الملكة الأول - كانوا يعوذون بقدرة السحر ، والى هذه القدرة طلب المطران ( سيميان دوجورج ) أن تعطيه حبل روح القدس الازرق ! وما يقصه العرافون والرمالون في الزمن الحاضر من اتصالهم بعالم الشياطين يثبت لنا أنه لم يذهب شيء من بساطة الإنسان وسرعة تصديقه ، ومن اغرب ما علمناه أن أحد الوزراء المعروفين بعداوتهم للاكليروس لا يخرج من بيته الا حاملا حبل مشنوق وأن احد سفرائنا لا يأكل على خوان عليه ثلاثة عشر مدعواً ، فهل وثنية أمثال هذين ا القطبين أرقى ، المعتقدات الدينية التي يحاربونها بما أوتوا من قوة و لا شك لا . و يشعر المؤمنون في كل وقت بضرورة ايجاد براهين يدعمون بها ايمانهم كي بهدوا الكفرة على الأقل ، وما بذلوه ويبذلونه من المساعي العظيمة في وضع مؤلفات نما اللاهوت يثبت لنا درجة سيطرة هذه الضرورة . - ۱۲۸ - إنهم عدا ما يذكرونه في كتبهم من المعجزات البينات - يعدون الاجماع العام برهانا ساطعا على صحة دينهم ، ولم يتردد بعض الأفذاذ كبوسويه في انتهاج تلك الطريق، فاما اعتبر هذا الخبر الشهير الآراء الفردية خطرة جديرة بالازدراء قال إن الشعور العام هو على الحق وإن المذهب يكون صحيحا بعد أن يتفق الجمهور على صحته وإن الفرد لا يكون مصيبا وبقية الناس مخطئون ، وما كان خطل هذه البرهنة ليبدو لو لم تثبت مبتكرات العلوم أنها لم تظهر إلا لأن المرء وهو منفرد على حق أكثر من الجموع الحافلة والجماهير الحاشدة . التصادم بين العلم والمعتقد . لقد بينا أن دوائر أنواع المنطق هي من الاختلاف بحيث لا تجاوز إحداها حدود الأخرى فلا تتصادمان ، ومع ذلك فإن هنالك نقطة يظهر أن العلم والمعتقد يتقاتلان من أجلها نظراً لكونها تتعلق بمبدأ أساسي - . 4 لعل أهم ثورة ظهرت في عالم الفكر في الثورة التي أدى اليها العلم باثباته أن الحوادث تصدر عن نواميس مهيمنة لا عن أهواء الآلهة ، إذ بهذه الثورة تبدلت الكيفية التي تنظر بها الى الكون دفعة واحدة ، وهذا الاكتشاف العظيم الشأن الذي الخرج البشر اول مرة من دائرة المعتقد الى دائرة المعرفة لم يتم بعد ، إذ إن كثيراً من الناس يعتقدون أن قوى ما بعد الطبيعة تسير الحادثات وتقدر على تغيير مجراها عند ما يستغاث بها . فيا أن هذا التصور هو وليد الآمال التي لا تموت ابدأ فإن التباين بين العلم والمعتقد سيبقى على هذه النقطة ، ويظهر أن التباين المذكور أبدى ، لان العلم مع لم يترك اثراً للآلهة في البقاع التي ارتادها لا يستطيع أن يثبت للمؤمنين أنه لا شيء في البقاع التي لم يردها بعد ، فمن خلال هذه البقاع غير المطروقة تتراءى اشباح يتخيلها ذور الايمان والأنسان بتركه مبدأ الوجوب في تسلسل الحوادث يعود إلى المبدأ الذي قضى عليه بعد عناء كبير والقائل إن مصدر الحوادث هو الآلهة ذات الأهواء ، فلو أن الحادثات التي يخبر بها اولو الكرامات في الوقت الحاضر ممكنة لتقهقر العلم طائعا الى قرون الاساطير حيث كان مصير الحروب بيد الآلهة وكانت كتائب الأرواح والجن والغيلان والعفاريت تتدخل في أمور البشر اليومية ولرأينا قراءة العزائم والصلوات والقرابين والتعاويذ تصبح اليوم كما كانت في الماضي وسائل فريدة لاستعطاف هـذه القوى الهوائية .

وليس ما ينافي هذه القهقرة ، لأن نفسية الانسان الدينية تهيمن عليه في كل وقت فترغمه على الالتجاء الى ما بعد الطبيعة وإن كان البحث الدقيق في خوارق ما بعـد الطبيعة يدلنا على أن هذه الخوارق عبارة عن أوهام تكونت في نفوسنا ، وسوف نبين ذلك عند ما توضح في باب آخر كيفية تكوين بعض المعتقدات ايضاحاً قائماً على التجربة .