الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: الشأن المنسوب إلى العقل والإرادة في تكوين المعتقد


الفصل الثالث

الشان المنسوب إلى العقل والإرادة في تكوين المعتقد


١ – استغلال العقل و استقلال المعتقد

تعلن المباحث التي درست أمر تكوين المعتقدات أن هذه المعتقدات إرادية عقلية، ومصدر هذا الخطأ هو الشأن الكبير الذي نسب الى العقل في كتب علم النفس ، وأما نحن فقد فرقنا في هـذا الكتاب بين الذات العاطفة والذات العاقلة وأثبتنا أنه يسيطر على هاتين الذاتين أنواع منطق مختلفة وأن العقل الذي هو عنوان الذكاء مستقل عن المعتقد الذي هو عنوان المشاعر وخلق التدين ، وقد زدنا هـذا الاستقلال وضوحا عند ما قررنا أن المعتقد والمعرفة يستندان في تكوينهما الى طرق وأساليب متباينة كل التباين . ولو نظرنا إلى أكثر منازعاتنا السياسية والدينية لرأيناها ناشئة عن زعمنا الوهمي الذي تريد أن تجعل به الأمور المتباينة يؤثر بعضها في بعض كالمعتقد والمعرفة مثلاً L ا ولا تقدر على استكناه قوة المعتقدات الا إذا اعترفنا بأنها بعيدة من أي مؤثر عقلى وقد يلوح للقارىء أنه ليس من المفيد أن نعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، ولكن ليعلم أن الأدلة مهما تكن عديدة فانها لا تكفى لمقاتلة أوهام مستعصية كهذه . ولو كان العقل قادراً على التأثير في المعتقدات لأصبح كل ما هو مخالف للصواب منها في خبر كان ، فنرى والحالة هذه أن تلك المستحيلات العقلية لا تزال ثابتة في النفوس ، ولذا ترانا مكرهين على التسليم بأنه لا مستحيل عند المؤمن وبأن المرء ليس حراً في الاعتقاد وعدمه . إن المؤثرات العاطفية والدينية التي هي أساس المعتقد هي كما قلت غير مرة سلسلة المعقولات التي تستند اليها المعرفة ، فلا فحص ولا تحقيق في أمر المعتقد وأما في أمر المعرفة فالتدقيق هو القاعدة وعلى حكمه ينزل كل معترض . تختلف عن ومما تتصف به المعتقدات هو كونها تولد أوهاما في النفوس وترغم هذه النفوس على الخضوع لسلطانها ، ثم ان الانسان قد يتخلص من ربقة الظامة المستبدين ولكنه ا يعجز عن التحرر من سيطرة المعتقدات على الدوام ، ويعـد الذين هم مستعدون للتضحية بأنفسهم في سبيل المعتقدات بالألوف مع أنه لا يعرض واحـد من هؤلاء نفسه للخطر انتصاراً لاحدى الحقائق العقلية . ولم يقدر دور العقل الذي دخل البشر فيه حديثا بفضل مبتكرات العلوم على زعزعة قوة المعتقدات ، بل ربما لم تظهر معتقدات سياسية أو دينية أو اجتماعية عديدة في زمن مثل ظهورها فيه ولا سيما في اميركا وروسيا حيث يتكون كل يوم معتقد جديد . عجز البقل عن التأثير في المعتقد قد يسيطر العقل على المعتقد عند ما باحق المعتقد قبل أفوله وهن ودروس بفعل تطور الأشياء الطبيعي ، وأما المعتقد في دور انتصاره فانه لا يحاول أن يقاتل العقل نظرا لأن هذا الأخير لا يعارضه في ذلك الحين . حقا ليس ما هو أندر من ظهور أناس في دور الايمان هم من الاستقلال بحيث يجادلون في أمر المعتقد محادثة عقلية ، فيثبت لنا مثال ( باسكل ) ماذا تكون نتائج التنازع بين المنطق العاطفي والديني من جهة والمنطق العقلى من جهة أخرى : كان هذا المفكر الشهير يكتب في زمن يخضع الناس فيه للحقائق الدينية غير مناقشين ، أي في زمن لا يجرؤ فيه غير اولى العبقرية مثله على فحص هذه الحقائق فحصا عقليا ، ولكن ما أصابه من الفشل في مسعاه يؤيد مرة أخرى لنا عجز العقل عن التأثير في المعتقد ساق ذكاء ( باسكال ) الواسع الى اطلاعه على بطلان القصة القائلة إن الله انتقم لنفسه من ابنه على الخطيئة التي ارتكبها احد خلقه في بدء العالم ، ولكن سرعان ما در منطقه العقلى ساجداً أمام اندفاعات منطقه الديني ، إذ لما استحوذ عليه ما ألقاه المنطق الديني في قلبه من خوف الجحيم وكان مع ذلك يود أن يدافع عن معتقده ببراهين مقبولة اعتبر حياة الآخرة كناية عن مراهنة مخيفة ، لأن العذاب الأبدى بدى واقع ان كان وجود جهنم متحققا ، قال هذا الفيلسوف مؤكداً : « إزاء هذا الارتياب تجب المراهنة على وجود حياة في الآخرة ويجب على الانسان أن يسير كأن هذه الحياة موجودة » وبعـد أن اقتنع ( باسكال ) بذلك على هون حاول – ولكن عبئًا – أن يدعم عقيدته بمنطقه العقلى ، فالمعجزات والاخبار بالغيب من جملة البراهين التي تذرع بها هذا المفكر العظيم ليثبت صحة ايمانه إثباتا عقليا ، ولكن بما أن هذه الأدلة قد التجأت اليها جميع الأديان فانه لم يسعه سوى انكار ما حكت عنه هذه الأديان إذ قال يستطيع كل انسان أن يأتي بمثل ما عمله محمد الذي لم يجيء بمعجزة ولم ينبىء بغيب ، وأما ما أتى به يسوع المسيح فلن يقدر احد على فعل ما يدانيه » ، غير أن منطق ( باسكال ) الديني لم يسمح له بالبحث عن السبب في كون الاسلام والبوذية لها ما للنصرانية من الانصار والتابعين . ومع ما في برهنة هذا الحكيم من الدقة كان يشعر بضرورة دعم ايمانه بأدلة

(2) L قد لا يرضى بمثلها العقل السديد ، ثم كان يقول ان الايمان واجب للنجاة من نار جهنم على فرض وجودها ، ولكن كيف يدخل الايمان في قلب الانسان ؟ اسمع ما يقول « ان كنتم تريدون أن تكونوا مؤمنين فباشروا الأمر كانكم مؤمنين اى اشربوا ماء المعمودية وأقيموا القداس الخ وبذلك تصبحون من المؤمنين »

يثبت لنا مبحث ( باسكال ) عجز العقل عن مقاتلة المعتقد، وبهذا العجز نفسر بضع حوادث تاريخية غامضة في ظاهرها كحادثة دير ( بور رويال ) التي كدرت صفاء جانب من عهد لويس الرابع عشر ، كان في ذلك الدير بضعة رهبان أتقياء لهم رأى خاص في نظرية المشيئة الأزلية ، ولو نظر إلى مباحثهم في الغفران وتناول القربان وقضايا ( جانسينيوس) الخمس من الوجهة العقلية لتبين أنها لا تستحق الاهتمام، ومع ذلك أوجبت في القلوب غضبا شديداً أدى الى نسف الدير المذكور وتشتيت شمل رهبانه مع كونهم عنوان الفضيلة والصلاح ، فلو كان العقل ذا تأثير في وقوع مثل ذلك الحادث لتنذر أيضاح أمره .

وتلك المعتقدات تنضج في عالم اللاشعور فلا سلطان للعقل ولا للارادة عليها ، وهى نتيجة تلقين كالتلقين الذي يأتي به جميع المنومين في الوقت الحاضر نعم قد يلقى العقل في النفس شوقا الى الاعتقاد ولكنه يعجز عن حمل الانسان عليه ولن يكون المرء ذا اعتقاد باتباع نصيحة ( باسكال ) القائلة إن الرجل يصير معتقداً بعد أن يرغم نفسه على الظهور بمظهر المؤمن ، فالإرادة مهما تكن قوية لا تقدر على إدخال الايمان الى القلب .

ولأن المعتقد مستقل عن العقل فاننا لا نعجب كما لاحظ رييو « من مشاهدة ذوى العقول السامية الذين انقطعوا الى مناهج العلم وأصوله يؤمنون في أمور الدين والسياسة والأخلاق بآراء صبيانية يترفعون عن المجادلة فيها ثانية واحدة لوكان المؤمنون بها غيرهم . »

وفي الغالب تعاني المعتقدات غير مناقشين فيها ، وحسنًا ما نفعل ، فسوف يشيخ العالم كثيراً قبل أن يوازن العقلُ خلقَ التدين .