الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: عوامل الحركة - اللذة والألم


الفصل الأول

عوامل الحركة - اللذة والألم


١ – شأن اللذة والألم

اللذة والألم هما لسان الحياة المادية والمعنوية وعنوان الكدر والصفاء في الأعضاء، وبهما ترغم الطبيعة الحيوان على الاتيان بأعمال يستحيل الوجود بدونها، وعليه فان اللذة والألم دليلان على حال معنوية باطنية أي معلولات لعلل كما أن الأعراض نتيجة لمرض.

ومن الشعور باللذة والألم تتكون قوة الإحساس ومن هذه القوة تشتق حياة الانسان المادية والمعنوية ويكون لسان الأعضاء المعبر عنه باللذة والألم متجبراً بنسبة ما يقتضى من الحاجات، ومن هذه الحاجات ما هو قاهر غير ممهل كالجوع مثلاً

الجوع هو أشد الآلام هولاً والحب هو أكثر اللذات تغلباً، وقد نقول كما قال الشاعر الكبير ( شیلر) إن قوام العالم هو الجوع والحب، واما أنواع اللذة والألم الأخرى فهي عوامل أقل سطوة وشدة، ولذلك أخطأ ( شوبنهاور) حيث قال : « إنه يمكن ارجاع جميع العوامل التي تحرك الانسان إلى ثلاثة : الأثرة والخبث والرحمة »

وقد أنكر بعض الفلاسفة في هذه السنين شأن اللذة والألم في حركاتنا، قال ويليام جيمس : « لا تأثير لهما في انفعالاتنا، فمن الذي يعبس للتلذذ بالعبوس ؟ ومن الذي يتنفس للتلذذ بالتنفس ؟ » فاقامة الحجة على هذه الصورة أمر غير صحيح، فلانسان لا يتنفس للتلذذ بالتنفس، وانما يتنفس درأ للألم التاشيء من قطع النَّفَس، وكذلك فانه لا يعبس للتلذذ بالعبوس، وانما يعبس عند كدره الذي هو من أنواع الألم

۲ – صفات اللذة و الالم المتقطعة

لا استمرار في اللذة والألم، فمن طبيعتهما الوهن السريع، ولا يحـــدثان الا الا ليكونا غير مُطْبِقين، فإذا استمرت اللذة فلا تبقى لذة، وينقص الألم إذا اتصل ولم ينقطع، وقد يصير نقصان الألم لذة.

وعليه فاللذة ليست لذة الا اذا لم تتصل، ولا تكون اللذة معروفة الا اذا قيست بالألم، وقول بعضهم وجود لذة أبدية كلام خال من كل معنى كما ذكر افلاطون، فالآلهة على رأی افلاطون لا تعرف الألم، ولذلك فانها لا تشعر باللذة.

وتقطع اللذة والألم هو نتيجة ناموس عضوی قاض يجعل التبدل أساس الاحساس، فنحن لا نشعر بالأحوال اذا اتصلت، ولكننا نشعر بالفروق بين الأحوال التي تقع في آن واحد أو التي تقع متوالية مترادفة، فطقطقة الساعة مهما تعلُ لا تلبث أن لا تُسمع، والطحان لا يفيق من جعجعة رحاه بل من انقطاعها، ولهذا السبب فان اللذة بامتدادها تصبح غير لازمة مالم تنقطع، وسرعان ما يصير نعيم الفردوس الذي يحلم به المؤمنون غیر جاذب اذا لم يتنقلوا مناوبة من النار الى الجنة ومن الجنة الى النار.

واللذة أمر نسبي تابع للأحوال، أي أن الم اليوم قد يصبح لذة في الغد والعكس بالعكس، فيصير ألم الرجل الذي أكره على أكل كسرات خبز يابسة بعد أن تغذی غذاء وافرا لذة اذا ترك أياماً في جزيرة جرداء على أن يأكل من تلك الكسرات.

وقد أصاب المثل العامى القائل إلى الانسان يتمتع باللذة التي تروقه حيث يجدها، فلذة العامل الذي يشرب صاخباً في الخانة تخاف من لذة المتفنن والعالم والمخترع والشاعر – وقتها يجدّون في أعمالهم – اختلافا كبيراً، ولاريب في أن اللذة التي حصلت لنيوطن من اكتشافه سنن الجاذبية هي أعظم من اللذة التي تحصل له لو انتقلت اليه نساء كثيرات من نساء الملك سليمان.

ويظهر لنا شأن اللذة والألم ظهوراً واضحاً عندما نتخيل الأرواح التي يعتقد

وجودها المؤمنون بأكثر الاديان، فلما كانت هذه الأرواح عاطلة من الحواس والمشاعر فانها لا تبالي باللذة والألم ولا تعرف شيئاً من بواعث حركتنا، وما كان يقلقها من اكدار احيائها و شدائدهم لا يؤثر فيها، ولا تشعر لهذه العلة بحاجة إلى مناجاتهم، ومن هنا نقول إن وجود هذه الأرواح وهم لا أساس لهُ.

٣ – الرغبة نتيجة اللذة و الألم

اللذة والألم يورثان الرغبة، أي الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم، فالرغبة هي المحرك الأساسي للإرادة والباعثة على العمل.

والرغبة هي التي توحي الى الارادة التي تكون بدونها معدومة، وعلى نسبة الرغبة تكون الارادة قوية أو ضعيفة، ومع ذلك لا يجوز خلط الارادة بالرغبة كما فعل كثير من الفلاسفة کشوبنهاور وكوندياك، فإذا كانت الرغبة مصدر كل ما يراد فانه يرغب في أمور كثيرة لا تراد، فالارادة تتضمن التأمل والقصد والتنفيذ أي تستلزم أحوالاً شعورية لا يُرى مثلها في الرغبة.

الرغبة هي مقياس القيم، وهذا المقياس يختلف باختلاف الأزمنة والأم، فثل الأمة الأعلى هو عنوان رغبتها، إذ الرغبة باستيلائها على قوة الادراك في الانسان تحول طرز تصوره و ارائه ومعتقداته، ولقد أصاب الفيلسوف (سبينوزا ) حيث قال : « نرى الاشياء مليحة برغبتنا لا ببصيرتنا. »

ولما لم تكن قيمة الاشياء بنفسها فإن الرغبة هي التي تمنحها قيمة، وتكون هذه القيمة على نسبة ما في الرغبة من شدة، واكبر دليل على ذلك تحول قيمة الآثار الفنية، وعلى رغم كون الرغبة منبع كل جهد وحاكمة الانسان المطلقة وموجدة مثل الأعلى فاته لا تمثال لها في المعايدة القديمة، والمصلح الكبير ( بوذا ) وحده هو الذي أدرك أن الرغبة في المهيمنة على الأشياء وأنها مصدر الحركة في الناس، وقد حاول التحرير البشر من بؤسها وسوقه إلى راحة سرمدية أن يقضي عليها، ومع خضوع ملايين من الناس لشريعته فانه لم يقدر على خضد شوكتها.

حقاً لا يستطيع الانسان أن يعيش بدون رغبة، نعم قد يكون في عالم الافـكار

الذي تصوره افلاطون جمال رائع ونماذج خالدة ولكن بما أنه لم تى هذا العالم نفخة رغبة فان أمره لا يهمنا.

٤ – الامل هو اللذة المرجوَّة

الأمل ابن الرغبة لا الرغبة نفسها، إذ هو عبارة عن استعداد نفسی يجعــل الانسان يعتقد إمکان تحقيقه ما فيه من رغبة، فقد يرغب المرء في شيء، دون أن يأمله، فعلى قلة من يأملون الثروة نرى جميع الناس يرغبون فيها، وكذلك العلماء فانهم يرغبون في اكتشاف علة علل الحوادث مع أنهم لا يأملون أن يصلوا اليه، وقد تقترب الرغبة من الأمل في بعض الأحيان فتختلط به، فالانسان في لعبة الدولاب يرغب في الربح ويأمله .

ويمكننا أن نعرف الأمل باللذة المرجوة، وفي الغالب يكون الامل في دور الرجاء أشفى للغلة منه في إنجازه، وسبب ذلك واضح، فاللذة المنجزة تكون محدودة مقداراً و زماناً مع أنه لاحد لما يوجبه الامل من أحلام، ولم يوجد سلطان الامل وفتنه إلا لاشتماله على ما في اللذة ممکنات، فهو عصا سحر قادرة على تحويل كل شيء، وهذا هو سر کون دعاة التجدد لم يفعلوا سوى إقامة أمل مكان آخر.

٥ – العادة هي ناظمة اللذة والألم .

العادة هي ناظمة الحس، فهي سبب الاستمرار في افعال الانسان لثلمها حد اللذة والالم فيه، وبها يألف أشد المصاعب و يتحمل اعظم الجهود، والطفل بتأثيرها يتعود تعب الحياة عند ما يكرهه من العزلة على العيش تحت سماء الشمس.

والعادة التي هي ناظمة حياة الفرد هي دعامة الحياة الاجتماعية أيضاً، والأمر الشاق في حياة الأمة هو أن تبتدع لنفسها عادات اجتماعية وأن لا تجمد إزاء هذه العادات إذ انه عندما تثقل وطأة العادات زمناً طويلاً على الأمة لا تتخلص من ربقتها إلا بثورات عنيفة، ولذلك وجب أن لا يطول الوقوف عند حد العادة، فالمدنيات والافراد والأمم الشائخة هي التي تميل الى الرزوح تحت أثقال المادة وقتاً كبيراً من العبث أن نتكلم في شأنها كثيراً ، فلقد جلبت نظر جميع الفلاسفة وصارت تُعتبر حكمة قومية . قال ( باسكال ):

« ماذا تكون مبادئنا الفطرية إذا لم تصدر عن العادة ؟ فالعادة في طبيعة ثانية تقوض أركان الأولى ، ومنها تأخذ اشد أدلتنا قوة واكثرها فيضاً، وهي التي تعين وجهة النفس دون أن يفكر الانسان في ذلك ، وبها يصبح الإنسان نصرانيا أو وثنياً أو تركياً أو محترفاً أو جندياً الخ، ثم بها تستعين التنفس وقتما تعثر على مكان الحقيقة .»

ولو أنَّ قدرة خارقة جعلت الانسان أو الشعب يهرب من تأثير العادة لاصاب الفالج حياته فجأةً لأن المادة هي التي تملى علينا كل يوم ما يجب أن نقوله ونفعله وتفكر فيه .

٦ – اعتبار اللذة والالم حقيقتين نفسيتين أساسيتين.

حاول الفلاسفة أن يزعزعوا ما في الانسان من يقين وأن يثبتوا أنه لا يعلم من العالم غير الظواهر ، غير أن هنالك حقيقتين ليس باستطاعة أحد أن ينقضهما وهما اللذة والالم ، فمنهما تشتق حركة البشر ونشاطه واليهما يستند ما تعد به الشرائع الدينية والدنيوية وتتوعد به من ثواب وعقاب وجنة وجحيم .

ويظهر الالم واللذة في الانسان منذ ما تدب الحياة فيه ، فبقوة الحس لا بالفكر يشعر الإنسان بوجوده ولو قال ( ديكارت ) : « أشعر ولذلك فانی موجود » بدلا من قوله « افكر ولذلك فانی موجود» لكان قوله أقرب إلى الحقيقة ، لان دستوره إذا تبدل على هذا الوجه يُطبق على جميع الناس لا على فريق وحده .

ومن هاتين الحقيقتين يمكن استنباط فلسفة حياتية عملية ، وبهما يجاب جواباً صائباً عن السؤال الذي جاء مكرراً في سفر سليمان ، وهو : لماذا يشتغل الانسان ويسعی كثيراً مع أن الموت ينتظره والأرض ستخمد يوماً ما ؟

الانسان يسعى لأنه يجهل المستقبل ولأن الطبيعة في الحال ترغمه على البحث عن اللذة والفرار من الألم ، فالفاعل الذي يضنيه العمل والراهبة التي لا تجزع من القروح والمبشر الذي ينكل به الهمج والعالم الذي يكدح في حل مسئلة والمكروب الصغير الذي يميد متحركاً في قطرة ماء لا يكابدون ما يكابدونه الا بتأثير عاملين : جذب اللذة وخوف الألم.

لا حركة بغير هذين الباعثين، ولا نتصور وجود بواعث أخرى غيرهما على رغم اختلاف الألفاظ، فحب الجمال والحرب والتدين والشهوات إن هي الا أمور صادرة عن مصدر عضوی واحد، ولا تلبث حركة البشر أن تزول بزوال ذلكما العاملين اللذين لا ريب فيهما : اللذة والألم.