الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثاني: تقلبات الحس هي أساس حياة الفرد وحياة المجتمع


الفصل الثاني

تقلبات الحس هي أساس حياة الفرد وحياة المجتمع


١ – حدود الشعور باللذة و الالم

تطبيق قواعد الوزن والقياس على درس الحوادث الجثمانية هو المرحلة الأولى في تقدم هذا الدرس، فلولا ميزان الحرارة لاكتُفى بتقديرات شخصية تختان باختلاف الناس، وما أتي به الانسان من رقي في ميدان العقل لم يؤت بمثله في دائرة العاطفة، ولذا ترانا عاطلين من ميزان نزن به المشاعر.

و مع ذلك فانه يظهر أن شعورنا باللذة والألم يتراوح بين حدين محصورين، بدعم هذا القول ما تم على يد علماء وظائف الأعضاء من تجارب، فلقد أثبت هؤلاء العلماء أن للحس حداً أعظمياً لا يتجاوزه مهما يزد المحرض وأن له حداً أصغرياً لا ينزل دونه .

ولا يزيد الحس بنسبة المحرض الذي يوجبه، فيقتضي أن يزيد المحرض على نسبة هندسية ليزيد الحس على نسبة حسابية، ولهذا يجب لمضاعفة ما تولدهُ آلة الطرب من حس زيادة عددها عشر مرات، و يقتضى لجعل ما تولده من حس ثلاث مرات زيادتها مئة ضعف، واذا أريدت مضاعفة طنين عشرة آلات طرب يوقع عليها عشرة مغنين فانه يقتضى ايصالها الي ألف ضعف، وبتطبيقنا هذه الافكار على اللذة والألم ترى أنه لا بد من زيادة المحرض کثيرا لزيادتهما قليلاً

لا ريب في أن الارقام المذكورة غير مطلقة، وانما غرضنا من جميع ذلك أن نثبت أن الشعور باللذة والألم يتراوح بين حدين محدودين، وكيف يكون الأمر خلاف ذاك ؟ قد تعاني الأعضاء بالتدريج كل تطور ولكنها عاجزة عن احتمال أي تحول فجائي لاشتمالها على عوامل ناظمة تقيها من مثل ذلك، فحرارة الجسم في حال الصحة لا تتقلب اكثر من بضعة أعشار الدرجة مهما يشتد الحر أو البرد في العالم الخارجي ولا يشاهد نقص الحرارة وزيادتها درجتين أو ثلاث درجات بالنسبة الى درجة حال الصحة الا في الأمراض الشديدة المهلكة، ففي كل وجود حد للتوازن لا يُبتعد منه.

و بهذه المناسبة نذكر وجود ناموس آخر يدعى « ناموس عدم تجمع المشاعر »، فلهذا الناموس – مع إغفال أمره في الغالب – شأن كبير في حياتنا الشاعرة، نعلم أن بعض الأشياء كصفيحة الفوطوغراف مثلا لها مزية تكويم ما يقرعها من المؤثرات الصغيرة المتتابعة، وينشأ عن تجمع هذه المؤثرات الصغيرة المكررة تكريراً كافياً على مر الأيام نتيجة كالتي تصدر عن مؤثر قوى قصير الأجل، على هذه الصورة تستطيع صفيحة الفوطوغراف أن ترسم نجوماً لا تقدر العين المجردة على رؤيتها نظراً لأن شبكة العين لا تحتوى خاصة تكديس المؤثرات الصغيرة، وما قيل عن العين يقال مثله عن باقي الحواس من حيث عدم قدرتها على تكويم المؤثرات، اللهم اذا استنينا بضعة شواذ

وتقريباً للذهن نقول : أنه إذا هلك ثلاثمئة شخص في حادثة قطار فان حزناً شديداً يملأ قلوبنا، وتفعم الصحن أعمدتها بتفصيل الواقعة، و يتبادل الملوك برقيات التعزية، وأما اذا فرضنا أن هلاك هؤلاء تم بفعل سلسلة من الحوادث الصغيرة وقعت في بحر السنة فان ما ينتابنا من الكدر قايل الى الغاية، ذلك لان حواسنا لم تجمع كل آثر صغير أوجبته تلك السلسلة.

فلنفرح لكون الأمر على هذا الوجه، فلو بُني الوجود على شكل مستعد لتكديس الآلام لكانت الحياة شيئاً ثقيلاً لا يطاق

٢ – تقلبات الحس في الفرد وشأنها في الحياة الاجتماعية

ظهر لنا مما تقدم أن تقلبات الحس محدودة زماناً واتساعاً ، والاختبار يثبت أن الحس يتراوح بين هذه الحدود ، ومما يغير الحس على الخصوص تغییراً متتابعاً هو المرض والصحة والبيئة والحوادث ، وما أشبه الحس في تقلبه بالبحيرة التي يجعل النسيم وجهها ذا أخاديد وغضون

وتوضح لنا تلك التقلبات المستمرة لماذا تتحول أذواقنا وأفكارنا وآراؤنا على الدوام ، والتقلبات المذكورة تكون أشد من ذي قبل عندما تأخذ العادات والمعتقدات الموروثة التي تحدد تقلبات الحس في الأفول ، فعدم الثبات عند ذلك يصبح قاعدة

ومن علل الآراء ما يحدد تقلبات الحس أيضاً ، ونعد من هذه العلل العدوی النفسية التي تحدث عادات موقتة قادرة على منح تنقلنا شيئاً من الثبات ، ومتى أصبح حس المجتمع على شيء من الرسوخ المؤقت فان آثاراً مختلفة تؤلف معبرة عنه وتعد هذه الآثار مرآة الزمن .

وبعد أن يصفو الحس بفعل بعض المحرضات المكررة فانه يدنو من الذوق الخالص قليلاً ، وكلما صفا الحس ينثلم حده ، فأنغام ( لوللى) التي كانت تسحر قلوب آبائنا تورث فينا ضجراً وملالاً ، وأكثر الروايات الملَحَّنة التي نالت منذ خمسين سنة حظوة عند الجمهور أصبح لا يلائم ذوقنا ، وسبب ذلك كون مسئلة توافق الأصوات حلت بالتدريج مكان مسئلة النغم ، فيقتضي لإطراب الحواس التي أعياها التعب في الوقت الحاضر إيجاد شيء من الشذوذ في الألحان كان يعَدُّ خطأ عند مقترعى الأنغام في الماضي .

تدلنا آثار أحد الأزمنة على شعور ذلك الزمان وتقلباته ، ولكون هذه الآثار عنواناً صادقاً للشعور الذي ساد الزمان المذكور فإنه بسمل توقيتها ، ولمثل هذا السبب تكون الآثار الفنية أفيد من كتب التاريخ، ولما كان المؤرخ ينظر الى الماضي من خلال شعورهِ الشخصي الحاضر فان شروحه تكون بحكم الطبيعة غير سديدة ، والقصص والروايات وألواح التصوير والمباني هي على خلاف كتب التاريخ مصدر معرفة صحيح موجب للاعتبار والالتفات . ولا ينتقل الخس زمانًا و مكانًا ، فلا شك في أن البناء العظيم الذي يقوم مستعينًا بعناصر تخص قرونًا قديمة أو شعوبًا مختلفة يمس شعورنا لاشتقاقه من مشاعر تناقض مشاعرنا ، ولو تغير شعورنا بتأثير تطور النوع لأصبح ما نعجب له الآن من آثار الماضي — کالبارتنون والكنائس الغوطية والقصائد الغراء والتصاویر والنقوش الشهيرة — غير جدير بأن نتأمًّل فيه ، وليس من الضروري أن يكون تطور الشعوب مدیداً لتستخف با تعجب به الآن ، فيكفي لذلك أن تستمر التربية على انتحائها الحاضر نحو الاختصاص وأن يدوم اقتراب الجموع من القبض على زمام الأمور اقتراباً سريعاً ، لأن آثار الفن في نظر الجموع كناية عن نفائس وكماليات تستحق الاهانة ، فعندما استحوذ نظام ( الكومون ) الذي هو عنوان روح الجماعات الصادق لم يتأخر رجاله عن حرق أجمل مبانی بار بس كدائرة البلدية وقصور التويلری ، والمصادفة هي التي أنقذت قصر الأوفر وتحفه من يد التخريب

ومهما يكن مستقبل آثار الماضي فانها لا تزال ماثلة للعيان وهي التي ترشدنا إلى تاريخ الحس والشعور ، فلولا هذه العناصر المستنبطة من الادب والفن لما اطلعنا على شعور الأزمنة ولجهلناه كما نجهل سكان البرجيس ، وما في الازمنة من معقول نقف عليه في كتب العلم لخلوها من سمات مؤلفيها العاطفية ، فإذا كانت الروايات تتم على تاريخها بنفسها مثلاً فان رسائل الهندسة ليست كذلك ، فقد يمكن أحد الرياضيين المتأخرين أن ينتحل رسالة ( أوقلیدس ) الهندسية القديمة التي لا تزال تُدَرَّس ، لأن ( أوقليدس ) لما وضع رسالته استعان بالمعقولات التي لا صلة بينها وبين الحس والمشاعر أبداً ، فالعقل يضع حقائق عامة خالدة والحس يضع حقائق خاصة زائلة

۳ – ما ينشأ عن تقلبات الحس في المجموع من تبدل في المثل الأعلى والمعتقد

غاية الحركة في الانسان هي البحث عن السعادة أي طاب اللذة وطرد الألم ، على هذا المبدإ اتفق الناس أجمعون ، وانما اختلفوا في معنى السعادة ووسائل نيلها ، وللسعادة أشكال متنوعة مع اتفاق المقصود ، فأحلام الحب والغني والرفعة والايمان إن هي إلا أوهام مسيطرة تلقيها الطبيعة في قلوبنا لتسوقنا الى أقصى الغابات ، ومتى يتغير مبدأ السعادة أى المثل الأعلى فى الرجل أو الامة فان طرز نظره فى الحياة ومصیره بتغيران، وليس التاريخ سوى الاخبار عما يبذله الانسان من الجهد فى سبيل إقامة مثل أعلى والقضاء عليه بعد أن يصل اليه ويكتشف بطلانه

ومن أمل السعادة التي يتخيلها الشعب والمعتقدات التي هى عنوان ذلك الأمل تتكون قوة هذا الشعب، مثل الشعب الأعلى يتولد معه و ينمو بنموه ويموت عند موته، ومهما تكن قيمة ذلك المثل الأعلى فانه يمنح الشعب الذي يعتنقه منعة عظيمة، وتكون هذه المنعة على نسبة تأثير المثل الأعلى وان كانت وعود هذا المثل قليلة، نعم قد ندرك السر فى كون الشهيد يرى من خلال الموقد باب الجنة، ولكن ما هى فائدة الجندي الروماني أو جندى نابليون من طوافِه فى أقطار الأرض إن لم يكن القتل أو القرح ؟ فقد كان المثل الأعلى الذي استولى على شعبه من القوة والجبروت بحيث يلطف جذوة آلامهِ، ومن مقتضياته أن يعد المرء أمر اللحاق بالأبطال سعادة أو فردساً حاضراً يأخذ بمجامع الألباب.