الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: المنطق العاطفي ومنطق الجموع

الآراء والمعتقدات (1926) المؤلف غوستاف لوبون
الفصل الثالث: المنطق العاطفي ومنطق الجموع


الفصل الثالث

المنطق العاطفى ومنطق الجموع


١ –المنطق العاطفى

قد ميز العلماء منذ وقت بعيد دائرتين فى روح البشر وهما دائرة المشاعر ودائرة العقل، وأما القول بوجود منطق للمشاعر فقد وقع فى زمن قريب ، وقبل أن نفرق بين المنطق العقلى ومنطق المشاعر نعترف بأن الحياة العاطفية كياناً مستقلاً عن كيان الحياة العقلية ، فظهور الحياة العقلية قريب فى تاريخ العالم مع أن الحياة العاطفية وما تضمنته من منطق قد سير ذوات الحياة منذ الأجيال الجيولوجية ، وقد عاشت الحيوانات وبلغت غايتها على ما يرام بفعل منطق الحياة والمنطق العاطفى فقط ، خذ الدجاجة مثلاً تر أنها تعرف بعاطفتها كيف تربي فراريجها وتقودها وتعلمها الاقتيات وتكف أذى عدوها عنها .

أيام كان الناس لا يعرفون غير المنطق العقلى كانوا يرون أن العقل هو مصدر مافيهم من ظنون وأفكار، والواقع أن العقل أصل المسائل العلمية، وهو قلما يكون سبب الأمور الاعتيادية التي تحدث فى أثناء الحياة اليومية، فالمنطق العاطفى هو في الغالب مصدرها ، وكلما أمعنا فى تفهم ما للمبادىء العاطفية من تأثير نتوثق من هذا القول الأساسى، حينئذٍ نرى أن أدلاء العاطفة هى غير أدلاء العقل وأن حوادث المنطق العاطفى يرتبط بعضها ببعض حسب قواعد وثيقة بعيدة من المنطق العقلى.

وسيكون شأن المنطق العاطفى الذے استأثرت به أهواء الكتاب الروائيين والشعراء حتى الآن عظيماً فى علم النفس القادم، فشأن المؤثرات العاطفية فى الحياة هو فى الدرجة الأولى كما قال ( ریبو)، وليست المعرفة رَبَّةَ بل أمَةً كما قال هذا

الفيلسوف أيضاً.

٢ –مقايسة بين المنطق العاطفى والمنطق العقلى

تبدو أوصاف المنطق العقلى والمنطق العاطفى بالمقايسة بينهما، فالمنطق العقلى يدير دائرة الشعور، وأما المنطق العاطفى فانه مستولٍ على دائرة اللاشعور، و ما أن سلسلة النطق العاطفى لاشعورية فاننا لا ندرك تطور مشاعرنا الا قليلاً، فنحن تقود حياتنا العقلية ، ولكن لا سلطان لنا على حياتنا العاطفية.

والمنطق العاطفى والمنطق العقلی کالاهما من الاختلاف بحيث يتعذر إيجاد مقياس مشترك بينهما، ولذلك يستحيل أن نعبر عن المشاعر بكلمات مصدرها العقل، وليس المنطق العقلى يستطيع أن يفهم أو يفسر أو يزن ما يمليه منطق المشاعر من أعمال ، وأما الكلمات التي تحاول أن نشرح المشاعر بها فانها توضح هذه المشاعر ايضاحًا رديئًا، وإذا تَمْكَّنَتْ من ذلك قليلاُ فيسب ناموس الاشتراك النفسى، فمن تعود ربط المشاعر ببعض الألفاظ نتذكر عند خروج تلك الألفاظ بعض هواجس نفسية عاطفية، والموسيقى التي هى لسان المشاعر الصادق تذكرنا بالمشاعر أحسن ممَّا تذكرنا بها الألفاظ والكلمات، ولكن نظرًا لخلوها من الضبط فانها لا تكون واسطة ارتباط بين مشاعر الناس الاعلى وجه مبهم.

ويجهل المنطق العاطفى المنطق العقلى، ولذلك يبتُّ فى الأمور قبل أن يتم الثانى تفكيره، فهو لا يبالى كالمنطق العقلى بالمعقولات والتناقضات والأصول والمبادىء.

ويستند المنطق العتلى الى مبادی، بادية مستنبطة من التجربة والاختبار، فالحوادث الصريحة المجردة التى يسهل قياسها هى قوام تلك المبادىء، وأما المنطق العاطفى فلا دعامة له سوی مبادیء معنوية أدبية يتعذر قياسها وتقديرها على وجه الضبط والصحة، وهذا هو السر في كون هواجس النفس الشعورية الصادرة عن المنطق العاطفى تظل مبهمة غير صريحة على الدوام.

وتشترك الأفكار فى المنطق العقلى حسب قواعد عامة معلومة، وأما المشاعر فى المنطق العاطفى فانها تجتمع فى الغالب على شكل غير إرادی و بمقتضی نظام دقيق لم تعلم منه سوى شيء يسير. وفضلاً عن ذلك نقول إن بعض المشاعر تولد مشاعر أخرى لا تلبث أن تمتزج بها، فلألم يوجب الغم والحب يورث السرور والغضب يولد الميل إلى الإنتقام الخ.

ولكون قواعد المنطق العقلى مادية فانها تطبق على صورة واحدة من قبل جميع الرجال الذين بلغوا شأواً من الرقى، وهذا هو سبب اتفاق هؤلاء الرجال على جميع المواضيع العلمية، وأما المنطق العاطفى فانه بالعكس يختلف باختلاف الناس، إذ الناس متباينون فى مشاعرهم ، ولذا تعذر الاتفاق على جميع المسائل التي تمس المشاعر كالمعتقدات الدينية والأخلاقية والسياسية الخ.

ولما كانت قواعد المنطق العاطفى غير عامة كقواعد المنطق العقلى فان الرسالة التى تؤلف فى منطق أحد الناس العاطفى لا تطبق الباقين، وأما رسالة المنطق العقلى فانها ثابتة تشمل الناس قاطبة.

تبين من الملاحظات السابقة أن الأمور الواحدة تختلف بحكم الضرورة عند النظر اليها من خلال المنطق العقلى أو المنطق العاطفى، فمن الخطا أن نحكم بالعقل حوادث أملاها منطق المشاعر.

وعلى رغم قلة اطلاعنا على سنن المنطق العاطفى فان الاستقراء يدلنا على بضع قواعد يستعملها أعظم الخطباء فى أغلب الأوقات، فبدلاً من أن يقضى أولئك الخطباء أوقاتهم فى تنظيم الأدلة وتنميق البراهين التى هى إن أقنعت لا تؤثر فى السامعين فانهم يحركون بالتدريج ساكن هؤلاء السامعين بضروب المؤثرات التى يتفنون فى تنويعها لعلمهم أن ما يوجبه أحد المحرضات من تأثير لا يلبث أن يهن و ينفد، وهم باستدراج لبق وکلمات ساحرة وصوت عذب يكونون جواً عاطفياً ملائماً لقبول استنتاجاتهم.

والمشاعر لأنها العامل الحقيقى فى أفعالنا فمن الطبيعى أن يقودنا منطقها، إذ الناس متى هاجت عواطفهم يغيرون سيرهم ومتي كُسبت قلوبهم يُغلبون على أمرهم، وأما استفادة الخطيب من المنطق العقلى فهى أنه يرسم به خططاً يرتب بها خطبه.

والمبادىء العاطفية تؤثر فى الصورة التي نتصور بها العالم، وهى أساس أفكارنا الخلقية والدينية والسياسية والاجتماعية، وكذلك الحقائق العامية فان نظرياتها مشبعة من تلک المیادىء ومن حسن الحفل كون المنطق العاطفى لا يديرنا على الدوام، فسوف نرى أن المنطق العقلى يقدر أحيانًا على زجر اندفاعاته، إلا أن هذا الزجر لا يتم بسهولة، لأن المنطق العقلى لا يزال ضعيفًا على رغم نموه بتعاقب القرون، ومع ذلك فإن الطريق الطويلة التي قطعها المنطق العقلى تبدو لنا عند البحث عن الهمج الذين استحوذت عليهم المشاعر الخالصة، إذ تسير هؤلاء الفطريين الذين ليس للمنطق العقلى سلطان عليهم اندفاعاتهم، فمتى يعضهم الجوع يتدهورون على فريستهم، ومتى يحقدون على عدوهم ينقضون عليه كالوحوش، هكذا كان يعيش رجال القرون الخالية الذين عندهم فلاسفة الثورة الفرنسية نماذج يقُتدى بها.

٢ –منطق الجموع

المنطق العاطفى هو إحدى الدعائم التى يستند اليها منطق المجموع ، ولا نبحث ، فسندرسه في فصل آراء الجموع ومعتقداتها ، وإنما تنبه هنا إلى أنه لا يمكن خاط المنطاق العاطفي بمنطق الجموع الذي لا يتجلى الا في الجماعات والذي قد يؤدي الى أفعال تناقض التي تصدر عن المنطق العاطفى ، وسوف نری أنه يتألف من روح الجموع مرکب خاص لا يعرف المستحيل ولا التبهر وتكون المشاعر فيه مفرطة وفيه يبطل عمل المنطق العقلى .

بيَّنا فى هذا الفصل أن المنطق العاطفى - مع المنطق الدينى الذي سنبحث عنه الآن - هو مصدر الحركة فينا ، فالحركة لا تكون الا بالحس ، ومتى نحس يبرز حكم المنطق المذكور ، حقًا لقد سيطر هذا المنطق على جميع الأجيال ، وما تخلص الإنسان قليلاً من ربقته الا فى دور قريب ، فالساعة التي يهيمن فيها المنطق العقلى على المنطق العاطفى بدلاً من أن يهيمن هذا على ذلك لم تدق بعد .