الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الرابع: المنطق الديني


الفصل الرابع

المنطق الدينى


١ – أوصاف المنطق الدينى

المنطق العقلى هو منطق شعوری علم الانسان العقل والتفكير والبرهنة والاختراع ، والمنطق العاطفى هو منطق لا شعورى يصدر عنه سيرنا ، ولا تأثير لاعقل والذكاء فى حلقاته فى الغالب ، وأما المنطق الديني الذى ندرسه الآن فطبقته أعلى من طبقة المنطق العاطفى ، فالحيوانات لا تعرف المنطق الدينى مع أنها ذات مشاعر كثيرة

والمنطق الدينى على رغم كونه أدنى من المنطق العقلى - الذى ينم على درجة

راقية فى التطور – مثًّلَ يا ولده من معتقدات دوراً عظيما فى تاريخ الامم ، وهو مصدر التأويل والتفسير اللذين - مع أنهما غريبان عن العقل - هما ذوا سلطان على الحركة ولوحل المنطق العقلى فى الماضى مكان المنطق الدينى لكان سير التاريخ خلاف ماوقع.

والمنطق الدينىّ يرضى كالمنطق العاطفى بالمتناقضات ، ولكنه ليس الثاني لا شعوريا، وكثيرا ما يتضمن شيئاً من التأمل والتفكير ، و بالحركة التى هى مقياس أنواع المنطق يظهر لنا الفرق بين المنطق الدينى والمنطق العاطفى ظهوراً واضحاً، فالمنطق

الدينى يسوق الانسان الى مالا يسوقه اليه المنطق العاطفى من أعمال تناقض اكثر منافعه صراحة، ومن يتصفح تاريخ الام السياسى أو الدينی بر أمثلة كثيرة على ذلك.

قد يعترض عند مطالعة تاريخ الحوادث المذكورة التى أدت إلى اختفاء كثير من

الأحوال العاطفية الحياء وحب الأبناء بأن يقال أن هذا الاختفاء ينشأ . حاول مشاعر مكان أخرى ، ولكن ما هى علة هذا الخلول؟ يقتضى أن لا يبحث عنها فى المنطق العقلى لأن العقل لا يشير علينا بان نفعل تلك الأعمال، وكذلك يجب أن لا يبحث عنها فى المنطق العاطفى، إذاً تلجئنا الضرورة الى الاستعانة بمنطق آخر يسمى المنطق الدينى، وما بين المنطق الدينى والمنطق العاطفى من فروق سيتجلى لنا على وجه أوضح من ذى قبل عندما نفحص شأن المنطق الدينى فى تاريخ الحضارة. ويقوم في المنطق الديني مقام العلل الطبيعية - التي سلم بها المنطق العقلى - عزائم موجودات أو قوى علوية تجب خشيتها ومداراتها لأنها ذات أهواء وتأثير في جميع أفعالنا ، وتشاهد قوة المنطق الديني على الخصوص عنـد أولى النفوس التي أصيب في تسميتها بالنفوس الدينية ، فالنفسية الدينية تتجلى في الشخص باسناده قدرة سحرية لا تأثير للعقل فيها الى وجود أو شيء معين أو قوة مجهولة ، وتختلف نتائج هذه النفسية بحسب النفوس ، فهي عند بعضهم دعامة لمعتقدات دينية معلومة تتراءى لهم أنها صادرة عن شيء يقال له ألوهيات ، والقوى العلوية هي عند عند آخرين أمر مبهم ولكنها ذات سلطان وقدرة ، وحينئذ تبدو روح التدين في هؤلاء على شكل احدى الخرافات أو الاساطير ولذلك نقول أن الملحد متدين كالتقى الورع وفي الغالب يكون أشد تدينًا منه.

يستدل على الروح الدينية في الانسان بعزوه الى تميمة أو تعويذة أو عدد أو ماء أو حج أو ذخيرة خصائص خارقة للمادة ، ويستدل عليها أيضاً بأسناده إلى الانظمة السياسية أو الاجتماعية قوة قادرة على تحويل الرجال ، وخلق التدين وإن كان على الدوام يتبدل شكلاً الا أنه لا يغير شيئًا من جوهره الذي ينسب به شأنًا عظيما إلى بعض القوى الحافلة بالاسرار ، فاذا تغير موضوع التدين بفعل الزمان فلان خلق التدين لا يتبدل أبداً .

ولا يبالى خلق التدين بالنقد مهما يكن صائبًا ، ولذا يورث في النفس سذاجة لاحد لها ، فالذين يلقبون أنفسهم بأحرار الفكر لنبذهم قواعد الدين يعتقدون الشعور بالأمور قبل وقوعها أو يعتقدون الفؤول والطوالع أو يعتقدون ما في حبل المصلوب من قدرة سحرية أو يعتقدون شؤم العدد الثالث عشر ، فالعالم في نظرهم يشتمل على كثير من الاشياء التي تحمل معها سعادة أو شقاء ، وليس بين الناس مقامر لا يؤمن بهذا المبدا ايمانًا قاطعًا .

ولما كان ايمان المعتقد لا نهاية له فان المستحيلات العقلية لا تؤثر فيه ولا يخرق العقل والتجربة والاختيار حجابه أبداً ، وكذلك حبوط الآمال لا يضعضعه لجهله المرء يعتقد أن القوى الخارقة ذات الاهواء والأغراض لا تسير حسب ناموس معين ، وكلما تقدم الانسان في سلم الحضارة تتحدد روح التدين العامة عند الهمج بالتدريج وتنحصر في بضعة مواضيع يؤمن بها الرجل المتمدن ايمان الرجل الفطاري أي ايمانًا لا تزعزعه الأدلة والبراهين العالمية ، وبهذا الامر المشاهد ندرك السبب في تسليم بعض أفاضل العلماء بعقائد صادرة عن السحر والتنجيم.

ولا ريب في أن مبتكرات العقل تعجز عن زلزلة خلق التدين لالتجاء هذا الخلق على الدوام بعالم الآخرة الذي يتعذر على العلم أن يقتحمه ، وإذا كان عدد الذين يرغبون في الآخرة عظاماً إلى الغاية .

۲ – خلق التدين أساس المعتقدات

خلق التدين هوالبقعة التي تنبت فيها المعتقدات الدينية والسياسية وغيرها، وتشاهد نتائج هذا الخلق على الخصوص عند الهمج ، فلما كان لا علم لهؤلاء بسنن الكون فانهم يعيشون في عالم مفعم بالأرواح التي تجب قراءة العزائم عليها بدون انقطاع، ويتوهمون على الدوام أنه يوجد خلف كل حقيقة ظاهرة قدرة خفية تسببها ، وأما الرجل المتمدن فذو معتقدات أرقى من تلك ، لأنه مشبع بتأثير التربية من المبدإ القائل بوجود نواميس ضرورية في عالم الطبيعة لا يستطيع ان ينكرها ، الا أنه يعتقد أنه بصلواته يتمكن من جعل قوى ما بعد الطبيعة توقف عمل تلك النواميس ، فعلى هذا الوجه يجتمع المنطق الديني والمنطق العقلى أحيانًا في نفس واحد من غير أن يؤثر أحدها في الآخر .

وما في المؤمن الحقيقي من سرعة التصديق فلا حد له بوجه عام ،وأعظام المعجزات لا تلقى في قلبه حيرة ، إذ لا نهاية لا يعزوه الى الله من قدرة.

يُرى في كنيسة ( أوڤيدو ) صندوق يقول الاعلان الذي وُزّع على زائريها انه جيىء به بغتة من مدينة القدس بواسطة الرياح وانه يحتوى على « لبن من لبن أم يسوع المسيح وشعرات مسحت بها القديسة هيلانة رجلي مُخلِّصِ العالم والعصا التي فلق بها موسى البحر الأحمر وجفير القديس بطرس الخ » فهذه الوثيقة التي هي واحدة من ألوف من الوثائق المتماثلة تثبت لنا كيف أن العقيدة الدينية شديدة التأثير ، ونعد من نوع الوثيقة المذكورة بقية جسد أحد القديسين الموضوعة في صندوق ذهب محفوظ في احدى الكنائس العظيمة وحبل المصلوب ، فعلينا أن ننظر الى تلك الوثائق بعين مغنية وقلب سمح ، ذلك لانها وليدة آمال السعادة أولاً ولكونها صادرة عمافي النفس من احتياجات متأصلة ثانياً.

واذا نظرنا إلى المنطق الديني من خلال جميع عناصر الحياة الاجتماعية فاننا نراه ذا تأثير في الفنون والآداب والسياسية وصنعة الشفاء ، فما الدور الروائي الا أحد مظاهره ، وليس عند أرباب الفن سوى عقائد دينية تجعلهم لا يعبأون بطرق التحليل العقلى ، ويتجلى تأثير الروح الدينية في عالم السياسة على الخصوص ، فالأحزاب الرديكالية واللاإكليروسية والمتطرفة تعيش على جانب عظيم من التدين.

ولا تزال البقاع التي ارتادها العلم محدودة الى الغاية مع أنه لاحدَّ لرغباتنا،ولاشك في أن سيطرة المنطق الديني على البشر ستمتد زمناً طويلا بعد ، فهو بايجاده القوانين والعادات والاديان قد ولد جميع الأوهام التي سيرت النوع الانساني حتى يومنا هذا ، وهو من القوة بحيث يقدر على جعل الخيال حقيقة.وبتأثيره عرف ملايين من الرجال الفرح أو الالم، وما في العالم من مثل عليا فصادر عنه.