الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الخامس: المنطق العقلي


الفصل الخامس

المنطق العقلي

١ – عناصر المنطق العقلي الأساسية


قد أُلِّفت للبحث عن المنطق العقلي مؤلفات كثيرة ذات فائدة قليلة، والذي يجعلنا نتكلم عنه في هذا الكتاب هو أولاً إنه يمثل أحياناً في تكوين الآراء دوراً لا بأس فيه ، وثانياً لبيان وجه الفرق بينه وبين أنواع المنطق الأخرى التي بحثنا عنها في الفصول السابقة ، وسنباشر بيان بعض العناصر التي يستند اليها المنطق العقلى في عمله وهي : الارادة والدقة والتأمل.

الارادة – الارادة هي صفة يعزم بها الانسان على الاتيان بعمـل ولها ثلاثة أطوار : التفكير والقصد والتنفيذ. واذا انعمنا النظر فيها نرى أنها تصدر عن العقل والعاطفة معاً، فهي تنشأ عن العاطفة لأن جوهر بواعث العمل في الانسان هو العاطفة عن العقل لأننا بفضل الدقة والتأمل نمزج في روحنا صوراً نفسية يقدر بعضها على ابطال عمل البعض الآخر.

وخلافاً لما جاء في كتب علم النفس نقول أن الإرادة قد تكون شعورية وقد تكون لاشعورية، وأقوى العزائم واشدها هي اللاشعورية، فهي التي لا يملك الحيوان وأكثر الناس سواها، وإذا صعب علينا مشاهدة شكل الإرادة اللاشعورية فذلك لأن العقل يتدخل على الفور كي يوضح ما تنجزه تلك الإرادة من أعمال إيضاحاً يجعلنا نتصور أنه هو الذي سبب تلك الأعمال.

ویرى (ديكارت) – وقد شاطره كثير من الفلاسفة في الوقت الحاضر رأيه – أن للإرادة كياناً غير كيان العقل هو أصل معتقداتنا، فالاعتقاد عند (ديكارت) هو إرادة التسليم بميدإ يمليه العقل أو انكار ذلك المبدإِ، وسوف انقض هذه النظرية التي لايزال أكثر الفلاسفة يناضلون عنها في هذا الكتاب بأن أثبت أن المعتقد لا يكون اراديا أصلاً.

ويقترب (اريسطوطاليس) من المبادئ المشروحة هنا أكثر من (ديكارت) ذلك لأنه بني نظريته في علم النفس على التمييز بين الصفات العاطفية والصفات العقلية، ثم قال ان الإرادة تظهر من مزج هذين الطرفين أحدهما بالآخر، فعلى هذا الوجه تكون الإرادة معلولة لا علة ويكون (اريسطوطاليس) اقام العاطفة أمام العقل مع أن (ديكارت) اقام الإرادة أمامها.

الدقة – الدقة هي أن يحصر المرء ذهنه في شيء واحد أو في شكل هذا الشيء الواحد أو في ما ينشأ . بوادر فيجرد منه الموضوع الذي يهمه.

وقد عد كثير من المؤلفين الدقة وجها من وجوه الإرادة ، فهي على رغم كونها خاضعة للإرادة ليست متحدة بها ذاتا ومعنى ، وكذلك لا يجوز خلط الدقة بالعقل الذي لم تكن الدقة سوى عنصر يستعين به .

تطبع الأشياء التي تحيط بنا طابعها على حواسنا ، فلو تم شعورنا بجميعها شعوراً متساويا كمالة الفوطوغراف مثلا لاشتمل دماغنا على صور كثيرة لا فائدة فيها ولكننا بفضل دقتنا لا ندرك الاشياء الا بنسبة احتياجنا في أحد المواضيع .

ويتصف الحيوان بالدقة أيضا ، واسكن دقته غير ارادية مع أنها قد تكون في الانسان ارادية ، وينشأ عن نمو الدقة في الرجل زيادة في قدرته العقلية ، وعلى نسبة الدقة في المرء يعظم عقله ، فلولا دقة ( نيوطن ) العظيمة لما ذاع صيت ( نيوطن ) واذا تجلت عبقرية هذا الرجل بغتة فذلك بعد دقة صابرة وتأمل مديد.

التأمل - التأمل يورث التنقل في الانسان ، وهو عبارة عن قدرة الانسان على أن يستحضر – مستعينا بفعل الدقة – الصور النفسية المشتقة ، الاحساسات أو الألفاظ التي تنم على تلك الصور ، حينئذ يمكن مزجها والمقايسة بينها واستخلاص احكام منها ، وبالطريقة المذكورة لا نعلم الأشياء ذاتها بل نقف على ما بين هذه الاشياء من علائق ، الامر الذي هو غاية ما يسمى اليه العلم ، وقابلية التأمل تتضمن قابلية الدقة فضف هذه يستلزم ضعف تلك ، و بالتأمل يتعقل الانسان كما ينبغي بشرط أن لا يتدخل المنطق العاطفى والمنطق الديني في الامر ، فمتى يتناول المعتقد المواضيع التي يراد تعقلها فان التأمل يخسر ما فيه من استعداد للنقد

٢ – شأن المنطق العقلي


العمل الأساسي للمنطق العقلي هو أن يؤلف هذا المنطق — مستعيناً بالتأمل وبالطريقة المشروحة آنفاً — بين الصور النفسية أو الكلمات التي تعبر عنها وقد عُدَّ أساس معتقداتنا زمناً طويلاً مع أننا نرى أنه لم يكن سبب أي معتقد منها، وانا الشأن الذي قد يكون له هو أنه يُتمُّ زعزعة المعتقدات بعد أن يكون الدهر قد أكَلَّ قواها ، وعلى ما للمنطق العقلى من شأن هو كالمعدوم في تكوين المعتقد فانه ذو شأن كبير في تأليف المعرفة ، فهو الذي أقام صرح العلوم واليه تستند الصناعات الحديثة في تقدمها.

إذاً لا يجوز لنا أن نبالغ في بيان قدرته ، ولكن يجب أن نعلم الحدود التي لم يتجاوزها بعد ، فهو ليس ذا سلطان على حوادث الحيـاة والخواطر ، ولم يضىء من هذه الحوادث ذات الجرى والانصباب سوى شيء قليل مشكوك فيه ، وقد انحصرت دائرة عمله في المادة التي استقرت موقتا بفعل الموت أو الوقت . ولما رأى العلماء أنهُ لا شريك للعلم في سيطرته على دائرة المعرفة ظنوا منذ أمد بعيد أن المنطق العقلي الذي هو مصدر العلم ينفع لايضاح تكوين المعتقدات وتطورها، وقد استمر علم النفس على هذا الضلال قروناً عديدة ، الا أنه الآن على وشك الخروج من ضلاله ، فقد دل الاختبار على أن الموجودات تتحرك ونسير قبل أن تعقل وتدرك ، ولذلك فهي مقودة في أعمالها بأنواع منطقية أخرى ، وكلما أ..نا في هذه الحقيقة التي أرجع اليها في الغالب لحداثة ظهورها نرى أن شأن المنطق العقلى ثانوي في حياة الأفراد والأهم .

لم يكن التعقل والإدراك أمرين ضرور بين السير والحركة ، فأدنى الحشرات نسير كما يقتضى من غير أن تهتم بمنطقنا ، والعقل والادراك هما فاعلان في الموجودات مستقلان عن فاعل السير ، وكثيراً ما يزجران هذا الفاعل عن العمل بدلالتهما على أخطاره .

و بفضل ما في الناس من اندفاعات عاطفية ودينية يسيرون غير مطلعين على كيفية تكوين أعمالهم ، ومن العبث أن نؤثر فيهم بقوة الدليل العقلى ، إذ إنهم لما فيهم من إدراك قليل يسخرون من كل من ليس على طريقهم ، وما مثل الذي يحاول أن يدخل الى قلوبهم شيئا من الأفكار العقلية الاكمثل الطفل الذي يسعى في إدخال عضو كبير في قمع الخياط ، فعلى من يود أن يلزم الأفراد والشعوب بعض الحقائق العقلية أن يزن قبل ذلك كفاءتهم الدماغية .

وشأن المنطق العقلى في سياسة الشعوب ضئيل جداً ، ولا يتجلى هذا الشأن الا في الخطب ، فالمشاعر لا العقل هي التي تسير الأمم وتقيمها وتقعدها ، وسوف نرى في باب آخر أن المنطق العاطفي هو الذي يخرج على الدوام ظافراً في الصراع بينـه مسحة و بين المنطق العقلى . قال ريبو : «القول إن الفكر المجرد الجاف الساري من عاطفة كالقضية الهندسية ذو تأثير في سير الناس هو زعم نفسي عقيم باطل . » فالوقت الذي تستولى فيه براهين الفلسفة على العالم لا يزال بعيدا، وانما المعتقدات التي يستخف بها المنطق العقلى هي التي قلبت العالم مرات كثيرة دون أن يقدر هذا المنطلق على مقاومتها

( ٥ ) — الآراء

٣ – ظهور المنطق العقلى متأخراً بفعل الانسان عند الطبيعة .

أشرت سابقا الى أن المنطق العقلي هو آخر أنواع المنطق ظهوراً وأن هذه الأنواع كفت لقيادة الموجودات والأجيال الجيولوجية حتى الوقت الحاضر على وجه التقريب ·

ليس المنطق العقلى من عمل الطبيعة بل من عمل الانسان ضد الطبيعة ، فلايجاد الانسان ذكاءه وعقله في شخصه قد أخذ بالتدريج يعانى قوى السكون أقل من ذي قبل ويستعيد هذه القوى كل يوم ، ومن كان في ريب من كون الانسان لا الطبيعة موجد المنطق العقلي فليلاحظ أن ما يبذله من مجهود فلمقاتلة حوادث الطبيعة على الخصوص .

والطبيعة لا تبالى بمصير الفرد أبداً ، وانما تعتني ببقاء النوع ، فجميع الموجودات أشد المكروبات إيذاء هو كالعناية من همة في المحافظة على عندها سواء ، وما تبذله التي تبذلها للمحافظة على أكثر الناس عبقرية ، فبالمنطق العقلي الذي اكتسبناه استطعنا أن نكافح سنن الكون الجائرة وكثيراً ما تم لنا النصر في هذا الكفاح ، وقد انحصرت معاناتنا لتلك السنن في الأمور التي توقفت معرفتنا عند حدها ، فاليوم الذي نكتته فيه منطق الحياة والمنطق العاطفي اليوم الذي نتغلب فيه على هذين المنطقين ، وحينئذ يملك الانسان ما يعزوه الى آلهته القديمة .من قدرة وسلطان .

والعلم لا يزال بعيداً من تحقيق تلك الأمنية ، فمع دنوه كل يوم من قدرة الطبيعة على معاناة هذه القدرة بلاءمتها ، ولربما كانت هذه القدرة الكبيرة أعظم مما يظنه العلم ، فنحن نخضع لحكم الطبيعة ، ولكن ألا تخضع الطبيعة نفسها لوجوب ينظم القدر وتذعن له الآلهة ؟ لم تكن الفلسفة من الرقي بحيث تجيب عن هذا السؤال .