الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: ميزان العلل


الفصل الثالث

ميزان العلل

١ – الميزان النفسي - السير والحركة

ان ما بين أنواع المنطق المختلفة من اندفاعات متناقضة يجعلنا في الغالب نتردد في الطريقة التي يجب أن تتبعها ، وبما أن الحياة تقتضى السير فعلينا أن نختار أحد السبل ولكن كيف تختار ؟ يتجلى لنا أمر هذا الاختيار بالمثال الآتي :

لنضع أشياء في كفتي ميزان ، فإذا كان ما وضع في كل من الكفتين متساويا فان عقرب الميزان يبقى عموديا مذبذبا ، والا فانه يميل الى احدى الجهتين ، وعدا الموازين المادية يوجد موازين نفسية مماثلة لها ، فعال السير هي عيارات هذه الموازين النفسية ، وأما عقربها فهو العمل الذي ينشأ عن وجود الكفة في إحدى أحوالها .

وقد يكون العقل أحيانا علة السير ، ولكنه ينضم في الغالب الى المال العقلية الشاعرة علل لا شاعرة تنقل وطأتها على إحدى الكفتين ، أي ان العال جميعها تتقاتل والغلبة في العراك تكون لأقواها ، فمتى تكون العلل المتقاتلة ذات قوى متكافئة فان الكنتين تهتزان وقتًا طويلا قبل أن تميل أحداهما إلى جنية وهنالك التردد والتذبذب في الأخلاق ، وعند ما تكون العلل المعتركة متفاوتة في قوتها فان احدى الكنتين تميل لتستقر وهنالك يبت الإنسان في سيره وحركته .

٣ – شأن الارادة في ميزان الملل

تقدر في الغالب على التصرف في عيارات الميزان النفسي بأن يزيدها أو نقلها فلا ريب في أن الأبطال ذوى الجرأة والأقدام الذين قطعوا جبال الألب وعبروا بحر المانش طائرين أول مرة في الهواء حذفوا من كفتى الميزان بعض المال العقلية التي قد تثبط عزائمهم في أمور خطرة كهذه لم يجرؤ أحد قبلهم على اقتحامها ا ذلك فان الارادة لا تكلف نفسها على الدوام أمر وضع العيارات في ميزان المال إذ ان عناصر الحياة العاطفية أو الدينية تقوم بهذا الأمر من تلقاء نفسها ، وذلك مثل ما يقع في أثناء بعض الحوادث الفجائية كقذف الرجل نفسه إلى الماء أيام الشتاء كى ينقذ شخصا مجهولاً ، فلو كان للتأمل عمل في الأمر لوازن بينه وبين عناصر العاطفة وغير ميل عقرب الميزان ، ومن يتضح لنا السبب في كون حوادث البطولة العظيمة الغريزية كثيرة مع أن حوادث البطولة الصغيرة اليومية المستمرة قليلة العدد كأن يحرم الإنسان نفسه ملاذ الحياة في سبيل قريبه المريض العاجز .

وعلى ما تقدم فان الارادة الشاعرة قد تؤثر في ميزان العلل ، ولكن إذا كانت هذه الارادة غير شعورية - كما في أمر المعتقد - فان عملها يكون لاغيًا ، حينئذٍ يجرى المنطق الديني حكمه مستقلاً عنا ، وعند الحاجة على رغم أنفنا او ضدنا .

وأما إزاء المنطق العاطفي وحده فقوتنا أكثر مقاومة ما هي إزاء المنطق الديني ، لأن المشاعر إذا لم تكن غاية في الشدة فان العقل يقدر على التصرف في بعض العيارات اى العلل ، ولا تأسف كثيراً على ضعفنا أمام الدفاعات المنطق العاطفي ، لان هذه الاندفاعات وإن كانت في الغالب ذات نتائج مضرة إلا أنها قد تأتى إحيانا بأعمال مفيدة للبشر . ومتى يعلى الانسان أن يوفق بين الدفاعاته العاطفية والدينية و بين مبتكرات المقل فان نطاق الممكنات يتسع في نظره .

وفي توازن العلل حيث تتكون الآراء والمعتقدات كثير من العلل والعوامل التي لا تأثير لنا فيها ، ولو استمر عدم تأثيرنا لقلنا كما قال كثير من المذاهب الفلسفية إن القدر هو الذي يسيرنا ، وانقدر بالحقيقة قد استولى على تاريخ البشر زمنًا طويلاً ، لان الناس لا ظلوا عاجزين دوراً مديداً عن قيادة أنفسهم خضعوا لسنن ما اختلف من انواع المنطلق التي لا صلة بينها وبين العقل خضوعا مقدراً .

٣ – كيف يؤثر المنطق العقلي في ميزان العلل .

لقد ظهرت بظهور المنطق العقلي البطي، قوة جديدة في العالم ، و بهذه القوة يؤثر الانسان في الغالب في كفتي ميزان العلل ، وقد بينا عند ما بحثنا في كتاب آخر عن انحلال المقادير كيف يصير المنطق العقلى عاملاً كبيراً في هذا الانحلال فيفضل ما في المنطق المذكور من قدرة يستطيع الانسان أن يؤثر في مجرى الامور ، وهو لمدوله بالتدريج عن الانقياد للمؤثرات اللاشعورية التي كانت تقوده فيها مضى قد أخذ يتعلم عليها ويقبض على زمامها .

وإذا كان المنطق العقلى - والارادة تدعمه - لا يزال عاجزاً عن تقرير المصير أعمالنا فذلك لأننا نجهل حتى الآن أكثر علل الحوادث ولأن كثيراً من أعمالنا ذو نتائج لا تتحقق الا في مستقبل مفعم بالطواريء ، فهذه الطواريء ذات أخطار ، وبها ينضم الى ميزان العلل عيارات ذات قيم مجهولة .

نستدل على ذلك بكون دهاة البشر الحقيقين -القابضين على مصير الأمم والذين لا يظهر منهم في كل عصر سوى عدد قليل- مع علمهم في الغالب كيف يجعلون الكفة راجحة فأنهم يخاطرون بالامور كثيراً ، وهذه المخاطرة تتجلى لنا على شكل واضح النظر الى ( بسمارك ) الذي استشهدنا به مرات عديدة نظراً لنفسيته التي يفيد درسها ، فقد كان المسير لهذا السياسي المحنك هو المبدأ القائل بالوحدة الالمانية ، ولكن ما أكثر المهالك التي تعرض لها والأحوال التي عاكسته والموانع التي عاناها في سبيل ذلك ، كان عليه في أول الأمر أن يقضى على النمسا الحربية ذات النفوذ الذي اتفق لها بفعل ماضيها المجيد ، وما ناله سنة ١٨٦٦ من نصر في معركة ( صادوا ) فبعناء ولعجز متناه في قائد العدو ، ثم كان عليه بعد ذلك أن يحارب نابليون الثالث الذي كان الناس يعدون جيوشه لا تُغلب ، نعم يقدر الرجل العظيم على الاستعداد لجميع تلك الامور ولكن من غير أن يضمن النجاح ، وبالخلق المقدام والذكاء الواسع الخارق وحدها تُقْتَحم مثل تلك المخاطر .

والمنطق العاطفي على الخصوص هو الذي يقذف بالانسان الى المخاطرة ، وهو الدعامة الأولى التي يستند اليها في القيام بمشروع يسوق اليه المنطق العقلى أيضاً ، نعم كان يوجد في اجتياز جبال الألب وعبور بحر المانش بواسطة الطيارة خطر عظيم ، ولكن المنطق العقلى قد دَعَمَ إرادةً مشبعة من حب ومن الميل الى اقتحام المصاعب وغيره من العناصر ذات المصدر العاطفى فوقع ذلك الاجتياز والعبور ، فالسبب في عظمة رجال التاريخ وأفاضل العلماء وأكابر المفكرين ومشاهير الربابنة هو كونهم علموا كيف ينتفعون بجميع أنواع المنطق المسيطرة على الانسان ويتصرفون في ميزان العال الذي يتقرر فيه أمر المستقبل .

ولا تتقدم الحضارات بالجموع التي هي لُعَبٌ تُسيرها الغرائز بل بصفوة الرجال التي تفكر لأجل الجموع وتقودها ، ولم يفعل الساسة بمحاولتهم تسخير المنطق العقلى لمنطق الجموع كى يبرر اندفاعاته سوى إحداث فوضى عميقة.

تلخص هذا الفصل والفصول التي تقدمته بالكلمات الآتية وهي : إن حوادث التاريخ تنشأ عن توازن أنواع المنطق المختلفة وتصادمها ، ولكل من هذه الأنواع في ميزان العلل الذي توزن فيه مقاديرنا شأنه الخاص ، فأذا هیمن أحدهم على الآخر فان مصير الناس يتبدل .

والمنطق العاطفي يجعل الانسان يسير غير متأمل وراء اندفاعات مشؤومة ، والمنطق الديني يولد الأديان التي تلجىء الانسان الى الاهتمام بنجاته الأبدية، ومنطق الجماعات يوجب جلوس طبقات الشعب الدنيـا على منصة الحكم ويرجع بهذا الشعب الى الهمجية ، والمنطق العقلى يلقى الشكوك والريب في قلب الأنسان ويدفعه إلى البطالة .