الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثاني: العراك بين أنواع المنطق في حياة الأمم


الفصل الثاني

العراك بين أنواع المنطق في حياة الأمم

١ – نتائج كسر الزواجر الرادعة المشاعر في الحياة الاجتماعية

إن وجوب زجر المشاعر التي تضر المجتمع بمشاعر أخرى ثبت أمرها بالتربية وعلم الأخلاق والقوانين هو مبدأ الحياة العامة الأساسي كما ذكرنا ، ولا تتحرر المشاعر التي عانت البيئة الاجتماعية في ردعها ما عانته من المصاعب من غير أن ينشأ عن ذلك فوضى ، ومن العلائم الأولى لهذه الفوضى هي كثرة اقتراف الجرائم كما نشاهده الآن في فرنسا ، والذي يساعد على زيادة اقتراف الجرائم على الخصوص هو انتشار مذهب الإنسانية الذي يشل حركة إنزال العقاب ويسير بالناس الى كسر جميع الروادع .

و يقاسي نظامنا الديموقراطي الحاضر بالتدريج نتائج إبطال تلك الروادع التي هي وحدها تقاوم ما فينا من مشاعر منافية للاجتماع ، فالحقد على الافضليات والحسد اللذان هما أشد ما أصيب به ذلك النظام من آفات بشتقان من هذه المشاعر المضرة الخطرة التي لا تموت في الانسان أبدأ وإن ظهورها في مجتمعات الماضي ذات المراتب المتسلسلة .

والمشاعر المذكورة التي أخذت تنتشر في الوقت الحاضر بتحريض بعض الساسة الطامعين في نيل حظوة عند الجمهور وخريجي الجامعات الساخطين على نصيبهم تجرى حكمها المحرب ذا الجبروت اجراء مستمراً ، فلولا انحلال الزواجر التي رسخت بالوراثة لما حدثت أمور كتمرد موظفى البريد والمعدنين والفتنة التي وقعت في كثير من مدن احدى المديريات الكبيرة ، ومن العوامل التي جعلت هذا الانحلال الاجتماعي أمراً ممكنا هي هبات ولاة الأمور الذين أورثهم الخوف ضعفا في قلوبهم ، و بالتدريج نشأ عن عجز القوانين المبدأ القائل إن الوعيد والايقاع ها اصدق الوسائل لخرق حرمة القوانين ذات الكرامة الحصينة في الماضي .

والذي جعل ولاة الامور يمنحون تلك الهبات الدالة على نذالة فيهم هو إنكارهم

بضعة مبادىء نفسية يجب على جميع أولى الحل والعقد أن يعلموها كما علمها اولو الامر المتقدمون ، ومن بين هذه المبادىء نذكر واحداً أساسيا وهو : إن المجتمع يعيش بالمحافظة على الاعتقاد الموروث الذي يأمر باحترام القوانين القائم عليها بناء ذلك المجتمع احترامًا دينيًا .

وما في القوانين من قدرة تجعل الناس يحترمونها فأدبي معنوي ، إذ ليس في العالم قوة مادية قادرة على إلزام الناس احترام قانون يهتكون جميعهم ستره .

وإذا أراد شيطان شرير أن يقضى على مجتمع في بضعة أيام فما عليه إلا أن يغرَّ أفراده كي تمتنعوا عن إطاعة القوانين،حينئذ تكون البلية أعظم من غزو العدو واستيلائه، لأن الفاتح يكتفى على العموم بتبديل اسماء القابضين على زمام الأمور ، ومن مصلحته أن يحافظ باعتناء على العوامل الاجتماعية التي لها من تأثير شاف ما ليس للجيوش الجرارة ،

والسعي في تقويض معتقد الأمة في سبيل المحافظة على نفوذ القوانين هوا لثورة أدبية أشد خطراً من أية ثورة مادية ، فالمباني التي تخربها الثورة المادية إن أمكن تجديدها بسرعة فان تجديد روح الأمة يتطلب في الغالب قرونا طويلة ، وقد عانينا مثل ذلك الانحلال النفسي الأدبي في أجيال كثيرة من تاريخنا ، واليك ما جاء في كتاب ( هانوتو ) الذي بحث فيه عن ( جان دارك ) مشيراً الى الأمر المذكور :

« متى تزول سلسلة المراتب في الأمة ومتى تخسر القيادة نفوذها ومتى يتداعى حصن الحرمة ومتى ينقضَ البناء الاجتماعي ينفسح المجال لأعمال الفرد فكلٌ يسعى وقتئذ في إنماء عمله حسب نواميس الطبيعة على أنقاض الانظمة المنهدمة ذات الرطوبة».

وما علم أنصار البدع – الذين يحاربون التقاليد باسم التجدد والذين يحلمون بأن يقوضوا دعائم المجتمع ليقضوا على ما فيه من مال ونشب كما حلم ( آتيلا ) بأن ينهب روما - أن حياتهم عبارة عن نسيج حاكته الوراثة وأن لا بقاء بغيره ، ولا نجهل ماذا تؤدى اليه تجاربهم من تخريب ، إلا أنه يقتضى مكابدتها مرة أخرى ، لأن التجارب المكررة وحدها هي التي تثقف الناس ، وما الحقائق المبثوثة في الكتب سوى كلمات فارغة لا تنفذ روح الشعب الا إذا دعمتها النيران وقصف المدافع .

٢ – المبادىء الدينية والمبادىء العاطفية في حياة الأمم.

إن تأثير المنطق العقلي العظيم في تقدم العلوم وفي تطور حياة الأفراد أحيانًا هو ضعيف الى الغاية في حياة الأمم، ولكن لو نظرنا إلى ظواهر الأمور دون أن نكتشف عالمها الخفية والقينا السمع إلى ما في كتب التاريخ من قصص لرأينا خلاف ذلك ، ألم ياتجيىء المؤرخون في شروحهم إلى العقل ؟ أولا نشاهد أن الناس مجمعون تقريبا على أن سبب الثورة الفرنسوية هو ما جاء في كتب فلاسفة القرن الثامن عشر من المباحث وأن غاية تلك الثورة هي نصر مبادىء العقل ؟

لم يستشهد بالعقل كما استُشهد به في أثناء الثورة المذكورة حتى ان الناس أقاموا له تمثالاً في أيامها ، والواقع لم يكن ذا تأثير ضئيل مثله في ذلك الدور ، ستبدو لنا هذه الحقيقة عندما نتخلص من نير أفكارنا المنتقلة لنا عن الآباء فتقدر على تدوين كتاب يبحث عن روح الثورة الفرنسوية.

والمسير لتلك الثورة في جميع أطوارها حتى في بداءتها هو مبدأ عاطفي ، فالذي دفع أبناء الطبقات الوسطى – الذين هم أول من أثارها – الى إيقادها هو الشديد الذي كان يغلى في صدورهم ضد طبقة اعتقدوا أنهم مساوون لأبنائها ، لا شك في أن الشعب لم يطمع أول وهلة في بعض المناصب العالية التي كان لا أمل له في نيلها ، وعلى رغم هذا فقد استقبل نشوب الثورة الفرنسوية بحماسة ذلك لأن تحطيم الروادع الاجتماعية والوعود الخلابة التي وعدوه بها جعلته يرغب في المساواة بينه و بين سادته السابقين وفى ضبط أموالهم ، ولم يستهوه شيء من الشعار الثوري الذي نقش على النقود وعلى مقدم الابنية كما استهوته كلة « المساواة » التي استمر تأثيرها حتى يومنا ، فالناس لا يأخذون الآن كلة الاخاء على أفواههم نظراً لأن مبدأ تنازع الطبقات أصبح شعار الوقت الحاضر ، وأما مبدأ الحرية فان الجموع لم تفقه معناه في أي زمن وقد أنكرته على الدوام .

و إذا كانت الثورات تخلب الشعوب فذلك لأن المشاعر تتحرر بها من ربقة الزواجر التي أوجبتها مقتضيات الاجتماع ، وقد بينت في فصل سابق تأثير الزواجر المذكورة في المشاعر . فهذه الزواجر تكون ضرورية لشعوب المتقلبة ذات الاندفاعات الشديدة ، وعندما لا تسِكُن التربية والتقاليد والقوانين هذه الاندفاعات فإن الشعب الذي هي فيه لا يصبح فريسة لزعماء الفتن وحدهم بل يكون معرضًا لغزو الشعوب المعادية التي تعلم كيف تستغل قوة الحس والانفعال فيـه ، ويثبت ذلك ما ورد في التاريخ من الأمثلة العديدة التي نعدمنها حرب سنة ١٨٧٠ ، كان امبراطور فرنسا المريض وملك بروسيا الطاعن في السن يريدان اجتناب الحرب مهما يكلفهما ذلك ، ملك بروسيا شهرها عدل عن ترشيح قريبه لعرش اسبانيا ، ولكنه كان واکی يوجد خلف هذين الرجلين المترددين صاحبي الارادة الضعيفة رجل ذو دماغ قدير وعزم كبير قابض على زمام المصير ، فقد استطاع هذا الرجل الحازم بحذفه بضع كلمات من إحدى البرقيات أن يثير غضب أمة شديدة الحس ويكرهها وهي غير مستعدة على شهر الحرب على أعداء اخذو للحرب أهبتها منذ زمن بعيد ، ثم شرع بعدئذ يلعب في مشاعر كل أمة حتى توصل الى جعلها جميعها محايدة ، ومن هذه الأمم الانكليز الذين أعمتهم مشاعرهم بعد أن أثر فيها ذلك الرجل النفسي المحنك فامتنعوا عن الاشتراك في وضع لائحة تكون أساسا لمؤتمر غير مدركين ماذا يكلفهم في المستقبل تكوين دولة حربية عظيمة ، وعليه فان من يعرف كيف يتصرف بمشاعر الناس لا يلبث أن يصبح سيدهم .

٣ – التوازن وعدمه بين أنواع المنطلق في حياة الأمم .

تبين لنا من الايضاحات السابقة أن اندفاعات الفرد الصادرة عن أنواع مختلفة للمنطق تكون في حال الاعتدال متوازنة ، والأمر كذلك في حياة الأمم ، ومتى يطرأ شيء على ذلك التوازن بفعل بعض المؤثرات تقع اضطرابات عميقة فتقرب الأمة من القيام بثورة ، فالثورة في الغالب عبارة عن داء نفسى مصدره عدم التوازن بين الاندفاعات الناشئة عن أنواع المنطق المختلفة التي يصبح أحدها متغلبًا .

وغلبة المنطق الديني على الخصوص هي التي تؤدي إلى حدوث انقلابات عظيمة في حياة البشر ونورد الحروب الصليبية والحروب الدينية والثورة الفرنسوية أمثلة على ذلك ، فمثل هذه الحوادث عنوان لأزمات تقع في خلق التدين المتين الذي لا تستطيع الأفراد والشعوب أن تتخلص من حكمه .

وتنشأ تقلبات التاريخ عما بين أنواع المنطق المختلفة من تصادم ، فمتى يتغلب المنطق الديني فانه يعقب ذلك حروب دينية وما تؤدى اليـه من قسوة متجبرة ، ومتى تهم الغلبة للمنطق العاطفي فاننا نشاهـد حسب الأحوال إما تأهبا للحرب وإمَّا بالعكس انتشاراً للمذهب الانساني أو مبداء السلم الذين لا يكونان أقل سفكا للدماء من حيث النتيجة ، ومتى يزعم المنطق العقلى أنه تدخل في حياة أمة فلا ينشأ ذلك انقلابات اخف من تلك ، إذ لا يكون العقل وقتشذ سوى لباس يستر تحته اندفاعات عاطفية أو دينية .

وظلت الجموع وزعماؤها كما أوضحت مشبعة مثل الأجداد من خلق التدين ، فقد ورث بعض الالفاظ والصيغ المؤثرة في الجماعات ما للآلهة القديمة التي عبدها الآباء من قدرة سحرية ، وهكذا بقى الأمل الوهمي في الجنَّات التي تخلب الألباب حيًا .

أساس خلق التدين ثابت ، ولكن أشكاله هي التي تتغير ، والمظهر العقلي الحاضر الشكل الأخير لذلك الخلق ، فباسم العقل النظرى بود رسل المعتقدات الحديثة تجديد المجتمعات والبشر ، و يسهل ايضاح ما يُسند الآن الى العقل من قوة قادرة على تحويل المجتمع ، فلما كانت مبتكرات العلوم التي هو سببها عظيمة الى الغاية فقد أصبح من الطبيعي ان يعد قادراً على تغيير المجتمعات ونشر السعادة بإساليبه المعهودة .

غير أن تقدم عـلم النفس أوجب اطلاعنا على أن المجتمعات لا تتطور بتأثير العقل بل بتأثير الدفاعات العاطفة وخلق التدين التي لا سلطان للعقل عليها ، وما على قادة الشعوب الآن أن يأتوا به من مجهود صعب فهو أن يؤلفوا بين اندفاعات أنواع المنطق التي تسيرهم وبين اندفاعات المنطق العقلي التي ترغب في أن تسيطر عليهم سيطرة تامة ، وقد أخذت انكلترا مع كونها مملكة التقاليد تعانى أمر ذلك العراك ، إذ صارت نظمها السياسية التي هي سر عظمتها عرضة لهجمات المبادىء العقلية التي تسعى الأحزاب المتطرفة أن تجدد بها بنيان البلاد الاجتماعي . ان التصادم بين أنواع المنطق المختلفة لا يستمر أبداً ، فقد رأينا آنفا أن هذه الأنواع تميل الى التوازن ، نعم يدوم التباين بينها ، ولكن من غير أن نشعر بذلك لأن العنصر العقلى في الغالب يخضع لحكم المؤثرات العاطفية والدينية وان لم يعترف بهزيمته ، وبهذا توضيح علة اقلاعنا عن المناقشة في عواطفنا ومعتقداتنا على الدوام .

ظهر من الملاحظات السابقة أن لكل من المبادىء الدينية والمبادىء العاطفية نواميس خاصة ، ولذلك تبقى في النفس مصدراً لسير الأفراد والشعوب ، وعلى مابين اندفاعات المرء من تناقض فانها لا تلبث أن تتوازن إذالم يعكر صفاؤها ولم يحاول أن يوفق بينها توفيقا مستحيلا ، فالحقائق العاطفية والحقائق الدينية والحقائق العقلية هي بنات مختلفة لأنواع من المنطق يتعذر اتحادها .