الأخلاق والسير في مداواة النفوس/الصفحة الثامنة


  • فصل في مداوة ذوي الأخلاق الفاسدة
  • من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه لأتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً. وأضعفهم تمييزاً. وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل ولا عيب أشد من هذين لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال وهذا أشد عيب في الأرض. وفي الناس كثير يفخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم فيعجب بتأتي هذه النحوس له وبقوته على هذه المخازي , واعلم يقيناً : أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه مختلف من الأرذال وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها وعن عيوب غيره التي لا تضره في الدنيا ولا في الآخرة , وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته , وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلاً. والواجب اجتنابه إلا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه لا خلف ظهره .
  • ثم يقول للمعجب ارجع إلى نفسك فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك , ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها فتستسهل الرذائل وتكون مقلداً لأهل الشر وقد ذم تقليد أهل الخير فكيف تقليد أهل الشر! لكن مثل بين نفسك وبين من هو أفضل منك فحينئذ يتلف عجبك وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس وفيهم بلا شك من هو خير منك . فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله تعالى يقول : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}, فتولد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك بل على الحقيقة مع مقت الله عز وجل وطمس ما فيك من فضيلة .

فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة , سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ.

وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك وأصاب غيرك وأخطأت أنت , فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابه فتخرج لا لك ولا عليك والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم .

وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك وفي تقصيرك وفي معاشك ووجوهه فو الله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفي على حسناتك فليطل همك حينئذ وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك .

وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت , ولقد أخبرت عن عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً لم يعاوده ذلك الذكاء بعد. وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له فما عاودته إلا بعد أعوام .

واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً. فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه فصح أنه موهبة من الله تعالى فأي مكان للعجب ها هنا! ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها.

ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم ثم من أصناف علمك الذي تختص به. فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً فلتهن نفسك عندك حينئذ وتفكر في إخلالك بعلمك وأنك لا تعمل بما علمت منه فلعلمك عليك حجة حينئذ ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً. واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر فليسقط عجبك بالكلية.

ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة فتهون نفسك عليك .

وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك. ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك , ثم تفكر في زوالها عنك , بالشيخوخة وأنك إن عشت فستصير من عدد العيال وكالصبي ضعفاً. على أني ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة فاستدللت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها .

وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك ولعلهم أخساء وضعفاء سقاط ، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يستحيا من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وأخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شاركك فيها من ذكرتُ لك .

وإن كنت مالك الأرض كلها ولا مخالف عليك -وهذا بعيد جداً في الإمكان فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كله على قلته وضيق ساحته , بالإضافة إلى غامرها فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط؛ فتفكر فيما قال ابن السماك للرشيد وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه فقال له : يا أمير المؤمنين فلو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها ؟ , فقال له الرشيد : بملكي كله . قال: يا أمير المؤمنين فلو منعت خروجها منك بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله. قال يا أمير المؤمنين أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء! وصدق ابن السماك رحمه الله.

وإن كنتَ مَلِكَ المسلمين كلهم فاعلم أن ملك السود - وهو رجل أسود رذل مكشوف العورة جاهل- يملك أوسع من ملكك , فإن قلت أنا أخذنه بحق فلعمري ما أخذته بحق إذا استعملت فيه رذيلة العجب وإذا لم تعدل فيه، فاستحي من حالك فهي حالة رذالة لا حالة يجب العجب فيها .

وإن أعجبت بمالك فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك فلا تغبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت , واعلم أن عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط والمال أيضاً غاد ورائح وربما زال عنك ورأيته بعينه في يد غيرك. ولعل ذلك يكون في يد عدوك فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف .

وإن أعجبت بحسنك ففكر فيما يولد عليك مما نستحي نحن من إثباته وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن وفيما ذكرنا كفاية .

وإن أعجبت بمدح إخوانك لك ففكر في ذم أعدائك إياك فحينئذ ينجلي عنك العجب. فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله .

فإن استحقرت عيوبك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس وتمثل إطلاعهم عليها فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مُسكة من تمييز , واعلم بأنك إن تعلمت كيفية تركيب الطبائع وتولد الأخلاق من امتزاج عناصرها المحمولة في النفس فستقف من ذلك وقوف يقين على أن فضائلك لا خصلة لك فيها وأنها منح من الله تعالى لو منحها غيرك لكان مثلك وأنك لو وكلت إلى نفسك لعجزت وهلكت فاجعل بدل عجبك بها شكراً لواهبك إياها وإشفاقاً من زوالها فقد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض وبالفقر وبالخوف وبالغضب بالهرم , وارحم من منع ما مُنِحتَ ولا تتعرض لزوال ما بك من النعم بالتعاصي على واهبها تعالى وبأن تجعل لنفسك فيما وهبك خصلة أو حقاً فتقدر أنك أنك استغنيت عن عصمته فتهلك عاجلاً و آجلاً .

ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربواً في الطحال شديداً فولد ذلك علي من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمراً حاسبت نفسي فيه إذ أنكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي وصح عندي أن الطحال موضع الفرح إذا فسد تولد ضده .

وإن أعجبت بنسبك فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة. أو يستر لك عورة أو ينفعك في آخرتك .

ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك وربما فيما أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الإسلام. فتأمل غبراتهم وبقاياهم , ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة وتلفهم في غاية السقوط والرذالة والتبدل والتحلي بالصفات المذمومة فلا تغتبط بمنزلة هم فيها نظراؤك أو فوقك , ثم لعل الآباء الذين تفخر بهم كانوا فساقاً وشربة خمور ولاطة ومتعبثين ونوكى أطلقت , الأيام أيديهم بالظلم والجور فأنتجوا ظلماً وآثاراً قبيحة تبقي عارهم بذلك الأيام ويعظم إثمهم والندم عليها يوم الحساب , فإن كان كذلك فاعلم أن الذي أعجبت به من ذلك داخل في العيب والخزي والعار والشنار لا في الإعجاب .

فإن أعجبت بولادة الفضلاء إياك فما أخلى يدك من فضلهم إن لم تكن أنت فاضلاً وما أقل غناهم عنك في الدنيا والآخرة إن لم تكن محسناً ! , والناس كلهم أولاد آدم الذي خلقه الله بيده وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته. ولكن ما أقل نفعه لهم وفيه كل معيب وكل فاسق وكل كافر .

وإذا فكر العاقل في أن فضل آبائه لا يقربه من ربه تعالى ولا يكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده أو بفضله في نفسه ولا مالاً فأي معنى الإعجاب بما لا منفعة فيه! وهل المعجب بذلك إلا كالمعجب بمال جاره وبجاه غيره وبفرس لغيره سبق كأن علي رأسه لجامه! وكما تقول العامة في أمثالها: {كالغبي يزهي بذكاء أبيه} .

فإن تعدى بك العجب إلى الامتداح فقد تضاعف سقوطك لأنه قد عجز عقلك عن مقاومة ما فيك من العجب هذا إن امتدحت بحق فكيف إن امتدحت بالكذب ! , وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب عم النبي أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى وممن الشرف كله في اتباعهم فما انتفعوا بذلك. وقد كان فيمن ولد لغير رشدة من كان الغاية في رياسة الدنيا كزياد وأبي مسلم ومن كان نهاية في الفضل على الحقيقة كبعض من نُجِلُّه عن ذكره في مثل هذا الفصل ممن يتقرب إلى الله تعالى بحبه والاقتداء بحميد آثاره .

وإن أعجبت بقوة جسمك فتفكر في أن البغل والحمار والثور أقوى منك وأحمل للأثقال .

وإن أعجبت بخفتك فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب فمن العجب العجيب إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير ناطق.

  • واعلم أن من قدر في نفسه عجباً أو ظن لها على سائر الناس فضلاً فلينظر إلى صبره عندما يدهمه من هم أو نكبة أو وجع أو دمل أو , مصيبة فإن رأى نفسه قليلة الصبر فليعلم أن جميع أهل البلاء من المجذومين وغيرهم الصابرين أفضل منه على تأخر طبقتهم في التمييز.

وإن رأى نفسه صابرة فليعلم أنه لم يأت بشيء يسبق فيه على ما ذكرنا بل هو إما متأخر عنهم في ذلك أو مساوٍ لهم ولا مزيد .

  • ثم لينظر إلى سيرته وعدله أو جوره فيما خوله الله من نعمة أو مال أو خول أو أتباع أو صحة أو جاه فإن وجد نفسه مقصرة فيما يلزمه من الشكر لواهبه تعالى ووجدها حائفة في العدل فليعلم أن أهل العدل والشكر والسيرة الحسنة من المخولين أكثر مما هو فيه أفضل منه , فإن رأى نفسه ملتزمة للعدل فالعادل بعيد عن العجب ألبتة لعلمه بموازين الأشياء ومقادير الأخلاق والتزامه التوسط الذي هو الاعتدال بين الطرفين المذمومين فإن أعجب فلم يعدل بل قد مال إلى جنبة الإفراط المذمومة.
  • واعلم أن التعسف وسوء الملكة لمن خولك الله تعالى أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس ودناءة الهمة وضعف العقل لأن العاقل الرفيع النفس العالي الهمة إنما يغلب أكفاءه في القوة ونظراءه في المنعة , وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة فسقوط في الطبع ورذالة في النفس والخلق وعجز ومهانة. ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ أو بقتل برغوث،أو بفرك قملة، و حسبك بهذا ضعة و خساسة.
  • واعلم أن رياضة الأنفس أصعب من رياضة الأُسْدِ لأن الأُسْد إذا سُجِنت في البيوت التي تتخذ لها الملوك أمن شرها والنفس وإن سجنت لم يؤمن شرها .
  • العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعالي وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة. ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس. فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة فمن معجب بعلمه فيكفهر ويتعالى على الناس ومن معجب بعمله فيرتفع ومن معجب برأيه فيزهو على غيره ومن معجب بنسبه فيتيه ومن معجب بجاهه وعلو حاله فيتكبر ويتنخي .
  • وأقل مراتب العجب أن تراه يتوفر عن الضحك في مواضع الضحك وعن خفة الحركات وعن الكلام إلا فيما لا بد له من أمور دنياه. وعيب هذا أقل من عيب غيره ولو فعل هذه الأفاعيل على سبيل الاقتصار على الواجبات وترك الفضول لكان ذلك فضلاً وموجباً لحمده ولكن إنما يفعل ذلك احتقاراً للناس وإعجاباً بنفسه فحصل له بذلك استحقاق الذم , و{إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى} حتى إذا زاد الأمر ولم يكن هناك تمييز يحجب عن توفية العجب حقه ولا عقل جيد حدث من ذلك ظهور الاستخفاف بالناس واحتقارهم بالكلام وفي المعاملة حتى إذا زاد ذلك وضعف التمييز والعقل ترقى ذلك إلى الاستطالة على الناس بالأذى بالأيدي والتحكم والظلم والطغيان واقتضاء الطاعة لنفسه والخضوع لها إن أمكنه ذلك، فإن لم يقدر على ذلك امتدح بلسانه واقتصر على ذم الناس و الاستهزاء بهم .
  • وقد يكون العجب لغير معنى ولغير فضيلة في المعجب وهذا من عجيب ما يقع في هذا الباب وهو شيء يسميه عامتنا "التمترك" وكثيراً ما نراه في النساء وفيمن عقله قريب من عقولهن من الرجال , وهو عجب من ليس فيه خصلة أصلاً لا علم ولا شجاعة ولا علو حال ولا نسب رفيع ولا مال يطغيه وهو يعلم مع ذلك أنه صفر من ذلك كله لأن هذه الأمور لا يغلط فيها من يقذف بالحجارة وإنما يغلط فيها من له أدنى حظ منها فربما يتوهم-إن كان ضعيف العقل- أنه قد بلغ الغاية القصوى منها كمن له حظ من علم فهو يظن أنه عالم كامل أو كمن له نسب معرق في ظلمة وتجدهم لم يكونوا أيضاً رفعاء في ظلمهم فتجده لو كان ابن فرعون ذي الأوتاد ما زاد على إعجابه الذي فيه , أو له شيء من فروسية فهو يقدر أنه يهزم علياً ويأسر الزبير ويقتل خالداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُم , أو له شيء من جاه رذل فهو لا يرى الإسكندر على حال , أو يكون قوياً على أن يكسب ما يتوفر بيده مُوَيْل يفضل عن قوته فلو أخذ بقرني الشمس لم يزد على ما هو فيه , وليس يكثر العجب من هؤلاء -وإن كانوا عجبا-ً لكن ممن لا حظ له من علم أصلاً ولا نسب البتة ولا مال ولا جاه ولا نجدة، بل تراه في كفالة غيره مهتضماً لكل من له أدنى طاقة وهو يعلم أنه خالٍ من كل ذلك وأنه لا حظ له في شيء من ذلك ثم هو مع ذلك في حالة المزهو التياه .

ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو نفسه واحتقاره الناس فما وجدت عنده مزيداً على أن قال لي : أنا حر لست عبد أحد , فقلت له : أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد هم أطول منك يداً وأمرهم نافذ عليك وعلى كثير من الأحرار , فلم أجد عنده زيادة. فرجعت إلى تفتيش أحوالهم ومراعاتها ففكرت في ذلك سنين لأعلم السبب الباعث لهم على هذا العجب الذي لا سبب له فلم أزل أختبر ما تنطوي عليه نفوسهم بما يبدو من أحوالهم ومن مراميهم في كلامهم فاستقر أمرهم على أنهم يقدرون أن عندهم فضل عقل وتميز رأي أصيل لو أمكنتهم الأيام من تصريفه لوجدوا فيه متسعاً ولأداروا الممالك الرفيعة ولبان فضلهم على سائر الناس ولو ملكوا مالاً لأحسنوا تصريفه. فمن ها هنا تسرب التيه إليهم وسرى العجب فيهم .

  • وهذا مكان فيه للكلام شعب عجيب ومعارضة معترضة. وهو أنه ليس شيء من الفضائل كلما كان المرء منه أعرى قوي ظنه في أنه قد , استولى عليه واستمر يقينه في أنه قد كمل فيه إلا العقل والتمييز. حتى إنك تجد المجنون المطبق والسكران الطافح يسخران بالصحيح ؛ والجاهل الناقص يهزأ بالحكماء وأفاضل العلماء ؛ والصبيان الصغار يتهكمون بالكهول ؛ والسفهاء العيارون يستخفون بالعقلاء , المتصاونين ؛ وضعفة النساء يستنقصن عقول أكابر الرجال وآراءهم , وبالجملة فكلما نقص العقل توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلاً وأكمل تمييزاً. ولا يعرض هذا في سائر الفضائل فإن العاري منها جملة يدري أنه عارٍ منها وإنما يدخل الغلط على من له أدنى حظ منها وإن قل فإنه يتوهم حينئذ إن كان ضعيف التمييز أنه عالي الدرجة فيه , ودواء من ذكرنا الفقر والخمول فلا دواء لهم أنجع منه وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جداً فلا تجدهم إلا عيابين للناس وقاعين في الأعراض مستهزئين بالجميع مجانبين للحقائق مكبين على الفضول. وربما كانوا مع ذلك متعرضين للمشاتمة والمهارشة وربما قصدوا الملاطمة والمضاربة عند أدنى سبب يعرض لهم .
  • وقد يكون العجب كميناً في المرء حتى إذا حصل على أدنى مال أو جاه ظهر ذلك عليه وعجز عقله عن قمعه وستره .
  • ومن طريف ما رأيت في بعض أهل الضعف أن منهم من يغلبه ما يضمر من محبة ولده الصغير وامرأته حتى يصفها بالعقل في المحافل وحتى إنه يقول: هي أعقل مني وأنا أتبرك بوصيتها. وأما مدحه إياها بالجمال والحسن والعافية فكثير في أهل الضعف جداً حتى كأنه لو كان خاطبها ما زاد على ما يقول في ترغيب السامع في وصفها ولا يكون هذا إلا في ضعيف العقل عارٍ من العجب بنفسه .
  • إياك والامتداح فإن كل من يسمعك لا يصدقك وإن كنت صادقاً بل يجعل ما سمع منك من ذلك في أول معايبك , وإياك ومدح أحد في وجهه فإنه فعل أهل الملق وضعة النفوس , وإياك وذم أحد لا بحضرته ولا في مغيبه فلك في إصلاح نفسك شغل .
  • وإياك والتفاقر فإنك لا تحصل من ذلك إلا على تكذيبك أو احتقار من يسمعك ولا منفعة لك في ذلك أصلاً إلا كفر نعمة ربك تعالى أو شكواه إلى من لا يرحمك , وإياك ووصف نفسك باليسار فإنك لا تزيد على إطماع السامع فيما عندك ولا تزد على شكر الله تعالى وذكر فقرك إليه وغناك عمن دونه فإن هذا يكسبك الجلالة والراحة من الطمع فيما عندك , العاقل هو من لا يفارق ما أوجبه تمييزه , من سبب للناس الطمع فيما عنده لم يحصل إلا على أن يبذله لهم ولا غاية لهذا أو يمنعهم فيلؤم ويعادونه فإذا أردت أن تعطي أحداً شيئاً فليكن ذلك منك قبل أن يسألك فهو أكرم وأنزه وأوجب للحمد .
  • من بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنساناً يغرب في علم ما: هذا شيء بارد لم يتقدم إليه ولا قاله قبله أحد. فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال: هذا بارد وقد قيل قبله. وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم يصدون الناس عنها ليكثر نظراؤهم من الجهال .
  • إن الحكيم لا تنفعه حكمته عند الخبيث الطبع بل يظنه خبيثاً مثله وقد شاهدت أقواماً ذوي طبائع رديئة وقد تصور في أنفسهم الخبيثة أن الناس كلهم على مثل طبائعهم لا يصدقون أصلاً بأن أحداً هو سالم من رذائلهم بوجه من الوجوه وهذا أسوء ما يكون من فساد الطبع , والبعد عن الفضل والخير. ومن كانت هذه صفته لا ترجى له معافاة أبداً وبالله تعالى التوفيق .
  • العدل حصن يلجأ إليه كل خائف وذلك أنك ترى الظالم وغير الظالم إذا رأى من يريد ظلمه دعا إلى العدل وأنكر الظلم حينئذ وذمه ولا ترى أحداً يذم العدل. فمن كان العدل في طبعه فهو ساكن في ذلك الحصن الحصين .
  • الاستهانة نوع من أنواع الخيانة إذ قد يخونك من لا يستهين بك ومن استهان بك فقد خانك الانصاف فكل مستهين خائن وليس كل خائن مستهيناً.
  • الاستهانة بالمتاع دليل على الاستهانة برب المتاع .
  • حالتان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما : وهما المعاتبة والاعتذار فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي وذكر الإحسان وذلك غاية القبح في ما عدا هاتين الحالتين .
  • لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل .
  • الخيانة في الحرم أشد من الخيانة في الدماء .
  • العرض أعز على الكريم من المال. ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله ويصون نفسه بجسمه ويصون عرضه بنفسه ويصون دينه بعرضه ولا يصون بدينه شيئاً أصلاً .
  • الخيانة في الأعراض أشد من الخيانة في الأموال وبرهان ذلك أنه لا يكاد يوجد من لا يخون في العرض وإن قل ذلك منه وكان من أهل الفضل وأما الخيانة في الأموال- وإن قلت أو كثرت , فلا تكون إلا من رذل بعيد عن الفضل .
  • القياس في أحوال الناس قد يكذب في أكثر الأمور ويبطل في الأغلب واستعمال ما هذه صفته في الدين لا يجوز .
  • المقلد راض أن يغبن عقله ولعله مع ذلك يستعظم أن يغبن في ماله فيخطيء في الوجهين معاً .
  • لا يكره الغبن في ماله ويستعظمه إلا لئيم الطبع دقيق الهمة مهين النفس .
  • من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما أمره الله والرسول فإنه يحتوي على جميع الفضائل .
  • رب مخوف كان التحرز منه سبب وقوعه. ورب سر كانت المبالغة في طيه سبب انتشاره. ورب إعراض أبلغ في الاسترابة من إدامة النظر. وأصل ذلك كله الإفراط الخارج عن حد الاعتدال .
  • الفضيلة وسيطة بين الإفراط والتفريط فكلا الطرفين مذموم والفضيلة بينهما محمودة حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه .
  • الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع .
  • من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة والرذائل مستقبحة ومستخفة .
  • من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإنه يلوح له وجه تعسفه .
  • حد الحزم معرفة الصديق من العدو وغاية الخرق والضعف جهل العدو من الصديق .
  • لا تسلم عدوك لظلم ولا تظلمه وساو في ذلك بينه وبين الصديق وتحفظ منه وإياك وتقريبه وإعلاء قدره فإن هذا من فعل النوكى. من ساوى بين عدوه وصديقه في التقريب والرفعة فلم يزد على أن زهد الناس في مودته وسهل عليهم عداوته ولم يزد على استخفاف عدوه له وتمكنه من مقاتله وإفساد صديقه على نفسه وإلحاقه بجملة أعدائه , غاية الخير أن يسلم عدوك من ظلمك ومن تركك إياه للظلم وأما تقريبه فمن شيم النوكى الذين قد قرب منهم التلف , وغاية الشر أن لايسلم صديقك من ظلمك وأما إبعاده فمن فعل من لا عقل له ومن كتب عليه الشقاء , ليس الحلم تقريب الأعداء ولكنه مسالمتهم مع التحفظ منهم .
  • كم رأينا من فاخر بما عنده من المتاع فكان ذلك سبباً لهلاكه فإياك وهذا الباب الذي هو ضر محض لا منفعة فيه أصلاً .
  • كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه ولم نر قط أحداً ولا بلغنا أنه أهلكه سكوته فلا تتكلم إلا بما يقربك من خالقك فإن خفت ظالماً فاسكت.

قلما رأيت أمراً أمكن فضُيِّع إلا وفات فلم يمكن بعد .

  • محن الإنسان في دهره كثيرة وأعظمها محنته بأهل نوعه من الإنس , داء الإنسان بالناس أعظم من دائه بالسباع الكلبة والأفاعي الضارية لأن التحفظ من كل ما ذكرنا ممكن ولا يمكن التحفظ من الإنس أصلاً .
  • الغالب على الناس النفاق ومن العجب أنه لا يجوز مع ذلك عندهم إلا من نافقهم .
  • لو قال قائل : إن في الطبائع كُرِّيَّة لأن أطراف الأضداد تلتقي لم يبعد من الصدق. وقد نجد نتائج الأضداد تتساوى: فنجد المرء يبكي من الفرح ومن الحزن ونجد فرط المودة يلتقي مع فرط البغضة في تتبع العثرات. وقد يكون ذلك سبباً للقطيعة عند عدم الصبر والإنصاف .
  • كل من غلبت عليه طبيعة ما فإنه وإن بلغ الغاية من الحزم والحذر مصروع إذا كويد من قبلها .
  • كثرة الريب تعلم صاحبها الكذب لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب فيضرى عليه ويستسهله .
  • أعدل الشهود على المطبوع على الصدق وجهُه لظهور الاسترابة عليه إن وقع في كذبة أو هم بها. وأعدل الشهود على الكذاب لسانه لاضطرابه ونقض بعض كلامه بعضاً .
  • المصيبة في الصديق الناكث أعظم من المصيبة به .
  • أشد الناس استعظاماً للعيوب بلسانه هو أشدهم استسهالاً لها بفعله ويتبين ذلك في مسافهات أهل البذاء ومشاتمات الأرذال البالغين غاية الرذالة من الصناعات الخسيسة من الرجال والنساء كأهل التعيش بالزمر وكنس الحشوش والخادمين في المجازر وكساكني دور الجمل المباحة لكراء الجماعات والساسة للدواب؛ فإن كل من ذكرنا أشد الخلق رمياً من بعضهم بالقبائح وأكثرهم عيباً بالفضائح وهم أوغل الناس فيها وأشهرهم بها.
  • اللقاء يذهب بالسخائم فكأن نظر العين للعين يصلح القلوب فلا يسؤك التقاء صديقك بعدوك فإن ذلك يفتر أمره عنده.
  • أشد الأشياء على الناس الخوف والهم والمرض والفقر وأشدها كلها إيلاماً للنفس الهم، للفقد من المحبوب وتوقع المكروه ثم المرض ثم الخوف ثم الفقر. ودليل ذلك أن الفقر يستعجل ليطرد به الخوف فيبذل المرء ماله كله ليأمن والخوف والفقر يستعجلان ليطرد بهما ألم المرض فيغرر الإنسان في طلب الصحة ويبذل ماله فيها إذا أشفق من الموت ويود عند تيقنه به لو بذل ماله كله ويسلم ويفيق.

والخوف يستسهل ليطرد به الهم فيغرر المرء بنفسه ليطرد عنها الهم , وأشد الأمراض كلها ألماً وجع ملازم في عضو ما بعينه. وأما النفوس الكريمة فالذل عندها أشد من كل ما ذكرنا وهو أسهل المخوفات عند ذوي النفوس اللئيمة.

  • قال أبو محمد علي بن أحمد : ومما قلته في الأخلاق:
  • إنما العقل أساس *****فوقه الأخلاق سور
  • فحلِّ العقل بالعلم*****وإلا فهو بور
  • جاهل الأشياء أعمى*****لا يرى كيف يدور
  • وتمام العلم بالعدل*****وإلا فهو زور
  • وزمام العدل بالجود****وإلا فـــيجور
  • وملاك الجود بالنجدة****والجبن غـرور
  • عف إن كنت غيوراً****** ما زنى قط غيور
  • وكمال الكل بالتقوى*****وقول الحق نور
  • ذي أصولُ الفضل عنها****حدثت بعد البذور

ومما قلته أيضاً:

  • زمام أصول جميع الفضائل******عدل وفهم وجود وبأس
  • فمن هذه ركبت غيرها فمــن*****حازها فهو في الناس رأس
  • كذا الرأس فيه الأمور التي*****بإحساسها يكشف الالتباس
الأخلاق والسير في مداواة النفوس (المخطوط)

مقدمة المؤلف | فصل في مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة | فصل في العلم | فصل في الأخلاق والسير | فصل في الأخوان والصداقة والنصيحة | فصل في أنواع المحبة | فصل في أنواع صباحة الصور | فصل فيما يتعامل به الناس في الأخلاق | فصل في مداوة ذوي الأخلاق الفاسدة | فصل في غرائب أخلاق النفس | فصل في تطلع النفس إلى المدح وبقاء الذكر | فصل في حضور مجالس العلم | فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها