الأخلاق والسير في مداواة النفوس/الصفحة الثانية عشر
- بسم الله الرحمن الرحيم
- اللهم صل على سيدنا محمد وآله
- فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذتها
- قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه : أطلت الفكر في نفسي , بعد تيقيني أنها المدبرة للجسد , والحساسة الحية العاقلة المميزة العالمة , وأن الجسد موات لا حياة له , وجماد لا حركة فيه إلا أن تحركه النفس , وبع إيقاني أنها صاحبة هذه الفكرة , والمحركة للساني بما تريد إخراجه مما إستقر عندها فقالت مخاطبة لنفسها , باحثة عن حقيقة أمرها :
- يأيتها النفس المدبرة لهذا الجسد : ألست التي قد عرفت صفات جسدك الذي وليت تدبيره , وحققتها وضبطتها ؟
- قالت : بلى .
- قالت : ياأيتها النفس المدبرة لهذا الجسد : ألست التي تجاوزت جسدك المضاف تدبيره إليك , فخلص فهمك وبحثك إلى سائر مايليك من الأرض والماء والهواء وسائر الأجرام , ثم إلى مالم يليك الأجرام , فميزت أجناس كل ذلك وأنواعه وأشخاصه , وحققت صفات كل ذلك : الذاتية والغيرية , وفرقت بين كل ذلك بالفروق الصحيحة , ثم تخطيت كل ذلك إلى الأفلاك البعيدة وما فيها من الأجرام النيرة فعرفت كيفية أدوارها , ووقفت على حقيقة مدارها , وضبطت كل ذلك , وأشرفت علىيه , وسرحت هنالك , وأوغلت في تلك الطرق والمسالك , وخضت إليه الأنوار والظلم , واقتحمت نحوه الأبعاد حتى أتيته من أمم , ولم يخف مابعد وغمض ؟
- قالت : بلى .
- قالت : ياأيتها النفس المشرفة على ذلك كله : ألست التي لم تقنعي بهذا المقدار من العلم على عظمه وطوله , ولا ملأ خزانتك هذا الحظ من الأشراف , على كبر شأنه وطوله , حتى تعديت إلى ما كان قبل حلولك في هذا الجسد وارتباطك به , من أخبار القرون البائدة والممالك الدائرة والأمم الغابرة والوقائع الشنيعة والسير الذميمة والحميدة , ووقفت على أخبارهم وعلومهم فشاهدت كل ذلك بمعرفتك إذ لم تشاهديه بحواسك ؟
- قالت : بلى .
- قالت : يا أيتها النفس الغابطة لهذه العظائم المشرفة على هذه الأمور الشنيعة , ألست التي لم يكفك هذا كله حتى تجاوزت العالم بما فيه , وطفرته من جميع نواحيه , فشاهدت الواحد الأول , ووفقت إلى الحق الأول المبدع للعالم بكل مافيه , فأشرفت على أنه هو , وتوهمت إحداثه لكل مادونه لتوهمك لكل ما شاهدته بحواسك , فأحطت بكل هذا علما واحتويت على جميعه فهما ؟
- قالت : بلى .
- قالت : يا أيتها النفس التي بلغت هذه المبالغ النائيه , وترقت إلى هذه المراقي العالية , وسربت في تلك السبل الغامضة , واستسهلت الولوج في تلك الشعاب الخافية , وسمت إلى التوقل إلى تلك المنازل السامية , وتكلفت الإرتقاء إلى دار تلك الفلك الشاهقة : تفكري إذ وصلت إلى هذه الرتب , وخرقت تلك الحجب , ورفعت دونك تلك الستور المسبلة , وفتحت لك تلك الأبواب المغلقة المقفلة , وسهل عليك تولج تلك المضايق الهائلة , وتأتي لك تخلل تلك الثنايا البعيدة , هل عرفت مائيتك , وهل دريت كيفيتك , وهل وقفت على أي شيء أنت , وما جوهرك ؟ وهل أشرفت على حملك لصفاتك , وكيف حملتها ؟
- قالت : لا , ما عرفت شيئاً من ذلك .
- قالت : يا أيتها النفس العارفة بغيرها , والجاهلة بذاتها : فهل تعرفين محلك ومن أين أنت , ومن أين تتكلمين , وكيف تحركين هذه الأعضاء المصونة إذا حركتها , الساكنة إذا نركتها ؟
- قالت : لا .
- قالت : يا أيتها النفس المعجب شأنها فيما علمت وفيما جهلت : هل تذكرين أين كنت ومن أين أقبلت , وكيف تعلقت بهذا الجسد المظلم الميت الجاهل , وكيف تصريفك له , وكيف بقاؤك فيه بالأسباب الممسكة لك معه , وكيف انفصالك عنه عند الآفات العارضة له ؟
- قالت : لا .
- قالت : يا أيتها النفس المعترفة بجهل ذاتها , الواقفة على علم ما عداها : ألست أنت المخاطبة والمسؤولة السائلة ؟
- قالت : بلى .
- قالت : فما قطع بك , عن معرفة ذاتك وصفاتك , ومكانك وبدء شانك , ومحلك وتنقلك , وكيف تعلقت بهذا الجسد وكيف تصريفك له وكيف تنقلك عنه ؟
فتدبرت هذا فأيقنت أنه لو كان علمها ما علمت بقوتها وطبيعتها , دون مادة من غيرها , لكان المعجز لها مما جهلته أسهل عليها من الممكن لها مما علمت , فاعترفت بأن لها مدبرا علمها ما علمت من البعيدات فعلمته , وجهلت ما لم يطلعها طلعه من القريبات فجهلته .
فيا لك برهانا على عجز المخلوق ومهانته وضعفه وقلته , نعم وعلى أن النفس لاتفعل ولاتقعد إلا بقوة وإرادة من قبل غيرها لا تتجاوزها ولا تتعداها , ولله الأمر كله , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , وحسبنا الله ونعم الوكيل .
تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ورضي الله عن أصحاب رسول الله ﷺ