البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/فصل في كيفية الحشر



فصل (كيفية الحشر)


قال الله تعالى: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [مريم: 85، 86]. ورد في حديث سيأتي أنهم يؤتون بنجائب من الجنة يركبونها، وأنهم يؤتون بها عند قيامهم من قبورهم. وفي صحته نظر، إذ قد تقدم في الحديث أن الناس كلهم يحشرون مشاة حفاة عراة، ورسول الله يحشر راكبا وحده ناقة حمراء، وبلال ينادي بالأذان بين يديه، فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله. صدقه الأولون والآخرون.

فإذا كان هذا من خصائص رسول الله فإنما يكون إتيانهم بالنجائب بعد جواز الصراط، وهو الأشبه، والله أعلم.

وقد روي في حديث الصور أن المتقين يضرب لهم حياض يردونها بعد مجاوزة الصراط، وأنهم إذا وصلوا إلى باب الجنة، يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد، صلى الله عليهم جميعا [ص:103] وسلم، فيكون رسول الله هو الذي يشفع لهم في دخول الجنة، والله أعلم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، ورواه الإمام أحمد عنه، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، عن رسول الله ، أنه قال«آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت ؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».

وقال مسلم: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة».

وفي صحيح مسلم«يجمع الله تعالى الناس، فيقوم المؤمنون، حين تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم، لست بصاحب ذلك». وذكر تمام الحديث كما تقدم "، وهو شاهد قوي لما ذكر في حديث الصور من ذهاب الناس إلى الأنبياء مرة ثانية يستشفعون إلى الله بهم في دخولهم الجنة، فتنحصر القسمة أيضا ويتعين لها رسول الله ، كما تعين للشفاعة الأولى العظمى في الفصل بين الخلائق، كما تقدم.

[ص:104] وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا سويد بن سعيد، أنا علي بن مسهر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا النعمان بن سعد، قال: كنا جلوسا عند علي، فقرأ هذه الآية: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [مريم: 85]. قال: لا والله، ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها، حتى يضربوا أبواب الجنة.

ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وزاد: عليها رحائل من ذهب، وأزمتها الزبرجد. والباقي مثله.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي، سمعت أبا معاذ البصري، قال: كان علي بن أبي طالب يوما عند رسول الله فقرأ علي هذه الآية: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا. فقال: ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله. فقال النبي : " والذي نفسي بيده، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو يؤتون - بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب، شراك نعالهم نور يتلألأ، كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان، فيشربون من إحداهما، فتغسل ما في بطونهم من دنس، ويغتسلون من الأخرى، فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا، وتجري عليهم نضرة النعيم، فينتهون - أو قال: يأتون - باب الجنة، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء، على [ص:105] صفائح الذهب، فيضربون بالحلقة على الصفيحة، فيسمع لها طنين يا علي، لم يسمع الخلائق مثله، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل، فتبعث قيمها فيفتح له، فإذا رآه خر له - قال مسلمة: أراه قال: ساجدا - فيقول: ارفع رأسك، إنما أنا قيمك، وكلت بأمرك. فيتبعه ويقفو أثره، فتستخف الحوراء العجلة، فتخرج من خيام الدر والياقوت، حتى تعتنقه، ثم تقول: أنت حبي وأنا حبك، وأنا الخالدة التي لا أموت، وأنا الناعمة التي لا أبأس، وأنا الراضية التي لا أسخط، وأنا المقيمة التي لا أظعن. فيدخل بيتا من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع، بني على جندل اللؤلؤ والياقوت، طرائق حمر وخضر وصفر، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها، وفي البيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون حشية، على كل حشية سبعون زوجة، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء الحلل، يقضي جماعهن في مقدار ليلة من لياليكم هذه، الأنهار من تحتهم تطرد، أنهار من ماء غير آسن - قال: صاف لا كدر فيه - وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، لم يخرج من ضروع الماشية، وأنهار من خمر لذة للشاريين، لم تعصرها الرجال بأقدامها، وأنهار من عسل مصفى، لم يخرج من بطون النحل، فيستحلي الثمار، فإن شاء أكل قائما، وإن شاء قاعدا، وإن شاء متكئا ". ثم تلا: " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا [الإنسان: 14]. فيشتهي الطعام، فيأتيه طير أبيض - قال: وربما قال: أخضر - فترفع أجنحتها، فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء، ثم تطير فتذهب، فيدخل الملك، فيقول: سلام عليكم، تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت إلى الأرض لأضاءت الأرض منها، ولكانت الشمس معها سوادا [ص:106] في نور "

. وقد رويناه في " الجعديات " من كلام علي بن أبي طالب موقوفا عليه، وهو أشبه بالصحة، والله سبحانه أعلم، فقال أبو القاسم البغوي: حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا زهير، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي، قال: ذكر النار فعظم أمرها، ذكرا لا أحفظه. قال: وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [الزمر: 73]. حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما، كأنما أمروا بها، فشربوا منها، فأذهبت ما في بطونهم من قذى أو أذى أو بأس، ثم عمدوا إلى الأخرى، فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، ولم تغبر أشعارهم بعدها أبدا، ولا تشعث رءوسهم، كأنما دهنوا بالدهان، ثم انتهوا إلى الجنة، فقالوا: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ثم تلقاهم الولدان فيطيفون بهم، كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم عليهم، يقولون: أبشروا بما أعد الله لكم من الكرامة. ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين، فيقول: جاء فلان. باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا. قالت: أما رأيته ؟ قال: نعم أنا رأيته، وهو بإثري. فيستخف إحداهن الفرح، حتى تقوم على أسكفة بابها، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه، فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أحمر وأخضر وأصفر من كل لون، ثم [ص:107] رفع رأسه، فنظر إلى سقفه، فإذا مثل البرق، ولولا أن الله قدر أن لا يذهب بصره لألم أن يذهب ببصره، ثم طأطأ رأسه، فإذا أزواجه، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، ثم اتكئوا، فقالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ثم ينادي مناد: تحيون فلا تموتون أبدا، وتقيمون فلا تظعنون أبدا، وتصحون فلا تمرضون أبدا.

وهذا الأثر يقتضي أن تغيير الشكل من الحال الذي كان الناس عليه في الدنيا إلى طول ستين ذراعا، وعرض سبعة أذرع، كما هي صفة كل من دخل الجنة من صغير وكبير، كما ورد به الحديث، يكون عند هاتين العينين اللتين يغتسلون من إحداهما، فتجري عليهم نضرة النعيم ويشربون من الأخرى فتغسل ما في بطونهم من الأذى، فيتجدد لهم الطول والعرض، وذهاب الأذى، وجريان نضرة النعيم بعد الغسل والشرب. وهذا أنسب وأقرب مما جاء في الحديث المتقدم، أن ذلك يكون في عرصات القيامة، وهو ضعيف الإسناد، وأبعد من هذا من زعم أن ذلك يكون عند الخروج من القبور ; لما يعارضه من الأدلة الدالة على خلاف ذلك، والله أعلم.

وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: ذكر لنا أن الرجل إذا دخل الجنة صور صورة أهل الجنة، وألبس لباسهم، وحلي حليتهم، وأري أزواجه وخدمه، يأخذه سوار فرح، لو كان ينبغي له أن يموت لمات من شدة سوار فرحه، فيقال له: أرأيت سوار فرحك هذا، فإنه قائم [ص:108] لك، وباق أبدا.

وقال ابن المبارك: أخبرنا رشدين بن سعد، عن زهرة بن معبد القرشي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: إن العبد أول ما يدخل الجنة يتلقاه سبعون ألف خادم، كأنهم اللؤلؤ.

قال ابن المبارك: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد الله بن زحر، عن محمد بن أيوب، عن أبي عبد الرحمن المعافري، قال: إنه ليصف للرجل من أهل الجنة سماطان، لا يرى طرفاهما من غلمانه، حتى إذا مر مشوا وراءه.

وروى أبو نعيم، عن سلمة، عن الضحاك بن مزاحم، قال: إذا دخل المؤمن الجنة دخل أمامه ملك، فيأخذ به في سككها، فيقول له: انظر، ما ترى ؟ قال: أرى أكثر قصور رأيتها من ذهب وفضة، وأكثر أنيس. فيقول الملك: إن هذا أجمع لك. حتى إذا دفع لهم استقبلوه من كل باب ومن كل مكان: نحن لك. ثم يقول: امش. فيقول: ماذا ترى ؟ فيقول: أكثر عساكر رأيتها من خيام، وأكثر أنيس. فيقول: إن هذا أجمع لك. فإذا دفع لهم استقبلوه: نحن لك.

[ص:109] وقال الإمام أحمد بن أبي الحواري، عن أبي سليمان الداراني، أنه قال في قوله تعالى: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [الإنسان: 20]، قال: الملك الكبير أن الملك يأتي إلى ولي الله بالتحفة من عند الله سبحانه، فلا يصل إليه إلا بإذن بعد إذن، يقول الملك لحاجبه: استأذن لي على ولي الله. فيعلم ذلك الحاجب حاجبا آخر، وحاجبا بعد حاجب، ومن دار إلى دار حتى ينتهي إلى ولي الله، عز وجل، بما أمر به، ومن داره إلى دار السلام باب يدخل منه الولي على ربه، متى شاء بلا إذن، ورسول رب العزة لا يدخل عليه إلا بإذن.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خداش، حدثنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشير بن شغاف قال: كنا جلوسا إلى عبد الله بن سلام، فقال: إن أكرم خليقة على الله أبو القاسم ، وإن الجنة في السماء، وإن النار في الأرض، فإذا كان يوم القيامة بعث الله الخليقة أمة أمة، ونبيا نبيا، ثم يوضع جسر على جهنم، ثم ينادي مناد: أين أحمد وأمته ؟ فيقوم وتتبعه أمته، برها وفاجرها، فيأخذون على الجسر، ويطمس الله تعالى أبصار أعدائه، فيتهافتون فيها من شمال ويمين، وينجو النبي والصالحون معه، وتتلقاهم الملائكة، ويبوئونهم منازلهم من الجنة، على يمينك، على يسارك، حتى ينتهي إلى ربه، فيلقى له كرسي على يمين الله عز وجل، ثم ينادي المنادي: أين عيسى وأمته ؟ فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: فيلقى له كرسي من [ص:110] الجانب الآخر، ثم يتبعهم الأنبياء والأمم، حتى يكون آخرهم نوح، عليه السلام. وهذا موقوف على ابن سلام، رضي الله عنه.

وتقدم في حديث سلمان الفارسي الذي رواه ابن أبي الدنيا عن أبي نصر التمار، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، قال: يوضع الصراط يوم القيامة، وله حد كحد الموسى، فتقول الملائكة: ربنا، من يطيق أن يجوز على هذا ؟ فيقول الله عز وجل«من شئت من خلقي». فيقولون: ربنا ما عبدناك حق عبادتك.