البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/فصل في ورود الناس جميعهم جهنم



فصل (ورود الناس جميعهم جهنم)


قال الله تعالى: فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا الآيات إلى قوله: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ص:92] [مريم: 68 - 72]. أقسم سبحانه بنفسه الكريمة أنه سيجمع بني آدم ممن كان يطيع الشياطين ويعبدها مع الله، عز وجل، ويطيعها فيما تأمره به من معاصي الله عز وجل، فإن طاعة الشياطين هي عبادتها، فإذا كان يوم القيامة جمع الشياطين ومن أطاعهم وأحضرهم حول جهنم جثيا، أي جلوسا على الركب، كما قال تعالى: وترى كل أمة جاثية [الجاثية: 28].

وعن ابن مسعود: قياما. وهم يعاينون هولها، وبشاعة منظرها، وقد جزموا أنهم داخلوها لا محالة، كما قال تعالى: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [الكهف: 53] وقال تعالى: ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم [الشورى: 22]. وقال: إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا إلى قوله: كان على ربك وعدا مسئولا [الفرقان: 12 - 16]. وقال تعالى: لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [التكاثر: 6، 7].

ثم أقسم تعالى أن الخلق كلهم سيردون جهنم، فقال: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [مريم: 71]، قال ابن مسعود: قسما واجبا.

وفى الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي [ص:93] هريرة، أن رسول الله قال«من مات له ثلاثة من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم».

وروى الإمام أحمد، عن حسن، عن ابن لهيعة، عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله قال«من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجر سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، قال الله تعالى: وإن منكم إلا واردها وذكر تمام الحديث.

وقد اختلف المفسرون في المراد بالورود ما هو، والأظهر، كما قررناه في» التفسير "، أنه المرور على الصراط. والله أعلم. كما قال تعالى: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [مريم: 72].

وقال مجاهد: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: وإن منكم إلا واردها. وقد روى ابن جرير في " تفسيره " حديثا يشبه هذا، فقال: حدثني عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله يعود رجلا من أصحابه وعكا، وأنا معه، ثم قال: " إن الله [ص:94] يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة ". وهذا إسناد حسن.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود: وإن منكم إلا واردها. قال: قال رسول الله «يرد الناس النار كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم».

وهكذا رواه الترمذي من حديث إسرائيل، عن السدي، به، مرفوعا، ثم رواه من حديث شعبة، عن السدي به، فوقفه، وهكذا رواه أسباط عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود، قال: يرد الناس جميعا الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر كمر البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضعي إبهامي قدميه، يمر يتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة، عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس. وذكر تمام الحديث. وله شواهد مما مضى، ومما سيأتي إن شاء الله تعالى.

[ص:95] وقال سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قال: يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم، فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم ; أولهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كأسرع البهائم، ثم كذلك، حتى يمر الرجل سعيا، حتى يمر الرجل ماشيا، ثم يكون آخرهم يتلبط على بطنه، ثم يقول: يا رب، لم أبطأت بي ؟ فيقول: لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك.

وروي نحوه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا، والموقوف أصح. والله أعلم.

وقال الحافظ أبو نصر الوائلي في كتاب " الإبانة ": أخبرنا محمد بن محمد بن الحجاج، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الربعي، حدثنا علي بن الحسين، أبو عبيد، حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا أبو همام القرشي، عن سليمان بن المغيرة، عن قيس بن مسلم، عن طاوس، عن أبي هريرة، قال: قال لي رسول الله : " علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل [ص:96] الجنة فلا تحدثن في دين الله حدثا برأيك ". ثم قال: وهذا غريب الإسناد، والمتن حسن. أورده القرطبي.

وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن أبي مروان، عن خالد بن معدان، قال: قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار ؟! فيقال: قد مررتم عليها وهى خامدة.

وقد ذهب آخرون إلى أن المراد بالورود الدخول، قاله ابن عباس، وعبد الله بن رواحة، وأبو ميسرة، وغير واحد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد البرساني، عن أبي سمية، قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعا - وقال سليمان مرة: يدخلونها جميعا. وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه، وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله يقول: " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ; ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [مريم: 72]. لم يخرجوه في كتبهم، وهو حسن.

[ص:97] وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد، حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة السليطي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي‌‌‌‌، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثني أبي منصور بن عمار، حدثني بشير بن طلحة الجذامي، عن خالد بن دريك، عن يعلى بن منية، عن رسول الله قال«تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي». وهذا حديث غريب جدا.

وقال ابن المبارك "، عن سفيان، عن رجل، عن خالد بن معدان، قال: قالوا: ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار ؟ فيقال: إنكم مررتم عليها وهي خامدة.

وفي رواية عن خالد بن معدان، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا أنا نرد النار ؟ فيقال: إنكم وردتموها فألفيتموها رمادا.

وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي [ص:98] السليل، عن غنيم بن قيس، قال: ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها متن إهالة، حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد أن أمسكي أصحابك، ودعي أصحابي. قال: فتخسف بكل ولي لها، فلهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم وروي مثله أيضا عنه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة، قالت: كان رسول الله في بيت حفصة، فقال«لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية». قالت حفصة: أليس الله عز وجل، يقول: وإن منكم إلا واردها قالت: قال رسول الله : " فمه ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ورواه الإمام أحمد أيضا، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر، عن حفصة، عن النبي ، فذكر مثله.

ورواه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، سمع جابرا، عن أم مبشر، فذكر نحوه، وقد تقدم، وسيأتي في أحاديث الشفاعة كيفية جواز [ص:99] المؤمنين على الصراط، وتفاوت سيرهم عليه، بحسب أعمالهم، وقد تقدم من ذلك جانب، وتقدم عنه، عليه السلام، أنه أول الأنبياء إجازة بأمته على الصراط.

وعن عبد الله بن سلام قال: محمد أول الرسل إجازة على الصراط، ثم عيسى، ثم موسى، ثم إبراهيم، حتى يكون آخرهم إجازة نوح، عليه السلام. قال: فإذا خلص المؤمنون من الصراط تلقتهم الخزنة يهدونهم إلى الجنة، فإنهم إذا خلصوا من الصراط وأتوا على آخره، فليس بعد ذلك إلا دخول الجنة. كما سيأتي.

وثبت في " الصحيح "«من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله، هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الزكاة دعي من باب الزكاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان». فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على أحد يدعى من أيها شاء من ضرورة، فهل يدعى أحد منها كلها ؟ قال ؟ " نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر، فإذا دخلوا الجنة هدوا إلى منازلهم، فلهم أعرف بها من منازلهم التي كانت في الدنيا ". كما سيأتي بيانه في " الصحيح " عند البخاري.

وقد قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عطاء بن يسار، عن [ص:100] سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله «لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز ; بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».

وقد رواه الحافظ الضياء، من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، أن رسول الله قال«يعطى المؤمن جوازا على الصراط ; بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».

وقد روى الترمذي في " جامعه "، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله «شعار المؤمن على الصراط، رب سلم سلم». ثم قال: غريب.

وفى صحيح مسلم«ونبيكم يقول: رب سلم سلم». وتقدم أن الأنبياء كلهم يقولون ذلك، وكذلك الملائكة كلهم يقولون ذلك.

وثبت في صحيح البخاري من حديث قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله قال«إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة، فلأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا».

[ص:101] وقد تكلم القرطبي على هذا الحديث في " التذكرة "، وجعل هذه القنطرة صراطا ثانيا للمؤمنين خاصة، وليس يسقط منه أحد في النار. قلت: هذه القنطرة تكون بعد مجاوزة النار، فقد تكون هذه القنطرة منصوبة على هول آخر مما يعلمه الله، ولا نعلمه نحن. والله أعلم.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا صالح بن موسى، عن ليث، عن عثمان، عن محمد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله «يقول الله تعالى يوم القيامة للمؤمنين: جوزوا النار بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، فاقتسموها بفضائل أعمالكم». وهذا حديث غريب.

وقد رواه أبو معاوية، عن إسماعيل بن مسلم، عن قتادة، عن عبد الله، من قوله، مثله، وهو منقطع، بل معضل، وقد قال بعض الوعاظ، فيما حكاه القرطبي في " التذكرة ": فتوهم نفسك يا أخي إذا صرت على الصراط، ونظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة مدلهمة، وقد تلظى سعيرها، وعلا لهيبها، وأنت تمشي أحيانا، وتزحف أخرى. ثم أنشد:


أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال وقاموا من قبورهم حيارى بأوزار كأمثال الجبال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال [ص:102] ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبالي