الجامع لأحكام القرآن/سورة البقرة/الآية رقم 196
الآية: 196 { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فيه سبع مسائل:
الأولي: اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: { فَأَتَمَّهُنَّ } 1 وقوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } 2 أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي. ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله "لله". وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر.
قلت: أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله ﷺ فقد قال به عبدالله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الأسود وعلقمة وعبدالرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله ﷺ: "من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه" في رواية "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وخرجه أبو داود وقال: "يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة". ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات. وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة. وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات. وقال أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله ﷺ وقت المواقيت وعينها، فصارت بيانا لمجمل الحج، ولم يحرم ﷺ من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته، وما فعله ﷺ فهو الأفضل إن شاء الله. وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم. واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة: ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله ﷺ في حجته من ميقاته، وعرفوا مغزاه ومراده، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته.
الثانية: روى الأئمة أن رسول الله ﷺ وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي ﷺ وقت لأهل المشرق العقيق. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق. وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله ﷺ وقت لأهل العراق ذات عرق، وهذا هو الصحيح. ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته افتتحت، فغفلة منه، بل وقته رسول الله ﷺ كما وقت لأهل الشام الجحفة. والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير. قال أبو عمر: كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته، والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع.
الثالثة: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص.
الرابعة: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي بن معبد: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي، وإني أهللت بهما جميعا. فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: "وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي". وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس. وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع. قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا. قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا. وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبدالله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة. وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله ﷺ: "إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت". وكان مالك يقوله: العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها. وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قاله ابن مسعود وجابر بن عبدالله. روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: سأل رجل رسول الله ﷺ عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو؟ قال: "نعم" فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: "لا وأن تعتمر خير لك". رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } 3. وابتدأ بإيجاب الحج فقال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } 4 ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.
الخامسة: قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في "العمرة"، وهي تدل على عدم الوجوب. وقرأ الجماعة "العمرة" بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب. وفي مصحف ابن مسعود { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إلى البيت لله } وروي عنه "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت". وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي.
السادسة: لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة ـ والقلم جار له وعليه ـ أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا } ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته: "لبيك بحجة وعمرة معا" على ما يأتي. وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال: ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما، واحتج بحديث النبي ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات". قال: ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي ﷺ أجزته تلك النية، لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت، بخلاف الصلاة.
السابعة: واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك: لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة: جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام. واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة. وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد. قال: ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام، ولم يكن عليهما دم، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي، وليس ذلك بالبين عندي. واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله ﷺ حين أقبل من اليمن مهلا بالحج: "بم أهللت" قال قلت: لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك. فقال رسول الله ﷺ: "فإني أهللت بالحج وسقت الهدي". قال الشافعي: ولم ينكر عليه رسول الله ﷺ مقالته، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران. وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد يعتق، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات.
وقال أبو حنيفة: يلزم العبد الدم. وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما. فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي، ولا شيء عليهما في ترك الميقات.
قوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } فيه أثنتا عشرة مسألة:
الأولى: قال ابن العربي: هذه آية مشكلة، عُضْلة من العُضل.
قلت: لا إشكال فيها، ونحن نبينها غاية البيان فنقول: الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة، فـ "جملة" أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان. واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين: الأول: قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدو. وقيل: العدو خاصة، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي. قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا. ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن "أحصر" عرض للمرض، و"حصر" نزل به العدو.
قلت: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى. وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، على ما يأتي. وقال أبو عبيدة والكسائي: "أحصر" بالمرض، و"حصر" بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس، فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة: يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر.
قلت: وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه "أحصر" فيهما، فتأمله. وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو. قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما.
قلت: ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه. قال الخليل: حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه، هكذا قال، جعل الأول ثلاثيا من حصرت، والثاني في المرض رباعيا. وعلى هذا خرج قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به، وحاصروه محاصرة وحصارا. قال الأخفش: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته. قال: وأحصرني بولي، وأحصرني مرضي، أي جعلني أحصر نفسي. قال أبو عمرو الشيباني: حصرني الشيء وأحصرني، أي حبسني.
قلت: فالأكثر من أهل اللغة على أن "حصر" في العدو، و"أحصر" في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } 5. وقال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت... عليك ولا أن أحصرتك شغول
وقال الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر، يقال: حصر حصرا، وفي الأول أحصر إحصارا، فدل على ما ذكرناه. وأصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير: الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره.
الثانية: ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك. واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا، قالوا: وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض، قال ﷺ: "الزكام أمان من الجذام"، وقال: "من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص". الشوص: وجع السن. واللوص: وجع الأذن. والعلوص: وجع البطن. أخرجه ابن ماجة في سننه. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه، لا بدلالة الظاهر. وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو، لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله ﷺ عن مكة. قال ابن عمر: خرجنا مع رسول الله ﷺ فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي ﷺ هديه وحلق رأسه. ودل على هذا قوله تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ }. ولم يقل: برأتم، والله أعلم.
الثالثة: جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه. وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة: دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله، وخالفه صاحباه فقالا: يتوقف على يوم النحر، وإن نحر قبله لم يجزه. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان.
الرابعة: الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي، وهو قول الشافعي، وبه قال أشهب. وكان ابن القاسم يقول: ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه، وهو قول مالك. ومن حجتهما أن النبي ﷺ إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله ﷺ فنحر، لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه، ولم ينحره رسول الله ﷺ من أجل الصد، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي. واحتج الجمهور بأن رسول الله ﷺ لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به، وهو مقتضى قوله: { أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
وقد قيل: يحل ويهدي إذا قدر عليه، والقولان للشافعي، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه، قولان.
الخامسة: قال عطاء وغيره: المحصر بمرض كالمحصر بعدو. وقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق. وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال. قال مالك: وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق. قال: وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه، فإذا برىء من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجته أو عمرته. وهذا كله قول الشافعي، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد: إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق. وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه. ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم: فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل، فإذا كان قابل حج وأهدى. وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها: لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا. واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالله بن بكير المالكي فقال: قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب، لقول الله عز وجل: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }. قال: والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه، فإذا نحر فقد حل من إحرامه. كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق، لقوله تعالى: { أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } الآية.
السادسة: قال مالك وأصحابه: لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم. والاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني من الأرض. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور: لا بأس أن يشترط وله شرطه، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب أنها أتت رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إني أردت الحج، أأشترط؟ قال: "نعم". قالت: فكيف أقول؟ قال: "قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني". أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. قال الشافعي: لو ثبت حديث ضباعة لم أعده، وكان محله حيث حبسه الله.
قلت: قد صححه غير واحد، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر، قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله ﷺ قال لضباعة بنت الزبير: "حجي واشترطي". وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال: جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله ﷺ فقالت: إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أن أهل؟ قال: "أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني". قال: فأدركت. وهذا إسناد صحيح.
السابعة: واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر، فقال مالك والشافعي: من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا. وقال أبو حنيفة: المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة، وهو قول الطبري. قال أصحاب الرأي: إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة، لأن إحرامه بالحج صار عمرة. وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين. وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة. وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو، على ما تقدم. واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدي، فإن رسول الله ﷺ أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. واستدلوا بقوله عليه السلام: " من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى". رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى". قالوا: فاعتمار رسول الله ﷺ وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، قالوا: ولذلك قيل لها عمرة القضاء. واحتج مالك بأن رسول الله ﷺ لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه. قالوا: وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله ﷺ قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل، فسميت بذلك عمرة القضية.
الثامنة: لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه. وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر، ولكن اختلفوا فيما به يحل، فقال مالك وغيره: يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره. ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية وفعل ما يتحلل به، على ما تقدم من مذهبه.
التاسعة: لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة. وقال ابن سيرين: لا إحصار في العمرة، لأنها غير مؤقتة. وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر، وفي ذلك نزلت الآية. وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية.
العاشرة: الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموضعه، لقوله تعالى: { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما تقدم. ولو سأل الكافر جعلا لم يجز، لأن ذلك وهن في الإسلام. فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإن الدين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما، ولأن الحج مما ينفق فيه المال، فيعد هذا من النفقة.
الحادية عشرة: والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته. وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب: لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وجه قول ابن القاسم: أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب، فجاز له أن يحل فيه، أصل ذلك يوم عرفة. ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به فكان ذلك عليه.
قوله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } "ما" في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا. و { مَا اسْتَيْسَرَ } عند جمهور أهل العلم شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: "ما استيسر" جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما. وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء، لقوله: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ولم يذكر قضاء. والله أعلم.
الثانية عشرة: قوله تعالى: { مِنَ الْهَدْيِ } الهَدْي والهَدِيّ لغتان. وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها. والعرب تقول: كم هدي بني فلان، أي كم إبلهم. وقال أبو بكر: سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله، فسميت بما يلحق بعضها، كما قال تعالى: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } 6. أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار، لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن. والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج، يجب عليها الرجم إذا زنت، والرجم لا يتبعض، فيكون على الأمة نصفه، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج. وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدي، قال: وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون: هدي. قال الشاعر:
حلفت برب مكة والمصلى... وأعناق الهدي مقلدات
قال: وواحد الهدي هدية. ويقال في جمع الهدي: أهداء.
قوله تعالى: { وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى. ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي. والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه. فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي: موضع الحصر، اقتداء برسول الله ﷺ زمن الحديبية، قال الله تعالى: { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } 7 قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار: الحرم، لقوله تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } 8. وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت. فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } بدليل نحر النبي ﷺ وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم. واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي ﷺ أنه قال للنبي ﷺ: ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم. قال: "فكيف تصنع به" قال: أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم. وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر حيث حل، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولأن الهدي تابع للمهدي، والمهدي حل بموضعه، فالمهدى أيضا يحل معه.
الثانية - واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشيء من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي، فقال مالك: السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه، قال الله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم، ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه. وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء. وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه. قالوا: وأقل ما يهديه شاة، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين، وليس هذا عندهم موضع صيام. قال أبو عمر: قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض، لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم. وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه، وحملوه على الإحلال بالظنون. والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم: لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه. وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له. وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي: فيه قولان: لا يحل أبدا إلا بهدي. والقول الآخر: أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه، فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه. قال الشافعي: ومن قال هذا قال: يحل مكانه ويذبح إذا قدر، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر. قال ويقال لا يجزيه إلا هدي. ويقال: إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام أو الصيام. وإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر. وقال في العبد: لا يجزيه إلا الصوم، تقوم له الشاة دراهم ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما.
الثالثة - واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا، فقالت طائفة: ليس عليه أن يحلق رأسه، لأنه قد ذهب عنه النسك. واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر. وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال أبو يوسف: يحلق المقصر، فإن لم يحلق فلا شيء عليه. وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق، والتقصير لا بد له منه. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين: أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك، وهو قول مالك. والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة. والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه. وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه، وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }، وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله ﷺ للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة. وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة،، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه. والحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه، وعلى من فاته الحج، والمحصر بعدو والمحصر بمرض.
الرابعة: روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله ﷺ. قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: "والمقصرين". قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله ﷺ للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ } الآية، ولم يقل تقصروا. وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال، إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان.
الخامسة: لم تدخل النساء في الحلق، وأن سنتهن التقصير، لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير". خرجه أبو داود عن ابن عباس. وأجمع أهل العلم على القول به. ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: تقصر من كل قرن مثل الأنملة. وقال عطاء: قدر ثلاث أصابع مقبوضة. وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع. وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل. وقال مالك: تأخذ من جميع قرون رأسها، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا. قال ابن المنذر: يجزي ما وقع عليه اسم تقصير، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة.
السادسة: لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق. والأصل في ذلك قوله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه سلم، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا، فإن كان الأول فلا شيء عليه، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم، وهو المشهور من مذهب مالك. وقال ابن الماجشون: عليه الهدي، وبه قال أبو حنيفة. وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر، وبه قال الشافعي. والظاهر من المذهب المنع، والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي ﷺ قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" رواه مسلم. وخرج ابن ماجة عن عبدالله بن عمرو أن النبي ﷺ سئل عمن ذبح قبل أن يحلق، أو حلق قبل أن يذبح فقال: "لا حرج".
السابعة: لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز، خلافا لمن قال: إنه مثلة، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره، لأن رسول الله ﷺ نهى عن المثلة، وقد حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه. قال ابن عبدالبر: وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق. وكفى بهذا حجة، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً } استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض، وهذا لا يلزم، فإن معنى قوله: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ } فحلق { فَفِدْيَةٌ } أي فعليه فدية، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها، لاتساق الكلام بعضه على بعض، وانتظام بعضه ببعض، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه. ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية، روى الأئمة واللفظ للدارقطني: عن كعب بن عجرة أن رسول الله ﷺ رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال: "أيؤذيك هوامك " قال نعم. "فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله ﷺ أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام". خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا. فقوله: ولم يبين لهم أنهم يحلون بها، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض، والله أعلم.
الثانية: قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه: إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق.
قلت: فعلى هذا يكون المعنى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } إن أراد أن يحلق، ومن قدر فحلق ففدية، فلا يفتدي حتى يحلق، والله أعلم.
الثالثة: قال ابن عبدالبر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة. وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث. وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبدالرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي ﷺ وهو يوقد تحت قدر له، فقال له: " كأنك يؤذيك هوام رأسك". فقال أجل. قال: "احلق واهد هديا". فقال: ما أجد هديا. قال: "فأطعم ستة مساكين". فقال: ما أجد. قال: "صم ثلاثة أيام". قال أبو عمر: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وبالله التوفيق.
الرابعة: اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي ﷺ، وهو قول أبي ثور وداود. وروي عن الثوري أنه قال في الفدية: من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع. وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر. قال ابن المنذر: وهذا غلط، لأن في بعض أخبار كعب أن النبي ﷺ قال له: " أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين". وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي، ومرة قال: إن أطعم برا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع.
الخامسة: ولا يجزئ أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي ﷺ. وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.
السادسة: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن. وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة، واختلفوا فيما على من فعل ذلك، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا، فقال مالك: بئس ما فعل وعليه الفدية، وهو مخير فيها، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ، لضرورة وغير ضرورة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور: ليس بمخير إلا في الضرورة، لأن الله تعالى قال: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ } فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير.
السابعة: واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا، فقال مالك رحمه الله: العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا فدية عليه، وهو قول داود وإسحاق. والثاني: عليه الفدية. وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المحيط وتغطية الرأس أو بعضه، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى، أو حلق مواضع المحاجم. والمرأة كالرجل في ذلك، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب. وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه. وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.
الثامنة: واختلف العلماء في موضع الفدية المذكورة، فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي. وعن الحسن أن الدم بمكة. وقال طاوس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم، وقد قال الله سبحانه { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } 9 رفقا لمساكين جيران بيته، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام، والله أعلم. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد. والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة. ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه، وفيه: فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا. قال مالك قال يحيى بن سعيد: وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة. ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم، لأن البغية في إطعام مساكين المسلمين. قال مالك: ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم، ثم إن قوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً } الآية، أوضح الدلالة على ما قلناه، فإنه تعالى لما قال: "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" لم يقل في موضع دون موضع، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه. وقال: "أو نسك" فسقى ما يذبح نسكا، وقد سماه رسول الله ﷺ كذلك ولم يسمه هديا، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي. وأيضا فإن النبي ﷺ لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد.
التاسعة: قوله تعالى: { أَوْ نُسُكٍ } النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } 10 أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.
قوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } قيل: معناه برأتم من المرض. وقيل: من خوفكم من العدو المحصر، قاله ابن عباس وقتادة. وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه، كما تقدم، والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } اختلف العلماء من المخاطب بهذا؟ فقال عبدالله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم. وصورة المتمتع عند ابن الزبير: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء. وصورة المتمتع المحصر عند غيره: أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه. وقال ابن عباس وجماعة: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله.
الثالثة: لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز، لأن رسول الله ﷺ رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، ﷺ. وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله ﷺ محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك، فقال قائلون منهم مالك: كان رسول الله ﷺ مفردا، والإفراد أفضل من القران. قال: والقران أفضل من التمتع. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل" قالت عائشة: فأهل رسول الله ﷺ بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقال بعضهم فيه: قال رسول الله ﷺ: "وأما أنا فأهل بالحج" وهذا نص في موضع الخلاف، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله. وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال: إذا جاء عن النبي ﷺ حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. واستجب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج، قالوا: وذلك أفضل. وهو مذهب عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعي. قال الدارقطني قال الشافعي: اخترت الإفراد، والتمتع حسن لا نكرهه. احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله ﷺ ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله ﷺ حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء. وروى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله ﷺ وصنعناها معه، هذا حديث صحيح.
وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: "حسن جميل. قال: فإن أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله ﷺ وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله ﷺ!؟ قم عني." أخرجه الدارقطني، وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم. وروي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: "تمتع رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية" حديث حسن. قال أبو عمر: حديث ليث هذا حديث منكر، وهو ليث بن أبي سليم ضعيف. والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها فسخ الحج في العمرة. فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. وزعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام حتى تكثر عمارته بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس تحقيقا لدعوة إبراهيم: { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } 11. وقال آخرون: إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشي أن يضيع الإفراد والقران وهما سنتان للنبي ﷺ. واحتج أحمد في اختياره التمتع بقوله ﷺ: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". أخرجه الأئمة. وقال آخرون: القران أفضل، منهم أبو حنيفة والثوري، وبه قال المزني قال: لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: كان رسول الله ﷺ قارنا، وهو قول علي بن أبي طالب. واحتج من استحب القران وفضله بما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة". وروى الترمذي عن أنس قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لبيك بعمرة وحجة". وقال: حديث حسن صحيح. قال أبو عمر: والإفراد إن شاء الله أفضل، لأن رسول الله ﷺ كان مفردا، فلذلك قلنا إنه أفضل، لأن الآثار أصح عنه في إفراده ﷺ، ولأن الإفراد أكثر عملا ثم العمرة عمل آخر. وذلك كله طاعة والأكثر منها أفضل. وقال أبو جعفر النحاس: المفرد أكثر تعبا من المتمتع، لإقامته على الإحرام وذلك أعظم لثوابه. والوجه في اتفاق الأحاديث أن رسول الله ﷺ لما أمرنا بالتمتع والقران جاز أن يقال: تمتع رسول الله ﷺ وقرن، كما قال جل وعز: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } 12. وقال عمر بن الخطاب: رجمنا ورجم رسول الله ﷺ، وإنما أمر بالرجم.
قلت: الأظهر في حجته عليه السلام القران، وأنه كان قارنا، لحديث عمر وأنس المذكورين. وفي صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال: "سمعت النبي ﷺ يلبي بالحج والعمرة معا". قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبيانا! سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لبيك عمرة وحجا". وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال: أهل النبي ﷺ بعمرة وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي ﷺ ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم. قال بعض أهل العلم: كان رسول الله ﷺ قارنا، وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر، واتفقت الأحاديث. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله ﷺ أهل بعمرة، فقال من رآه: تمتع ثم أهل بحجة. فقال من رآه: أفرد ثم قال: "لبيك بحجة وعمرة". فقال من سمعه: قرن. فاتفقت الأحاديث. والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن النبي ﷺ أنه قال: أفردت الحج ولا تمتعت. وصح عنه أنه قال: " قرنت" كما رواه النسائي عن علي أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال لي: "كيف صنعت" قلت: أهللت بإهلالك. قال "فإني سقت الهدي وقرنت". قال وقال ﷺ لأصحابه: "لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدي وقرنت". وثبت عن حفصة قالت قلت: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت؟ قال: "إني لبدت رأسي وسقت هدي فلا أحل حتى أنحر". وهذا يبين أنه كان قارنا، لأنه لو كان متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدي.
قلت: ما ذكره النحاس أنه لم يرو أحد أن النبي ﷺ قال: أفردت الحج فقد تقدم من رواية عائشة أنه قال: "وأما أنا فأهل بالحج". وهذا معناه: فأنا أفرد الحج، إلا أنه يحتمل أن يكون قد أحرم بالعمرة، ثم قال: فأنا أهل بالحج. ومما يبين هذا ما رواه مسلم عن ابن عمر، وفيه: وبدأ رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فلم يبق في قوله: "فأنا أهل بالحج" دليل على الإفراد. وبقي قوله عليه السلام: "فإني قرنت". وقول أنس خادمه أنه سمعه يقول: "لبيك بحجة وعمرة معا" نص صريح في القران لا يحتمل التأويل. وروى الدارقطني عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إنما جمع رسول الله ﷺ بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها.
الرابعة: وإذا مضى القول في الإفراد والتمتع والقران وأن كل ذلك جائز بإجماع فالتمتع بالعمرة إلى الحج عند العلماء على أربعة أوجه، منها وجه واحد مجتمع عليه، والثلاثة مختلف فيها. فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جل وعز: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج - على ما يأتي بيانها - وأن يكون من أهل الآفاق، وقدم مكة ففرغ منها ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع، وذلك ما استيسر من الهدي، يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى بلده - على ما يأتي - وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين. واختلف في صيام أيام التشريق على ما يأتي.
فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة، ورابطها ثمانية شروط: الأول: أن يجمع بين الحج والعمرة. الثاني: في سفر واحد. الثالث: في عام واحد. الرابع: في أشهر الحج. الخامس: تقديم العمرة. السادس: ألا يمزجها، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة. السابع: أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد. الثامن: أن يكون من غير أهل مكة. وتأمل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها.
والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج: القران، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بحجة وعمرة معا، فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا، عند من رأى ذلك، وهم مالك والشافعي وأصحابهما وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب عبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وعطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع فأهللنا بعمرة..." الحديث. وفيه: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا" أخرجه البخاري. وقال ﷺ لعائشة يوم النفر ولم تكن طافت بالبيت وحاضت: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" في رواية: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك". أخرجه مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين، عند من رأى ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، وروي عن علي وابن مسعود، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد. واحتجوا بأحاديث عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ فعل. أخرجهما الدارقطني في سننه وضعفها كلها، وإنما جعل القران من باب التمتع، لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى، ويتمتع بجمعهما، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل تحت قول الله عز وجل: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه. وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها. ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر: إنما جعل القران لأهل الآفاق، وتلا قول الله جل وعز: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. قال مالك: وما سمعت أن مكيا قرن، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك. وقال عبدالملك بن الماجشون: إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع.
والوجه الثالث من التمتع: هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج" وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم جرا، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية. فهذا هو الوجه الذي تواردت به الآثار عن النبي ﷺ "فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة" وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه ﷺ ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها، لأنها عندهم خصوص خص بها رسول الله ﷺ أصحابه في حجته تلك. قال أبو ذر: "كانت المتعة لنا في الحج خاصة" أخرجه مسلم. وفي رواية عنه أنه قال: "لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج" والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي ﷺ وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: "الحل كله". أخرجه مسلم. وفي المسند الصحيح لأبي حاتم عن ابن عباس قال: "والله ما أعمر رسول الله ﷺ عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة، فما أعمر رسول الله ﷺ عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم" ففي هذا دليل علي أن رسول الله ﷺ إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها. وكان ذلك له ولمن معه خاصة، لأن الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيها أمرا مطلقا، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة. واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: "بل لنا خاصة". وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام، إلا شيء يروى عن ابن عباس والحسن والسدي، وبه قال أحمد بن حنبل. قال أحمد: لا أرد تلك الآثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر. قال: ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر، ولو أجمعوا كان حجة، قال: وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا. واحتج أحمد بالحديث الصحيح، حديث جابر الطويل في الحج، وفيه: أن النبي ﷺ قال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة" فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله ﷺ أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد" لفظ مسلم. وإلى هذا والله أعلم مال البخاري حيث ترجم باب من لبى بالحج وسماه وساق حديث جابر بن عبدالله: قدمنا مع رسول الله ﷺ ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله ﷺ فجعلناها عمرة. وقال قوم: إن أمر النبي ﷺ بالإحلال كان على وجه آخر. وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله ﷺ ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به، وكذلك أهل علي باليمن. وكذلك كان إحرام النبي ﷺ، ويدل عليه قوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلتها عمرة" فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر؟؟ أصحابه بذلك، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: "أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة".
والوجه الرابع من المتعة: متعة المحصر ومن صد عن البيت، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبدالله بن الزبير وهو يخطب يقول: أيها الناس، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي.
وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا، والحمد لله
فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة. والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } بعد قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة، والنبي ﷺ وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل، وأمرهم بالإحلال
واختلف العلماء أيضا لم سمي المتمتع متمتعا، فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج. وقال غيره: سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر، وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، والوجه الأول أعم، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله، وسقط عنه السفر بحجه من بلده، وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج. وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود، وقالا أو قال أحدهما: يأتي أحدكم مني وذكره يقطر منيا، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا. وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين: مرة في الحج، ومرة في العمرة. ورأى الإفراد أفضل، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابا، ولذلك قال: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم، فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج"
الخامسة: اختلف العلماء فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه، فقال الجمهور من العلماء: ليس بمتمتع، ولا هدي عليه ولا صيام. وقال الحسن البصري: هو متمتع وإن رجع إلى أهله، حج أو لم يحج. قال لأنه كان يقال: عمرة في أشهر الحج متعة، رواه هشيم عن يونس عن الحسن. وقد روي عن يونس عن الحسن: ليس عليه هدي. والصحيح القول الأول، هكذا ذكر أبو عمر حج أو لم يحج ولم يذكره ابن المنذر. قال ابن المنذر: وحجته ظاهر الكتاب قوله عز وجل: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } ولم يستثن: راجعا إلى أهله وغير راجع، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسول الله ﷺ. وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل قول الحسن. قال أبو عمر: وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم. وذلك أنه قال: من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة. وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن، أحدهما: أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج، ثم حج من عامه أنه متمتع. هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار. وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة، لأن العمرة جائزة في السنة كلها، والحج إنما موضعه شهور معلومة، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسول الله ﷺ في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها، رحمة منه، وجمل فيه ما استيسر من الهدي. والوجه الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي، وهذا لم يعرج عليه، لظاهر قوله تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها، وبالله توفيقنا.
السادسة: أجمع العلماء على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع، عليه ما على المتمتع. وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة، ثم ينشئ الحج من مكة وأهله بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها. وأجمعوا على أنه إن انتقل من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع.
السابعة: واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وعليه بعد أيضا طواف آخر بحجة وسعي بين الصفا والمروة. وروي عن عطاء وطاوس أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، والأول المشهور، وهو الذي عليه الجمهور، وأما طواف القارن فقد تقدم.
الثامنة: واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه. وقال الشافعي: إذا طاف بالبيت في الأشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت، وإنما ينظر إلى كمالها، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة وسفيان الثوري. وقال قتادة وأحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبدالله. وقال طاوس: عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال أصحاب الرأي: إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع. وإن طاف في رمضان أربعة أشواط، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا. وقال أبو ثور: إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا. وهو معنى قول أحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه
التاسعة: أجمع أهل العلم على أن لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، ويكون قارنا بذلك، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا. واختلقوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم يتم طوافه، وروي مثله عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف، وقد قيل: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف. وكل ذلك قول مالك وأصحابه. فإذا طاف المعتمر شوطا واحد لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران. وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه. وقال بعضهم: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة. قال أبو عمر: وهذا كله شذوذ عند أهل العلم. وقال أشهب: إذا طاف لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الإحرام به ولم يكن قارنا، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج، وهذا قول الشافعي وعطاء، وبه قال أبو ثور
العاشرة: واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق: لا تدخل العمرة على الحج، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء، قاله مالك، وهو أحد قولي الشافعي، وهو المشهور عنه بمصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في القديم: يصير قارنا، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا، فإن طاف لم يلزمه، لأنه قد عمل في الحج. قال ابن المنذر: وبقول مالك أقول في هذه المسألة.
الحادية عشرة: قال مالك: من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجز ذلك، وعليه هدي آخر لمتعته، لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته، وحينئذ يجب على الهدي. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق: لا ينحر هديه إلا يوم النحر. وقال أحمد: إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر، وقاله عطاء. وقال الشافعي: يحل من عمرته إذا طاف وسعى، ساق هديا أو لم يسقه.
الثانية عشرة: واختلف مالك والشافعي في المتمتع يموت، فقال الشافعي: إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك، حكاه الزعفراني عنه. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها، أترى عليه هديا؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي. قيل له: من رأس المال أو من الثلث؟ قال: بل من رأس المال.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قد تقدم الكلام فيه
قوله تعالى: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
فيه عشرة مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } يعني الهدي، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاوس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة. وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لأن الله تعالى قال: { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئه، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة، وسيأتي. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم. وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة.
وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلي يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: "الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى". وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقول أصحاب الشافعي، وإما لأن في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به. والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: { أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } يحتمل أن يريد موضع الحج ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لأن آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا. وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدي يوم النحر. فإن قيل هي:
الثانية: فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله ﷺ عن صيام أيام منى، قيل له: إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريف أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق، وقال الحسن وعطاء. قال ابن المنذر: وكذلك نقول.
وقالت طائفة: إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه، فتأمله.
الثالثة: أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه، فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي، فإن لم يفعل أجزاه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور، وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.
الرابعة: قوله تعالى: { وَسَبْعَةٍ } قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد بن علي "وسبعة" بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة.
الخامسة: قوله تعالى: { إِذَا رَجَعْتُمْ } يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقاله مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان. وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل. وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم وقال ابن العربي: إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب.
قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله ﷺ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله ﷺ مكة قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس: "ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم... } 13 الحديث وسيأتي. قال النحاس: وكان هذا إجماعا.
السادسة: قوله تعالى: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر. كمل يكمل، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله: { تِلْكَ عَشَرَةٌ } وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله "تلك عشرة" ثم قال: "كاملة". وقال الحسن: "كاملة" في الثواب كمن أهدى. وقيل: "كاملة" في البدل عن الهدي، يعني العشرة كلها بدل عن الهدي. وقيل: "كاملة" في الثواب كمن لم يتمتع. وقيل: لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر، أي أكملوها فذلك فرضها. وقال المبرد: "عشرة" دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي
منه شيء بعد ذكر السبعة. وقيل: هو توكيد، كما تقوله: كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر:
ثلاث واثنتان فهن خمس... وسادسة تميل إلى شمامي
فقول "خمس" تأكيد. ومثله قول الآخر:
ثلاث بالغداة فذاك حسي... وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي... وشرب المرء فوق الري داء
وقوله: "كاملة" تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر.
السابعة: قوله تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري "عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي ﷺ في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله ﷺ: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي" طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: "من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله" ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه ﷺ وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء.
الثامنة: اللام في قوله "لمن" بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: "اشترطي لهم الولاء". وقوله تعالى: { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } 14 أي فعليها. وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم. ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع. وقال الشافعي: لهم دم تمتع وقران. والإشارة ترجع إلى الهدي والصيام، فلا هدي ولا صيام عليهم. وفرق عبدالملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه.
التاسعة: واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه. وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم. قال ابن عطية: وليس كما قال - فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة. وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت. وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية.
العاشرة: قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي فيما فرضه عليكم. وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه.
هامش