الخصائص/باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة


متى يكون إجماع أهل العربية يكون حجة
باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة

اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص. والمقيس على النصوص فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله من قوله: «أمتي لا تجتمع على ضلالة» وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة.

فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره.

إلا أننا -مع هذا الذي رأيناه وسوغناه مرتكبة- لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر على أوائل وأعجازاً على كلاكل والقوم الذين لا نشك في أن الله -سبحانه وتقدست أسماؤه- قد هداهم لهذا العلم الكريم وأراهم وجه الحكمة في الترجيب له والتعظيم وجعله ببركاتهم وعلى أيدي طاعاتهم خادماً للكتاب المنزل وكلام نبيه المرسل وعوناً على فهمهما ومعرفة ما أمر به أو نهي عنه الثقلان منهما إلا بعد أن يناهضه إتقاناً ويثابته عرفاناً ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره. فإذا هو حذا على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معاز به ولا غاض من السلف -رحمهم الله- في شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه. وشيع خاطره وكان بالصواب مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: ما على الناس شيء أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وقال أبو عثمان المازني: " وإذا قال العالم قولاً متقدماً فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج لخلافه إن وجد إلى ذلك سبيلاً " وقال الطائي الكبير:

يقول من تطرق أسماعه
كم ترك الأول للآخر!

فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بديء هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ما رأيته أنا في قولهم: هذا جحر ضب خرب. فهذا يتناوله آخر عن أول وتال عن ماض على أنه غلط من العرب لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه وأنه من الشاذ الذي لا يحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه.

وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفاً على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير. فإذا حملته على هذا الذي هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس وشاع وقبل. وتلخيص هذا أن أصله: هذا جحر ضب خربٍ جحره فيجري " خرب " وصفاً على " ضب " وإن كان في الحقيقة للجحر. كما تقول مررت برجل قائم أبوه فتجري " قائماً وصفاً على " رجل " وإن كان القيام للأب لا للرجل لما ضمن من ذكره. والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد عليه. فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس " خرب " فجرى وصفاً على ضب - وإن كان الخراب للجحر لا للضب - على تقدير حذف المضاف على ما أرينا. وقلت آية تخلو من حذف المضاف نعم وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع.

وعلى نحو من هذا حمل أبو علي رحمه الله:

كبير أناس في بجاد مزمل


ولم يحمله على الغلط قال: لأنه أراد: مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول.

فإذا أمكن ما قلنا ولم يكن أكثر من حذف المضاف الذي قد شاع واطرد كان حمله عليه أولى من حمله على الغلط الذي لا يحمل غيره عليه ولا يقاس به.

ومثله قول لبيد:

أو مذهب جدد على ألواحه
الناطق المبروز والمختوم

أي المبروز به، ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير، فاستتر في اسم المفعول. وعليه قول الآخر:

إلى غير موثوق من الأرض تذهب


أي موثوق به، ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير، فاستتر في اسم المفعول.