الخصائص/باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة

<الخصائص لابن جني

الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة
باب في الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة

اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها كنصب الفضلة أو ما شابه في اللفظ الفضلة ورفع المبتدأ والخبر والفاعل وجر المضاف إليه وغير ذلك. فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها غير مقتصر بها على تجويزها وعلى هذا مقاد كلام العرب.
وضرب آخر يسمى علة وإنما هو في الحقيقة سبب يجوز ولا يوجب.

من ذلك الأسباب الستة الداعية إلى الإمالة هي علة الجواز لا علة الوجوب ألا ترى أنه ليس في الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بد منها وأن كل ممال لعلة من تلك الأسباب الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه. فهذه إذاً علة الجواز لا علة الوجوب.

ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو "أقتت" همزة فتقول: علة ذلك أن الواو انضمت ضماً لازماً. وأنت مع هذا تجيز ظهورها واواً غير مبدلة فتقول: وقتت. فهذه علة الجواز إذاً لا علة الوجوب. وهذا وإن كان في ظاهر ما تراه فإنه معنى صحيح وذلك أن الجواز معنى تعقله النفس كما أن الوجوب كذلك فكما أن هنا علة للوجوب فكذلك هنا علة للجواز. هذا ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التي يتم الكلام بها وتلك النكرة هي المعرفة في المعنى فتكون حينئذ مخيراً في جعلك تلك النكرة - إن شئت - حالاً و - إن شئت - بدلاً فتقول على هذا: مررت بزيد رجل صالح على البدل وإن شئت قلت: مررت بزيد رجلاً صالحاً على الحال. أفلا ترى كيف كان وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علة لجواز كل واحد من الأمرين لاعلة لوجوبه. وكذلك كل ما جاز لك فيه من المسائل الجوابان والثلاثة وأكثر من ذلك على هذا الحد فوقوعه عليه علة لجواز ما جاز منه لا علة لوجوبه. فلا تستنكر هذا الموضع.

فإن قلت: فهل تجيز أن يحل السواد محلاً ما فيكون ذلك علة لجواز اسوداده لا لوجوبه قيل: هذا في هذا ونحوه لا يجوز بل لا بد من اسوداده البتة وكذلك البياض والحركة والسكون ونحو ذلك متى حل شيء منها في محل لم يكن له بد من وجود حكمه فيه ووجوبه البتة له لأن هناك أمراً لا بد من ظهور أثره. وإذا تأملت ما قدمناه رأيته عائداً إلى هذا الموضع غير مخالف له ولا بعيد عنه وذلك أن وقوع النكرة تلية المعرفة -على ما شرحناه من تلك الصفة- سبب لجواز الحكمين اللذين جازا فيه فصار مجموع الأمرين في وجوب جوازهما كالمعنى المفرد الذي استبد به ما أريتناه: من تمسك بكل واحد من السواد والبياض والحركة والسكون.

فقد زالت عنك إذاً شناعة هذا الظاهر وآلت بك الحال إلى صحة معنى ما قدمته: من كون الشيء علة للجواز لا للوجوب. فاعرف ذلك وقسه فإنه باب واسع.