الخصائص/باب في الاعتراض


الاعتراض
باب في الاعتراض

اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام. وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز الفصل فيه بغيره إلا شاذاً أو متأولاً. قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} فهذا فيه اعتراضان: أحدهما قوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لأنه اعترض به بين القسم الذي هو قوله {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وبين جوابه الذي هو قوله {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو " قسم " وبين صفته التي هي " عظيم " وهو قوله " لو تعلمون ". فذانك اعتراضان كما ترى. ولو جاء الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون: فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم {لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}. ومن ذلك قول امريء القيس: ألا هل أتاها - والحوادث جمةٌ - بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ألا هل أتاها والحوادث كالحصى وأنشدنا أبو علي: وقد أدركتني - والحوادث جمة - أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل فهذا كله اعتراض بين الفعل وفاعله. وأنشدنا أيضاً: ذاك الذي - وأبيك - تعرف مالك والحق يدفع ترهات الباطل فقوله: " وأبيك " اعتراض بين الموصول والصلة. وروينا لعبيد الله بن الحر: تعلم ولو كاتمته الناس أنني عليك - ولم أظلم - بذلك عاتب فقوله: " ولو كاتمته الناس " اعتراض بين الفعل ومفعوله وقوله: " ولم أظلم بذلك " اعتراض بين اسم أن وخبرها. ومن ذلك قول أبي النجم - أنشدناه -: وبدلت - والدهر ذو تبدل - هيفاً دبوراً بالصبا والشمأل فقوله: " والدهر ذو تبدل " اعتراض بين المفعول الأول والثاني. ومن الاعتراض قوله: ألم يأتك - والأنباء تنمي - بما لاقت لبون بني زياد فقوله: " والأنباء تنمي " اعتراض بين الفعل وفاعله. وهذا أحسن مأخذاً في الشعر من أن يكون في " يأتيك " ضمير من متقدم مذكور. فأما ما أنشده أبو علي من قول الشاعر: أتنسى - لا هداك الله - ليلى وعهد شبابها الحسن الجميل! كأن - وقد أتى حول جديد - أثافيها حمامات مثول فإنه لا اعتراض فيه. وذلك أن الاعتراض لا موضع له من الإعراب ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض على ما تقدم. فأما قوله: " وقد أتى حول جديد " فذو موضع من الإعراب وموضعه النصب بما في " كأن " من معنى التشبيه ألا ترى أن معناه: أشبهت وقد أتى حول جديد حمامات مثولاً أو أشبهها وقد مضى حول جديد بحمامات مثول أي أشبهها في هذا الوقت وعلى هذه الحال بكذا. وأنشدنا: أراني - ولا كفران لله أية لنفسي - لقد طالبت غير منيل ففي هذا اعتراضان: أحدهما - " ولا كفران لله ". والآخر - قوله: " أية " أي أوَيت لنفسي أيَّة معناه رحمتها ورققت لها. فقوله: أويت لها لا موضع له من الإعراب. وسألنا الشجري أبا عبد الله يوماً عن فرس كانت له فقال: هي بالبادية. قلنا لم قال: إنها وجية فأنا آوي لها أي أرحمها وأرق لها. وكذلك قول الآخر: أراني ولا كفران لله إنما أواخي من الأقوام كل بخيل ومن الاعتراض قولهم: زيد - ولا أقول إلا حقاً - كريم. وعلى ذلك مسئلة الكتاب: إنه - المسكين - أحمق ألا ترى أن تقديره: إنه أحمق وقوله " المسكين " أي هو المسكين وذلك اعتراض بين اسم إن وخبرها. ومن ذلك مسئلته: " لا أخا - فاعلم - لك ". فقوله: " فاعلم " اعتراض بين المضاف والمضاف إليه كذا الظاهر. وأجاز أبو علي رحمه الله أن يكون " لك " خبراً ويكون " أخا " اسماً مقصوراً تاماً غير مضاف كقولك: لا عصا لك. ويدل على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة فهو إذاً فعل وذلك قولهم: أخ وآخاء فيما حكاه يونس. وقال بعض آل المهلب: وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم وأي بني الآخاء تنبو مناسبه! فغير منكر أن يخرج واحدها أصله كما خرج واحد الآباء على أصله وذلك قولهم: هذا أباً ورأيت أباً ومررت بأباً. وروينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: يقال هذا أبوك وهذا أباك وهذا أبُك فمن قال: هذا أبوك أو أباك فتثنيته أبوان ومن قال هذا أبك فتثنيته أبان وأبوان. وأنشد: سوى أبك الأدنى وإن محمداً على كل عال يابن عم محمد وأنشد أبو علي عن أبي الحسن: تقول ابنتي لما رأتني شاحباً كأنك فينا يا أبات غريب قال: فهذا تأنيث أبا وإذا كان كذلك جاز جوازاً حسناً أن يكون قولهم: لا أبا لك " أبا " منه اسم مقصور كما كان ذلك في " أخالك " ويحسنه أنك إذا حملت الكلام عليه جعلت له خبراً ولم يكن في الكلام فصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر غير أنه يؤنس بمعنى إرادة الإضافة قول الفرزدق: ظلمت ولكن لا يدى لك بالظلم فلهذا جوزناها جميعاً. وروينا لمعن بن أوس: وفيهن - والأيام يعثرن بالفتى - نوادب لا يمللنه ونوائح ففصل بقوله: " والأيام يعثرن بالفتى " بين المبتدأ وخبره. وأنشدنا: وسألته عن بيت كثير: وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت فأجاز أن يكون قوله: " وتهيامي بعزة " جملة من مبتدأ وخبر اعترض بها بين اسم إن وخبرها الذي هو قوله: لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت فقلت له: أيجوز أن يكون " وتهيامي " بعزة قسماً فأجاز ذلك ولم يدفعه. وقال الله عز وجل: " هذا فليذوقوه حميم وغساق ". فقوله تعالى: " فليذوقوه " اعتراض بين المبتدأ وخبره. وقال رؤبة: إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصرٌ نصرا فاعترض بالقسم بين اسم إن وخبرها. والاعتراض في شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه وامتداد نفسه وقد رأيته في أشعار المحدثين وهو في شعر إبراهيم بن المهدي أكثر منه في شعر غيره من المولدين.