الخصائص/باب في امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس

​الخصائص​ المؤلف ابن جني
باب في امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس


وإنما يقع ذلك في كلامهم إذا استغنت بلفظ عن لفظ كاستغنائهم بقولهم: ما أجود جوابه عن قولهم: ما أجوبه أو لأن قياساً آخر عارضه فعاق عن استعمالهم إياه وكاستغنائهم ب "كاد زيد يقوم" عن قولهم: كاد زيد قائماً أو قياماً. وربما خرج ذلك في كلامهم قال تأبط شراً: فأبت إلى فهم وما كدت آئبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر هكذا صحة رواية هذا البيت وكذلك هو في شعره. فأما رواية من لا يضبطه: وما كنت آئبا ولم أك آئبا فلبعده عن ضبطه. ويؤكد ما رويناه نحن مع وجوده في الديوان أن المعنى عليه ألا ترى أن معناه: فأبت وما كدت أءوب فأما " كنت " فلا وجه لها في هذا الموضع. ومثل ذلك استغناؤهم بالفعل عن اسم الفاعل في خبر " ما " في التعجب نحو قولهم: ما أحسن زيداً ولم يستعملوا هنا اسم الفاعل " وإن " كان الموضع في خبر المبتدأ إنما هو للمفرد دون الجملة. ومما رفضوه استعمالاً وإن كان مسوغاً قياساً وذر وودع استغني عنهما بترك. ومما يجوز في القياس - وإن لم يرد به استعمال - الأفعال التي وردت مصادرها ورفضت هي نحو قولهم: فاظ الميت يفيظ فيظاً وفوظاً. ولم يستعملوا من فوظ فِعلاً. وكذلك الأين للإعياء لم يستعملوا منه فِعلاً قال أبو زيد وقالوا: رجل مدرهم ولم يقولوا دُرهم. وحدثنا أبو علي - أظنه عن ابن الأعرابي - أنهم يقولون: درهمت الخبازى فهذا غير الأول. وقالوا: رجل مفئود ولم يصرفوا فِعله ومفعولٌ الصفة إنما يأتي على الفعل نحو مضروب من ضرب ومقتول من قتل. فأما امتناعهم من استعمال أفعال الويح والويل والويس والويب فليس للاستغناء بل لأن القياس نفاه ومنع منه. وذلك أنه لو صرف الفعل من ذلك لوجب اعتلال فائه كوعد وعينه كباع فتحاموا استعماله لما كان يعقب من اجتماع إعلالين. فإن قيل: فهلا صرفت هذه الأفعال واقتصر في الإعلال لها على إعلال أحد حرفيها كراهية لتوالي الإعلالين كما أن شويت ورويت ونحو ذلك لما وقعت عينها ولامها حرفي علة صححوا العين لاعتلال اللام تحامياً لاجتماع الإعلالين فقالوا: شوى يشوي كقوله: رمى يرمي قيل: لو فعل ذلك في فعل ويح وويل لوجب أن تعل العين وتصحح الفاء كما أنه لما وجب إعلال أحد حرفي شويت وطويت وتصحيح صاحبه أعلوا اللام وصححوا العين ومحل الفاء من العين محل العين من اللام فالفاء أقوى من العين كما أن العين أقوى من اللام فلو أعلوا العين في الفعل من الويل ونحوه لقالوا وال يويل وواح يويح وواس يويس وواب يويب فكانت الواو تثبت هنا مكسورة وذلك أثقل منها في باب وعد ألا تراها هناك إنما كرهت مجاورة للكسرة فحذفت وأصلها يوعد والواو ساكنة والكسرة في العين بعدها. ولو قالوا يويل لأثبتوها والكسرة فيها نفسها وذلك أثقل من يوعد لو أخرجوه على أصله وليس كذلك يشوي ويطوي لأن أكثر ما في ذلك أن أخرجوه والحركة فيه. وهكذا كانت حاله أيضاً فيما صحت لامه ألا ترى أن يقوم أصله يقوُم فالعين في الصحيح اللام إنما غاية أصليتها أن تقع متحركة ثم سكنت فقيل يقوم فأما ما صحت عينه وفاؤه واو نحو وعد ووجد فإن أصل بنائه إنما هو سكون فائه وكسرة عينه نحو يوعد ويوزن ويوجد والواو كما ترى ساكنة فلو أنك تجشمت تصحيحها في يويل ويويح لتجاوزت بالفاء حدها المقدر لها فيما صحت عينه. فإن أحللت الكسرة فيها نفسها فكان ذلك يكون - لو تكلف - أثقل من باب يوعد ويوجد لو خرج على الصحة. فاعرف ذلك فرقاً لطيفاً بين الموضعين. ومما يجيزه القياس - غير أن لم يرد به الاستعمال - خبر " العَمْر والايمُن " من قولهم: لعمرك لأقومن ولايمن الله لأنطلقن. فهذان مبتدآن محذوفا الخبرين وأصلهما - لو خرج خبراهما - لعمرك ما أقسم به لأقومن ولايمن الله ما أحلف به لأنطلقن فحذف الخبران وصار طول الكلام بجواب القسم عوضاً من الخبر. ومن ذلك قولهم: لا أدري أي الجراد عاره أي ذهب به ولا يكادون ينطقون بمضارعه والقياس مقتض له وبعضهم يقول: يعوره وكأنهم إنما لم يكادوا يستعملون مضارع هذا الفعل لما كان مثلاً جارياً في الأمر المتقضي الفائت وإذا كان كذلك فلا وجه لذكر المضارع هنا لأنه ليس بمتقضٍّ. ومن ذلك امتناعهم من استعمال استحوذ معتلاً وإن كان القياس داعياً إلى ذلك ومؤذناً به لكن عارض فيه إجماعهم على إخراجه مصححاً ليكون دليلاً على أصول ما غير من نحوه كاستقام واستعان. ومن ذلك امتناعهم من إظهار الحرف الذي تعرف به " أمسِ " حتى اضطروا - لذلك - إلى بنائه لتضمنه معناه فلو أظهروا ذلك الحرف فقالوا مضى الأمس بما فيه لما كان خلفاً ولا خطأ. فأما قوله: وإني وقفت اليوم والأمس قبله ببابك حتى كادت الشمس تغرب فرواه ابن الأعرابي: والأمسِ والأمسَ جراً ونصباً. فمن جره فعلى الباب فيه وجعل اللام مع الجر زائدة حتى كأنه قال: وإني وقفت اليوم وأمس كما أن اللام في قوله تعالى {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} زائدة واللام المعرفة له مرادة فيه وهو نائب عنها ومتضمن لها فلذلك كسر فقال: والأمسِ فهذه اللام فيه زائدة والمعرفة له مرادة فيه ومحذوفة منه. يدل على ذلك بناؤه على الكسر وهو في موضع نصب كما يكون مبنياً إذا لم تظهر إلى لفظه. وأما من قال: والأمسَ فنصب فإنه لم يضمنه معنى اللام فيبنيه ولكنه عرفه بها كما عرف اليوم بها فليست هذه اللام في قول من قال: والأمسَ فنصب هي تلك اللام التي " هي في قول من قال " والأمسِ فجر. تلك لا تظهر أبداً لأنها في تلك اللغة لم تستعمل مظهرة ألا ترى أن من ينصب غير من يجر فلكل منهما لغته وقياسها على ما نطق به منها لا تداخل أختها ولا نسبة في ذلك بينها وبينها كما أن اللام في قولهم " الآن حد الزمانين " غير اللام في قوله سبحانه {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} لأن الآن من قولهم " الآن حد الزمانين " بمنزلة " الرجل أفضل من المرأة والملك أفضل من الإنسان " أي هذا الجنس أفضل من هذا الجنس فكذلك " الآن " إذا رفعه جعله جنس هذا المستعمل في قولك " كنت الآن عنده وسمعت الآن كلامه " فمعنى هذا: كنت في هذا الوقت الحاضر بعضه وقد تصرمت أجزاء منه. فهذا معنى غير المعنى في قولهم الآنُ ونظير ذلك أن الرجل من نحو قولهم: نعم الرجل زيد غير الرجل المضمر في " نِعم " إذا قلت: نعم رجلاً زيد لأن المضمر على شريطة التفسير لا يظهر ولا يستعمل ملفوظاً به ولذلك قال سيبويه: هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمراً أي إذا فسر بالنكرة في نحو نعم رجلاً زيد فإنه لا يظهر أبداً. وإذا كان كذلك علمت زيادة الزاد في قول جرير: تزود مثل زاد أبيك فينا فنعم الزاد زاد أبيك زادا وذلك أن فاعل " نعم " مظهر فلا حاجة به إلى أن يفسر فهذا يسقط اعتراض محمد بن يزيد عن صاحب الكتاب في هذا الموضع. واعلم أن الشاعر إذا اضطر جاز له أن ينطق بما يبيحه القياس وإن لم يرد به سماع. ألا ترى إلى قول أبي الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى وَدَعه وعلى ذلك قراءة بعضهم {ما وَدَعك ربك وما قلى} بالتخفيف أي ما تركك. دل عليه قوله " وما قلى " لأن الترك ضرب من القلي فهذا أحسن من أن يعل باب استحوذ واستنوق الجمل لأن استعمال " ودع " مراجعة أصل وإعلال استحوذ واستنوق ونحوهما من المصحح ترك واعلم أن استعمال ما رفضته العرب لاستغنائها بغيره جار في حكم العربية مجرى اجتماع الضدين على المحل الواحد في حكم النظر. وذلك أنهما إذا كانا يعتقبان في اللغة على الاستعمال جريا مجرى الضدين اللذين يتناوبان المحل الواحد. فكما لا يجوز اجتماعهما عليه فكذلك لا ينبغي أن يستعمل هذان وأن يكتفي بأحدهما عن صاحبه كما يحتمل المحل الواحد الضد الواحد دون مراسلة. ونظير ذلك في إقامة غير المحل مقام المحل ما يعتقدونه في مضادة الفناء للأجسام. فتضادهما إنما هو على الوجود لا على المحل ألا ترى أن الجوهر لا يحل الجوهر بل يتضمنه في حال التضاد الوجود لا المحل. فاللغة في هذه القضية كالوجود واللفظان المقام أحدهما مقام صاحبه كالجوهر وفنائه فهما يتعاقبان على الوجود لا على المحل كذلك الكلمتان تتعاقبان على اللغة والاستعمال. فاعرف هذا إلى ما قبله. وأجاز أبو الحسن ضُرِب الضربُ الشديدُ زيداً ودُفع الدفع الذي تعرف إلى محمد ديناراً وقتل القتل يوم الجمعة أخاك ونحو هذه المسائل. ثم قال: هو جائز في القياس وإن لم يرد به الاستعمال. فإن قلت فقد قال: فأقام حرف الجر ومجروره مقام الفاعل وهناك مفعول به صحيح قيل هذا من أقبح الضرورة ومثله لا يعتد أصلاً بل لا يثبت إلا محتقراً شاذاً. وأما قراءة من قرأ {وكذلك نُجِّي المؤمنين} فليس على إقامة المصدر مقام الفاعل ونصب المفعول الصريح لأنه عندنا على حذف إحدى نوني " ننجي " كما حذف ما بعد حرف المضارعة في قول الله سبحانه " تذكّرون " أي تتذكرون. ويشهد أيضاً لذلك سكون لام " نجي " ولو كان ماضياً لانفتحت اللام إلا في الضرورة. وعليه قول المثقب العبدي: لمن ظعن تطالع من ضبيب فما خرجت من الوادي لحين أي تتطالع فحذف الثانية على ما مضى. وما يحتمله القياس ولم يرد به السماع كثير. منه القراءات التي تؤثر رواية ولا تتجاوز لأنها لم يسمع فيها ذلك كقوله - عز اسمه - {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ} فالسنة المأخوذ بها في ذلك إتباع الصفتين إعراب اسم الله سبحانه والقياس يبيح أشياء فيها وإن لم يكن سبيل إلى استعمال شيء منها. نعم وهناك من قوة غير هذا المقروء به ما لا يشك أحد من أهل هذه الصناعة في حسنه كأن يقرأ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ} برفع الصفتين جميعاً على المدح. ويجوز {الرَّحْمنَ الرَّحِيمَ} بنصبهما جميعاً عليه. ويجوز { الرحمنُ الرحيمَ } برفع الأول ونصب الثاني. ويجوز { الرحمنَ الرحيمُ } بنصب الأول ورفع الثاني. كل ذلك على وجه المدح وما أحسنه ههنا! وذلك أن الله تعالى إذا وصف فليس الغرض في ذلك تعريفه بما يتبعه من صفته لأن هذا الاسم لا يعترض شك فيه فيحتاج إلى وصفه لتخليصه لأنه الاسم الذي لا يشارك فيه على وجه وبقية أسمائه - عز وعلا - كالأوصاف التابعة لهذا الاسم. وإذا لم يعترض شك فيه لم تجيء صفته لتخليصه بل للثناء على الله تعالى. وإذا كان ثناء فالعدول عن إعراب الأول أولى به. وذلك أن إتباعه إعرابه جار في اللفظ مجرى ما يتبع للتخليص والتخصيص. فإذا هو عدل به عن إعرابه علم أنه للمدح أو الذم في غير هذا عز الله تعالى فلم يبق فيه هنا إلا المدح. فلذلك قوي عندنا اختلاف الإعراب في الرحمن الرحيم بتلك الأوجه التي ذكرناها. ولهذا في القرآن والشعر نظائر كثيرة.