الخصائص/باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديرا وحكما لا زمانا ووقتا


مراتب الأشياء
باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديراً وحكماً لا زماناً ووقتاً

هذا الموضع كثير الإيهام لأكثر من يسمعه لا حقيقة تحته. وذلك كقولنا: الأصل في قام قوم وفي باع بيع وفي طال طول وفي خاف ونام وهاب: خوف ونوم وهيب وفي شد شدد وفي استقام استقوم وفي يستعين يستعون وفي يستعد يستعدد. فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها -مما يدعي أن له أصلاً يخالف ظاهر لفظه- قد كان مرة يقال حتى إنهم كانوا يقولون في موضع قام زيد: قوَم زيد وكذلك نوِم جعفر وطَوُلَ محمد وشدَد أخوك يده واستعدد الأمير لعدوه وليس الأمر كذلك بل بضده. وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه. وإنما معنى قولنا: إنه كان أصله كذا: أنه لو جاء مجيء الصحيح ولم يعلل لوجب أن يكون مجيئه "على ما ذكرنا". فأما أن يكون استعمل وقتاً من الزمان كذلك ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر. ويدل على أن ذلك عند العرب معتقد - كما أنه عندنا مراد معتقد - إخراجها بعض ذلك مع صددت فأطولت الصدود وقلما وصال على طول الصدود يدوم هذا يدلك على أن أصل أقام أقوم وهو الذي نوميء نحن إليه ونتخيله فرب حرف يخرج هكذا منبهة على أصل بابه ولعله إنما أخرج على أصله فتُجشم ذلك فيه لما يعقب من الدلالة على أولية أحوال أمثاله. وكذلك قوله: أني أجود لأقوام وإن ضننوا فأنت تعلم بهذا أن أصل شلت يده شلِلَت: أي لو جاء مجيء الصحيح لوجب فيه إظهار تضعيفه. وقد قال الفرزدق: ولو رضيت يداي بها وضنت لكان علي في القدر الخيار فأصل ضنت إذاً ضنِنَت بدلالة قوله: ضننوا. وكذلك قوله: تراه -وقد فات الرماة- كأنه أمام الكلاب مُصغِيُ الخد أصلم تعلم منه أن أصل قولك: هذا معطي زيد: معطيُ زيد. ومن أدل الدليل على أن هذه الأشياء التي ندعي أنها أصول مرفوضة لا يعتقد أنها قد كانت مرة مستعملة ثم صارت من بعد مهملة ما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذره. وذلك كقولنا في شرح حال الممدود غير المهموز الأصل نحو سماء وقضاء. ألا ترى أن الأصل سماوٌ وقضايٌ فلما وقعت الواو والياء طرفاً بعد ألف زائدة قلبتا ألفين فصار التقدير بهما إلى سماا وقضاا فلما التقت الألفان تحركت الثانية منهما فانقلبت همزة فصار ذلك إلى سماء وقضاء. أفلا تعلم أن أحد ما قدرته -وهو التقاء الألفين- لا قدرة لأحد على النطق به. وكذلك ما نتصوره وننبه عليه أبداً من تقدير مفعول مما عينه أحد حرفي العلة وذلك نحو مبيع ومكيل ومقول ومصوغ ألا تعلم أن الأصل مبيوع ومكيول ومقوول ومصووغ فنقلت الضمة من العين إلى الفاء فسكنت وواو مفعول بعدها ساكنة فحذفت إحداهما -على الخلاف فيهما- لالتقاء الساكنين. فهذا جمع لهما تقديراً وحكماً. فأما أن يمكن النطق بهما على حال فلا. واعلم مع هذا أن بعض ما ندعي أصليته من هذا الفن قد ينطق به على ما ندعيه من حاله -وهو أقوى الأدلة على صحة ما نعتقده من تصور الأحوال الأول- وذلك اللغتان تختلف فيهما القبيلتان كالحجازية والتميمية ألا ترى أنا نقول في الأمر من المضاعف في التميمية -نحو شُدّ وضَنّ وفِرّ واستَعِدّ واصطبّ يا رجل واطمئنّ يا غلام-: إن الأصل اشدُد واضنَن وافرِر واستعدِد واصطبِب واطمأنِن ومع هذا فهكذا لغة أهل الحجاز وهي اللغة الفصحى القدمى. ويؤكد ذلك قول الله سبحانه: «فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوه» أصله استطاعوا فحذفت التاء؛ لكثرة الاستعمال ولقرب التاء من الطاء، وهذا الأصل مستعمل، ألا ترى أن عقيبه قوله تعالى «وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا». وفيه لغة أخرى وهي: استعت بحذف الطاء كحذف التاء ولغة ثالثة: أسطعت بقطع الهمزة مفتوحة ولغة رابعة: أستعت مقطوعة الهمزة مفتوحة أيضاً. فتلك خمس لغات: استطعت واسطعت واستعت وأسطعت وأستعت. وروينا بيت الجران: وفيك إذا لاقيتنا عجرفية مراراً فما نستيع من يتعجرف بضم حرف المضارعة وبالتاء. ومن ذلك اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين نحو مبيع ومخيط ورجل مدين من الدين. فهذا كله مغير. وأصله مبيوع ومديون ومخيوط فغير على ما مضى. ومع ذلك فبنو تميم -على ما حكاه أبو عثمان عن الأصمعي -يتمون مفعولاً من الياء فيقولون: مخيوط ومكيول قد كان قومك يزعمونك سيداً وإخال أنك سيد معيون وأنشد أبو عمرو بن العلاء: وكأنها تفاحة مطيوبة وقال علقمة بن عبدة: يوم رذاذٍ عليه الدجن مغيوم ويروي: يومٌ رذاذٌ. وربما تخطوا الياء في هذه إلى الواو وأخرجوا مفعولاً منها على أصله وإن كان - أثقل منه من - الياء. وذلك قول بعضهم: ثوب مصوون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه. وأنشدوا فيه: والمسك في عنبره مدووف ولهذا نظائر كثيرة إلا أن هذا سمتها وطريقها. فقد ثبت بذلك أن هذه الأصول المومأ إليها على أضرب: منها ما لا يمكن النطق به أصلاً نحو ما اجتمع فيه ساكنان كسماء ومبيع ومصوغ ونحو ذلك. ومنها ما يمكن النطق به غير أن فيه من الاستثقال ما دعا إلى رفضه واطراحه إلا أن يشذ الشيء القليل منه فيخرج على أصله منبهة ودليلاً على أولية حاله كقولهم: لححت عينه وألِل السقاء إذا تغيرت ريحه وكقوله: لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطَّلب ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الياء في نحو موسر وموقن والواو في نحو ميزان وميعاد وامتناعهم من إخراج افتعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء أو دالاً أو ذالاً أو زاياً على أصله وامتناعهم من تصحيح الياء والواو إذا وقعتا طرفين بعد ألف زائدة وامتناعهم من جمع الهمزتين في كلمة واحدة ملتقيتين غير عينين. فكل هذا وغيره مما يكثر تعداده يمتنع منه استكراهاً للكلفة فيه وإن كان النطق به ممكناً غير متعذر. وحدثنا أبو علي رحمه الله فيما حكاه -أظنه- عن خلف الأحمر: قال: يقال التقطت النوى واشتقطته واضتقطته. فصحح تاء افتعل وفاؤه ضاد ونظائره -مما يمكن النطق به إلا أنه رفض استثقالاً له- كثيرة. قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون الضاد في اضتقطت بدلاً من شين اشتقطت فلذلك ظهرت كما تصح التاء مع الشين. ونظيره قوله: مال إلى أرطاة حقف فالطجع ومنها ما يمكن النطق به إلا أنه لم يستعمل لا لثقله لكن لغير ذلك: من التعويض منه أو لأن الصنعة أدت إلى رفضه. وذلك نحو " أن " مع الفعل إذا كان جواباً للأمر والنهي وتلك الأماكن السبعة نحو اذهب فيذهب معك «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب» وذلك أنهم عوضوا من " أن " الناصبة حرف العطف وكذلك قولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك وقوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا صارت أو - والواو - فيه عوضاً من " أن " وكذلك الواو التي تحذف " معها رب " في أكثر الأمر نحو قوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق غير أن الحر لرب لا للواو كما أن النصب في الفعل إنما هو لأن المضمرة لا للفاء ولا للواو ولا " لأو ". ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره مصدراً كان أو غيره نحو ضرباً زيداً وشتماً عمراً. وكذلك دونك زيداً وعندك جعفراً ونحو ذلك: من الأسماء المسمى بها الفعل. فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب. ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة نحو قولك إذا رأيت قادماً: خير مقدم أي قدمت خير مقدم. فنابت الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب. وكذلك قولك للرجل يهوي بالسيف ليضرب به: عمراً وللرامي للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتاً القرطاس والله: أي اضرب عمراً وأصاب القرطاس. فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه ومؤد تأديته. وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم " بالتعاقب " من هذا النحو ما فيه كاف بإذن الله تعالى.