السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية/2



وأما الفيء فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر التي أنزلها الله في غزة بني النضير بعد بدر من قوله تعال {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}

ومعنى قوله {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا إبلا ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال لأن إيجاف الخيل والركاب هو معنى القتال وسمي فيئا لأن الله أفاءه على المسلمين أي رده عليهم من الكفار فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته لعباده المؤمنين الذين يعبدونه وأفاء إليهم ما يستحقونه كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك وهذا مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو أو يهدونه إلى سلطان المسلمين الحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوه وما يؤخذ من تجار أهل الحرب وهو العشر ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم وهو نصف العشر

هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ وما يأخذ من أموال من ينقض العهد منهم والخراج الذي كان مضربا في الأصل عليهم وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين

ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين: كالأموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين وكالغصوب والعواري والودائع التي تعذر معرفة أصحابها وغير ذلك من أموال المسلمين العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط لأن النبي ما كان يموت على عهده ميت إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة أي أقربهم نسبا إلى جدهم وقد قال بذلك طائفة من العلماء كأحمد في قول منصوص وغيره ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له فدفع ميراثه إلى عتيقه وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان هو وخلفاءه يتوسعون في دفع ميراث الميت إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه

ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدقات وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما أمر الله به في كتابه

ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله وأبي بكر رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين

وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال وكان النبي وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع كما ذكرناه ونوع يحرم أخذه بالإجماع كالجنايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم وإن كان له وارث أو على حد ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة - ونحو ذلك

وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما لا يحل وهؤلاء يمنعون ما يجب كما قد يتظالم الجند والفلاحون وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ويكنز الولاة من مال الله مما لا يحل كنزه وكذلك العقوبات على أداء الأموال فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب وقد يفعل ما لا يحل

والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه كرجل عنده وديعة أو مضارة أو شركة أو مال لموكله أو مال يتيم أو مال وقف أو مال لبيت المال أو عنده دين هو قادر على أدائه فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين وعرف أنه قادر على أدائه فإنه يستحق العقوبة حتى يظهر المال - أو يدل على موضعه - فإذا عرف المال وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال ولا حاجة إلى ضربه به وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها لما روى عمر بن الشريد عن أبيه عن النبي أنه قال [ لي الواجد يحل عرضه عقوبته ] رواه أهل السنن وقال [ مطل الغني ظلم ] أخرجاه في الصحيحين واللي هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا استحق العقوبة فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر فيعاقب الغني المماطل بالحبس فإن أصر عوقب بالضرب حتى يؤدي الواجب وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم رضي الله عنهم ولا أعلم فيه خلافا

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح سأل بعض اليهود وهو سعية عم حيي بن أخطب عن كنز مال حيي بن أخطب فقال أذهبته النفقات والحروب فقال ك [ العهد قريب والمال أكثر من ذلك ] فدفع النبي سعية إلى الزبير فمسه بعذاب فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة وهذا الرجل كان ذميا والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك يعاقب على ترك الواجب

وما أخذ ولاة الأموال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هدايا العمال غلول وروى إبراهيم الحربي - في كتاب الهدايا - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: [ هدايا الأمراء غلول ] وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي : [ ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يجمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ ثلاثا ]

وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك من الهداية ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها وكان الأمر يقتضي ذلك لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له

وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهداية ونحوها ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم فيكون من اخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم وتعريفه بأمورهم ودلالته على مصالحهم وصرفه عن مفاسدهم بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم ففي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه عن النبي أنه كان يقول: [ أبلغوني حاجة من لا يستطيق إبلاغها فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ]

وقد روى الإمام أحمد و أبو داود في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ] وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل فيقضي له فيهدى إليه فيقبلها وروى أيضا عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا فرده عليه وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا أو كثيرا فهو سحت فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذاك كفر

فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منهما ظالم كلص سرق من لصن وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان :

الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهما أنه متورع وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك

والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه لله ورسوله

نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوية إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء كمالك و أبو حنيفة و أحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر

وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين فإن مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وهي مبينة لقوله {اتقوا الله حق تقاته} وعلى قول النبي : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين

وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتبطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع

والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك - بمال أقل منه إليه - أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن وما على المحسنين من سبيل

وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ

كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء كان محسنا

لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذي يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ثم يقذفون في النار

وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة

فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح ؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا إلا ما خص به نوع كالصدقات والمغنم

ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعا وحفظا وقسمة ونحو ذلك حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك

وكذا صرفه في الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد والثغور بالكراع والسلاح وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه كالأنهار

ومن المستحقين: ذوو الحاجات فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيره ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره منهم من قال: يقدمون ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث والصحيح أنهم يقدمون فإن النبي كان يقدم ذوي الحاجات كما قدمهم في مال بني النضير وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد إنما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته فجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام :

(الأول) ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال

(الثاني) من يغني عن المسلمين في جلب المنافع له كولاة الأمور والعلماء الذين يجعلون لهم منافع الدين والدنيا

(الثالث) من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم

(الرابع) ذوو الحاجات

واذا حصل من هؤلاء متبرع فقد أغنى الله به وإلا أعطي ما يكفيه أو قدر عمله وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث

ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا مالا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه كعطية المخنثين من الصبيان المردان الأحرار والمماليك ونحوهم والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم

لكن يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه وإن كان هو لا يحل له أخذ ذلك كما أباح الله تعالى في القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم من الصدقات وكما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه وهم السادة المطاعون في عشائرهم كما كان النبي يعطي الأقرع بن حابس سيد بني تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزارة وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان وعلقمة ابن عاثة العامري سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمر والحارث بن هشام وعدد كثير ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي وهو باليمن بذهبية بتربتها إلى رسول الله فقسمها رسول الله بين أنفر: والأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن حصن الفزاري وعلقمة ابن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي أحد بني نبهان

قال: فغضبت قريش والأنصار فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله : [ إني إنما فعلت ذلك لتألفهم ] فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد. فقال رسول الله : [ فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني أهل الأرض ولا تأمنوني؟ ]

قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتلهن ويرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله : [ إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ]

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة ابن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس ذلك فقال عباد بن مرداس :

( أتجعل نهبي ونهب العبـ ... يد بين عيينة والأقرع )

( وما كان حصن ولا حابس يفو ... قان مرداس في المجمع )

( وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع )

قال: فأتم له رسول الله مائة رواه مسلم و العبيد اسم فرس له

والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم فالكافر: إما أن ترجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا كحسن إسلامه أو إسلام نظيره أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو لنكاية في العدو أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك

وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات فإذا كان قصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي وخلفائه وإن كان المقصود العلو في الارض والفساد كان من جنس عطاء فرعون وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي حتى قال فيه ما قال وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم

وهؤلاء أمر النبي بقتالهم لأن معهم دين فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخره وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل فإن كلاهما فيه ترك فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة جبنا وبخلا وقد قال النبي : [ شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع ] قال الترمذي: حديث صحيح

كذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا أو إظهارا أنه ورع وإنما هو كبر وإرادة للعلو وقول النبي : [ إنما الأعمال بالنيات ] كلمة جامعة كاملة فإن النية للعمل كالروح للجسد وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر قد وضع جبهته على الأرض فصورتهما واحدة ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى وهذا أبعد الخلق عن الله وقد قال الله تعالى: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} وفي الأثر أفضل الإيمان: السماحة والصبر فلا يتم رعابة الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء والنجدة التي هي الشجاعة بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ولهذا كان من لا يقوم بهما سلبه الأمر ونقله إلى غيره كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} وقد قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هوالشجاعة وكذلك قال الله تعالى في غير موضع: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وبين أن البخل من الكبائر في قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وفي قوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} الآية وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} وفي قوله تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وهو كثير في الكتاب والسنة وهو مما تفق عليه أهل الأرض حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية: لا طعنة ولا جفنة ويقولون: لا فارس الخيل ولا وجه العرب

ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق: فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد فلم ينظروا في عاقبة المعاد ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها فصاروا فهابين وهابي وهؤلاء يقولون: لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فإنه إذا تولى العفيف الذي لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه إن لم يضروه في نفسه وماله وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة إن لم يحصل له ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها

وفريق عندهم خوف من الله تعالى ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق وفعل المحارم فهذا حسن واجب ولكن قد يعتقدون مع ذلك: أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام فيمنعون عنها مطلقا وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل أو ضيق خلق بنضم إلى ما معهم من الدين فيقعون أحيانا في ترك واجب يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات أو يقعون في النهي عن واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله وقد يكونون متأولين وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ولا يتم إلا بالقتال فيقاتلون المسلمين كما فعلة الخوارج وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا ويغفر لهم قصورهم وقد يكونون من الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار لا بمال ولا بنفع ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم

الفريق الثالث: الأمة الوسط وهم ( أهل ) دين محمد وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة وهو إنفاق المال والمنافع للناس - وإن كانوا رؤساء - بحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال ولإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والإحسان {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}

ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة

وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إليه إلى طعامه ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه والأولون فإن الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس ما لا تطمع في العفيف ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني فإن العفة مع القدرة تقوى حرمة الدين وفي الصحيحين عن أبي سفيان بن حرب أن هرقل ملك الروم قال له عن النبي : بماذا يأمركم ؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة - وفي الأثر: أن الله أوحى إلى إبراهيم الخليل عليه السلام: يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ هذا الذي ذكرناه في الرزق والعطاء الذي هو السخاء وبذل المنافع نظيره في الصبر والغضب الذي هو الشجاعة ودفع المضار

إن الناس ثلاثة أقسام: قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم والثالث - وهو الوسط - أن يغضب لا لنفسه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله بيده: خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله

فأما من يغضب لنفسه لا لربه أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره فهذا القسم الرابع شر الخلق لا يصلح بهم دين ولا دنيا

كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه ويعفون عن حظوظهم وهذا أخلاق رسول الله صلى عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور

وكلما كان إليها أقرب كان أفضل فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهد ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا من الدين فهذا في قول الله سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والله أعلم

وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق وهما قسمان:

فالقسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم وكلهم محتاج إليها وتسمى حدود الله وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ومثل: الحكم في الأمور السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين فهذه من أهم أمور الولايات ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء

وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به وأن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق وقد اشترط المطالبة بالمال لئلا يكون للسارق فيه شبهة

وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع والضعيف ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرها ولا تحل الشفاعة فيه ومن عطله لذلك - وهو قادر على إقامته - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم دين ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال قيل يا رسول الله: وما ردعة الخبال ؟ قال عصارة أهل النار ] فذكر النبي الحكام والشهداء والخصماء وهؤلاء أركان الحكم

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله: [ أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد قال: يا أسامة: أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] ففي هذه القصة عبرة فإن أشرف بيت كان في قريش بطنان: بنو مخزوم وبنو عبد مناف فلما وجب على هذه القطاع بسرقتها التي هي جحود العارية على قول بعض العلماء أو سرقة أخرى - غير هذه - على قول آخرين وكانت ( من ) أكبر القبائل وأشرف البيوت وشفع فيها حب رسول الله أسامة غضب رسول الله فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله وهو الشفاعة في الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين - وقد برأها الله من ذلك - فقال: [ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ]

قد روى: أن هذه المرأة التي قطعت يدها تابت وكانت تدخل بعد ذلك على النبي فيقضي حاجتها فقد روى: [ أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وإن لم يتب سبقته يده إلى النار ] وروى مالك في الموطأ أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا: إذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده فقال: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع يعني الذي يقبل الشفاعة [ وكان صفوان بن أمية نائما على رداء له في مسجد رسول الله فجاء لص فسرقه فأخذه فأتي به النبي فأمر بقطع يده فقال: يا رسول الله أعلى ردائي تقطع يده ؟ أنا أهبه له فقال: فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ثم قطع يده ] رواه أهل السنن يعني أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان فأما بعد أن رفع إلي فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا غير ذلك ولهذا اتفق العلماء - فيما أعلم - على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته وإن تابوا، فإن كانوا صادقين في التوبة كان الحد الكفارة لهم وكان تمكينهم - وذلك من تمام التوبة - بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها والتمكين من استيفاء القصاص في حقوق الآدميين وأصل هذا في قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى تصير معه شفعا بعد أن كان وترا فإن أعانه على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة

والبر ما أمرت به والإثم ما نهيت عنه وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين

وقد قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتعليل هذا إذا كان قد ثبت بالبينة فأما إذا كان بإقرار وجاء مقرا بالذنب تائبا فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع وظاهر مذهب أحمد: أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد وعلى هذا حمل حديث ماعز بن مالك لما قال: [ فهلا تركتموه ] وحديث الذي قال [ أصبت حدا فأقمه ] مع آثار أخر وفي سنن أبي داود و النسائي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] وفي سنن النسائي و ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: [ حد يعمل به الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا ] وهذا لأن المعاصي سبب لنقصان الرزق والخوف من العدو كما يدل عليه الكتاب والسنة فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى فحصل الرزق والنصر

ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود ولا بيت المال ولا لغيره وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين أحدهما: تعطيل الحد والثاني أكل السحت فترك الواجب وفعل المحرم قال الله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} وقال الله تعالى عن اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل وتسمى أحيانا الهدية وغيرها ومتى أكل السحت ولي الأمر احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها وقد روى [ لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش الواسطة الذي يمشي بينهما ] رواه أهل السنن

وفي الصحيحين: [ أن رجلين اختصما إلى النبي فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقال صاحبه - وكان أفقه منه - نعم يا رسول الله: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فقال: إن ابني كان عسيفا في أهل هذا - يعني أجيرا - فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإن رجالا من أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها فسألها فاعترفت فرجمها ] ففي هذا الحديث أنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه أمر النبي بدفع المال إلى صاحبه وأمر بإقامة الحد ولم يأخذ المال للمسلمين: من المجاهدين والفقراء وغيرهم وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث