الصفدية/5
وقال تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا سورة التحريم 12 فهذا الروح تصور بصورة بشر سوى وخاطب مريم ونفخ فيها
ومن المعلوم أن القوى النفسانية التي تكون في نفس النبي وغير النبي لا يراها الحاضرون ولا يكون منها مثل هذه الأحوال والأقوال والأفعال
ومريم لم تكن نبية بل غايتها أن تكون صديقة كما قال ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة سورة المائدة 75 وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى سورة يوسف 109
وقد حكى الإجماع على انه لم يكن في النساء نبية غير واحد كالقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وخلاف ابن حزم شاذ مسبوق بالإجماع فإن دعواه أن أم موسى كانت نبية هي ومريم قول لا يعرف عن أحد من السلف والأئمة وقد ثبت في الصحيح عدد من كمل من النساء وليس فيهن أم موسى بل قال ﷺ في الحديث الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم يعني ممن قبلنا فذكرتا والتي حضنت موسى وفيمن كمل ممن ليس بنبي خديجة وآسية امرأة فرعون وغيرهما والأنبياء أفضل من غيرهم فلو كانت نبية لكان غير النبي أفضل منه أو غير الكامل أفضل من الكامل
وأيضا فإن الله وصف الملائكة بصفات تقتضي أنهم أحياء ناطقون خارجون عن قوى البشر وعن العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة فعلم أن الملائكة التي أخبرت عنها الأنبياء ليسوا مطابقين لما يقوله هؤلاء الذين يقولون أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية
وهذا كقوله علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ]]سورة النجم[[ 5 18
وقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم سورة التكوير 19 25 فأخبر أن الذي جاء بالقرآن رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين وأنه مطاع ثم أمين وهذا يمتنع أن تكون صفة أعراض تقوم بنفوس البشر ولا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الذين يمنعون أن يكون لدعاء البشر تأثير في الملأ الأعلى وقد أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رآه بالأفق المبين وما يحصل في نفس الرسول لا يكون هنا ولا هنا، وغايتهم أن يقولوا هذا تخيل في نفسه وإن لم يكن موجودا في الخارج وحينئذ فيكون الرسول من جنس آحاد المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السموات وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك مما يراه آحاد الناس ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الخلق ولا يكون مثل هذا ذا قوة عند ذي العرش مكين ولا يكون مطاعا ثم أمين
ومنهم من يقول جبريل هو العقل الفعال الذي يفيض وليس بضنين أي بخيل بالفيض وهذا أيضا باطل من وجوه كثيرة منها أن ذاك لا يتصور في صورة أعرابي ولا دحية ولا ضيف إبراهيم الخليل ولا لوط ولا في صورة بشر سوى فنفخ في مريم
ومنها أنه قال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين والعقل الفعال ليس مطاعا ثم وغايته عندهم أن يتحرك الفلك الأسفل تشبها به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه وهم قد يقولون أن العرش هو الفلك التاسع وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن العرش فوق الفلك التاسع ليس هو إياه
وأيضا فإنه أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى وأنه رآه بالأفق المبين مرتين وقد ثبت في الصحيح أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وأنه رآه وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشرق والمغرب وهذه الصفة لا تنطبق على العقل الفعال فإنه لا يرى في موضعين ولا له أجنحة
وهؤلاء القوم قد يقولون أن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم وقد يحسنون العبارة فيقولون لم يخبروا بالحقائق بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنتفع به العامة وأما الحقيقة فلم يخبروا بها ولا يمكن إخبار العامة بها وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين وقد بسطنا الكلام في إبطال هذا في غير هذا الموضع
ومن عرف مذهبهم وعرف ما قالته الرسل علم بالضرورة أن ما يقولونه مخالف لما يقوله الرسل لا موافق له فيلزم إما تصديق الرسل وتكذيبهم وإما تكذيب الرسل وتصديقهم وهم يؤمنون بالرسل من وجه ويكفرون بهم من وجه فلا يقولون إنهم كاذبون ولا جاهلون ولا يصدقونهم في كل ما أخبروا به ومن المعلوم أن المخبر بالخبر إذا لم يكن خبره مطابقا لمخبره فإما ان يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وهم يسلمون أن الرسل من أعلم الخلق بالحقائق وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به وأنهم من أبر الناس وأصدقهم فإذا كانوا مقرين بغاية الكمال لهم في العلم والصدق كان هذا مناقضا لما يذكرونه في إخباراتهم فإنها تستلزم إما تكذيبهم وإما تجهيلهم ولهذا كان هؤلاء متناقضين في أمر النبوات فلا هم كذبوا بهم تكذيب المكذبين الذين كذبوا بالنبوات مطلقا ولا صدقوهم تصديق المؤمنين الذين آمنوا بهم مطلقا بل كانوا كمن آمن ببعض وكفر ببعض وهؤلاء من الكافرين حقا وهم من المنافقين المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وفيهم من يكثر نفاقة وزندقته وفيهم من يكون نفاقة أقل من نفاق غيره
وأيضا فإن الله تعالى يقول وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء سورة الشورى 51 ففرق سبحانه بين الوحي وبين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء كما فرق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما سورة النساء 163 164 ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وبين تكليمه لموسى عليه السلام كما فرق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء وهذا يناقض مذهبهم في الأصلين فإنهم لا يثبتون إلا ما هو من جنس الوحي والإلهام كالذي يسمونها القوة القدسية بل الوحي والإلهام الذي اثبته الله فوق ما يثبتونه من القوة القدسية فدل على أن أحوال الرسل الذين يرسلهم الله إلى الأنبياء خارجة عن قوى النفس وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك كما قال الله تعالى الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس سورة الحج 75 فتبين أنه يصطفي رسلا من الناس ورسلا من الملائكة
وكذلك أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب كما أخبر أنه كلم موسى تكليما وكما قال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله سورة البقرة 253 وقال ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني سورة الأعراف 143 وهذا يقتضي انه يكلم بعض عباده تكليما خارجا عن جنس ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها وأيضا فإنه قد قال سبحانه يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ربحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا سورة الأحزاب 9 فأخبر أنه أرسل مع الريح جنودا لم يرها المؤمنون وقال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين سورة التوبة 25 26 فأخبر أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل مع ذلك جنودا لم يروها
وقال تعالى إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فروهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين سورة آل عمران 124 125 وقال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى إلى قوله إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سورة الأنفال 9 12 فقد أخبر أنه أمدهم بجنود من الملائكة تنصرهم ففي تلك الآيات أخبر بنزول الملائكة بالعلم والوحي وفي هذه الآيات أخبر بنزولها بالنصر والقدرة وهذا يبين أن ما كان يحصل للرسول من العلم والقدرة من المكاشفة والتأثير في العالم حاصل بما هو خارج عن قوى نفسه من العلم الذي تنزل به الملائكة والنصر الذي تنزل به الملائكة
وأيضا فقد قال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق سورة الأنفال 50 وقال تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض سورة النساء 97 وقال تعالى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك سورة النحل 32 33 فهذه الآيات يخبر فيها بتوفي الملائكة للأنفس وخطابهم للموتى إما بخير وإما بشر وفعلهم ما يفعلونه بهم من نعيم وعذاب وكما قال إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم سورة فصلت 30 31 وقال تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك سورة الأنعام 158 وقال هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر سورة البقرة 210
فهذه النصوص وأمثالها صريحة بإثبات الملائكة وأفعالها وكلامها وتأثيرها في العالم بالقول والفعل وهذا يبطل قولهم إن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية فإن الملائكة خارجة عن هذا وهذا وحينئذ فما يحصل من خوارق العادات بأفعال الملائكة أعظم مما يحصل بمجرد القوى النفسانية والأنبياء أحق الناس بمعاونة الملائكة لهم وتأييد الله تعالى لهم كما أخبر الله سبحانه بذلك وأيضا فقد قال تعالى والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا سورة الصافات 1 3 وقوله في آخر السورة فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون إلى قوله وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون سورة الصافات 149 166 فأخبر أن الملائكة صافون يسبحون وأنها صافات صفا زاجرات زجرا وهذا مناقض لقولهم فإن العقول العشرة لا تصطف بل بعضهم فوق بعض في المرتبة والتعلق مع امتناع المصافة عليها عندهم والأعراض القائمة بالنفس يمتنع وصفها بما ذكره سبحانه وتعالى من الاصطفاف والزجر والتلاوة وغير ذلك من الصفات
وكذلك قوله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا سورة مريم 64 وقد ثبت أن جبريل قال له النبي ﷺ ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزورنا فانزل الله هذه الآية وهذا يبين أن نزول جبريل إلى الأرض وأنه لا يتنزل إلا بأمر الله وعندهم يمتنع نزول ملك إلى الأرض ويمتنع أن يكون الله أمر جبريل بنزوله
وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين سورة الأنبياء 26 29 فبين سبحانه أنهم عباد أكرمهم وأنهم لا يسبقونه بالقول فلا يقولون حتى يقول وهم بأمره يعملون فلا يعملون حتى يأمرهم وأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى وأنهم من خشيته مشفقون
وهذا مناقض لقولهم فإن العقول عندهم بل العالم كله متولد عن الله تولدا لازما يمتنع معه خوفها أو أن يحدث لها من الله أمر أو قول أو يكون لها إليه شفاعة والشفاعة عندهم ليس معناها دعاء الله ورسوله كما هو مذهب المسلمين بل الشفاعة عندهم تعلق القلب بالوسائط حتى يفيض عليها بواسطة تلك الوسائط ما ينتفع به كما يفيض شعاع الشمس على الحائط بواسطة فيضه على المرآة وهذه من جنس الشفاعة التي يثبتها المشركون وهي التي نفاها الله في كتابه
ولما وقع في كلام أبي حامد في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه ما هو من جنس كلام هؤلاء في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك حتى جعل خواص النبي ثلاثة كما تقدم ذكره وغير ذلك من كلامهم اشتد نكير علماء الإسلام لهذا الكلام وتكلموا في ابي حامد وأمثاله بكلام معروف كما تكلم فيه أصحاب أبي المعالي كأبي الحسن المرغيناني وغيره وكما تكلم فيه أهل بيت القشيري وأتباعه والشيخ أبو البيان وأبو الحسن ابن شكر وأبو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا وكما تكلم فيه أبو بكر الطرطوشي وأبو عبدالله المازري وابن حمدين القرطبي وصنف في ذلك وأبو بكر بن العربي تلميذه حتى قال شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وكما تكلم فيه أبو الوفاء بن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي وأبو محمد المقدسي وغيرهم وكما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة ومن أعظم ما تكلم فيه أئمة المحققين لاجله ما وافق فيه هؤلاء الصابئة المتفلسفين مع أنه بعد ذلك قد رد على الفلاسفة وبين تهافتهم وكفرهم وبين أن طريقتهم لا توصل إلى حق بل ورد أيضا على المتكلمين ورجح طريق الرياضة والتصوف ثم لما لم يحصل مطلوبه من هذه الطرق بقي من أهل الوقف ومال إلى طريقة أهل الحديث فمات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم
والمقصود هنا أن ما ذكره الله في كتابه من شفاعة الأنبياء والملائكة نفيا وإثباتا يناقض قول هؤلاء كقوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 22 23
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ويصعقون حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وهذا المعنى ثابت عن النبي ﷺ من غير وجه رواه البخاري من حديث أبي هريرة ورواه مسلم عن ابن عباس عن رجال من الأنصار وهو معروف من حديث النواس بن سمعان عن النبي ﷺ وهو عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا وعن ابن عباس وغيره وفيه بيان أنه لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن له فلا بد من اذن للشفيع لا أن مجرد التوجه إليه ينفع المشفوع له وذلك يقتضي تجدد اذن للشفعاء وعندهم أنه لا يحدث من الله شيء للوسائط بل هي متولدة عنه لازمة لذاته أزلا وأبدا وفيه أنه يفزع عن قلوب الملائكة أي يزال الفزع عنها وقد وصف الملائكة في القرآن بالخشية والخوف وعندهم لا يتصور خشية لله ولا خوف قال الله تعالى ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون سورة النحل 49 50 وقال وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 28 وقال تعالى في الشفاعة وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى سورة النجم 26
وقوله من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى يقتضي إذنا مستقبلا فإن أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وطرد هذا أن يقال مثل ذلك في كل ما جاء في القرآن من هذا الباب وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة وهو المنقول عن أئمة السلف وعليه تدل الدلائل العقلية السليمة عن التناقض
ومما يوضح الأمر في هذا الباب أن الله نزه نفسه عن الشريك والولد في غير موضع كقوله تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم سورة الأنعام 100 101 وقال الله تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا سورة الإسراء 111 وقال تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون 91 وقال تعالى تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يكن له شريك في الملك سورة الفرقان 1 2 وقال تعالى ألا أنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون سورة الصافات 151 152 وقال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فنزه نفسه عن الولد والكفو وهذا القول يوجد في مشركي العرب وفي النصارى وغيرهم والذي يوجد في هؤلاء شر من هذا كله وذلك أن مشركي العرب والنصارى ونحوهم يقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن يثبتون تولدا من بعض الوجوه وهو تولد حادث كما تقوله النصارى في المسيح وكما كانت تقوله مشركو العرب في الملائكة ونحو ذلك وأما هؤلاء فيقولون إن العقول والنفوس متولدة عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته والعالم متولد عن ذلك فالعالم كله متولد عندهم عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته وإن كانوا قد لا يعبرون بلفظ الولد فهم يعبرون بلفظ المعلول والعلة وهو أخص أنواع التولد ويعبرون بلفظ الموجب والموجب وما ذكره الله في كتابه من إبطال التولد يبطل قولهم عقلا وسمعا وذلك أنه قال تعالى وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سورة الأنعام 100 وهؤلاء المتفلسفة يجعلون العقل كالذكر والنفس كالأنثى قال سبحانه وتعالى أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم سورة الأنعام 101 وذلك أن التولد لا يكون إلا عن أصلين لا يكون عن واحد فيمتنع أن يكون له ولد من غير صاحبة وهو سبحانه لم يكن له كفوا أحد وهؤلاء جعلوه واحدا وجعلوا العالم معلولا عنه وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا باطل فإن الواحد البسيط لا يصدر عنه وحده شيء بل الواحد الذي قدروه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان ولا يصدر في العالم العلوي والسفلي أثر إلا عن سببين فأكثر فالنار إذا أحرقت إنما تحرق بشرط قبول المحل لإحراقها فالاحتراق حاصل بسببين لا بسبب واحد وكذلك الشعاع وكذلك جميع الأمور قال الله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون سورة الذاريات 49 قال بعض العلماء تعلمون أن خالق الأزواج واحد وقال سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون سورة يس 36 فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء ولا علة مستقلة بمعلولها من غير مشارك أصلا وما يذكره طائفة من أهل الكلام من كون العلم علة العالمية هو عند أكثرهم لا حقيقة له فليس العالمية زائدة على العلم وأهل الأحوال الذين أثبتوها زائدة علىالعالم قالوا أنها ليست وجودية فلم يكن في الوجود علة مستقلة بمعلولها من غير شريك لها فتبين أن ما ذكروه من أن الواجب علة مستقلة بمعلولها مخالف لما الوجود عليه ودعواهم أن الواحد البسيط يكون علة تامة مستقلة بمعلولها أمر مخالف لما الوجود عليه وهذا غير معلوم بالعقل بل هو باطل فيه ولكن المعلوم في العقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء معلول متولد عنه إلا بمقارنة شيء آخر له فلو كان العالم معلولا متولدا عن الله لكان له مقارنا يصدر التولد عنهما جميعا فإن التولد لا يكون إلا عن أصلين فإثبات التعليل والتولد يقتضي إثبات شريك في إبداع العالم وهذا لازم لهم لا محيد عنه من وجه آخر فإن الحوادث الموجودة في العالم لا يجوز أن تكون صادرة عن العلة التامة الأزلية لأن تلك يلزمها معلولها فيكون قديما معها فلا يكون محدثا فوجب أن يكون للحوادث فاعل آخر غير العلة التامة القديمة وذلك أيضا يوجب إثبات مشارك لله يحدث الحوادث وهذا أيضا باطل فإن ذلك الذي قدر محدثا للحوادث إن كان محدثا فهو من جملة الحوادث التي تحتاج إلى فاعل محدث وإن كان قديما فقد صدرت الحوادث عن قديم فإن كان علة تامة أزلية امتنع حدوث الحوادث عنه وإن كان فاعلا باختياره يحدث عنه الحوادث بطل قولهم سواء قيل أنه صار محدثا للحوادث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث أو قيل أنه لم يزل فاعلا قادرا بفعل اختياري يقوم بنفسه
فتبين أن القوم قولهم في إثبات الشريك والولد لله من شر أقوال من يقول بذلك وكل ما في القرآن من إبطال ذلك بالأدلة العقلية والخبرية يبطل قولهم لكن فهم هذا يحتاج إلى أن نفهم حقيقة أقوال الأمم ومراتبها وكيف يتناولها القرآن ويبطلها ويميز الحق من الباطل بالأدلة العقلية البرهانية كما قد بسط في غير هذا الموضع فهذا كله مما يبين أن الرسل أخبرت بالملائكة وأنهم عباد الله ليسوا متولدين عنه ولا خالقهم علة موجبة لهم وأنهم لا يتصرفون إلا بإذنه ولا يسبقونه بالقول وأنهم يخبرون الأنبياء بالغيب وأنهم يفعلون من خوارق العادات وغيرها ما فيه نصر الأنبياء وحجة لهم وهذا يبين أن هؤلاء الفلاسفة مناقضون للرسل فيما أخبرت به من أمر التوحيد والملائكة وأمر معجزات الأنبياء ويبين أن المعجزات خارجة عن قوى نفوس البشر وأن ما قاله هؤلاء في المعجزات قول بلا دليل وهو قول باطل مبني على أصل باطل مع أنا لا ننكر أن للقوى التي في النفوس وسائر الأجسام آثارا في العالم بحسبها كما تقدم لكن إضافة الخوارق إلى ذلك باطل كما لو أضافها مضيف إلى قوى الأجسام وادعى أنها من باب النيرنجيات التي هي قوى طبيعية كالقوى التي في حجر المغناطيس فإنه يعلم بوجوه كثيرة أن معجزات الأنبياء خارجة عن هذا الجنس وهذا الجنس وإن كان القائل أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية ممن يكذب مطلقا أثبتنا بعض ماغ ذكرناه من المعجزات بطرق متعددة كالأخبار المتواترة وكتطابق السنن على الإخبار بما يمتنع الاتفاق عليه من غير تواطؤ وغير ذلك
الوجه التاسع أن يقال تأثير النفوس مشروط بشعورها فإن النفس حية مريدة تفعل بإرادتها ففعلها مشروط بإرادتها والفعل الاختياري الإرادي مشروط بالشعور وخوارق العادات التي للأنبياء منها ما لا يكون النبي شاعرا به ومنها ما لا يكون مريدا له فلا يكون ذلك من فعل نفسه بل ومنها ما يكون قبل وجوده ووجود قدرته ومنها ما يكون بعد موته ومفارقة نفسه لهذا العالم ومن المعلوم أن ما يكون قبل أن تصير لنفسه قوة ونحو ذلك يمتنع أن يكون مضافا إلى قوته فإن المعدوم لا قوة له وذلك مثل قصة أصحاب الفيل التي أنزلها الله لما أتى بالفيل إلى مكة وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وكان أهل الفيل نصارى ودينهم كان خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك فإنهم كانوا مشركين ودين النصارى خير من دين المشركين الذين يعبدون الأوثان لكن كان ذلك كرامة للنبي ﷺ المبعوث بحرمة البيت وكان عام الفيل عام مولده ﷺ قبل مولده بنحو خمسين ليلة ولم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها ولا شعور بما جرى ولا إرادة له في ذلك وكذلك ما حصل من الحوادث حين مولده ﷺ وكذلك إخبار الكهان بأموره وما صارت الجن تخبرهم به من نبوته أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته وكذلك ما أخبر به أهل الكتاب وما وجد مكتوبا عند أهل الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته ورسالته وأمر الناس باتباعه أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته كائنة قبل مولده وكذلك ما خص الله به الكعبة البيت الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقير وانجذاب القلوب إليه ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس بل كثيرا ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوى إليه ما لا يعلمه إلا الله وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة فيكونون هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبدانهم والذي بناه قد مات من ألوف سنين
ولهذا كان أمر البيت مما حير هؤلاء الفلاسفة والمنجمين والطبائعية لكون خارجا عن قياس عقولهم وقوانين علومهم حتى اختلفوا لذلك من الأكاذيب ما يعلمه كل عاقل لبيب مثل قول بعضهم أن تحت الكعبة بيتا فيه صئم يبخر ويصرف وجهه إلى الجهات الأربع ليقبل الناس إلى الحج
وهذا مما يعلم كل من عرف أمر مكة أنه من أبين الكذب وأنه ليس تحت الكعبة شيء من هذا وأنه لا ينزل أحد من أهل مكة إلى ما تحت الكعبة ولا يحفره أحد ولا يبخر أحد شيئا هناك ولا هناك صنم ولا غير صنم وكان ابن سبعين وأمثاله من هؤلاء يحارون من هذا وربما قالوا ليت شعرنا ما هو الطلسم الذي صنعه إبراهيم الخليل حتى صار الأمر هكذا وهم يعلمون أن أمور الطلاسم لا تبلغ مثل هذا وأنه ليس في الأرض ما يقارب هذا وأن الطلاسم أمور معتادة معروفة بأسباب معروفة ولهذا يصنع الرجل طلسما ويصنع الآخر مثله أو أعظم منه وأما هذا فخارج عن قدرة البشر وليس في الوجود طلسم يستحوذ على أهل الأرض ولا يتصرف في قلوب أهل الأقاليم الثلاثة وهم أفضل الإنس وأكملهم عقولا وأديانا والطلاسم إنما يقوى تأثيرها إذا ضعف العقل فيؤثر في الجماد أكثر من الحيوان ويؤثر في البهائم أكثر من الأناسي ويؤثر في الصبيان والمجانين أكثر من العقلاء وهكذا تأثير الشياطين كلما ضعفت العقول قوى تأثيرهم وأما البيت والقرآن والنبوة فإنما قوى تأثيرها في أكمل الناس عقلا وأتمهم علما ومعرفة والإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها كما قال ﷺ زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها وانتشر في الأقاليم المتوسطة الثالث والرابع والخامس الذين هم أعدل وأكمل من غيرهم فتبين أن تأثير النبوات على خلاف تأثير السحر والطلاسم فتلك يقوى تأثيرها عند ضعف العقل وهذه يكمل تأثيرها عند قوة العقل فتبين أن هذه ليست تأثير مجرد قوى البشر لا نفوسهم ولا أبدانهم ولا قوى الأجسام الطبيعية ولا القوى الفلكية الممزوجة بالقوى العنصرية بل أمر خارج عن هذا كله وإذا قدر أن لبعض هذه في بعض ذلك معونة مثل أن يقال أن صدق إبراهيم في دعائه وكمال تمكينه وعلمه وخلته لله اوجب إجابة الله دعاءه فهذا حق لا ننكره فإنا لا ننكر حصول خوارق العادات بإجابة الدعوات لكن المنكر أن يقال مجرد قوة النفس التي تصرفت في العالم من غير أن يكون الله هو الذي أحدث بذلك الدعاء من الأسباب الإلهية ما فعل بها ذلك المخلوق فالدعاء سبب وقد علم غير مرة أن السبب لا يستقل بل له مشاركات وموانع وليس هو سببا مقتضيا للمسبب بنفسه ولكن هو سبب لأن يجيب الله الدعاء كما أن العمل الصالح سبب لأن يثيب الله عبده في الآخرة وأن الناس يحبونه ويثنون عليه ولا يمكن أن يقال أن قوة أحد البشر أو عمله الصالح هو الذي أوجب بنفسه محبة الخلق وثناءهم ودعاءهم أو الثواب في الدار الآخرة بل هذا سبب لما يفعله الله بمشيئته وقدرته ما يخلقه في نفوس عباده الملائكة والجن والبشر مما يفعلونه باختيارهم وقدرتهم التي يخلقها الله فالدعاء سبب الإجابة والعمل سبب الإثابة قال الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون سورة البقرة 186 فأمرهم أن يستجيبوا له وأن يؤمنوا به أنه يجيب دعاءهم واستجابتهم له وطاعتهم لأمره وذلك سبب الإثابة كما أن الدعاء سبب الإجابة وأيضا فما حصل بعد موت النبي ﷺ مثل حفظ الله للكتاب الذي جاء به وإبقائه مئين من السنين مع كثرة الأمة وتفرقها في مشارق الأرض ومغاربها والكتاب بعد هذا محفوظ وكذلك الشريعة محفوظة فهذا أمر خارق خارج عن مقدوره ولم تبق شريعة مثل هذه المدة الطويلة إلا شريعة موسى وإلا فالملوك والفلاسفة لهم نواميس وضعوها لا تبقى إلا مدة يسيرة وأما البقاء مثل هذه المدد مع كون الكتاب محفوظا فليس هذا إلا للأنبياء
وأيضا فما جعله الله في القلوب قرنا بعد قرن من المحبة والتعظيم والعلم بعظيم منزلته وعلو درجته من غير مكره يكره القلوب على العلم والمعرفة ومع كمال عقول الناظرين في ذلك فإن كل من يعرف أحوال الأمم يعلم أن أمة محمد أكمل الأمم عقلا وعلما وخلقا ودينا ويعلم أن من كان أعظم علما وعقلا كان أعلم بعظمة قدر الرسول فهذا العلم والتعظيم والمحبة القائمة في قلوب الخلق من أعظم الأمور الخارقة للعادة وهي أمور خارجة عن قوى البشر
وكذلك ما في القلوب لإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وغيرهم كما قال تعالى فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا سورة مريم 49 50 وقال تعالى لموسى وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني سورة طه 39 وقال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا سورة مريم 96 وقال وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين سورة الصافات 78 79 وقال وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم سورة الصافات 108 109 وقال وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون سورة الصافات 119 120 وقال وتركنا عليه في الآخرين سلام على آل ياسين سورة الصافات 129 130
ونحو ذلك فهذا الثناء والمحبة والدعاء والتعظيم الذي للأنبياء وأتباعهم خارج عن قوى أنفس الأنبياء وكذلك اللعن والبغض الذي جعل الله للكفار وأتباعهم في قلوب المؤمنين خارج عن قوى أنفس الأنبياء فإن هذا كله بعد موتهم ونظائر هذا كثيرة الوجه العاشر أن يقال إن الناس تنازعوا في النبوة هل هي مجرد صفة قائمة بنفس النبي كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة أو مجرد تعلق خطاب الله بالنبي كما يقوله من يقوله من أهل الكلام الأشعرية ونحوهم أو هي مجموع الأمرين كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال كما اختلفوا على هذه الأقوال الثلاثة في الأحكام الشرعية وحينئذ فالقائل أن قال أن النبي خص بقوى في نفسه يمتاز بها عن غيره في علمه وعمله فهذا مما يقر به الجمهور ولا ريب في تفضيل الله للأنبياء بفضائل في أنفسهم وأن من خصه الله بالفضائل فقد أراد به خيرا كما قالت خديجة للنبي ﷺ لما جاءه الوحي وخاف على نفسه كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فاستدلت بعقلها على أن من جعل الله فيه هذه المحاسن والمكارم التي جعلها من أعظم أسباب السعادة لم تكن من سنة الله وحكمته وعدله أن يخزيه بل يكرمه ويعظمه فإنه قد عرف من سنة الله في عباده وإكرامه لأهل الخير وإهانته لأهل الشر ما فيه عبرة لأولى الأبصار فإن الناس قد عرفوا بالآثار الموجودة المعاينة في الأرض والأخبار المتواترة عاقبة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأتباعهم وعاقبة من كذب هؤلاء وعلموا إكرام الله لهؤلاء ونصره لهم وعقوبته لهؤلاء وإهانته لهم وعلموا أيضا عاقبة أهل العدل والإحسان من الولاة والرعايا وعاقبة أهل الظلم والشر من هؤلاء وهؤلاء وهذا أمر موجود في جميع الأمم عربهم وعجمهم على اختلاف أصناف العجم من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم وقد قال تعالى ولو قاتكلم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا سورة الفتح 22 23 وقال لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنفرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا سورة الأحزاب 60 62 وقال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا سورة فاطر 42 43 وقال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين سورة آل عمران 137 وهذا باب واسع ولهذا دعا الله الخلق إلى الإعتبار بالعقل المستند إلى الحس وبين أن ذلك موافق لما جاءت به الرسل من السمع قال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد سورة فصلت 53 فأخبر أنه سيرى الخلق من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين أن القرآن الحق فيتطابق السمع المنقول وما عرف بالحس المعقول وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدرو سورة الحج 46 وقال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص أن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد سورة ق 36 37 وقال عن أصحاب النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير سورة الملك 10 وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون سورة الأعراف 179 ومثل هذا كثير
والمقصود هنا أن الأنبياء خصهم الله بفضائل ومحاسن ومكارم أخلاق يميزهم بها عن غيرهم فمن قال أن الله خص النبي بقوى في نفسه وأراد بذلك إثبات خصائص وفضائل له فهذا حق وإن قال إن هذه الخصائص تكون أسبابا لخوارق عادات يكرمهم الله بها وتكون معجزات وكرامات أو قال نفس هذه الخصائص والفضائل مما خرقت له فيها العادة فهذا مما لا ينكر ولكن يبقى الكلام في أمور أحدها أنه لا يظن أن جميع خوارق العادات هذا سببها فإن هذا باطل قطعا فلا ينكر أن يكون الله خص الأنبياء بفضائل خرق لهم بها العادة ولا ننكر أن تكون تلك الفضائل سببا لخرق عادات أخرى لكن دعوى المدعي أن تلك القوى التي فضلوا بها على غيرهم هي الموجبة لما جاءوا به من أنواع الآيات والإخبارات الإلهيات وأنواع المعجزات الخارقة للعادات الحاصلة في العالم في السموات والأرض والهواء والسحاب والحيوان والأشجار والجبال وغير ذلك هو الباطل لأن من هذه الأمور ما لا يمكن أن تكون قوى النفس سببا له إما لعجزها عن ذلك أو لعدم قبول ذلك لتأثير النفوس كما أن النفوس لا تكون موجبة لوقوف الشمس وانشقاق القمر واهتزاز العرش وانتثار الكواكب وانقلاب الخشب حية عظيمة وخروج الناقة من تراب وإحياء الموتى والحيوان وإحياء الطيور الأربعة بعد تمزيقها وإنزال المائدة وغير ذلك مما نبه عليه
الوجه الثاني أنه لا يظن أن هذا هو مجرد النبوة وأن من حصلت له هذه الخصال التي ذكروها فقد صار نبيا فإن كثيرا من آحاد المؤمنين تحصل له هذه الثلاث وما هو أكمل منها تحصل له قوة علمية في نفسه وقوة عملية في نفسه يكون بها مؤثرا ويحصل له إحساس باطن فيرى ويسمع في باطنه وهو من آحاد المؤمنين فمن جعل هذا حد النبي ومنتهاه كان مبطلا جاحدا لحقيقة ما خص الله به أنبياءه
والمقصود أن ما أثبتوه من الفضائل الثابتة للأنبياء لا تنكر إذا كانت حقا لكن اقتصارهم على هذا الحد باطل وجعلهم أن هذا هو السبب لخوارقهم باطل
الوجه الثالث أن تعرف أن النبوة لا تنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب فإن هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره ولا قدروا الأنبياء قدرهم لما ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرأة المصقولة إذا جليت وحوذي بها الشمس وأن حصول النبوة ليس هو أمرا يحدثه الله بمشيئته وقدرته وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد كحصول الشعاع على هذا الجسم الصقيل صار كثير منهم يطلب النبوة كما يحكى عن طائفة من قدماء اليونان وكما يعرض ذلك لطائفة من الناس في أيام الإسلام
ولهذا عظم نكير الناس على صاحب كيمياء السعادة وصاحب المضنون به على غير أهله ومشكاة الأنوار لما كان في كلامه ما هو من جنس كلام هؤلاء الملاحدة وقد عبر عنه بالعبارات الإسلامية والإشارات الصوفية وبسبب ذلك اغتر صاحب خلع النعلين وابن سبعين وابن عربي وأمثالهم ممن بنى على هذا الأصل الفاسد بل لا بد في النبوة من إيحاء إلهي يختص الله به من يخصه بذلك من عباده بمشيئته وقدرته وهو سبحانه عالم بذلك النبي وبما يوحيه إليه من الوحي وبقدرته خصه بما خصه به من كراماته فهؤلاء الملاحدة يدعون أن خطابه لموسى بن عمران ليس هو إلا ما حصل في نفس موسى من الإلهام والإيحاء والواحد من أهل الرياضة والصفاء قد يخاطب كما خوطب موسى بن عمران وأعظم من ذلك وأنه قد يسمع نفس الخطاب الذي سمعه موسى كما زعم ذلك صاحب الأحياء في بعض المواضع وأن قيل أنه رجع عن ذلك
ومن هؤلاء من يقول إن الخطاب الذي يحصل لهم أفضل مما حصل لموسى وغيره وهذا مذهب ابن العربي صاحب الفتوحات المكية وأمثاله ممن يدعي أن ما حصل لموسى ومحمد أنما كان بواسطة الخيال النفساني الذي هو عنده جبريل وأن ما يحصل لابن عربي هو فوق ذلك فإنه يأخذ من المعدن العقلي المحض الذي يأخذ منه الملك الذي هو عندهم خيال في نفس النبي ومرتبة العقل فوق مرتبة الخيال فلما اعتقدوا أن الملائكة التي تخاطب الأنبياء إنما هي خيالات تقوم بنفس الأنبياء زعموا أنهم إذا اخذوا عن العقل المحض كانوا قد أخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة الذين أخذ عنهم الأنبياء فكانوا أفضل من الأنبياء عند أنفسهم وعند أتباعهم فهذا ونحوه مما يعلم بالاضطرار من دين الرسل أنه كفر وباطل من دينهم فمن فهم القرآن وفهم كلام هؤلاء لزمه أحد أمرين إما تكذيب القرآن وإما تكذيب هؤلاء وإلا فقولهم وما جاء به الرسول متناقض تناقضا يعلمه كل من فهم كلامهم وكلام الأنبياء ولا يتصور أن يقول هذا وأن يوافق على هذا الكلام إلا أحد رجلين إما جاهل لا يعلم حقيقة ما جاءت به الرسل وحقيقة قول هؤلاء بل هو عنده تعظيم مجمل للأنبياء وهؤلاء كالذين كانوا يعظمون محمدا ومسيلمة ويقولون نشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله وهذا الضرب كثير فيمن لم يعرف حقيقة النبي الصادق والمتنبي الكذاب ويوجد كثير من هؤلاء في المنتسبين إلى الفقه والحديث والتصوف والزهد والعبادة والملك والإمارة والوزارة والكتابة والقضاء والفتيا والتدريس وفيمن له دعوات مجابة وفيه صلاح وزهد وعبادة وذلك لنقص معرفتهم بكمال النبوة والرسالة وحقيقة أقوال من يناقضها من بعض الوجوه دون بعض
وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة 54 فلا بد عند حدوث المرتدين من وجود المحبين المحبوبين كما قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وإخوانه يقاتلون المرتدين عقيب وفاة خاتم المرسلين وما حدث من الفتنة في الدين وأما منافق زنديق يعرف مناقضة هذا لهذا لكنه يظهر الموافقة والائتلاف لاعتقاده أن النبوة من جنس حال هؤلاء ويلبس ما يقوله على من لم يعرف حقائق الأمور ومن هؤلاء من لا يكون قصده الزندقة والنفاق لكن لا يكون عارفا بحال الرسول وقدر ما جاء به ولكنه يعظمه تعظيما مجملا ويرى هؤلاء قد تكلموا في النبوة وحقيقتها بكلامهم وهو عاجز عن معرفة حقيقة الأمر فيعتقد هذا في النبوة وهؤلاء يكثرون في أماكن الفترات التي تضعف فيها آثار النبوة إذا لم يكن هناك من يقوم بحقائقها وهؤلاء يكونون في الدول الجاهلية كدولة بني عبيد ودولة التتار ونحوهم ومن هؤلاء من يغفر الله له فإنه إذا اجتهد وسعه في الإيمان بالرسول ولم يبق له قدرة على أكثر مما حصل له من الإيمان به لم يكلف الله نفسا إلا وسعها وإن كان قوله بعد قيام الحجة عليه كفرا كالذي قال لأهله إذا انا مت فاسحقوني ثم اذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين والحديث في الصحيحين من غير وجه فإن هذا جهل قدرة الله على إعادته ورجا أنه لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة ومع هذا لما كان مؤمنا بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده خائفا من عذابه وكان جهله بذلك جهلا لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله غفر الله له ومثل هذا كثير في المسلمين والنبي ﷺ كان يخبر بأخبار الأولين ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة والمقصود هنا أن نبين أن ما أثبته هؤلاء في فضائل الأنبياء الثابتة فهو حق ولكن جهلهم وكفرهم فيما أنكروه وكذبوا به وما قالوه من الباطل من هذه الوجوه الثلاثة وغيرها فالوجهان الأولان الباطلان أبطلوا بهما كون الله هو الخالق بقدرته ومشيئته لمخلوقاته وأبطلوا ما خلقه من الملائكة والجن وغير ذلك مما لا يعرفونه وأبطلوا ما امتازت به الأنبياء على غيرهم وجعلوا الأنبياء من جنس العارفين المعرفة المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين
فلهذا صارت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب أن يصير نبيا من متقدميهم ومتأخريهم وصار منهم من يظن أنه نبي وأنه يضع ناموسا ينسخ به شرائع الأنبياء كما جرى لأئمة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم والذي يقرون به من النبوة يحصل وما هو أعلى منه لآحاد الناس الذين فيهم فضيلة علمية وعملية لكن أهل العلم والإيمان بالرسل يعلمون أن نسبتهم إلى الأنبياء من جنس نسبة أهل الرؤيا الصادقة إلى الأنبياء فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي ﷺ وكما في السنن عنه أنه قال الهدى الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان
فلا ريب أن الشيء يكون جزءا من النبوة أو الإيمان ويكون من أصغر الشعب والأجزاء كإماطة الأذى في الإيمان أو كالرؤيا في النبوة ولهذا قال ﷺ أنه لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات وهي ئالرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ولهذا كان هذا الجزء أول بدىء به رسول الله ﷺ تدريجا له كما في الصحيح عن عائشة قالت أول ما بدىء به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد الحديث
وإذا كان بعض أجزاء النبوة يحصل لآحاد المؤمنين وليس هو نبيا تبين أن ما يذكره هؤلاء من الحق هو جزء من أجزاء النبوة وما يذكرونه من الباطل هو مردود عليهم وقد تبين أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوى النفسانية والطبيعية في العالم العلوي والسفلي وتبين أن الله سبحانه خالق كل شيء بمشيئته وقدرته وأنه يخلق ما يشاء بالأسباب التي يحدثها وللحكمة التي يريدها وهذا قدر ما احتملته هذه الأوراق في جواب هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة تبنى عليها أصول العلم والإيمان أجبنا فيها بحسب ما احتمله الحال وفيها من البسط والقواعد الشريفة ما يعرفه من عرف كلام الناس في هذا الباب وإن كان ما يجب لله ورسوله من الحق أعظم من هذا الخطاب فإن تمام البسط في الرد على هؤلاء لا يناسب هذا الموضع ولكل مقام مقال ولكن نبهنا على المآخذ التي تعرف منها حقيقة قولهم وفساده فإن هؤلاء أفسدوا على الناس عقولهم وأديانهم وهم يكثرون ويظهرون في ما يناسبهم من الدول الجاهلية كدولة القرامطة الباطنية العبيدية ودولة التتر ونحوهم من أهل الجهل والضلال وفي دول أهل الردة والنفاق
وذلك أن هؤلاء أعظم جهلا وضلالا من اليهود والنصارى والمجوس ومشركي العرب والهند والترك وكثير من الصابئين فإن أكثر المشركين يقرون بأن العالم محدث وأن الله يفعل بمشيئته وقدرته وكذلك الصابئة الحنفاء على هذا القول وهو قول أساطين الفلاسفة القدماء الذين كانوا قبل أرسطو طاليس وإنما ظهر القول بقدم العالم من الفلاسفة المشهورين من جهة أرسطو وأتباعه وهو المعلم الأول الذي وضع التعاليم التي يقرونها من المنطق والطبيعي والإلهي وظهر القول بقدم العالم من الفلاسفة من هذه الجهة
وهذا الرجل وأتباعه إنما عامة كلامهم في الطبيعيات فهي علم القوم الذي شغلوا به زمانهم وأما الإلهيات فكلام الرجل فيها وأتباعه قليل جدا إلى غاية ولكن ابن سينا وأمثاله خلطوا كلامهم في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات وصار ابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء ويظهرون أن أصولهم لا تخالف الشرائع النبوية وهم في الباطن يقولون أن ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له في نفس الأمر وإنما هو تخييل وتمثيل وأمثال مضروبة لتفهيم العامة ما ينتفعون به في ذلك بزعمهم وإن كان مخالفا للحق في نفس الأمر وقد يجعلون خاصة النبوه هي التخييل ويزعمون أن العقل دل على صحة أصولهم وأكثر الناس لا يجمعون بين معرفة حقيقة ما جاءت به الرسل وحقيقة قول هؤلاء ولا يعقلون لوازم قولهم التي بها يتبين فساد قولهم بالعقل الصريح ثم إن كثيرا من الناس آخذ مذاهبهم فغير عباراتها وربما عبر عنها بعبارات إسلامية حتى يظن المستمع أن قول هؤلاء هو الحقيقة التي بعثت بها الرسل ودلت عليها العقول كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأصحاب دعوة القرامطة الباطنية حيث عبروا بالسابق والتالي عن العقل والنفس ويحتجون على ذلك بالحديث الذي يروونه عن النبي ﷺ أنه قال أول ما خلق الله العقل ثم إن هذه الامور راجت على كثير من أهل التصوف والكلام والتأله والنظر كصاحب جواهر القرآن ومشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها ومن سلك هذا المسلك مثل أصحاب البطاقة وابن أجلى والشوذي وصاحب خلع النعلين وابن العربي الطائي وابن سبعين وغيرهم
وكثير من الناس تجده تارة مع أهل الكلام وتارة مع أهل الفلسفة كالرازي والآمدي وغيرهما وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث أول ما خلق الله العقل وما يتعلق به وتكلمت على ما ذكره ابن سينا في شفائه في واجب الوجود وما ذكره ابن سبعين وابن العربي وغيرهم في غير هذا الموضع وهذا الحديث موضوع وكذب عند أهل العلم بالحديث كما ذكر أبو حاتم البستي وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما ومع هذا فلفظه أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب
فهذا الحديث الذي يحتجون به من جهة الشريعة يدل على نقيض مقصودهم من وجوه كثيرة منها أن قوله أول ما خلق الله العقل قال له يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا أنه أول المخلوقات كما تقول أول ما لقيت زيدا سلمت عليه وتقدير الكلام أول خلق الله قال له فاول مضاف إلى المصدر والمصدر يجعل ظرف زمان كما تقول كان هذا خفوق النجم وخلافة عبدالملك ومنه قوله تعالى وادبار النجوم سورة فاطر 49 مصدر أدبر يدبر إدبارا
ومنها أن هذا يقتضي أنه خلق قبل العقل غيره لقوله ما خلقت خلقا أكرم علي منك وعندهم هو أول المبدعات ومنها أن هذا يقتضي أن العقل مخلوق وحقيقة الخلق منتفية عندهم عن العقل الأول بل عن العالم وإنما هو عندهم معلول ومبدع لكنهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون العالم محدث ومخلوق ويعنون بقولهم محدث أنه معلول ممكن بنفسه واجب بغيره وأن وجوده من غيره لا من نفسه وكذلك يعنون بقولهم مخلوق
لكن من المعلوم بالاضطرار أن أهل اللغة لا يريدون بقولهم هو محدث ومخلوق هذا المعنى المتضمن أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال بل الحدوث عندهم يناقض القدم وكذلك الخلق ولا تحتمل اللغة بوجه من الوجوه أن القديم الذي لم يزل ولا يزال يقال له محدث ومخلوق والمخلوق عندهم أبلغ من المحدث والحادث فكل مخلوق فهو محدث وحادث باتفاق أهل اللغة وأهل الكلام وأما أن كل حادث ومحدث فهو مخلوق فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر واللغة لا يوجب أن كل ما كان حادثا يسمى مخلوقا لأن المخلوق هو الذي خلقه غيره والخلق يجمع معنى الإبداع ومعنى التقدير وأما لفظ حادث فلا يقتضي أنه مفعول ولو قيل محدث فمعنى الخلق أخص من معنى الحدوث
ومنها أنه قال في هذا الحديث فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب فأخبر أنه يفعل به هذه الأمور الأربعة وهذا ينطبق على عقل الإنسان الذي هو عرض فيه وأما العقل الذي يدعونه فهو عندهم أبدع السموات والأرض وما بينهما فهو عندهم رب جميع العالم فأين هذا من شيء يفعل الله بن أمورا أربعة والكلام على هؤلاء مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن قول هؤلاء هو من أفسد أقوال أهل الأرض وأن قول جمهور الصابئين والمشركين والمجوس خير من قولهم فضلا عن اليهود والنصارى يبين ذلك أن هؤلاء الأمم عامتهم يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن فالمشركون من العرب والهند والترك والنبط وغيرهم من الأمم وأهل السحر منهم والكهانة وغيرهم معترفون بوجود الجن وبأنهم يخاطبونهم ويدعونهم ويقسمون عليهم وعند أهل دعوة الكواكب الذين يدعون الشمس والقمر والنجوم ويعبدونها ويسجدون لها كما كان النمرود بن كنعان وقومه يفعلون ذلك وكا يفعل ذلك المشركون من الهند والترك والعرب والفرس وغيرهم
وقد ذكر أبو عبدالله محمد بن الخطيب الرازي في كتابه الذي صنفه في هذا الفن قطعة كبيرة من أحوال هؤلاء وقد تواترت الأخبار بذلك عن هؤلاء وأنهي يحصل لأحدهم أشخاص منفصلة عنه تقضي كثيرا من حوائجه ويسمونها روحانية الكوكب فهؤلاء المشركون والصابئون من أنواع الأمم الفلاسفة وغيرهم معترفون بوجود الجن المنفصلين وتأثيرهم في العالم وإخبارهم بالأمور وغير ذلك من أحوالهم
فتبين أن هؤلاء المتفلسفة الذين يقولون أن أسباب الغرائب منحصرة في القوى الفلكية والطبيعية والنفسانية الآدمية أجهل وأضل من المشركين والصابئين
ومما يوضح الأمر في ذلك أن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع فإن هؤلاء نوعان طبائعيون والهيون فأما الطبيعيون فلا يقرون بوجود موجود وراء الفلك وما يحويه وحقيقة قولهم أن العالم واجب الوجود بنفسه ليس له مبدع ولا فاعل وهذا هو التعطيل الذي كان يعتقده فرعون حيث أنكر رب العالمين وقال لموسى على سبيل الإنكار وما رب العالمين فاستفهمه استفهام إنكار لا استفهام استعلام كما يظنه من يزعم أنه سأل موسى عن الماهية والمسئول عنه ليس له ماهية فعدل موسى عن ذكر الماهية فإن هذا قول باطل وإنما كان استفهام فرعون استفهام إنكار وجحود ولهذا أجابه موسى بما يقيم الحجة عليه ويبين أن الرب معروف معلوم لا سبيل إلى إنكاره وجحده وكان فرعون مقرا به في الباطن وإن جحده في الظاهر كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم سورة النمل 14 وقال تعالى عن موسى في خطابه لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا سورة الإسراء 102 وهذا القول الذي أظهره فرعون هو قول المعطلة من الطبيعين
وأما الإلهية الدهريون الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن علة قديمة كابن سينا وأمثاله فهؤلاء وإن كانوا مقرين بمبدع هذا العالم فقولهم مستلزم لقول أولئك المعطلة وإن كانوا لا يلتزمون قولهم
وذلك أن الموجودات العقلية التي يثبتها هؤلاء من واجب الوجود كالعقول العشرة هي عند التحقيق لا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان والواحد المجرد الذي يقولون أنه صدر عنه العالم لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان والوجود المطلق الذي يقولون أنه الوجود الواجب إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان
وأيضا فهم يثبتون أنه لا بد في الوجود من موجود واجب وهذا متفق عليه من العقلاء سواء قالوا بقدم العالم أو بحدوثه وسواء جحدوا الخالق أو أقروا فإثبات موجود واجب بنفسه لا يتضمن الإقرار بالصانع إن لم يثبت أنه مغاير للعالم وقد بسطنا القول في غير هذا الموضع وبينا أن الطريقة التي سلكها ابن سينا وأتباعه في إثبات الصانع وفي إثبات واجب الوجود هي أضعف الطرق وأقلها فائدة وإن كان أتباعه كالسهروردي المقتول وكالرازى والآمدي وغيرهم يعظمونها فإن غايتها إثبات موجود واجب وهذا لا نزاع فيه وإنما الشأن في كون الواجب مغاير لهذا العالم وهم بنوا ذلك على طريقة نفي الصفات وهي توحيدهم الذي بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع فانهم ادعوا أن الوجود الواجب لا يكون إلا بسلوب الصفات لأن إثباتها يقتضي التركيب والواجب لا يكون مركبا وقد تقدم التنبيه على ما في هذا الكلام من التلبيس والفساد
قالوا والعالم حامل الصفات مركب فلا يكون واجبا
وإذا كان إثباتهم لصانع العالم على طريقتهم لا نتم إلا بنفي الصفات ونفي الصفات باطل كان طريقهم في إثبات الصانع باطلا ولهذا كان الصانع الذي يثبتونه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان فقولهم يستلزم التعطيل
وهكذا أقوال من نسج على منوالهم وأخذ معانيهم فاخرجها في قالب المكاشفة والمشاهدة والتحقيق والعرفان كابن عربي وأمثاله ومن سلك هذا المسلك كابن سبعين وغيره فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع وأنه ليس وراء الأفلاك شيء فلو عدمت السموات والأرض لم يكن ثم شيء موجود ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقا له ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور وكان لا يحرم الفواحش ولا المنكرات ولا الكفر والفسوق والعصيان وكان يقول عن شيخه ابن عربي وصاحبه القونوي أحدهما روحاني متفلسف يعني ابن عربي والآخر فيلسوف متروحن يعني القونوي وإنما حرر مذهب التحقيق أنا يعني نفسه وهو كما قال فإن تحقيقهم الذي حقيقته التعطيل للصانع وجحده وأنه ليس وراء العالم شيء لم يحققه أحدهما كما حققه التلمساني وحدثني الثقة الذي رجع عنهم لما انكشف له أسرارهم أنه قرأ عليه فصوص الحكم لابن عربي قال فقلت له هذا الكلام يخالف القرآن فقال القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنها قال فقلت له فإذا كان الكل واحد فلماذا تحرم على ابنتي وتحل لي زوجتي فقال لا فرق عندنا بين الزوجة والبنت الجميع حلال لكن المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرم عليكم وقال أيضا لما قرأ عليه مواقف النفري جعلت أتأول موضعا بعد موضع إلى أن تبين مراده الذي لا يمكن تغطيته وأنه يقول بالوحدة فقلت هذا يخالف الكتاب والسنة والإجماع فقال إن أردت هذا التحقيق فدع الكتاب والسنة والإجماع فقلت هذا لا سبيل إليه ونحو هذا الكلام ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة أما الإيمان بالله فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وهذا غاية التعطيل
الصفدية لابن تيمية |
---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |