العقد الفريد/الجزء الرابع/11
فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سُليمان بن عبد الملك. سلامٌ على من اتّبع الهدى. أما بعد. فإنك كتبتَ إليّ تَذْكر أنّي امرؤ مَهْتوك عنّي حِجابُ الحق مُولَع بما عليّ لا لي مُنصرف عن منافعي تاركٌ لحظّي مُستخف بحقّ الله وحقّ وليّ الحق. وتذكر أنك ذو مُصاولة ولَعمري إنك لصبيٌّ حديث السنّ تُعذَر بقلّة عَقلك وحَداثة سنّك ويُرقَب فيك غيرُك فأما كتابُك إليّ فلَعمري لقد ضَعُف فيك عقلك واسْتُخِفّ به حلمُك فلِله أبوك. أفلا انتصرت بقضاء الله دون قَضاءك ورجاءِ الله دون رجائك وأمتَّ غيظك وأمنت عدوِّك وسترت عنه تدبيرك ولم تُنَبّهه فيَلتمسَ من مُكايدتك ما تلتمس منِ مُكايدته ولكنّك لم تَسْتشِفّ الأمور علماً ولم تُرزق من أمرك حَزْماً. جمعتَ أموراً دلاك فيها الشيطانُ على أسوأ أمرك فكان الجفاءُ مِن خليقتك والْحُمق مِن طَبيعتك وأقبل الشيطانُ بك وأدبر وحدّثك أنك لن تكون كاملاً حتى تَتعاطى ما يَعيبك. فتَحذلقت حنجرتُك لقوله واتّسعت جوانبُها لكذبه. وأما قولُك لو مَلّكك الله لعلّقت زينبَ بنت يوسف بثَدْييها فأرجو أن يكرمها الله بهَوانك وأن لا يُوَفَق ذلك لك إن كان ذلك مِن رأيك مع أنّي أعرف أنك كتبتَ إليَ والشيطانُ بين كَتفَيك فشرُّ مُمْل على شرِّ كاتب راض بالخَسف بالحُمق أن لا يدلّك على هُدى ولا يردّك إلا إلى رَدى. وتحلَّب فُوك للخلافة فأنت شامخ البَصر طامح النَّظر تظنُّ أنك حين تَمْلكها لا تَنْقطِع عنك مُدتها. إنها للُقطة الله التي أسأل أن يُلهمك فيها الشكر مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما. وإن نَفخ الشيطان في مُنخريك فهو أمر أراد الله نَزعه عنك وإخراجه إلى مَن هو أكمل به منك. ولعمري إنها لنصيحة فإنْ تَقبلها فمثلُها قُبل وإن تردّها عليّ اقتطعتُها دونك وأنا الحجاج. قدم الحجاجُ على الوليد بن عبد الملك فدخل عليه وعليه دِرْع وعمامة سوداء وقوس عربيَّة وكِنانة فبعثتْ إليه أمُّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان: مَن هذا الأعرابيّ المُستلئم في السلاح عندك وأنت في غِلالة. فبعث إليها: هذا الحجاج بن يوسف. فأعادت الرسولَ إليه تقول: والله لأن يَخلو بك مَلَكُ الموتِ أحبُّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج. فأخبره الوليدُ بذلك وهو يمازحه. فقال: يا أمير المؤمنين دع عنك مُفاكهة النساء بزُخرف القول فإنما المرأة رَيحانة ولست بقَهْرمانة فلا تطْلعها على سرِّك ومُكايدة عدوّك. فلما دخل الوليدُ عليها أخبرها بمقَالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مُستلئما ففعل ذلك. وأتى الحجاج فَحجبته فلم يزل قائماً ثم قالت له: إيه يا حجاج أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقَتْلك عبد الله بن الزًّبير وابن الأشعث أما والله لولا أن الله علم أنك من شرِار خَلقه ما ابتلاك برَمْي الكَعبة وقَتْل ابن ذاتِ النِّطاقين وأوَّل مولود وُلد في الإسلام. وأما نَهْيك أمير المؤمنين عن مُفاكهة النساء وبُلوغ أوطاره منهن فإنْ كُنّ يَنْفرجن عن مِثلك فما أحقه بالأخذ عنك وإن كن يَنْفرجن عن مِثله فغيرُ قابل لقولك. أما والله لقد نَقَص. نساء أمير المؤمنين الطيّبَ عن غدائرهن فبِعنه في أَعطية أهل الشام حين كنتَ في أَضيق من القَرَن قد أَظلّتك رماحُهم وأثخنك كِفاحهم وحين كان أمير المؤمنين أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم فما نَجّاك الله من عد أمير المؤمنين إلا بحبّهم إياه. وللّه دَرّ القائل إذ نظر إليك وسنان غَزالة بين كَتفيك: أسَدٌ عليّ وفي الحُروب نعامةٌ رَبداءُ تَجْفِل من صفير الصافر هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوَغى بل كان قَلبُك في مخالبِ طائر صَدعت غزالةُ جمعَه بعساكر ترِكتْ كتائبَه كأمس الدابر ثم قالت: اخرُج. فخرج مَذْموماً مدحوراً. كان عُروة بن الزبير عاملاً على اليمن لعبد الملك بن مروان فاتصَل به أن الحجاجَ مُجْمعِ على مُطالبته بالأموال التي بيده وعَزْله عن عَمله ففرّ إلى عبد الملك وعاد به تخوّفا من الحجاج واستدفاعاً لضرَره وشرّه. فلما بلغ ذلك الحجاحَ كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد. فإنّ لواذ المُعترضين بك وحُلول الجانحين إلى المُكث بساحتك واستلانَتهم دَمِث أخلاقك وسَعة عَفْوك كالعارض المُبرق لا يَعْدم له شائماً رجاء أن ينالَه مطرهُ وإذا أدنى الناس بالصّفح عن الجرائم كان ذلك تَمْرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال. والناس عبيد العصا هم على الشدّة أشد اسْتباقاً منهم على اللِّين. ولنا قِبَل عُروة بن الزُّبير مال من مال الله وفي استخراجه منه قَطْعٌ لطمع غيره فَلْيبعث به أميرُ المؤمنين إن رأى ذلك. والسلام. فلما قرأ الكتابَ بعثَ إلى عُروة ثم قال له: إنّ كتاب الحَجّاج قد وَرد فيك وقد أبى إلا إشخاصَك إليه. ثم قال لرسول الحجَّاج: شأنَك به. فالْتفت إليه عروةُ مقبَلاً عليه وقال: أما والله ما ذلَّ وخَزِي مَن ملكتموه والله لئن كان الملك بجَواز الأمر ونَفاذ النَهي إن الحجاج لسُلطانٌ عليك يُنفّذ أموره دون أمورك إنك لتُريد الأمرَ يَزِينك عاجله ويَبقى لك أكرومةً آجلُه فَيَجذِبُك عنه ويَلقاه دونك ليتولّى من ذلك الحُكم فيه فيحظَى بشرف عَفْو إن كان أو بجُرم عقوبة إن كانت. وما حاربَك مَن حاربَك إلا على أمرٍ هذا بعضُه. قال: فنظر في كتاب الحجاج مرّة ورَفع بصرَه إلى عُروة تارة ثم دعا بدواةٍ وقرطاس فكتب إليه: أما بعد. فإن أميرَ المؤمنين رآك مع ثِقته بنَصيحتك خابطاً في السياسة خَبْط عَشْواء الليل. فإِن رأيك الذي يُسَوِّل لك أنَّ الناس عبيدُ العصا هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوُثوب عليك وإذ أخرجت العامة بعُنف السياسة كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفُرصة ثم لا يلتفتون إلى ضلال الدّاعي ولا هُداه إذا رَجَوْا بذلك إدراك الثأر منك. وقد وَليَ العراق قَبلك ساسةٌ وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقربُ من عَمياء الجاهلية وكانوا عليهم أصلحَ منك عليهم وللشدَّة واللين أهلون والإفراطُ في العفو أفضلُ من الإفراط في العقوبة. والسلام. زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال: خرجنا مع الحَجّاج حُجاجاً فلما انتهينا إلى البيداء وافينَا ليلةَ الهلال هلال ذي الحجة فقال لنا الحجاج: تَبصرّوا الهلال فأما أنا ففي بَصري عاهة. فقال له نَوفل بن مُساحق: وَتدري لم ذلك أصلح الله الأمير قال: لا أدري. قال: لكثرة نَظرك في الدفاتر. الأصمعي قال: عُرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثةً وثلاثين ألفاً لم يجب على واحد منهم قَتل ولا صَلْب ووُجد فيهم أعرابيٌ أخذ يَبول في أصل مدينة واسط فكان فيمن أطلق. فأنشأ الأعرابيّ يقوِل: إذا نحن جاوزنا مدينةَ واسط خرِينا وبُلْنا لا نَخاف عِقابَا أبو داود المُصحفيّ عن النَضر بن شُميل قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا مَن قتل الحجاجُ صَبْراً. فوجدوهم مائةَ ألف وعشرين ألفًا. وخطب الحجاجُ أهلَ العراق فقال: يأهل العراق. بلغني أنكم تَروُون عن نبيِّكم أنه قال: مَن ملك عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عُنقه حتى يفكّه العَدل أو يُوبقه الجَوْر. وايم اللهّ إني لأحبُّ إليَّ أن احشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً من أن احشر معكم مُطلقاً. ومرض الحجاجُ ففرح أهلُ العراق وقالوا: مات الحجاجُ! مات الحجاج! فلما أفاق صَعد المِنبر وخَطب الناس فقال يأهل العراق يأهل الشقاق والنفاق مرضتُ فقلتم: مات الحجاج. أما والله إني لأحبُّ إليَّ أن أموت من ألاّ أموت وهل أرجو الخيرَ كلٌه إلا بعد الموت وما رأيتُ الله رَضي بالخُلود في الدنيا إلا لأبغض خَلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس. ولقد رأيتُ العبدَ الصالح سأل ربَّه فقال: " قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ". ففعل ثم اضمَحل ذلك فكأنه لم يكن. وأراد الحجاجُ أن يَحج. فاسْتخلف محمداً ولده على أهل العراق ثم خَطب فقال: يأهل العراق إني أرد تُ الحجَّ وقد اسْتخلفتُ عليكم محمداً ولدي وأوصيتُه فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله ﷺ في الأنصار فإنه أوصى فيهم أن يُقبل من مُحسنهم ويُتجاوز عن مُسيئهم. وإني أوصيتُه ألا يقبل من مُحسنكم وألا يتجاوزَ عن مُسيئكم. ألا وإنكمِ قائلون بعدي مقالةً لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة. وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة. ثم نزل. فلما كان غداةَ الجمعة مات محمدُ بن الحجاج فلما كان بالعشيّ أتاه بريدٌ من اليمن بوفاه محمد أخيه. ففرح أهلُ العراق وقالوا: انقطع ظهرُ الحجاج وهِيض جناحُه فخرج فصعد المنبرَ ثم خطب الناس فقال: أيها الناس محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنتُ أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة. وايم الله ليُوشكنّ الباقي مني ومنكم أن يَفنى والجديدُ أن يبلى والحيّ مني ومنكم أن يموت وأن تُدال الأرض منّا كما أدلنا منها فتأكل من لُحومنا وتشرب من دمائنا كما قال الله تعالى: " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ". ثم تمثل بهذين البيتين: عَزائي نبيُّ الله مِن كل مَيت وحَسبي ثوابُ الله من كل هالك إذا ما لقيتُ الله عنِّي راضيا فإنَّ سُرورَ النًفس فيما هُنالك ثم نزل وأَذن للناس فدخلوا عليه يُعزونه ودخل فيهم الفرزدقُ فلما نظر إليه قال: يا فرزدق أما رثيتَ محمداً ومحمداً قال: نعم أيها الأمير وأنشد: لئن جَزع الحجّاجُ ما من مُصيبة تكون لمَحزون أمضَّ وأَوْجعَا مِن المصطفى والمُنتقى من ثِقاته جناحاه لما فارقاه وودّعا جناحا عَتيق فارقاه كلاهُما ولو نزعا من غيره لتَضعضعَا سَميّا رسول الله سمّاهما به أب لم يكن عند الحوادث أخضعا قال: أَحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلَّفنيِ الحجاجُ بيتاً سادسا لضَرب عنقي قبل أن آتيه به وذلك أنه دخل ولم يهيئ شيئاً. قولهم في الحجاج الرِّياشيّ عن العتبي عن أبيه قال: ما رأيت مثلَ الحجاج كان زِيَّه زِي شاطراً. وكلامه كلامَ خارجيّ وصولتُه صولةَ جبار. فسألته عن زيّه فقال: كان يُرجِّل شعرَه ويَخْضِب أطرافه. كثيرُ بن هشام عن جعفر بن بُرْقان: قال: سألتُ ميمون بن مهران فقلت: كيف ترى في الصلاة خلف رجل يَذكر أنه خارجيّ فقال: إنك لا تصلّي له إنما تصلّي لله قد كُنا نصلّي خلف الحجَّاج وهو حَروري أزرقيّ. قال: فنظرِت إليه فقال: أتدري ما الحرويُّ الأزرقي هو الذي إن خالفت رأيه سمَّاك كافراً واستحلَّ دمك وكان الحجاج كذلك. أبو أمية عن أبي مُسهر قال: حدَّثنا هشامُ بن يحيى عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أُمة بمُنافقيها وجئْنا بالحجاج لفضلناهم. وحلف رجل بطلاق امرأته إن الحجَّاج في النار. فأتى امرأتَه فمنعْته نفسَها. فسأل الحسنَ بن أبي الحسن البصري. فقال: لا عليك يابن أخي فإنه إن لم يكن الحجاج في النار فما يَضُرّك أن تكون مع امرأتك على زنى. أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجُمحيّ عن عليّ بن زَيد قال: لما مات الحجاجُ أتيتُ الحسنَ فأخبرتُه. فخرّ ساجداً. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن مَنصور قال: قلتُ لإبراهيم: ما ترى في لَعْن الحجاجِ قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " ألا لَعْنةُ الله على الظالمين " فأَشهدُ أنَّ الحجاج كان منهم. وكيعٌ عن سُفيان عن محمد بن المُنكدر عن جابر بن عبدِ الله قال: دخلت على الحجاج فما سلّمت عليه. وَكيع عن سُفيان قال: قال يزيد الرِّقاشيُّ عند الحسن: إني لأرجو للحجاج. قال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك ميمون بن مِهران قال: كان أنس وابن سِيرين لا يَبيعان ولا يَشتريان بهذه الدراهم الحجِّاجيّة. وقال عبدُ الملك بن مروان للحجَّاج: ليس من أحد إلا وهو يَعرف عيبَ نفسه فصِف لي عيوبَك. قال: أعفني يا أميرَ المؤمنين. قال: لا بدَّ أن تقول. قال: أنا لَجوج حَسود حَقود. قال: ما في إبليس شرَّ من هذا أبو بكر بن أبي شَيبة قال: قيل لعبد الله بن عُمر: هذا الحجّاج قد وَلي الحرمَين. قال: إنْ كان خيراً شَكرنا وإن كان شرًّا صَبرنا. ابن أبي شَيبة قال: قيلَ للحسن: ما تقول في قتال الحجاج قال: إنَ الحجاج عُقوبة من الله فلا تَسْتقبلوا عُقوبة الله بالسيف. ابنُ فضيل قال: حدّثنا أبو نُعيم قال: أمر الحجاجُ بماهان أن يُصلب على بابه. فرأيتُه حين رُفعت خشبته يُسبَح ويهَلّل ويدبِّر ويَعقد بيده حتى بلغ تسعاً وتسعين وطعنه رجلٌ على تلك الحال فلقد رأيتها بعد شهر في يده. قال: وكُنّا نرى عند خَشبته بالليل شَبيها بالسَراج. أبو داود المُصحفيّ عن النَّضر بن شَميل قال: سمعتُ هشاماً يقول: احصُوا من قتل الحجاج صبراً. فوجدوهم مائة وعشرين ألفاً. من زعم أن الحجاج كان كافراً ميمون بن مِهران عن الأجلح قال: قلتُ للشعبيّ: يزعم الناسُ أنّ الحجاجَ مُؤمن. قال: مؤمن بالجبّت والطاغوت كافر بالله. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش قالَ: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن تَرْضون قالوا: بمجاهد. فأتوه فقالوا: إنّا قد اختلفنا في الحجاج. فقال: أجئتُم تسألوني عن الشيخ الكافر محمد بن كَثير عن الأوزاعيّ قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاجِ بن يوسف يَنْقض عُرى الإسلام عروةً عروة. عطاءُ بن السائب قال: كنتُ جالساً مع أبي البَخْتَريّ والحجاج يَخْطب فقال: في خُطبته: إنَّ مَثَل عثمان عند الله كمثَل عيسى بن مريم قال الله فيه: " إنِّي مُتوفِّيك ورَافعُك إليَّ ومطَهِّرك مِن الذين كَفروا ومما كفرت به العلماءُ الحجّاج قولُه ورَأى الناسَ يطوفون بقبر رسول الله ﷺ ومِنبره: إنما يطوفون بأعواد ورِمَّة. الشيبانيُّ عن الهيثم عن ابن عيّاش قال: كُنا عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه كتابٌ من الحجاج يُعظِّم فيه أمرَ الخلافة ويزعم أن السموات والأرض ما قامتا إلا بها وأن الخليفة عند الله أفضلُ من الملائكة المُقرَّبين والأنبياء المُرسلين. وذلك أن الله خلق آدم بيده وأسجد له ملائكته وأسكنه جَنّته ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته وجعل الملائكة رُسلاً إليه. فأعجب عبدُ الملك بذلك وقال: لوددتُ أن عندي بعض الخوارج فأخاصمَه بهذا الكتاب فانصرف عبدُ الله بن يزيد إلى منزله فجلس مع ضِيفانه وحدَثهم الحديث فقال له حُوار بن زيد الضّبي وكان هارباً من الحجاج: توثَّق لي منه ثم أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان. فقال: هو آمنٌ على كل ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حُوار فاخبره بذلك. فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما أصبح اغتسل ولبس ثَوْبين ثم تحنّط وحَضر باب عبد الملك فدخل عبدُ الله فقال: هذا الرجل بالباب: فقال: أَدْخله يا غلام. فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ بيضٌ يُوجد عليه ريح الحَنوط فقال: السلام عليكم ثم جلس. فقال عبدُ الملك: إيت بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به: فقال اقرأ فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حُوار: أراه قد جَعلك في موضعٍ مَلكاً وفي موضع نبيّاً وفي موضع خليفة فإن كنت مَلَكاً فمن أنزلك وإن كنت نبيّاً فمن بعثك وإن كنت خليفة فمن استخلفك أعن مَشورة من المسلمين أم ابتززتَ الناس أمورَهم بالسيف فقال عبد الملك قد أمّناك ولا سبيلَ إليك والله لا تُجاورني في بلد أبداً. فارحل حيثُ شئت. قال: فإني قد اخترتُ مصر فلم يزل بها حتى مات عبدُ الملك. عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالَقاني قال: حدّثنا جريرُ عن مغيرة عن الربيع قال: قال الحجّاج في كلام له: ويحكم! أخليفة أحدِكم في أهله أكرمُ عليه أم رسولُه إليهم قال: ففهمت ما أراد فقلت له: لله عليَّ ألا أصلَي خلفك صلاة أبداً ولئن وجدتُ قوماً يقاتلونك لقاتلتُك معهم. فقاتل في الجماجم حتى قُتل. قيل للحجّاج: كيف وجدتَ منزلك بالعراق قال خيرُ منزل لو أدركتُ بها أربعة فتقرّبتُ إلى الله بدمائهم. قيل: ومَن هم قال: مُقاتل بن مِسمع ولي سِجِستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال فلما قَدِم البصرة بَسط الناسُ له أرديتَهم فقال: لمثل هذا فَلْيعمل العاملون. وعُبيد الله بن ظَبيان قام فخطب خُطبة أوجز فيها فنادى الناسُ من أعراض المسجد: أكثر الله فينا من أمثالك. قال: لقد سألتم الله شَططا. ومَعْبَد بن زُرارة كان ذات يوم جالساً على الطريق فمرَّت به امرأة فقالت: يا عبد الله أين الطرِيق إلى مكان كذا فغَضب وقال: ألمثلي يقال يا عَبد الله! وأبو سِماك الحنفيّ أَضلَ ناقتَه فقال: لئن لم يَرُدها الله عليَّ لا صلّيت أبداً فلما وجدها قال: عَلِم الله أنَ يميني كانت بَرة. قال ناقل الحديث. ونسيِ الحجاجُ نفسه وهو خامس الأربعة بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحاداً وأكفرُهم في كتابه إلى عبد الملك بن مروان: " إن خليفة الله في أرضه أكرمُ عليه من رسوله إليهم وكتابه إليه " وبلغه أنه عَطس يوماً فحمد الله وشَمَّته أصحابُه فردّ عليهم ودعا لهم فكتب إليه: " بلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين ومِن تَشْميت أصحابه له وردِّه عليهم فياليتَني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً ". وكان عبدُ الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرىَ الجَمَاجم أن يَعْرضهم على السيف فمن أَقرّ منهم بالكَفر بخُروجه علينا فخلِّ سبيله ومَن زعم أنه مُؤمن فاضرب عُنقه. ففعل. فلما عَرضهم أُتى بشيخ وشابّ فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر قال: بل كافر. فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكُفر. فقال له الشيخ: أعن نَفسي تُخادعني يا حجاج والله لو كان شيء أعظَم من الكُفْر لرضيتُ به. فضحك الحجاج وخلّى سبيلهما. ثم قُدِّم إليه رجل فقال له: على دين من أنت قال: على دِين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين. فقال: اضربُوا عُنقه. ثم قُدم آخر فقال له: علىِ دِين من أنت قال: على دين أَبيك الشيخ يوسف. فقال: أما والله لقد كان صوّاماً قوّاماً. خلِّ عنه يا غلام. فلما خلّى عنه انصر فَ إليه فقال له: يا حجاج سألتَ صاحبي: على دين مَن أنت فقال: على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين فأمرتَ به فقُتل وسألَتني: على دين مَنِ أنت فقلتُ: على دين أبيك الشيخ يوسف فقلتَ: أمَا والله لقد كان صوّاماً قواماً فأمرتَ بتَخْلية سبيلي والله لو لم يكن لأبيكَ من السيئات إلا أنّه وَلد مثلَك لكَفاه: فأمر به فقتل: ثم أتى بعِمْران بن عِصام العَنزي فقال: عمران قال: نعم. قال: ألم أُوفدك على أمير المؤمنين ولا يُوفد مثلك قال: بلى. قال: ألم أزوِّجك مارية بنت مِسمع سيدة قومها ولم تكن أهلاً لها قال: بلى. قال: فما حَمَلك على الخروج علينا قال: أخْرجني باذان. قال: فأين كنتَ من حُجة أهلك قال: أَخرجنيِ باذان. فأمر رجلاً فكَشف العمامة عن رأسه فإذا هو مَحلوق. قال: ومحلوق أيضاً! لا أقالني الله إن لم أَقتُلك. فأمر به فضُرب عنقه. قال: فسأل عبدُ الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام فقيل له: قَتله الحجَّاج. فقال: ولم قال: بخُروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان يَنبغي له أن يَقْتله بعد قوله: وبَعثتَ من ولد الأغرّ مُعتَّب صَقْراً يلوذ حمامُه بالعَوْسج فإذا طبختَ بناره أنضجتَها وإذا طبختَ بغيرها لم تُنضج وهو الهِزبر إذا أراد فريسةً لم يُنْجِها منه صريخُ الهَجْهج ثم أتى بعامر الشَّعبيّ ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسَعيد بن جُبير. وكان الشَّعبيُّ ومُطَرِّف يَريان التَّورية وكان سعيدُ بن جُبير لا يرى ذلك فما قُدِّم له الشعبيّ. قال: أكافرٌ أنت أم مُؤمن قال: أَصلح الله الأمير نَبا بنا المنزل وأجْدب بنا الْجَناب واستحلَسَنا الخوفُ واكْتَحلنا السهر وخَبَطتْنا فِتنة لم نكن فيها بَرَرَةً أتقياء ولا فَجَرة أقوياء. قال الحجاج: صَدق واللهّ ما برُّوا بخُروجهم علينا ولا قَوُوا خَلِّيا عنه. ثم قُدِّم إليه مُطَرِّف ابن عبد الله فقال له: أكافرٌ أنت أم مؤمن قال: أصلح الله الأمير إنّ مَن شقَّ العصا ونَكَث البَيعة وفارق الجماعة وأخاف المُسلمين لجدير بالكُفر. فقال: صدق خلِّيا عنه. ثم أتى بسَعيد بن جُبير فقال له: أنت سَعيد بن جُبير قال: نعم. قال: لا بل شقيُّ بن كُسَير. قال: أمي كانت أعلم باسمي منك. قال: شقيتَ وشقيتْ أمك قال: الشقاء لأهل النار. قال: أكافر أنت أم مؤمن قال: ما كفرت بالله منذ آمنتُ به. قال: اضربوا عنقه. موت الحجاج مات الحجَّاج بن يوسف في آخر أيام الوليد بن عبد الملك فتفجع عليه الوليد وولى مكانَه يزيدَ بن أبي مُسلم كاتب الحجاج فكفَى وجاوز. فقال الوليد: مات الحجَّاج ووليتُ مكانَه يزيد بن أبي مُسلم فكنت كمن سَقط منه درهم وأصاب ديناراً. وكان الوليدُ يقول: كان عبد الملك يقول: الحجاج جِلْدة ما بين عينيّ وأنفي. وأنا أقول: إنه جلدةً وَجهي كُلّه. قال: ولما بلغ عمرَ بن عبد العزيز موتُ الحجاج خرج ساجداً. وكان يدعو الله أن يكون موتُه على فراشه ليكَونَ أشدَ لعذابه في الآخرة. أبو بكر بن عيّاش قال: سُمع صياحُ الحجاج في قَبره فأتوا إلى يزيدَ بن أبي مُسلم فأخبروه فركب في أهل الشام فوَقف على قَبره فتسمّع فقال: يرحمك الله يا أبا محمد فما تَدع القراءةَ حتى مَيِّتاً. الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: أقبل رجلٌ إلى يزيدَ بن أبي مسلم فقال له: إ نّي كنت أرى الحجاج في المنام فكنت أقول له: أخبرني ما فعل الله بك قال: قَتلني بكل قتيل قتلتُه قتلةً وأنا مُنتظر ما ينتظره الموحِّدون. ثم قال: رأيتُه بعد الحول فقلت له: ما صَنع الله بك فقال: يا عاضّ بَظر أمه سألتني عن هذا عامَ أول فأخبرتك فقال يزيدُ بن أبي مسلم: أشهدُ أنك رأيت أبا محمد حقاً. وقال الفرزدق يرثي الحجاجَ ليُرضي بذلك الوليدَ بن عبد الملك: لِيَبْكِ على الحجّاج مَن كان باكياً على الدِّين مِن مستوحِش الليل خائف وأرمَلةٌ لما أتاها نَعِيُّه فجادت له بالواكفات الذَوارف وقالت لِعبْدَيها أنيخا فعجل فقد مات راعي ذَوْدنا بالتَنائف فليت الأكُفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف يُقَطَّعنَ إذ يَحْثِين فوق السفائف قال ابن عَيّاش: فلقيتُ الفرزدق في الكوفة فقلت له: أخبرني عن قولك: " فليتَ الأكفَّ الدافنات ابن يوسف يقطعن " ما معناك في ذلك فقال: وددتُ والله أنّ أرْجُلهم تُقطع مع أيديهم. قال ابنُ عَيْاش: فلما هلك الوليد واستُخلف سليمانُ استعملَ يزيدَ بن المُهلَّب على العراق وأمره بقتل آل أبي عَقيل فقتلهم فأنشأ الفرزدق يقول: لئن نَفَّر الحجاجَ آلُ مُعتِّب لَقُوا دَوْلة كان العدوُّ يُدالُها لقدْ أصبح الأحياءُ منهم أذًلة وموتاهُمُ في النار كُلْحاً سِبالُها وكانوا يرون الدائراتِ بغيْرهم فصارَ عليهم بالغداة انتقالُها وكُنّا إذا قُلنا اتق الله شمَّرت به عزّة لا يُستطاع جِذالُها أْلكني مَن كان بالصِّين أورمتْ به الهندَ ألواح عليها جلالُها هَلُمَّ إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أرض العراق خَبالُها ألا تَشكُرون الله إذ فَكِّ عنكُم أَداهمَ بالمَهديّ صُمًّا قِفالُها وشِيمتْ به عنكم سيوفٌ عليكًم صباحَ مَساء بالعذاب استلالُها وإذ أنتُم مَن لم يَقُل أنا كافر تردّى نهاراً عَثرةً لا يُقالُها قال ابن عَيَّاش: فقلت للفرزدق. ما أدري بأي قَوليك نَأخذ أبمَدحك في الحجاج حياته أم هَجْوِك له بعد موته قال: إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه فإذا تخلّى عنه تخلّينا عنه. ولما مات الحجاجُ دخل الناسُ على الوليد يعزونه ويُثْنون على الحجاج خيراً وعنده عمرُ بن عبد العزيز فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس فقال: يا أمير المؤمنين وهل كان الحجاجُ إلا رجلاً منا فرضيها منه. أخبار البرامكة قال أبو عثمان عمرو بن بَحر الجاحظ: حدّثني سهلُ بن هارون قال: والله إن كانوا سَجّعوا الطُب وقرضوا القريض لعيالٌ على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى. ولو كان كلامٌ يُتصوَّر دُرا أو يُحيله المنطق السريّ جوهراً لكان كلامَهما والمُنتقى من لَفظهما. ولقد كان مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كُتبه فدمين عَيِيين وجاهليين أًميين ولقد عمرتُ معهم وأدركتُ طبقة المُتكلمين في أيامهم وهم يَرون أنَّ البلاغة لم تُسْتكمل إلا فيهم ولم تكُن مقصورةً إلا عليهم ولا انقادت إلا لهم وأنهم مَحْض الأنام ولُباب الكرام ومِلح الأيام عِتْقَ مَنظر وجَوْدَة مَخبر وجَزالة مَنطق وسُهولة لفظ ونَزاهة نفس وأكتمال خِصال حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم والمأثور من خِصالهم كثيرَ أيام سواهم مِن لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصُّور وانبعاث أهل القبور حاشى أنبياءِ الله المُكرّمين وأهل وَحيه المُرسلين لما باهتْ إلا بهم ولا عَوّلت إلا عليهم. ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم وكريم أعْرَاقهم وسَعة آفاقهم ورَوْنق سِياقهم ومَعْسول مَذاقهم وبَهاء إشراقهم ونَقاوة أعْراضِهم وتَهذيب أغْراضهم واكتمال الخير فيهم في جَنب محاسن الرشيد كالنُّقطة في البحر والخَرْدلة في المَهْمة القفر. قال سهل بن هارون: إنّي لأحصِّل أرزاقَ العامة بين يدي يحيى بن خالد في في بناء خلابه داخل سُرادقه وهو مع الرَّشيد بالرقة وهو يَعقدها جُملاً بكفه إذ غشيتْه سآمة وأخذته سِنة فغلبته عيناه فقال: ويْحَك يا سهل! طرق النومُ شَفْريّ وحَلَّت السِّنة جَفْنيّ فما ذاك قلت ضيفٌ كريم إنْ قَرَّبته رَوَّحك وإن مَنعته عَنّتك. وإن طردته طَلبك وإن أقصيته أَدركك وإن غالبتَه غَلبك. قال: فنام أقلّ من فُواق بكيه أو نَزْع من رَكية ثم انتبه مذعوراً فقال: يا سهل لأمرٍ ما كان والله قد ذَهب مُلْكنا ووَلّى عِزًّنا وانقضت أيامُ دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير قال: كأن مُنشداً أنشدني: كأن لم يَكُن بين الْحَجونِ إلى الصفا أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر فأجبتُه من غير رويَّة ولا إجالة فِكْرة: بلى نحنُ كُنا أهلَها فأَبادنا صروفُ اللَّيالي والجدودُ العواثرُ قال: فوالله ما زلتُ أعرفها منه وأراها ظاهرةً فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مَقعدي بين يديه أكتبُ توقيعات في أسافل كُتبه لطلاِّب الحاجات إليه قد كلّفني إكمالَ معانيها وإقامة الوَزن فيها إذ وجدتُ رجلاً سعى إليه حتى ارتمى مُكباً عليه فرفع رأسَه فقال: مهلاً ويحك! ما اكتتم خير ولا استَتر شرِّ. قال: قَتل أميرُ المؤمنين جعفراً الساعة. قال: أوقد فعل قال سهل بن هارون: فلو انكفأت السماءُ على الأرض ما زاد. فتبرأ مِنهم الحميم واستبعد عن نسبهم القريب وجَحد ولاءَهم المولى. ولقد اعتبرت لفقدهم الدُّنيا فلا لسان يخطِر بذِكْرهم ولا طَرْف ناظِر يُشير إليهم. وضَم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضلَ ومحمداً وخالداً بنيه وعبد الملك ويحيى وخالداً أبناء جعفر بن يحيى والعاصي ومزيداً وخالداً ومعمراً بني الفضل ابن يحيى ويحيى وجعفراً وزيداً بني محمد بن يحيى وإبراهيم ومالكا وجعفراً وعمر ومعمراً بني خالد بن يحيى ومن لَفّ لفهم أوهَجس بصَدره أمل فيهم. وبعث إليّ الرشيدُ. فوالله لقد أعجلتُ عن النظر فلبست ثياب أحزاني وأعظمُ رَغْبتي إلى الله الإراحة بالسيف و ألا يُعبثَ بي عبث جعفر. فلما دخلتُ عليه ومثلت بين يديه عَرف الذُّعر في تجرّض رِيقي وشُخوصي إلى السيف المَشهور ببَصري. فقال: إيه يا سهل مَن غمط نعمتي وتعدّى وصيتي وأنب مُوافقتي أعجلْته عُقوبتي. قال: فوالله ما وجدتُ جوابَها حتى قال لي: لِيُفْرِخ رَوْعُك ويَسْكن جأشك وتَطبْ نفسك وتطمئنّ حواسك فإن الحاجة إليك قَرّبت منك وأبقت عليك بما يَبْسط مُنقبضك ويُطلق مَعْقولك فما اقتُصر على الإشارة دون اللِّسان فإنه الحاكم الفاصل والحُسام الباتر. وأشار إلى مَصرع جعفر فقال: قال سهل: فوالله ما أعلمني أنّي عَييتُ بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ فما عَولت في الشُّكر إلا على تَقبيل باطن يديه ورِجْليه. ثم قال: اذهب فقد أحللتُك محلَّ يحيى ووهبُتك ما ضَمنته أفنيته وما حواه سُرادقه فأقبض الدواوين واحْص حِباءه وحِباء جعفر لنأمرك بقَبضه إن شاء الله. قال سهل: فكنتُ كمن نُشر عن كفن واخرج من حَبس. وأحصيت حِباءهما فوجدتُه عشرين ألف دينار ثم قَفل راجعاً إلى بغداد وفرق البُرُد إلى الأمصار. بقَبض أموالهم وغَلاتهم. وأمر بِجيفة جعفر وجئتُه ففُصلت على ثلاثة جُذوع رأسُه في جِذع على رأس الجسر مُستقبِلَ الصرَّاة وبعض جسده على جذع بالجزيرة وسائره في جِذع على آخر الجسر الثاني ما يلي باب بغداد. فلما دنونا من بغداد طلع الجِسرُ الذي فيه وجهُ جعفر واستقبلنا وجههُ واستقبلته الشمس فوالله لخِلتها تطلع من بين حاجبيه. فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يَساره فلما نظر إليه الرشيد وكأنما قنى شعره وطل بنُورة بَشره اربدّ وجهه وأغضى بصره. فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عَظُم ذنب لم يَسعه عفوُ أمير المؤمنين. وقال الرشيد: مَن بَرِد غيرَ مائه يَصْدر بمثل دائه ومن أراد فَهْم ذنبه يُوشك أن يقوم على مثل راحلته. عليّ بالنّضاحات فنَضح عليه حتى احترق عن آخره وهو يقول: لئن ذهب أثرُك لقد بقي خبرُك ولئن حُط قدرك لقد علا ذكرك. قال سهل بن هارون: وأمر بضَمّ أموالهم فوُجد من العشرين ألفَ ألفِ التي كانت مبلغ جِبايتهم اثنا عشرَ ألفَ ألفِ مكتوبٌ على بِدرها صُكوك مختومة بتفسيرها وفيما حَبوا بها فما كان منها حباء على غَريبة أو استطراف مُلحة تصدّق بها يحيى أثبت ذلك في دِيوانها على تواريخ أيامها. فكان ديوانَ إنفاق واكتساب فائدة. وقَبض من سائر أموالهم ثلاثين ألفَ ألفٍ وسِتَّمائة ألفٍ وستةً وسبعين ألفاً إلى سائر ضياعهم وغَلاتهم ودُورهم ورياشهم والدَقيق والجليل من مواعينهم فإنه لا يصف أقلّه ولا يَعرف أيسره إلا مَن أحصى الأعمال وعَرف مُنتهى الآجال. وأبرزت حُرمه إلى دار الباتوقة بنت المهديّ فوالله ما علمتُه عاش ولا عِشْنَ إلا من صدقات مَن لم يزل متصدِّقاً عليه وما رأوا مثلَ موجدة الرشيد فيما يُعلم من ملك قبلَه على أحد مَلكه. وكانت أمُ جعفر بن يحيى وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحطبة أرضعت الرشيدَ مع جعفر لأنه كان رُبي في حجرها وغُذي برَسْلها لأنّ أمه ماتت عن مَهده. فكان الرشيدُ يُشاورها مُظهراً لإكرامها والتبرك برأيها وكان آلَى وهي في كَفالتها ألاّ يَحْجبها ولا استشفعَتْه لأحد إلا شَفَعها وآلت عليه أمُ جعفر ألاّ دخلت عليه إلا مَأذوناً لها ولا شَفعت لأحد لغَرض دُنيا.