العقد الفريد/الجزء الرابع/3
فقالت له زوجته: قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء. وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل فقلت: ما بال هذا العود مربوطاً فقال: هذا عود قد شرب الدهن فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة. قال: فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال: أبا فلان فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى وهو عند إسراجك الليلة أعطش قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة فإن الحديد أبقى وهو مع ذلك غير نشاف والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها وربما كان ذلك سبباً لإطفائها. قال الخراساني: ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين. قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الخزامي واسمه عبد الله بن كاسب ونحن في العسكر إن الشيب سهك وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة والطيب غال ممتنع الجانب فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا. وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها واعلموا أن أعدى عدو له المملوح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل. وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشرها فإن الباقلاء تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته. ومن البخلاء هشام بن عبد الملك. قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام. فأطرفته وحدثته. فقال: سل حاجتك فقلت: يا أمير المؤمنين تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا وقال: فيم ولم وبم ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين ألا لا يا بن صفوان ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك. فأنت والله كما قال أخو خزاعة: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه صنيعة قربى أو صديق توافقه منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ولم يفتلتك المال إلا حقائقه قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له قلت: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي فمر براهب في دير فعدل إليه فأدخله الراهب بستاناً له وجعل يجتني له أطيب الفاكهة. فقال له هشام: يا راهب بعني بستانك. فسكت عنه الراهب. ثم أعاد عليه فسكت عنه. فقال له: ما لك لا تجيبني فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك. قال: لماذا ويحك قال: لعلك أن تشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: ما سمعت ما قال هذا قال: والله إن لقيك حر غيره. ومن البخلاء: عبد الله بن الزبير وكانت تكفيه أكلة لأيام ويقول: إنما بطني شبر في شبر فما عسى أن يكفيه. وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير: لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين فإن تصبك من الأيام جائحةٌ لم نبك منك على دنيا ولا دين ما زلت في سورة الأعراف تدرسها حتى فؤادك مثل الخز في اللين إن امرأ كنت مولاه فضيعني يرجو الفلاح لعندي حق مغبون وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري. فقال فيه الشاعر: رأيت أبا بكر وربك غالب على أمره يبغي الخلافة بالتمر وأقبل إليه أعرابي فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل فإن أغنيت أعطيناك. قال: أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة. وأتاه أعرابي يسأله حملا ويذكر أن ناقته نقبت. فقال: انعلها من النعال السبتية واخصفها بهلب. قال الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك. قال: إن وصاحبها. ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء وعشرة من الخطباء وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق حتى لا يمتد إلي أمل آمل ولا ينبسط نحوي رجاء راج. وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام هات الغداء. وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع ويفتح على السائل باب الحرمان. ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر. قال أبو عبيدة عن جهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة فقدم إلي تمراً وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً. فأتى الغلام بالزيت. فقال له: خنتني وسرقتني. قال: وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت. ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي. استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً فمطله بها ستة أشهر ثم قضاه درهمين وثلاث حبات. فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار وأنا بقال لا أملك مائة فلس وإنما أعيش بكدي واستقضي الحبة على بابك والحبتين صاح على بابك حمال ولا يحضر تلك الساعة وكيلك فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات. فقال زبيدة: يا مجنون أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية لأن هذه ندية وتلك يابسة وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً. قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم وكان عنده لبن كثير فسمع به رجل ظريف فقال: لا أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن تغاشى وتماوت فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع فخرج إليه صاحب اللبن فقال: ما باله يا سيدي قال: هذا سيد بني تميم أتاه أمر الله هاهنا وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه حتى أتى عليها ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة. ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا. لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل. قيل لبختى المدينة: ما الجرح الذي لا يندمل قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده. قيل لها: فما الذل قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال. والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً: " جاء فلان على غبيراء الظهر " و " جاء على حاجبه صوفة ". و " جاء بخفي حنين ". وقال أبو عطاء السندي في يزيد بن عمر بن هبيرة: ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ طلبت بها الأخوة والثناء رجعن على حواجبهن صوفٌ وعند الله نحتسب الجزاء قال الأصمعي: كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه: هل تغذيتم اليوم فإن قالوا نعم قال: والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا: لا قال: لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله فلا يصير في أيديهم منه شيء. وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت. وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة. ثم يقول: كيف كان شربكم للماء فإن قال أحدهم: كثيراً قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير. وإن قالوا قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلاً. وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ". ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج فغطى الطبق بذيله وأدخل رأسه في جيبه وقال للرجل الداخل: أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري. وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذاً من دجاجة فأمر فنودي في منزله: من هذا الذي تعاطى فعقر والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد. فقال ابنه الأكبر: يا أبت لا تؤاخذنا وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هارون فأطلنا الحديث حتى أضر به الجوع فدعا بغذائه فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم لا تحز فيها سكين ولا تؤثر فيه الضرس فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة ففقد الرأس فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس قال: رميت به. قال: لم قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذاك فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه والرأس رئيس الأعضاء وفيه الحواس الخمس ومنه يصيح الديك وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء فيقال: شراب مثل عين الديك. ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله انظر أين هو قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك. وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاماً فثقل عليه ذلك. فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه فجمعوا وكشف عن الطعام فإذا طعام له بالٌ فندم على الإرسال للمساكين وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان. وقال: دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية وقوم يأكلون عنده فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه وجعل يرطله بيده ويقول: يزعمون أن خبزي صغير فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه قال: ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة والقوم يأكلون وقد رفع بعضهم يده فمددت يدي لآكل فقال أجهز على الجرحى لا تتعرض للأصحاء يقول: تعرض للدجاجة التي قد نيل منها والفرخ المنزوع الفخذ فأما الصحيح فلا تتعرض له. فهذا معناه في الجرحى. وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل فقال: أما مائدته فمقببة وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها قال: الكرام الكانبون. قال: فمن يأكل معه قال: الذباب. قال له يحيى: وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته قال: جعلت فداك والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل. أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال: يهجوا ابن الأغلب: لو أن قصرك يا ابن أغلب كله إبر يضيق بهن رحب المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ليخيط قد قميصه لم تفعل وقيل لحصين: أتغديت عند فلان قال: لا ولكني مررت به يتغدى. قيل: فكيف علمت أنه يتغدى قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء. وقال أبو الحارث جمين: دخلت على فلان فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت. وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. قال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. وخرج وهو يقول: وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وقال آخر: ولو عليك اتكالي في الغداء إذا لكنت أول مقتول من الجوع يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً صوت ضعيف وداع غير مسموع قال المدائني: كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة جدي. يوضع على مائدته بعد الطعام لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر. فحضر مائدته أعرابي فبسط يده وأسرع في الأكل. فقال: يا أعرابي إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك. فقال له الأعرابي: أصلحك الله وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه فقال: خذها فإنها بيضة العقر. فلم يحضر طعامه بعد ذلك. ودخل أشعب على والي المدينة فحضر طعامه وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر فبدر إليه أشعب فمزقه فقال له: يا أشعب إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم فإن في ذلك أجراً. فقال: والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله. قال عمرو بن ميمون: تغديت يوماً عند الكندي فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي فلم يعرض عليه الطعام ونحن نأكل فاستحيت أنا منه فقلت: سبحان الله لو دنوت فأصبت معنا. قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء. قال: فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً. قال: ومررت ببعض طرق الكوفة فإذا أنا برجل يخاصم جارا له. فقلت: ما بالكما فقال أحدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً فاشتريته له وتغدينا فأخذت عظامه فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس. قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما فاشتروا له وأمر بطبخه حتى تهرأ فأكل منه حتى انتهت نفسه وشرعت إليه عيون ولده فقال: ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله. فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا قال: لست بصاحبه. فقال الأوسط: أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول قال: لست بصاحبه. فقال الأصغر: أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً وأسفه سفاً قال: أنت صاحبه وهو لك دونهم. وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها ويسميها العرس لما فيها من الألوان الطيبة وربما سماه الكامل والجامع ويقول: الرأس شيء واحد وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة والرأس فيه الدماغ وطعمه مفرد وفيه العينان وطعمهما مفرد والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها مفرد على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان وطعمه مفرد والخيشوم والغضروف ولحم الخدين وكل شيء من هذه طعمه مفرد. والرأس سيد البدن والدماغ هو معدن العقل وخاصة الحواس وبه قوام البدن وفيه يقول الشاعر إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري وقيل لأعرابي: أتحسن أن تأكل كل الرأس قال: نعم أبخص عينيه وأفك لحييه وأسحى ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إيام ونهم الصبيان وبغر السباع وأخلاق النوابح ونهش الأعراب وكل ما بين يديك فإنما حظك منه ما قابلك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف من لقمة كريمة أو مضغة شهية فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل ولست بواحد منهما. وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر. أي بني لا تخضم خضم البراذين ولا تدمن الأكل إدمان النعاج ولا تلقم لقم الجمال ولا تنهش نهش السباع وعود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى. واعلم أن الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم والسقم داعية الموت ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه وقاتل نفسه ألأم من غيره. أي بني والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة ولا خشع لله ذو بطنة والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين. أي بني لأمر ما طالت أعمار الرهبان وصحت أبدان الأعراب ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء كله هو في فضول الطعام فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح الدين والدنيا والقرب من عيش الملائكة أي بني ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات فافهم تأديب الله وتأديب الرسول. أي بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب ولا عرفت وكف أنف ولا سيلان عين ولا سلس بول وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك. ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر فقالت: السلام عليك قال أبو الأسود كلمة مقبولة. ووقف عليه أعرابي وهو يأكل فقال الأعرابي: أدخل قال: وراءك أوسع لك. قال: الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليهما يبردان. قال: أتأذن لي أن آكل معك قال: سيأتيك ما قدر لك. قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا أنك نسيت. ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه. فقال أبو الأسود: يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه. قال: كرهت أن أدعها للشيطان. قال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها. الأصمعي قال: قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي وهو يقول: من يعشي الجائع فقال أبو الأسود: علي به فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع فلما أكد ذهب ليخرج قال: أين تريد قال: أريد أهلي. قال: لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك اطرحوه في الأدهم فبات عنده مكبولًا حتى أصبح. قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة فأخلى له المنزل ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه ثم رجع وكتب له: يأيها الخارج من بيته وهارباً من شدة الخوف ضيفك قد جاء بزادٍ له فارجع تكن ضيفاً على الضيف وقال آخر: بت ضيفاً لهشام في شرابي وطعامي وسراجي الكوكب الدر ي في داجي الظلام لا حراماً أجد الخ بز ولا غير الحرام وله: بت ضيفاً لهشام فشكا الجوع عدمته وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله فيمطله ابن المقفع فيقول: أتراني أتكلف لك شيئاً لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي فلا تتثاقل علي. فلم يزل به حتى أجابه وأتى به إلى منزله فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش فقدمه له. ووقف سائل بالباب فقال له: بورك فيك فألح في السؤال فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك. فقال ابن المقفع للسائل أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة. وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها فلما حلها وقف سائل فقال له: صنع الله لك ثم وقف ثان فقال له مثل ذلك ثم وقف ثالث فقال له مثل ذلك. فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان. فقالت له: يا أبت. ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا أم قلوا الأصمعي قال: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قروناً. البرم: الذي يأكل مع أصحابه ولا يجعل شيئاً والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين. وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له: هجاء الأضياف وهو القائل في ضيف نزل به وأكله: ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت وبين أخرى تليها قيد أظفور تجهز كفاح ويحدر حلقه إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل أتانا وما ساواه سحبان وائل بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه من العي لما أن تكلم باقل وله في الأضياف: لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا دسم العمائم تحيكها الشياطين ألفيت جلتنا الشهريز بينهم كأن أيديهم فيها السكاكين فأصبحوا والنوى عالي معرسهم وليس كل النوى تلقى المساكين ما قالت الشعراء في طعام البخلاء فمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب: والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك أسته وتمثل الأمثالا وقوله فيهم: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم واستوثقوا من رتاج الباب والدار قوم إذا نبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار اللاقطين النوى تحت الثياب كما مجت كوادن دهم في مخالبها فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر: أبلج بين حاجبيه نوره إذا تغدى رفعت ستوره لآخر: أبو نوح أتيت إليه يوماً فغداني برائحة الطعام وقدم بيننا لحماً سميناً أكلناه على طبق الكلام فلما أن رفعت يدي سقاني كؤوساً حشوها ريح المدام فكان كمن سقى ظمآن آلا وكنت كمن تغدى في المنام ولآخر: تراهم خشية الأضياف خرساً يصلون الصلاة بلا أذان ولحماد عجرد: حريث أبو الصلت ذو خبرة بما يصلح المعدة الفاسدة تخوف تخمة إخوانه فعودهم أكلة واحدة إذا ما تنفس حول الخوان تطاير في البيت من خفته فنحن كظوم له كلنا يرد التنفس من خشيته فيكلمه اللحظ من رقة ويأكله الوهم من قلته نزل رجل من العرب ببخيل فقد إليه جرادا فعافه وأمر برفعه وقال: لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة إليه دجوجي من الليل مظلم فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه هو العير إلا أنه يتكلم أتانا ببرقان الدبي في إنائه ولم يك برقان الدبي لي مطعم فقلت له غيب إناءك واعتزل فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال: تضيفت في برد وريح تلفني وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعدما تلفعت الظلماء من كل جانب تصلى بها برد العشاء ولم تكن تخال وميض النار يبدو لراكب سرى في جليد الليل حتى كأنما تخزم بالأطراف شوك العقارب تقول وقد قربت كوري وناقتي إليك فلا تذعر علي ركائبي فسلمت والتسليم ليس يسرها ولكنه حق على كل جانب فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي قالت معشر من محارب من المشتوين القد في كل شتوة وإن كان عام الناس ليس بناصب فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن علي مبيت السوء ضربة لازب وقمت إلى مهرية قد تعودت يداها ورجلاها حثيث المواكب إلا إنما نيران قيس إذا شتوا لطارق ليل مثل نار الحباحب وقال الخليل بن أحمد: كفاه لم تخلقا للندى ولم بك بخلهما بدعه فكف عن الخر مقبوضه كما نقصت مائة سبعه إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم وليس يبلغنا ما تنضج النار وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان: إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم جراديم أشباه النخامة تبلع تبل ختان الضيف حتى تريبه ويصبح من عين أسته يتطلع ويقريك من أكرهته من سوادهم قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع ولآخر: فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم على ميت مستودع بطن ملحد يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد ولآخر: ذهب الكرام فلا كرام وبقي العضاريط اللئام من لا يقيل ولا يني ل ولا يشم له طعام ولآخر: قد كان يعجبني لو أن غيرته على جرادقه كانت على حرمه ولآخر: إن هذا الفتى يصون رغيفاً ما إليه لناظر من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ئف في سلتين في منديل في جراب في جوف تابوت موسى والمفاتيح عند ميكائيل وقال أبو نواس في فضل الرقاشي: رأيت قدور الناس سوداً من الصلى وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ويخرج ما فيه على طرف الظفر إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها أمامهم الحولي من ولد الذر وقال في إسماعيل الكاتب: خبز إسماعيل كالوش ي إذا ما انشق يرفا عجباً من أثر الصن عة فيه كيف يخفى إن رفاءك هذا ألطف الأمة كفا ولآخر: ارفع يمينك من طعامه إن كنت ترغب في كلامه سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه ولآخر: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا لتذب عنا ولكن خفت مرزئة الذباب ولآخر: زرت امرأً في بيته مرةً له حباء وله خير يحذر أن يتخم إخوانه إن أذى التخمة محذور ويشتهي أن يؤجروا عنده بالصوم والصائم مأجور ومن قولنا في نحوه: طعام من لست له ذاكرا دق كما دق بأن يذكرا لا يفطر الصائم من أكله لكنه صوم لمن أفطرا وقال آخر: خليلي من كعب أعينا أخاكما عى دهره إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه مخافة أن يرجى نداه حزين كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ولم يدر أن المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا وفي كل معروف عليك يمين إذا جئته في حاجة سد بابه فلم تلقه إلا وأنت كمين باب من أخبار البخلاء الرياشي قال: صاحب رجل رجلا من البخلاء فقال له: احملني. فقال: ما كنت لأنزل وأحملك. قال: ما أنت بحاتمٍ حيث يقول: أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب قال: ما فيها محمل ولا بي طاقة على المشي. وقد قال شاعرهم حاتم: أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر وقال كثير عزة: مهين تلاد المال فيما ينوبه منوع إذا مانعته كان أحزما سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة فلم يقضها فتشفع إليه برجل فقضاها فقال: ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي تولى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب المجد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة فبعث إلى جار له موسر يستسلفه وكان حسن الظن به فاعتل عليه ورده فقال: لا تشعرن النفس يأساً فإنما يعيش بجد حازمٌ وبليد ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه فكل قريب لا ينال بعيد وكتب إلى آخر يستسلفه فكتب إليه: المؤونة كثيرة والفائدة قليلة والمال مكذوب عليه. فكتب إليه أبو الأسود: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً. وقال بعض الشعراء في بخيل: ميت مات وهو في كنف العي ش مقيم في ظل عيش ظليل في عداد الموتى وفي عامر الدني ا أبو جعفر أخي وخليلي لم يمت ميتة الحياة ولكن مات عن كل صالح وجميل ولآخر: فأما قراه كله فلنفسه ومال يزيد كله ليزيد ولآخر: فأما جوده فعلى النصارى وأما بأسه فعلى الكلاب ولآخر: كدحت بأظفاري وأعملت معولي فصادفت جلموداً من الصخر أملسا تجهم لما جئت في وجه حاجتي وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى فأجمعت أن أنعاه لما رأيته يفوق فواق الموت حتى تنفسا وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي: جاء بدينارين لي صالحٌ أصلحه الله وأخزاهما أدناهما تحمله ذرةٌ وتلعب الريح بأوفاهما بل لو وزنالك ظليهما ثم عمدنا فوزناهما لكان لا كانا ولا أفلحا عليهما يرجح ظلاهما ولحماد عجرد: أورق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ترى في الناس عفته حتى يقال غني وهو مجهود جاد ابن موسى من دنانيره لنا بدينارين أسرارا كلاهما في الكف من خفة لو نفخا من فرسخ طارا قلت وقلبي لهما منكر أريهما للحين قسطارا فكان هذا عنده بهرجا وكان هذا عنده بارا ثم وزنا واحداً منهما كان له القسطار مختارا فكان في كفة ميزانه ينقص قيراطاً ودينارا باب ما قيل في البخلاء سمع رجل أبا العتاهية ينشد: فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا فقال له: بخلت الناس كلهم.