المدينة المسحورة (1946)/المدينة المسحورة


المدينة المسحورة

فلما كانت الليلة الواحدة بعد المائة قالت شهر زاد:

بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، مدينة عظيمة في مصر القديمة، يتبعها إقليم بين الوادي والصحراء يحكمه الملك «نفريت»

وكان لهذه المدينة أسوار عالية تحميها من الأعداء، وكان لهذه الأسوار أبواب ضخمة يقوم عليها الحراس الشداد؛ وهذه الأبواب تفتح نهاراً عند مطلع الشمس، وتغلق ليلا عند غروبها، فيمنع الدخول والخروج إلا لمن يحمل كلمة السر من الحكام والحراس.

وكان على مقربة من المدينة غابة فسيحة كثيفة عالية الأشجار، وكانت المراعي تتخلل فجواتها الكثيرة، فيدخل الرعاة بأغنامهم في فجوات الغابة، لترعى الحشائش النباتية فيها، كما كانت بعض الذئاب تأوي إليها وبعض الضباع، تتلقف الحملان الضالة التي تتناثر من القطيع. وكانت الأرانب البرية والثعالب والظباء تتكاثر فيها وتنمو، فيخرج الصيادون لصيدها في مواسم من السنة، بعضهم يتخذها للكسب والتجارة، وبعضهم يتخذها للهو والتسلية.

وعلى خفافي الغابة كانت تتناثر بضعة أكواخ وحظائر للرعاة والصيادين الفقراء، يأوون إليها بأنفسهم وأغنامهم، حين يدخل الظلام، ويصبح التجوال في الغابة خطراً بين الذئاب الجائعة والضباع الهاجمة؛ وكثيراً ما كانوا يوقدون أمام أكواخهم ناراً تشتغل طوال الليل تخويفاً لهذه الحيوانات من السطو على الحظائر

في جنح الظلام.

وكان للملك في وسط المدينة قصر عظيم يتألف من أجنحة كثيرة، وتتبعه أقسام للحراس والأصطبلات، وأمامه ساحة فسيحة يتدرب فيها الجند، وتقام فيها الاستعراضات العسكرية والحفلات الملكية، وتتسع لعدد كبير من الناس. وعلى الجانب الآخر من الساحة يقوم قصر أصغر من قصر الملك هو قصر أخيه.

ولم يكن يعكر صفو الملك إلا حرمانه من وريث لعرشه، إذ كانت امرأته لا تلد، وقد بلغت الأربعين وبلغ الملك الخمسين دون أن يكون لها بنت أو غلام، فكان المنتظر أن يئول العرش بعده إلى أخيه إذا أمهله الموت، أو إلى أحد الأجانب، إذ أن أخاه مثله محروم من الأطفال.

وقد جعل الملك جائزة عظيمة لمن يكون سبباً في دفع العقم عن زوجته وزوجة أخيه. ولكن جميع محاولات الأطباء والكهان ذهبت أدراج الرياح، فلم يبق أمام الملك وأخيه إلا أن يتزوجا من جديد. وفيما هما يفكران هذا التفكير، والمرأتان في غم وضيق، وأهل المملكة جميعاً في اشتغال بهذا الأمر الخطير، هبط المدينة طبيب من الشمال، سمع بالغابة ونباتاتها، فقدم ليجمع منها بعض النباتات الطبية. ولما دخل المدينة وجد أهلها مهمومين مغمومين، لأن الملك وشقيقه سيتخذان زوجتين بدل زوجتيهما المحبوبتين من الشعب كله لطيبتهما وعطفهما على المساكين، فعرض ذلك الطبيب الشمالي استعداده لمداواة العقم، ففرح الناس وتوجهوا إلى الإله بالدعاء.

واستجاب الله دعاء الشعب فحملت الزوجتان في ليلة واحدة بعد طول العقم والحرمان. ولما وفتا الأيام وضعت زوجة الملك طفلا ذكراً، وزوجة أخيه وضعت أنثى، فأقام الملك الأفراح في طول المملكة وعرضها، وأطعم الفقراء والجياع، ولبست المدينة حلة زاهية من الزينة أربعين ليلة كاملة.

وقد سمي المولود "تاسو" وسميت المولودة "تيتي" واتفق الملك وشقيقه أن تكون تيتي لتاسو، ويكون الملك لذريتهما جيلا بعد جيل.

مرت السنوات والطفلان ينموان حتى بلغت سنهما العشرين

واعتزم الوالدان أن يفرحا بهما في حياتهما ، وأن يشهدا زواجهما فأعدا العدة لإقامة الأفراح، وذهبت الرسل لاستحضار المغنين والملهين من أطراف المملكة، ليكون هذا العرس عيداً جميلا يفرح به الشعب كله، ويظل مذكوراً على الأيام.

ولكن إرادة الله كانت غالبة، فاجتاح البلاد مرض وبائي وافد، ذهب ضحيته الملك وشقيقه وزجتاهما ضمن ألوف أخرى كثيرة من السكان. فلبس الناس الحداد على موتاهم، واغتم تاسو وتيتي لفقد والديهما ، وأصيب الشاب بالمرض، ولكنه نجا، فقام منه منهوكاً مهدوداً.

وبغير احتفالات ولا زينات تولي الملك مكان أبيه، وجعل همه مقاومة الوباء الطارئ بجميع الوسائل، وتمكن بعد مضي عامين من القضاء عليه، وإراحة الناس منه، فارتفعت أكف الناس بالدعاء له، وزادوا تعلقاً به.

ولما اطمأنت القلوب وهدأت الاحوال قال مشير الملك الراحل للملك الشاب: "يا مولاي. لقد من الإله عليك بالشفاء من المرض الذي حصد الا رواح؛ وقد ابتهج أهل المملكة بنجاتك، فيحسن أن يتم الا بتهاج بعقد القران، حتى يرزقك الله بولي عهد تقربه عينك، كما أقر الإله بك عيني والدك الراحل فوجدناك عند ارتحاله ذخراً لنا وسندا؛ وأنت تعلم يا مولاي أن والدك العظيم كان يحضّر للعرس لولا هذا الوباء المشئوم" فرد عليه الملك الشاب مستحسنا فكرته وأشار بالتهيؤ لإقامة الأفراح والاحتفالات على النحو الذي أمر به والده، لتقر عينه في قبره بتنفيذ رغباته، بعد أسبوع من الزمان.

ولما سمعت تيتي بهذا النبأ طار قلبها فرحا، فقد كانت مشغوفة بابن عمها حبًّا، ولكن الحياء كان يمنعها من إظهار هذا الحب الذي يملك عليها تفكيرها.

لقد مر هذان العامان كما تمر القرون والأجيال. وكانت قد نضجت أنوثتها، وتفتحت رغباتها، فكانت تحلم بذلك اليوم السعيد الذي تتحقق فيه أمانيها التي عاشت في نفسها منذ أن تنبهت لوجودها، وعلمت أنها خطيبة لولي العهد وابن عمها المحبوب.

كانت حياتها كلها وأحلامها جميعاً تتلخص في هذه الرغبة التي تنمو يوماً بعد يوم، كلما شاهدت خطيبها الشاب تكتمل رجولته، وتبدو عليه مظاهر الفتوة وأمارات القوة؛ فلما بلغها النبأ كادت تجن من الفرح، ولكنها خجلت فتوردت وجنتاها وانهمرت من غينها الدموع. أما الأمير فلم يكن ميله إليها إلا بمقدار الألفة التي تنمو بين طفلين خطيبين.

باتت الأميرة ليلتها لم تذق للنوم طعماً . لقد كانت عشرات الصور والمشاهدة تتوالى على حسها وهي في شبه غيبوبة لذيذة، وكانت تفتح عينيها فلا ترى شيئاً. لقد كانت مشغولة باستعراض الرؤى الجميلة التي تنبع من نفسها وتزدحم في خيالها، كانت تحس بأشتات من الأحاسيس الغريبة التي لا تدرك لها تفسيراً ولا تعرف عنها تعبيراً، فتدعها تمر على حسها متتابعة متمازجة، وهي كالمخدورة بين الأحلام اللذيذة.

وأصبح الصباح فوجد الملك الشاب في نفسه مَيلًا إلى التجوال في الغابة كأن هاتفاً يدعوه إليها، فأمر بإعداد العدة للصيد، وخرج مع الحراس ورجال الحاشية - على عادته حينما يعتزم هذه الرياضة المحبوبة.

كان الربيع قد وافى، فاكتست الأشجار بالأوراق الخضراء وازدهرت أعاليها وأطرافها بالنور المختلف الألوان، وسُمعت أصوات اليمام فيها والطيور المغردة على اختلافها، وانطلقت الأرانب البرية والغزلان تقفز وتمرح، وقد اكتست أجسامها بالشعر الجديد الزاهي، وبان في وثباتها المرح الداخلي النشيط.

وكان الملك الشاب يحس في نفسه شوقاً غامضاً مجهولا ، وحنيناً تائهاً عجيباً، تنطق به كل ذرة في دمائه، وكل خالجة في شعوره. كان يتململ في جلسته على ظهر حصانه، فيغادره ويقفز ليسير على أقدامه، يمسك بأطراف الأشجار المتدلية، ويغرس طرف رمحه في جذوع الأشجار، ويقطف بعض الأزهار ليتأملها برهة ثم يقذف بها على مد الذراع؛ ثم يعود إلى صهوة جواده، وقد شعر بشيء من الراحة لتصريف هذا المذخور في بنيته من القوة والمراح.

وللقدر المقدور وقع نظره وهو في هذه الحالة على فتاة ترعى بضع شياه.

لقد بهت كأنما سمر في مكانه. كانت فتاة ممشوقة القوام ناضرة الوجه، في عينها كل معاني الربيع. كل شيء فيها متفتح كالوردة الناضجة صدرها الناهد، ونظراتها الجاهرة، وبشرتها المملوحة، ومشيتها المتوثبة، ولفتاتها السريعة.. أحس الشاب أن هذه الفتاة هي إحدى ظبيات الغابة أيقظها تفتح الربيع، وأنضجتها حرارته وانفلتت من كيانها تبعثر ما تجمع في كيانها من رصيد الحياة المذخور ، فوقف إزاءها ساها مدهوشاً مأخوذاً . وأحست الفتاة أن نظرات الفارس الجميل تقع على كل موضع فيها ، وتنفذ في ثناياها ، فأرخت أجفانها من الحياء ، وتفترت مفاصلها ، ودب فيها خدر لذيذ .

لم تكن الفتاة تعلم أن الفارس الجميل الذي يلقى عليها هذا الوابل من النظرات النفاذة هو ملك الإقليم . فقد كان من عادته أن يتزيا – حين يقصد إلى الصيد – بزى فارس من الحرس حتى يكون طليقاً في رياضته ، وحتى يتخفف من شارات الملك وتقاليد البلاط . لقد كان بطبعه ينفر من هذه القيود التي تثقل كاهله ، وتحد من نشاطه وهو في فورة الشباب الوثاب ، فما إن

تعرض له فرصة من هذه الفرص حتى يلقى عن نفسه هذه المراسم والطقوس، فيحس أنه خلص من ربقتها، وصار إنسانا له كل حقوق الإنسان ، وكان يحرم على مرافقيه من رجال الحاشية ما دام في هذه الرياضة المحبوبة أن يخاطبوه بمراسم الملك لأن هذا كان يرده إلى أنقال المراسم، ويذكره بضيق القيود التي خرج يتخفف منها و يفرج على نفسه من ضيقها !

فلما وقف أمام الفتاة مبهوتاً مأخوذاً ، وطال هذا الموقف حتى لحظه مرافقوه ، تذكر نفسه ومركزه – على الرغم من تفكره وتخفيه – فأراد أن يستر الموقف المكشوف ، فسأل سؤالا ساذجا متحيراً : أهذه أغنامك ؟

قالت الفتاة – وقد توردت وجنتاها – ! نعم هي أغنامي وأنا أرعاها لأن والدي عجوزان .

قال الفارس العاشق : وهل تسكنون قريباً من هنا ؟

قالت : إن لنا كوخاً على حافة الغابة .

فاطمأن الشاب لذلك ، ورأى أن يختم الموقف بحركة سريعة لم يتهيأ لها بتدبير أو تفكير . فألقى إلى الفتاة بصرة نقود بين يديها ولوی عنان فرسه ومضى يركضه ، والفرسان من خلفه، وهو في شبه غيبوبة ، لا يدرى له وجهة، ولا يكاد يملك جسمه على ظهر الفرس .

وأفاقت الفتاة بعد انصراف الفارس الجميل كما يفيق الحالم من حلم لذيذ، وأحست كأنما كانت غائبة عن الوجود ، ثم ها هي ذي ترد إلى مكانها الذي تعهد ، وأمامها شويهات ترعى لم تكن تحس بها أو بما حولها منذ حين . ونظرت فإذا غبار ثائر في أعقاب كوكبة من الفرسان ، فتعلق نظرها بهذه الكوكبة وارتدت إلى غيبوبتها الحالمة ، وكأنما في هذا الغبار الثائر رؤيا مجنحة تحفها نفساً التهاويل العجيبة . . . حتى إذا اختفى المشهد تنفست عميقاً بعد ما أمسكت أنفاسها ، وهي تتطلع إلى الغبرة الثائرة من بعيد ووجدت نفسها تبتسم منفرجة الأسارير ، وتقلب في يديها هذه المرة المربوطة ، وكأنها حجر سحري يشيع في جسمها الاهتزاز ، ثم تحاول فكها وهي لا تقصد هذه المحاولة ، فتتفتح عن قطع صفراء ذات رنين . يالله ! إنها من الذهب ! إنها نقود !

وبهرتها هذه النقود الذهبية التي لم ترها من قبل إلا في أيدى كبار الأثرياء ، وشغلها بريقها لحظة عما في نفسها من الشعور المبهم الغريب . ولكن ما لبثت هذه الصرة وما فيها أن اتصلت في نفسها بهذا الشعور المبهم الغريب !

وفجأة رأت نفسها تسوق شويهاتها عائدة إلى الكوخ ، وهى لا تدري لماذا تعود !

وأطلت من الكوخ عجوز معروقة ثم ارتدت إليه ، وعادت بشيخ عجوز ، جعل يحدق هو والشيخة في الفتاة العائدة والشويهات أمامها وهي تسوق .

قالت الشيخة : ما الذي يجيء بساسو في هذه الآونة المبكرة ؟

قال الشيخ : لابد من مكروه . لقد كنت أحس صهيل خيل في الغابة ، فلعلهم قطاع الطريق من الأعراب المتهجمين قد هجموا على الرعاة كما يفعلون .

قالت الشيخة : يا لساسو المسكينة ! ويا لخوفي عليها ! لطالما قلت لك : لا تخرج ساسو إلى الغابة بعد ما صارت في هذه السن ، فإني لأخشى عليها ما هو أشد من سلب الأغنام !

قال الشيخ : إن ساسو شجاعة فلا تخشى عليها شيئا . إنها ابنة أبيها أيتها العجوز !

قالت : ابنة أبيها أو ابنة أمها ! لن تخرج إلى الغابة مرة أخرى .

وكانت ساسو قد اقتربت تخطر وكأنها تطير، وأسار يرها تنطق بالبشر والسرور ، وأسرعت الأم تقول في لهفة – و إن يكن مظهر الفتاة قد بعث إليها بشيء من الطمأنينة – :ماذا يا ساسو ؟ وفوجئت الفتاة بهذا السؤال كأنها لم تكن تتوقعه، فاضطربت و تواردت على خاطرها أشتات من الصور ، وقفت عند صورة منها فتوردت وجنتاها ، ونكست بصرها إلى الأرض، وأجابت في حياء : لا شيء يا أماه . أحس في جسمي بفتور .

وكانت لشدة ما نالها من الاضطراب قد اختلجت أوصالهـا في هذه اللحظة ، وأحست بالأرض تحت قدميها تدور . فألقت بنفسها على صدر أمها التي أسرعت إليها تحتضنها في ذعر شديد. وتعاون الشيخان على إدخال فتاتهما إلى الكوخ ،وهى مفترة الأوصال ، مضطربة النبض ، لا تدرى أهي مريضة حقا أم أن ذلك شيء جديد ؟ !

واعتقد الوالد أنها ضربة الشمس أصابت الفتاة ، فجعل يلوم نفسه أن عرضها لرعي الأغنام ، واعتزم أن يعفيها منذ الغد من هذه العملية الشاقة ، ولو أنه محطم مهدود .

أما الأم فإن شعوراً داخلها كان يوسوس لها بأن هناك شيئاً غير عادى قد مس الفتاة اليوم، وان لهذا الاضطراب سراً غير معلوم . ولم يعسر على الشيخة أن تعلم من فتاتها كل شيء بعد قليل ، وأن تتناول صرة الذهب فتذهب بها مغضبة إلى رجلها ، وتقذفها في حجره بشدة ، وهي تقول : ألم أقل لك إن ساسو لم يكن يجوز أن تذهب إلى الغابة منذ بعيد ؟

وفوجىء العجوز بهذا الذهب يتوهج في حجره، وبهذه الصيحة تلقيها العجوز في سمعه . ما هذا وما ذاك ؟ وما علاقة الذهب بالصياح ؟ . . واختليا عن ساسو وراحا يقرران أمراً لا تدريه. . وأدرك شهرزاد الصباح ، فسكتت عن الكلام المباح.

***


Public domain هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأن مدة حماية حقوق المؤلف قد انقضت بموجب أحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
مصر
مصر