المدينة المسحورة (1946)/عودة شهرزاد
عودة شهرزاد
... فلما كانت الليلة المائة بعد الألف أرق الملك شهريار أرقاً طويلاً تجاوز بـه منتصف الليل، وأوفى به على الهزيع الأخير. وضاق صدره بهذا الأرق الذي لايجد منه مهرباً، ولا يعرف له نهاية.
ولم تكن هذه هي الليلة الأولى التي يأرق فيها الملك، ويـضيق صـدره بالليـل والأرق فمنذ ثلاث ليال لم يذق النعاس إلا غراراً، ولم يزره النوم إلا في مطلع الفجر، بعد ينهكه السهر، فيمهد ويسترخي وينام.
لقد مرت تسع وتسعون ليلة منذ أن سمع من شهر زاد آخر أقاصيصها، ومنذ أن أحس أنه قد مل هذه الأقاصيص التي عاش فيها ألف ليلة وليلة في جو مسحور، يهيم فيها خياله مع المردة والشياطين، وتسبح فيها نفسه مع السواحر والجنّان، وتتعلق فيها أنفاسه بمصائر العشاق والعاشقات، ولا يكاد يهبط إلى الأرض حتى يحلق في السماء، ولا يكاد حسه يستقر حتى يضطرب من جديد ! لقد أحس أن شهرزاد قد تجاوزت به المدى في هذه الحياة الخيالية، وبعدت به طويلا عن الحياة الحقيقية، وأحس بشوق إلى الحياة في الأرض، والعودة إلى الواقع. كان قد عاش طويلا في الأحلام مغمض العينين، يسبح مع شهرزاد الساحرة في عالم الأوهام، فأراد أن يفتح عينيه، ويرى الأشياء كما تبدو للأيقاظ في وضح النهار.
وما كادت شهرزاد تختم قصتها الأخيرة في الليلة الواحدة بعد الألف حتى شعرت أن الملك قد سئم، وأنه لن يستمع إليها من جديد، فإ تنتظر حتى يشير عليها بالصمت، أو يهرب من جناح القصر الذي فيه يجتمعان. فقالت في نهاية القصة الأخيرة : « والآن يا مولاي أحسبني في حال من استئذان الملك في أن أعفيه ولو لبضع ليال من هذه الأحاديث الطوال، وأن أنصرف بعض الشيء إلى أطفالنا الثلاثة، فأنظر في الإشراف على نشأتهم لينشأوا لائقين بوالدهم العظيم. فأنا يا مولاي لا أستطيع أن أعتمد إلى ما شاء الله على إشراف المربيات ورجال الحاشية، مهما بلغن ومهما بلغوا من الإخلاص ومن الخبرة بشئون التربية والتقويم، فإن إشراف الأم لا يعدله إشراف، و إدراك الأم لحاجات طفلها وضروراته قائم على حاسة خفية في نفسها لا تتوافر لأي إنسان، وإن الطفل ليجد عندها بحسه الفطري ما لا يجد عند سواها كائنا من كان... فإذا أذن الملك فسأكون منذ الليلة القادمة في جناحي الخاص.»
وما كان الملك في حاجة إلى كل هذا البيان، ولكنه ارتاح إليه ارتياحا شديدا. فلقد كان في حيرة : كيف يستطيع أن يشير على شهرزاد بالصوت منذ الليلة القادمة، وكيف يشير عليها أن تجنح إلى جناحها الخاص منذ الغد، بعد ما استمع إليها ألف ليلة وليلة في شغف وإقبال في أول الأمر، وفي تراخ يتزايد في أخريات الليالي!
لقد كان يعز عليه أن يجرح كبرياءها، وأن يجابهها بالملل والنهور بعد ما استلن أحاديثها ثلاثة أعوام، وخرج بهذه الأحاديث من حال إلى حال، واستحال من سقاك متعطش للدماء إلى إنسان وديع هادئ الطباع. ولم يكن الذنب ذنب شهر زاد في ملله الأحاديث، فهي لم تقصر في انتقائها وتصفيتها، ولكنه ذنب النفس الإنسانية التي تسأم تشابه الأحوال.
كان الملك يدير مثل هذه الأحاديث في نفسه حينها أدركت شهرزاد بغريزتها الفطنة أن الانسحاب هو أنسب التصرفات. فلما سمع الملاك استئذانها أحس في نفسه بارتياح لذيذ، وتوارى الملل الذي كان يستشعره، وكبرت في نفسه شهر زاد من جديد. ولكنه أذن لها فيا تريد، لأنه لن يصير بعد اليوم على هذه الأحاديث.
فلما كانت الليلة التالية وجد نفسه وحيدا في جناحه الخاص فأحس بارتياح شديد لهذه الوحدة المحبوبة.
ومرت الأيام...
ولكنه منذ ثلاث ليال عاوده الأرق، فما ينام إلا في مطلع الفجر بعد التعب والهمود. أما في هذه الليلة الأخيرة، فقد أوشك الصبح، والأرق يلاحقه كالمطارد اللئيم. إن صدره ضيق ضيق، و إنه ليحس هذا الضيق يستحيل شيئاً مادياً محسوساً، يقبض عنقه ويزم صدره فيكتم أنفاسه، ويحس له بثقل شديد.
ماذا؟
لقد عاش في الأرض تسعاً وتسعين ليلة. عاش في الواقع المحسوس الذي كان قد شاقه فتشهاه. عاش في العالم المنظور بحواسه وذهنه بعيداً عن العالم المسحور الذي خلقته شهر زاد.
ولكنه يدرك الآن : كم يفقد الإنسان حينها يفقد الأحلام !
إن هذا العالم ضيق ضيق، تافه تانه، صغير صغير. إن ماتبلغه الحواس لهو أمد قصير ، وإن ما يبلغه الوعى لهو أفق قريب. و إن الخيال والأحلام ليبلغان بهذا المخلوق الإنساني المحدود أبعد الآماد وأوسع الحدود.
ألا ما أشقى الإنسان الذي لا يملك من هذا العالم إلا ما تبصره عيناه !
لقد جالت هذه الخواطر في نفس الملك منذ ليال ، فأحس عندها بالشوق إلى شهر زاد ، وبالحنين إلى أحاديثها الحلوة الشهية التي كانت تطير به من عالم إلى عالم ، وتتجاوز به الحدود والقيود ، وتطلقه من جميع الحواجز ، وتمزج له الواقع بالخيال ، وتجمع بين الأرض والسماء ، والبر والبحر ، والأطباق والأجواء ، والإنس والجن ، والأموات والأحياء.
أحس بهذا كله منذ ليال، وأحس باللهفة إلى لقاء شهر زاد وراودته نفسه أن يتسلل إلى جناحها الخاص في غفلة من الرقباء والحراس، ولكن كبرياءه صدته ليلة بعد ليلة أن يذهب إلى شهر زاد ! أما في هذه الليلة الأخيرة ، فقد أضجره الأرق و برح به الضيق ، وأجد له الشوق إلى شهر زاد منطقاً جديداً :
فيم الكبرياء ؟ وماذا يجرحها ! إنه لم يصرح لشهر زاد بملله وسآمته ، وهي التي استأذنته في أن تعتزل جناحه فأذن ؟ وإنه ليكون تلطفا منه أن يذهب إلى جناحها الخاص !
– ولكن أليست هي التي اعتزلتني ، وانصرفت عن تحديثي ، فكيف أبدأ أنا الآن بالعودة إلى ما كان ؟
– بلى ! هي التي اعتزلتك . ولكن ألم تكن أنت راغباً في هذه العزلة ؟ ألم تكن شبعت من هذه الأحاديث ؟ ألم تكن في حيرة من أمرك كيف تصدها عنها وتنأى بها عنك ؟
وفيما هو يجادل نفسه وتجادله ، كان قد تجاوز جناحه الملكي في الطريق إلى جناح الملكة . وتنبه الحارس الخاص فأدى التحية ، فأشار إليه الملك بالصمت ، ومضى إلى جناح الملكة الخاص ولما كان على باب المخدع أدركته حيرة مفاجئة : ماذا يقول الآن لشهر زاد ؟ ما حجته في هذه الزيارة الغريبة في مطلع الفجر بعد تسع وتسعين ليلة ؟
وكاد يهم بالرجوع ، ولم يدر أنه لفرط حيرته قد رفع صوته قليلا وهو يحاور نفسه وتحاوره ، حتى أحست به شهر زاد . لقد يتمتم ، ورأته يتأخر و يتقدم . فأدركت بغريزتها اليقظة حقيقة موقفه ، وخافت أن يفلت منها الزمام ، فنهضت جالسة في السرير ، ورفعت مفتاح النور ، فتلألأ القنديل ، وقالت تتصنع الدهشة : – من ؟ مولای !
وعندئذ لم يجد يدًّا من الإقدام ، فأجاب في اضطراب بخفيه :
– أي نعم ! معذرة في اقلاقك يا شهر زاد !
قالت : – بل الشكر للملك . لقد جاء في اللحظة المناسبة . لقد كنت أحلم حلماً مخيفاً، وكأنما أحسست يا مولاي بما أنا فيه من الضيق ، فحضرت اللحظة للإنقاذ .
وافتر ثغرها عن ابتسامة مشرقة . فوجد شهريار الطريق أمامه مفتوحا ، وقد أوجدت له المنفذ المناسب شهر زاد !
قال : لقد شعرت بانقباض شديد ، وخالجني إحساس غامض بأن أحضر إلى مخدعك في هذه اللحظة بالذات !
انتفضت شهر زاد من الفراش ، وهي تتثنى فيبدو قوامها الفاتن، وتلقي برأسها إلى الوراء لترد شعرها الجميل، ومدت يدها إلى الملك مصافحة، وقادته إلى مقعد مريح، وجلست بجواره، ويده بين يديها في دلال.
وأنس شهريار لاستقبالها الفاتن، وأحس أن ما يزعمه من الكبرياء الجريحة وهم سخيف. فها هو ذا بين يدي شهر زاده الساحرة، وقلبها من قلبه قريب؛ فليدع هذه الحواجز الوهمية بينه وبينها، فليس بين الرجل والمرأة – حين يخلون – ذلك الحجاز المتوهم من الكبرياء أو غير الكبرياء!
قالت شهر زاد – تستدرجه للحديث:
– كأني بك مؤرق يا مولاي؟
قال – وقد عاودته الكبرياء:
– كلا ! وماذا يدعوك إلى هذا الظن الآن؟
قالت متلطفة:
– أرى علائمه على وجهك يا شهريار. فماذا هناك؟ إنني إمرأتك، فما يدعوك إلى الكتمان؟
قال الملك – وقد أسره تلطفها الودود:
– الحق أنني مؤرق منذ ثلاث ليال. وسكت؛ فنظرت إليه شهرزاد مستزيدة، وقالت لتفتح له الحديث:
– ولماذا لم تستدعني إليك منذ الليلة الأولى، لنقاوم معاً هذا الوافد الثقيل؟
قال:
– لقد أشفقت عليك أن أؤرقك معي وأنت منصرفة على رعاية أطفالنا الصغار!
قالت شهرزاد:
– أطفالنا؟ إنما أطفالنا ونحن جميعاً بك أيها الملك... فماذا هناك؟
تنهد شهريار كأنما يزيح عن صدره ثقلا وقال:
– أرأيت يا شهرزاذ إلى أحاديثك الجميلة ألف ليلة وليلة! أين تراها الآن؟ لقد كانت تنقلنا على جناح الخيال إلى عوالم وآباد لا مثيل لها فيما نحسه أو نراه. إن العالم المحسوس عالم ضيق يا شهرزاذ. بل عالم جاف مشوه قبيح. إن الحياة بلا خيال نوع من التحجر، والعيش بلا أحلام حيوانية بليدة... أو لا زالت تملكين يا شهرزاد أن تردينا إلى العوالم المسحورة، وإلى الأكوان الحالمة، وإلى الآفاق الوضيئة، التي عشنا فيها ثلاثة أعوام؟
قالت شهر زاد في تخابث ودلال:
– أخشى أن يكون هذا الحديث تلطفاً من الملك مع مولاته شهر زاد، أراد أن يشعرها به أنه لم يأذن لها في الاعتزال عن ملل!
قال شهريار في حماسة:
– كلا كلا يا شهر زاد. أؤكد لك أنها رغبة حقيقية. لقد ضقت بهذا العالم المحسوس. لقد شعرت بالغربة فيه بعد أن فارقته ألف ليلة وليلة، ونسيت ضيقه وتحجره؛ حتى إذا عدت إليه ألفيته كما تركته قبل أحاديثك الجميلة. إنه مزعج. إنه رديء. إنه نوع من الموت في أثناء الحياة!
قالت شهر زاد: وقد اطمأنت إلى مكانها، وانتقمت لكبريائها: – الحق – أيها الملك – لقد كنت أقدر ذلك كله. كنت أعلم من اعتاد الحياة في جو الأحلام الوضيئة والخيال الطليق والعوالم الفسيحة، عزيز أن يقص أجنحته، ويقبع في هذا العالم الضيق الذي يدعونه عالم الحقيقة والواقع. والحقيقة والواقع مظلومات يا مولاي. فالحقيقة الكبرى لن تحدها نظرة جيل، والواقع الأصيل لن يحصره إدراك فرد ... إن الحقيقة أعلى بكثير وأكبر بكثير من كل ما يتصوره فرد أو جيل؛ وإن الواقع لأعمق بكثير مما تحده الأبصار والحواس؛ وإن ما يسميه أبناء الفناء بالواقع والحقيقة إن هو إلا طرف صغير ضئيل من الواقع ومن الحقيقة؛ وإنهم لن يستطيعوا إدراك ما هو أكثر وأكبر ما داموا يثقون في حواسهم هذه الثقة العجيبة، وينخدعون بأذهانهم هذا الانخداع المريب؛ وإنهم لن يصلوا إلى شيء إلا بالوجدان والخيال والأحلام. هذه هي الأشعة السحرية التي تكشف الآباد والآفاق؛ وتنير للإنسانية فترى على ضوئها ما لا تدركه عقولها، وما لا تبلغه خطواتها، ولكنها تتزود منه باللمحة والنظرة؛ وتهدف في شوقها إليه نحو الحقيقة والخلود.
... كان الملك يسمع هذه التسجيلات من شهر زاد، وهو مأخوذ مشدوه، كأنما يستمع إلى هاتف من الغيب وراء الأستار.
فلما سكتت تنبه كما يتنبه الحالم وقال:
—– والآن يا شهر زاد، هيا بنا إلى عالم الحقيقة الكبرى. عالم الأحلام والخيال!
قالت شهر زاد: لقد ادخرت يا مولاي لهذه الليلة أجمل قصصي وأروعها؛ فلقد كنت واثقة، كما قلت، من عودة الليالي، ووصل ما انقطع بعد أمد قصير أو طويل. ولكن انظر (وكشفت بيدها الستار عن النافذة فبدت تباشير الصباح): "لقد أدرك شهر زاد الصباح" فأتم الملك بأسماء: "فسكت عن الكلام المباح"!
قالت:
إن الصباح يبدد الأحلام، وإن الضجة تفزع الأطياف، وإن موعدنا لهو الليل الهادئ ، حيث يضرب الظلام على العين والنظر فتتفتح البصيرة ، ويسبح الخيال ، وحيث تتوارى الضجة وتخفت الحركة ، فتدب الأطيف وتسري الأحلام.
قال شهر يار:
إنك لماكرة وإنك لسحارة. وإنك لفاتنة بهذا وذاك! والآن فإلى اللقاء، حينما يضفي، وتسرح الأحلام.
قال شهر زاد: إلى اللقاء....
هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأَنَّ مُدة الحماية الَّتي كان يتمتع بها انقضت وَفقاً لأَحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
|