المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين/الخاتمة



أخذت المذاهب الأربعة تتغلّب مع الزمن، وغيرها من المذاهب السنيَّة يَدْرُس، حتى إذا كان القرنُ السابع تمّ لها التغلّب والتمكُّن. وأفتى الفقهاء بوجوب اتِّباعها، فدرس ما عداها إلّاّ بقايا من المذهب الظاهريّ، بقيت في بعض البلاد إلى القرن الثامن، ثم درست كما قدمنا.

قال المقريزي: فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البُنْدُقْدَارِيّ، ولى بمصر1 والقاهرة أربعة قضاة وهم: شافعيّ، ومالكيّ، وحنفيّ، وحنبليّ، فاستمرَّ ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري وعملت لأهلها المدارس والخوانات والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعُودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحدٌ مالم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم «انتهى».

ولا ريب في أن المراد عند جمهور المسلمين، وإلّا فمذهب الأباضيّة كان ولم يزل معمولاً به في بلادهم شرقاً وغرباً، وفقه الشيعة معمول به في فارس وغيرها من البلدان.

وفي قوله: «وعقيدة الأشعريّ» نظر لأن الحنفية يتبعون في الأصول عقيدة الماتريدي، إلا أن يكون عدَّهم من الأشعرية بالمعنى الذي أراده التاج السبكي وسبق لنا بيانه، وكأنه لم يعتد بالحنابلة لقلتهم مع أن لهم عقيدة خاصة كما قدمنا.

ولنختم هذا البحث ـ بمبلغ انتشار المذاهب الآن عند جمهور المسلمين، مستندين في الكثير منه على مصادر إفرنجية لقلة الموجود منها بالعربية، فنقول: الغالب على المغرب الأقصى الآن المذهب المالكي، وهو الغالب أيضاً على الجزائر وتونس وطرابلس، لاتكاد تجد فيها من مقلّدي غيره إلا الحنفيّة بقلّة، وهم من بقايا الأسر التركية وأكثرهم في تونس، ومنهم أفراد بيت الإمارة بها، ولهذا تمتاز حاضرتها بالقضاء الحنفي مشاركاً للقصاء المالكي. وأما سائر أعمالها فقضاتها مالكية، وفي الحاضرة كبير المفتين وهما: الحنفي ويلقب بشيخ الإسلام وله التقدّم والزعامة المعنوية على الجميع، والمالكيّ وله المقام الثاني، وقد تساهلوا الآن في تلقيبه بشيخ الإسلام أيضاً.

ومع قلّة المقلّدين للمذهب الحنفي فإنّ من السُّنَن المتبعة عندهم أن يكون نصفُ مدرسي جامع الزيتونة حنفية، والنصفُ مالكية. وإنّما امتاز الحنفى بذلك لكونه مذهب الأسرة المالكة.

ويغلب في مصر الشافعي والمالكي: الأوّل في الرّيف، والثاني في الصعيد والسودان. ويكثر الحنفي وهو مذهب الدولة والمتبعُ في الفَتْوَى والقضاء، والحنبلي قليل بل نادر.

ويغلب الحنفي في بلاد الشام، يكاد يشمل نصفَ أهل السنّة بها، والرُّبع شافعية، والرَّبع حنابلة. ويغلب الشافعي على فلسطين، ويليه الحنبليّ، فالحنفي، فالمالكي.

ويغلب الحنفي على العراق، ويليه الشافعي، وبلية مالكية وحنابلة. والغالب على الأتراك العثمانيين والألبان وسكان بلاد البلْقان: الحنفي، وعلى بلاد الأكراد الشافعي، وهو الغالب على بلاد أرمينيَّة لأنّ مسلميها من أصل تركماني أو كردي.

والسّنيون من أهل فارس أغلبهم شافعية وقليل منهم حنفيّة. والغالب على بلاد الأفغان: الحنفيّ، ويقل الشافعيّ والحنبلي. والغالب على تركستان الغربية التي فيها بخارى وخيوة الحنفي.

وأما تركستان الشرقية المسماة أيضاً بالصينية فكان الغالب عليها الشافعي، ثم تقلب الحنفي بمسعى العلماء الواردين عليها من بخاری.

والغالب على بلاد القوقاز وما والاها: الحنفي، وفيهم شافعية.

والغالب في الهند: الحنفي، ويقدر اتباعه بنحو ٤٨ ألف ألف، وأتباع الشافعي بنحو ألف ألف، ويكثر بها أهل الآثار، وفيها مذاهب أخرى مما لم نتعرض لذكره.

ومسلمو جزيرة سَرَندِيب (سيلان) وجزائر الفلبين والجاوة وماجاورها من الجزائر: شافعية، وكذلك مسلمو سيام، ولكن بها حنفية بقلة وهم النّازحون إليها من الهنود.

ومسلمو الهند الصينية شافعية، وكذلك مسلمو أستراليا. وفي البرازيل من أمريكا نحو ٢٥ ألف مسلم حنفية، وفي البلاد الأمريكية الأخرى مسلمون مختلفو المذاهب ويبلغ عدد الجميع نحو ١٤٠ ألفاً.

والغالب على الحجاز: الشافعي والحنبليّ، وفيه حنفية ومالكية في المدن، وأهل نجد حنابلة، وأهل عسير شافعية، والسنيّون في اليمن وعدن وحضرموت شافعية أيضاً - وقد يوجد بنواحي عدن حنفية.

والغالب على عمان «مذهب الإباضية» ولكنها لا تخلو من حنابلة وشافعية. ويغلب على قطر والبَحْرَين المالكي، وفيهما حنابلة من الواردين عليهما من نجد.

والغالب على أهل السنة في الإحساء الحنبليُّ والمالكيُّ والغالب على الكويت: المالكي، والله أعلم.


  1. المراد بمصر «الفسطاط»، وكانت منفصلة عن القاهرة: ثم اتصلت بها بعد ذلك وصارت قسماً من أقسامها يعرف اليوم: بقسم مصر القديمة.