المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين/المذهب الحنبلي
مذهب أهل نجد:
ينسب المذهب الحنبلي إلى الإمام أحمد بن حنبل الشيبانيّ - رضي الله عنه ـ المولود ببغداد سنة ١٦٤هـ، والمتوفى بها سنة ٢٤١هـ. وقيل: ولد بِمَرْو، وحمل إلى بغدادَ رضيعاً. ومذهبه رابع المذاهب السُّنية المعمول بها عند جمهور المسلمين. وكان من خواص أصحاب الإمام الشافعيّ إلى مصر.
وكان منشأ هذا المذهب ببغداد، ثم شاع في غيرها، ولكن دون شيوع باقي المذاهب1
قال ابن فَرْحُونَ في «الديباج»:
«وأما مذهب أحمد بن حنبل - رحمه الله – فظهر ببغداد، ثمّ انتشر بكثير من بلاد الشام، وضعف الآن» أي في القرن «الثامن».
وقال ابن خلدون:
«وأمَّا أحمد بن حنبل فمقلدوه قليل، لبُعْد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته، في معاضدة الرواية، وللأخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام والعراق في بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية الحديث» وقد تأخَّر ظهوره بمصر ظهوراً بيناً إلى القرن السابع.
وعلّله السيوطِيّ في «حسن المحاضرة» بقوله:
«وهم بالديار المصرية قليل جدّا، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده، وذلك أن الإمام أحمد – رضي الله عنه – كان في القرن الثالث ولم يبرز مذهبه خارج العراق إلا في القرن الرابع. وفي هذا القرن ملك العبيديون مصر، وأفنوا من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة، قتلاً ونفياً وتشريداً، وأقاموا مذهب الرفض والشيعة، ولم يزولوا منها إلا في أواخر القرن السادس فتراجع إليها الأئمة من سائر المذاهب، وأول إمَامِ من الحَنَابلة علمت حلوله بمصر هو الحافظ عبد الغني المقدسي صاحب العمدة» انتهى.
وذكر المقريزي في خططه: «أنه لم يكن له وللمذهب الحنفي كبير ذكر بمصر في الدولة الأيوبية، ولم يشتهر إلا في آخرها» انتهى.
ثم زاد انتشاره بعد ذلك في زمن القاضي عبد الله بن محمد عبد الملك الحجاوي، المتولى قضاء قضاة الحنابلة بمصر سنة ۷۳۸هـ والمتوفى سنة ٧٦٩هـ كما في «السبل الوابلة»2.
وذكر المقدسي أنه كان موجوداً في القرن الرابع بالبصرة، وبإقليم فور والديلم والرحاب، وبالسوس من إقليم خوزستان، وأن الغلبة في بغداد كانت له وللشيعة.
وذكر في كلامه على مصر أن الفُتيا في زمنه كانت فيها على مذهب الفاطميّ إلا أن سائر المذاهب كانت موجودة ظاهرة بالفسطاط، قال: «وثم محلة للكرامية وحلبة للمعتزلة والحنبلية».
قلنا: مهما يكن من انتشاره في كثير من البلدان، فإن مقلديه فيها قليلون في كل عصر، وإلى ذلك يشير الخفاجي في «الريحانة» في ترجمة زين الدين محمد الأنصاري الخزرجي بقوله: «تفقه على مذهب أحمد بن حنبل. فكان لطلابه سهل المورد عذب المنهل». «وللناس فيما يعشقون مذاهب» وهم في كل عصر أقل من القليل وهكذ الكرام كما قيل:
قلنا: ولم نسمع بغلبته على ناحية إلا على البلاد النجديّة الآن وعلى بغداد في القرن الرابع، واستفحل أمره بها حوالي سنة ٣٢٣هـ.
قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة: «وفيها عظم أمرُ الحنابلة، وقويَتْ شَوْكتُهم، وصاروا يَكْبِسُون دور القواد والعامة. وأن وجدوا نبيذاً أَراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشى الرجال مع النساء والصبيان. فإذا رأوا شيئاً من ذلك سألوا الذي معه ما هو السبب فأخبرهم، وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة.
قال: فأرجعوا بغداد، فركب بدرُ الدين الخرشي – وهو صاحب الشرطة - عاشرَ جُمادَى الآخرة، ونادى في جانِبي بغداد في أصحاب أبي محمد البري من الحنابلة، ألّا يجتمع منهم اثنان، ولا يتناظرون في مذهبهم». إلى أن قال:
«فلم يفد فيهم، وزاد شرّهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد، وكانوا إذا مر بهم شافعيُّ المذهب أَغْرَوا به العميان: فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت، فخرج توقيعُ الراضي بما يقرأ على الحنابلة، يُنكر عليهم فِعلَهم» إلى آخر ما ذكره.
ولا ريب أن إثارة أمثال هذه الفتن لم تكن إلا من عصبية عامتهم وغوغائهم، وكثيراً ما كانت ترجع إلى أمور اعتقادية يخالفهم غيرهم فيها، لانفراد أصحاب هذا المذهب بعقيدة خاصة في الأصول.
وذكر التاج السبكي في «الطبقات» أن أكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة، لم يخرج منهم عن عقيدة الأشعري إلا من لحق بأهل التجسيم.
قال: وهم في هذه الفرقة من الحنابلة أكثر من غيرهم.