المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين/المذهب الشافعي




في مصر:


يُنسب هذا المذهب إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي القرشي رضي الله عنه ـ المولود بغزة سنة ١٥٠هـ والمتوفى بمصر سنة ٢٠٤هـ.

وكان آية في الفهم والحفظ، واجتمع له من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، ومذهبه ثالث الأربعة في القدم، ويقال لأصحابه أهل الحديث كالمالكيَّة1 بل كان أهل خراسان إذا أطلقوا «أصحاب الحديث» لا يعنون إلا الشافعية2 وهو ممّن أخذ عن الإمام مالك، ثم استقل بمذهب خاص.

قال ابن خلدون: رحل إلى العراق بعد مالك، ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقـة أهل العراق، واختصّ بمذهب، وخالف مالكاً – رحمه الله - في كثير من مذهبه.

ويذكر أصحاب الطبقات أن ظهور المذهب الشافعي كان أولاً بمصر، وكثر أصحابه بها، ثم ظهر بالعراق، وغلب على بغداد وعلى كثير من بلاد خراسان، وتوران، والشام، واليمن، ودخل ما وراء النهر وبلاد فارس والحجاز، وبعض بلاد الهند ودخل شيء منه في أفريقية والأندلس بعد سنة ٣٠٠هـ3.

وكان الغالب على أهل مصر الحنفيّ والمالكيّ كما تقدّم، فلما قدم إليها الإمام الشافعيّ انتشر بها مذهبه وكثر.4

قال ابن خلدون: وأما الشافعي فمقلّدوه بمصر أكثر مما سواها وكان مذهبه قد انتشر بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وقَاسَمَ الشَّافِعيِّةُ الحَنِفيَّةَ في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار، وعظمت مجالس المناظرات بينهم، وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم، ثم دَرَسَ ذلك كلّه بدُروس المشرق وأقطاره.

وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ لما نزل على بني عبد الحكم بمصر، أخذ عنه جماعة من بني عبد الحكم، وأشهب وابن القاسم وابن المواز، وغيرهم، ثم الحارث بن مسكين وبنوه، ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر لظهور الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت وتلاشى مَنْ سواهم، إلى أن ذهبت دولة العُبَيْدِييّن من الرَّافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب ورجع اليها فقه الشافعيّ وأصحابه من أهل العراق والشام فعاد إلى أحسن ما كان، ونَفَق سوقه.

واشتهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام، وعزّ الدّين بن عبد السّلام أيضاً، ثم ابن الرّفْعَة بمصر، وتقي الدين بن دقيق العيد، ثم تقي الدين السبكي بعدها. إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد. وهو سراج الدين البلْقِينيّ. فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر، وكبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر. انتهى.

ولما أخذت الدولة الأيوبية في إنعاش مذاهب السنّة بمصر، ببناء المدارس لفقهائها، وغير ذلك من الوسائل جعلت للشافعيّ الحظّ الأكبر من عنايتها فخصّت به القضاء لكونه مذهب الدولة.

وكان بنو أيوب كلّهم شافعية، إلا المعظم عيسى بن العادل أبي بكر سلطان الشام، فإنه كان حنفياً، ولم يكن فيهم حنفيّ سواه، وتبعه أولاده5. وكان متغالياً في التعصب لمذهبه ويعتبره الحنفية من فقهائهم. ألف شرحاً على «الجامع الكبير» في عدة مجلدات، وله السهم المصيب في الرد على الخطيب البغدادي فيما نسبه للإمام أبي حنيفة في تاريخ بغداد6.

ثم لما خلفتها دولة الترك البحرية، وكان سلاطينها شافعية أيضاً7 استمر العمل في القضاء على ذلك، حتى أحدث الظاهر بيبرس نظام القضاة الأربعة، فكان لكلِّ قاضٍ التحدث فيما يقتضيه مذهبه بالقاهرة والفسطاط، ونَصْب النواب وإجْلَاسْ الشهود، ومُيز القاضي الشافعيُّ باستقلاله بتولية النواب في سائر بلاد القطر، لا يشاركه فيها غيره، كما أفرد بالنظر في مال الأيتام والأوقاف8 وكانت له المرتبة الأولى بينهم، ثم يليه المالكيّ، والحنفي، والحنبليّ.8

ثم استمر الحال على ذلك في الدولة الجركسية حتى استولى العثمانيون على مملكتهم فأبطلوا نظام القضاة الأربعة، وحصروا القضاء في الحنفيّ، لأنّه مذهبهم. ولم يزل مذهب الدولة إلى اليوم. إلا أنّ ذلك لم يؤثر في انتشار المذهبين الشافعيّ والمالكيّ بين الأهلين السابق تمكنهم وانتشارها بينهم. فبقيا غالبين على الرّيف والصعيد، والشافعيُّ أغلب على الريف المعبّر عنه بالوجه البحري. وكانت شياخة الأزهر - وهي رئاسة العلماء الكبرى - محصورة في علمائه من سنة ١١٣٧هـ9 إلى أن تولاها من الحنفية الشيخ محمد المهدي العباسي سنة ١٢٨٧ھـ10، مضافةً إلى الإفتاء، فلم تنحصر بعد ذلك في مذهب من المذاهب، ولكن لم يتولَّها حنبليّ لقلّة الحنابلة بمصر.

في الشام والعراق:


وكان الغالب على أهل الشام مذهب الأوزاعيِّ، حتى ولَّى قضاء دمشق بعد قضاء مصر أبو زَرْعَة محمد بن عثمان الدمشقي الشافعيّ، فأدخل إليها مذهب الشافعي وحكم به، وتبعه من بعده من القضاة. وهو أوّل من أدخله الشام، وكان يهب لمن يحفظ «مختصر المزْنيِّ» مائة دينار، وتوفى سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثلاثمائة11.

وذكر المقدسي في أحسن التقاسيم، أن الفقهاء بأقليم الشام في زمنه، أي في القرن الرابع، وكانوا شافعية. قال: «ولا نرى به مالكيًّا ولا داوديًّا».

وفي «طبقات السبكي» و«الإعلان بالتوبيخ للسخاوي» أن المذهب انتشر فيما وراء النهر بمحمد بن إسماعيل القَفَّال الكبير الشاشي، وتوفى سنة ٣٦٥هـ. وذكر المقدسي أنه كان الغالب على كثير من البلدان في إقليم المشرق، ككورة الشاش وإيلاق وطوس ونسا وأبيورد وغيرها.

وفى هراة وسجستان وسَرخْس كانت تقع فيها عصبيات بين الشافعية والحنفية، تراق فيها الدماء ويدخل بينهم السلطان.

وذكر عن إقليم الدَّيلم أن أهل قَومس وأكثر أهل جرجان، وبعض طبَرستان، كانوا حنفية، والباقون حنابلة وشافعية، وكان لا يرى ببيار صاحب حديث إلا شافعيَّا.

وذكر عن إقليم «القـور» الذي هو من بلاد الموصل وآمد.. الخ انتشار الحنفي والشافعي فيه قال: وفيه حنابلة. وذكر أن الشافعي كان الغالب على أقليم كرْمَان.

وفي «الإعلان بالتوبيخ» أن الحافظ عبدان بن محمد بن عيسى المروزي هو الذي أظهر مذهب الشافعيّ بمَرْو وخراسان، بعد أحمد ابن سيار. وكان السبب في ذلك أن ابن سيَّار حمل كتب الشافعيّ إلى مرو، وأعجب بها الناس، فنظر عبدان في بعضها وأراد أن ينسخها فلم يمكنه ابن سيَّار، فباع ضيعة وخرج إلى مصر، فأدرك الربيع وغيره من أصحاب الشافعيّ، فنسخ كتب الشافعي ورجع إلى مَرْو، وابن سيّار حيّ؛ ومات عبدان سنة ٢٩٣هـ.

وذكر أيضاً أن أبا عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري الإسْفرَاني، صاحب الصحيح المستخرج على مسلم، أَوَّلُ من أدخل مذهب الشافعيّ وتصانيفه إلى إسفراين. وهو ممّن أخذ عن الربيع والمزنيّ، ومات سنة ٣١٦هـ. إلى أن قال: وأبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن يوسف السلمي الترمذي هو الذي حمل كتب الشافعي من مصر فانتسخها إسحاق بن رَهْويْه وصنف عليها (الجامع الكبير) لنفسه. وهو ممن روى عن البُوَيطيِّ، ومات سنة ٢٨٠هـ.

وعن ابن سُرَيج انتشر مذهبُ الشافعيّ في أكثر الآفاق.

وفي معجم البلدان لياقوت: أن أهل الرِّيّ كانوا ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر وشيعة وهم السواد الأعظم، فوقعت العصبية بين السنة والشيعة، فتضافر عليهم الحنفية والشافعية، وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف.

ثم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية فكان الظفر للشافعية، مع قلتهم. فخربت مَحَالُّ الشيعة والحنفية، وبقيت محلة الشافعية، وهي أصغر محال الرّي، ولم يبق من الشيعة والحنفية إلاّ من يخفي مذهبه.

وذكر في كلامه على «سـادة» التي بين الريّ وهمذان: أنه أهلها كانوا سنية شافعية، وكان بقربها مدينة يقال لها «آوة» أهلها شيعية إمامية. فكانت تقع بينهم العصبية.

وفي الكامل لابن الأثير في حوادث سنة ٥٩٥هـ ما نصه: «وفيها فارق غياث الدین صاحب غزنة وبعض خراسان مذهب الكرّاميَّة12. وصار شافعي المذهب.

وكان سبب ذلك أنه كان عنده إنسان يعرف بالغجر مبارك شاه، يقول الشعر بالفارسية، وكان متفنناً في كثير من العلوم، فأوصل إلى غياث الدين الشيخ وجيه الدين أبا الفتح محمد بن محمود المَرْوَروزي الفقيه الشافعي، فأوضح له مذهب الشافعي وبين له فساد مذهب الكرَّاميَّة فصار شافعياً وبنى المدارس للشافعية، وبنى بغزنة مسجداً لهم أيضاً، وأكثر مراعاتهم فسمى الكرامية في أذى وجيه الدين، فلم يقدرهم الله تعالى على ذلك.

وقيل أن غياث الدين وأخاه شهاب الدین – لما ملكا في خراسان قيل لهما: إن الناس في جميع البلدان يُزْرُون على الكرامية ويحتقرونهم، والرأي أن تفارقا مذهبهم فصارا شافعيين، وقيل: إن شهاب الدين كان حنفياً والله أعلم.

وكان الحنفيُّ غالباً على بغداد كما قدمنا، ثم زاحمه فيها الشافعيُّ وكانت له كثرة، ومع أن الحنفيَّ كان مذهب الدولة لم يمنع ذلك من تقليد بعض الخلفاء للشافعي، كما فعل المتوكل. وهو أول من فعل ذلك منهم13

وكان الحسنُ بن محمد الزعفراني، من رواة القديم عن الشافعي، أحد من نشره فيها، وتوفى سنة ٢٦٠هـ.

قال السخاوي في «الإعلان بالتوبيخ»:

«حجَّ الرَّبيع بن سليمان سنة أربعين ومائتين، فالتقى مع أبي الحسن بن محمد الزعفراني بمكة. فسلّم أحدهما على الآخر. فقال الرَّبيع: يا أبا عليِّ، أنت بالمشرق، وأنا بالمغرب نبث هذا العلم، یعني علم الشافعي «انتهى».

يريد بالمغرب مصر، لأنها كذلك بالنسبة لبغداد.

«وفي طبقات السبكي»، أن بني أبي عُتامة هم الذين نشر الله بهم مذهب الشافعي في تهامة.

هذا ما انتهى إلينا علمه عن انتشار هذا المذهب بمصر وسائر بلاد المشرق.

وأما المغرب فلم يكن حظه منه كبيراً لغلَبة المالكي على بلاده، حتى زعم المقدسي في «أحسن التقاسيم» أنهم كانوا بسائر المغرب على عهده إلى حدود مصر لا يعرفونه، وأنه ذَاكَرَ بعضَهم مرَّة في مسألة، فذكر قول الشافعي، فقالوا من الشافعي؟ إنما كان أبو حنيفة لأهل المشرق ومالك لأهل المغرب.

قال: ورأيت أصحاب مالك يبغضون الشافعيَّ ويقولون آخذ العلم عن مالك ثم خالفه. وقال عن القيروان: ليس في أهلها غير حنفيِّ ومالكيّ مع ألفة عجيبة، لا شغب بينهم ولا عصبية.

وقال عن الأندلس: ليس بها إلا مذهب مالك، فإن ظهروا على حنفيٍّ أو شافعيٍّ نفوه.

وفي الكامل لابن الأثير: أن يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بعد أن تظاهر بمذهب الظاهرية، مال إلى الشافعية في آخر أيامه واستقضاهم على بعض البلاد.

ويتبع غالب الشافعية في الأصول مذهب أبي الحسن الأشعري وقال التاج السبكي في «الطبقات»:

إن غالبهم أشاعرة لا يستثنى إلا مَنْ لَحِقَ منهم بتجسيم أو اعتزال ممن لا يَعْبَأ الله به.


  1. عن «ابن خلدون» و«طبقات السبكي».
  2. عن «طبقات السبكي».
  3. من «الديباج» و«الفوائد البهية».
  4. قال عبد القادر الطوخي في كتابه «قضاة مصر»: إن عيسى بن المنكدر قاضي مصر قام في وجه الإمام الشافعي فقال: دخلت هذه البلدة وأمرها واحد، رأيها واحد، ففرقت بينهم يشير إلى مخالفة لأصحاب مالك، فإن أهل مصر قبل وجود الشافعي كانوا لا يعرفون إلا رأي مالك لها، وفيه نظر - لأن الحنفي كان معروفاً أيضاً عندهم.
  5. عن ابن خلكان.
  6. عن ابن خلكان.
  7. كان سيف الدولة قطز المتولى قبل بيبرس حنيفياً ولكن لم يؤثر ذلك على مذهب الدولة لقصر مدته. وزعم السيوطي في المحاضرة أنه لم يعرف فيهم غير شافعي سواه.
  8. 8٫0 8٫1 عن «صبح الأعشى». وذكر ابن بطوطة أن ترتيبهم عصر مدة الملك الناصر كان بتقديم الحنفي على المالكي، فلما ولي القضاء برهان الدين ابن عبد الخالق الحنفي الأمر على الملك الناصر بجلوس المالكي فوقه كما جرت بذلك العادة القديمة، فعمل بإشاراتهم واستقر الأمر على ذلك.
  9. أول ما استطعنا معرفته ممن تولى شياخة الأزهر الشيخ محمد الخرشي المتوفى سنة ١١٠١هـ وكان مالكياً، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي الشافعي وتوفى سنة ١١٠٦هـ انحصرت بعده في المالكية إلى سنة ۱۱۳۷۰هـ فانتقلت إلى الشافعية.
  10. أول ما استطعنا معرفته ممن تولى مشيخة الأزهر الشيخ محمد الخرشي المتوفى سنة ١١٠١ هـ وكان مالكيا، وتولاها بعده الشيخ إبراهيم بن محمد البرتاوي الشافعي وتوفى سنة ١١٠٦ه ثم انحصرت بعد المالكية إلى سنة ١١٣٧هـ فانتقلت إلى الشافعية.
  11. عن «رفع الإصر» و«الإعلان بالتوبيخ» و«الثغر البسام في قضاة الشام» لابن طولون.
  12. نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة ١٥٠هـ وقد اختلفوا في ضبط كرام فقيل بتخفيف الراء وكسر الكاف أو فتحها. وقيل بفتح الكاف وتشديد الراء. وكان محمد صاحب مذهب في العقائد معروف إلا أن المقريزي في خططه ذكر أنه انفرد في الفقه أيضاً بأشياء: منها أن المسافر يكفيه من صلاته تكبيرتان، وأجاز الصلاة في ثوب مستغرق في النجاسة، وزعم أن العبادات تصح بغير نية وتكفي الإسلام إلى آخر ما ذكر مما يدل على أنه صاحب آراء في الفروع ومنه يعلم معنى انتقال غياث الدين من هذا المذهب إلى المذهب الشافعي.
  13. عن محاضرة الأوائل.