النقد الأدبي (1954)/مقدمة


مقــدّمة

وظيفة النقد الأدبي وغايته - ما أوضحتها في هذا الكتاب - تتلخص في: تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمه التعبيرية والشعورية، وتعيين مكانه في خط سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدب في لغته، وفي العالم الأدبي كله، وقياس مدى تأثره بالمحيط، وتأثيره فیه، وتصوير سمات صاحبه وخصائصه الشعورية والتعبيرية، وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك. ومن هذا البيان الموجز نستطيع أن ندرك موقفنا في النقد الأدبي، سواء في القديم أو في الحديث، ونقيس خطواتنا إلى مداه، ونعرف كم بلغنا في تكوين هذا الفصل الهام من مكتبتنا الأدبية.

ولقد خطونا خطوات لها قيمتها قديمًا وحديثًا. ما في ذلك شك. ولكننا لم نزل بعيدين عن الكمال، أو ما يشبه الكمال في هذا الاتجاه.

أول نقص ملحوظ أنه ليست هناك أصول مفهومة - بدرجة كافية - للنقد الأدبي، وليست هناك «مناهج» كذلك، تتبعها هذه الأصول.

ومعظم ما يكتب في النقد الأدبي عندنا اجتهاد، وذلك طبیعی ما دامت «الأصول» لم توضع، و «المناهج» لم تحدد بالدرجة الكافية.

هناك دراسات نقدية تطبيقية الأدب والأدباء - وهي كثيرة متنوعة. ولكن هذا شيء آخر غير الدراسات التي تتولى الحديث عن النقد: أصوله ومناهجه، فتضع له القواعد، وتقيم له المناهج، و تشرع له الطريق.

* * *

والكتاب مقسوم بطبيعة مباحثه إلى قسمين: الأول حاولت أن أضع فيه «وأصولا»، للنقد وقواعد، حتى لا يكون الذوق الخاص هو وحده المحكم، والثاني حاولت أن أصف فيه مناهج النقد في القديم والحديث.

وربما خطر على البال أن الترتيب العكسي لهذين القسمين كان أولى، فالمناهج هي التي تقوم عليها الأصول. ولكني في الواقع أردت أن أكون في الأول ناقدًا تطبيقيًا إلى حد كبير. ناقدًا يضع الأصول ويطبقها، وبين القواعد و يختبرها حتى إذا وصلت بالقاريء إلى القسم الثاني وهو قسم وصفي نظري، كان القسم الأول نموذجًا محسوسًا للنظريات المجردة، وتطبيقًا عمليًا للمناهج المقررة.

ولما كان موضوع النقد الأدبي هو «العمل الأدبي» فقد آثرت أن أتحدث أولًا عن ماهية العمل الأدبي، وغايته، والقيم الشعورية و التعبيرية فيه، وفنونه المتنوعة، وأن أبين أصول كل فن من فنونه، وطريقة نقده وتقویمه، وأَکثرتُ من النماذج قدر الإمكان، لتكون الأصول والقواعد مستمدة من النماذج والوقائع.

أمَا «المناهج»، فقد تحدثت عنها في القسم الثاني من الكتاب وهي: «المنهج الفني، والمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج التكاملى» ولعل هذا أشمل تقسيم المناهج النقد لا يستطرد بنا إلى تفصيلات صغيرة لجميع النزعات والاتجاهات، التي تنطوي في خلال هذه المناهج الكبيرة.

هذا ولم أرد أن أحمل «النقد العربي» على مناهج أجنبية عنه، لها ظروف تاريخية وطبيعية غير ظروفه، بل آثرت أن أتحدث عن هذه المناهج في محيط النقد العربي في القديم والحديث، فإذا اضطررت إلى الاقتباس من مناهج النقد الأوروبي كان هذا في الحدود التي تقبلها طبيعة النقد في الأدب العربي، وتنتفع بها وتنمو بها نموًا طبيعيًا، بعيدًا عن التكلف والافتعال.

* * *

وقد يرى القارىء بادىء ذي بدء أنني آثرت «المنهج الفني» على المنهجين التاريخي والنفسي، ولكنه حين ينتهي من قراءة الكتاب سيرى أن المنهج المختار هو «المنهج التكاملي» الذي ينتفع بهذه المناهج الثلاثة جميعًا، ولا يحصر نفسه داخل قالب جامد أو منهج واحد.

فالمناهج إنما تصلح وتفيد حينما تتخذ منارات ومعالم، ولكنها تفسد وتضر حين تجعل قيودًا وحدودًا، فيجب أن تكون مزاجًا من النظام والحرية، والدقة والابتداع.

وهذا هو المنهج الذي ندعو إليه في النقد والأدب والحياة!

هذه المناهج وتلك الأصول لم أرد كما قلت أن أحمل النقد العربي فيها على مناهج أجنبية عنه .. ولعل هذا الاستقلال هو الذي حمل بعض من يحبسون أنفسهم في قواعد مقتبسة، وقوالب مقررة على أن يقولوا: إن في هذا الكتاب اضطرابًا في «المنهج» أو أنه لا منهج له! عندما ظهرت طبعته الأولى .. ذلك أن فهمهم للمنهج محدود بقالب تقليدي معين، مستعار من النقد الأوربي وتاريخه.

ولست أرى أن أدخل هؤلاء في جدل. فأنا أعرف طريقي، وأعرف النقد وأصوله ليست قوالب جاهدة. وأن لكل ناقد مبتكر طريقته .. ثم يجيء مؤرخو المذاهب النقدية فيضعون الوصف الذي يرونه لهذه الطريقة وتلك كما يشاءون. ولست حريصًا على أن يقول هؤلاء المؤرخون: إنني اتبعت هذا المذهب أو ذاك!