بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الأول (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل الرابع: العزيز والسلطان
وكان قد ضاق صدر المصريين عام ١٨٠٥ من إهمال الولاة وجشعهم وعربدة العساكر وطمعهم وفساد القضاة وانحطاطهم. فاجتمع زعماؤهم وعلماؤهم وجمهور من العامة في الثاني عشر من أيار في بيت القاضي ونادوا «يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي». وفي اليوم التالي قاموا إلى دار محمد علي وقالوا له: «إننا لا نريد هذا الباشا والياً علينا» فسأل «من تريدون» فأجابوا بصوت واحد «لا نرضى إلا بك وتكون والياً علينا بشروطنا لما نتوسمه فيـك من العدالة وحب الخير».
هذه شهادة لها أهميتها ولا سيما وأنها صدرت عن شخص عُرف بابتعاده عن العزيز وعدم مطاوعته له أعني المؤرخ المعاصر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي. والواقع أن محمد علي كان ذكياً عاقلاً بعيد النظر واسع الحيلة صديقاً صدوقاً باراً برفاقه محباً شفوقاً مسلماً مخلصاً في دينه يقوم بأداء فرائضه بكل نشاط.
ووقع الزعماء والعلماء عريضة رفعوها إلى الباب العالي وألحوا فيها بتعيين محمد علي والياً عليهم. وعاونهم في ذلك سفير فرنسة في الآستانة. فكان لهم ذلك. وتقلد العزيز الحكم بإرادتهم فعاونوه في السنوات الأولى في تثبيت دعائم حكمه وتذليل العقبات التي وضعها في طريقه بعض رجال الآستانة والإنكليز والمماليك1. وكان ما كان من أمر القبودان باشا سنة ١٨٠٥ وموسى باشا سنة ١٨٠٦ والحملة الإنكليزية على مصر سنة ١٨٠٧ وذبح المماليك سنة ١٨١١ ومؤامرة لطيف باشا سنة ١٨١٣.
وتبصّر الباشا في أمره منذ أوائل عهده فسعى سعياً حثيثاً لإيجاد المال الذي لا يقوم حكم بدونه فلجأ بدافع العجلة إلى وسائل سلفائه وطالب متولي الحسبة العام المعلم جرجس الجوهري بحساب السنوات الخمس الفائتة فحصل بذلك منه مبلغاً كبيراً ثم فعل بباقي متولي الحسبة في الأقاليم ما فعله بجرجس فاجتمع لديه مـال وافر ثم عاد إلى جرجس مرة ثانية فدفع وهرب والتجأ إلى المماليك. واستولى يوماً على بضاعة قادمة من السويس ولم يتركها إلا بعد أن دفع أصحابها ألف كيس. واتهم يوماً آخر بطريرك الروم بـنه ساعـد جرجس الجوهري على الفرار فغرّمه بمئة وخمسين كيساً، ووضع يده على عقارات نساء المماليك ولم يردها إلا مقابل مبلغ من المال. ولكنه على الرغم من هذا بقي بحاجة إلى المال فجمع العلماء والوجهاء وأطلعهم على متأخرات العساكر واقترح أن يصرح له بقبض ثلث إيراد الأملاك. فضج هؤلاء وقالوا قد يصير هذا عادة فقال الباشا نكتب فرماناً ونقول فيه لعن من يفعله مرة أخرى، فرضي الوجهاء وانفرجت الأزمة إلى مدة قصيرة. ثم عاد إلى نفسه وشحذ ذهنه فعادت إلى مخيلته اختباراته الأولى في التجارة. فاحتكر التبغ والتنباك وأنقص كمية الذهب من العملة. ثم أمر بفحص جميع الصكوك العقارية وأنكر صحة معظمها. وأمر كشاف الأقاليم بالاستيلاء على جميع هذه العقارات باسم الحكومة، ولم يبق منها على أصله إلا ما كان عقاراً مبنياً أو بستاناً. والواقع أن العزيز لم يغتصب ملكية الأراضي اغتصاباً فالسلطان سليم الفاتح كان قد اعتبر نفسه مالكاً لأراضي مصر وترك لصاحب الأرض حق الانتفاع بها. وما فعله هو كان قد سبقه الخلفاء إليه من قبل منذ الفتح العربي. ولم يحدث هؤلاء بدورهم شيئاً جديداً إذ أن مصر لم تعرف نظاماً آخر لملكية الأراضي طوال العصور القديمة، وبالتالي فجل ما فعله العزيز من هذا القبيل لم يكن سوى محاولة تطبيق القانون والانتفاع به. وتبع هذا الانقلاب بطبيعة الحال انقلاب آخر هو احتكار الحاصلات. ذلك أن الفلاح المصري لم يكن من اليسار بحيث يستطيع أداء الضرائب نقداً فأداهـا عيناً وأنشأت الحكومة المخازن لجمعها كما أنه لم يستطع أن يبتاع لنفسه أدوات الزراعة والمواشي والبذور فقدمتها الحكومة قرضاً وأضافت ثمنها إلى مجموع الضرائب وسرى مبدأ الاحتكار من الزراعة إلى الصناعة. فبعد أن صار العزيز مالك الأراضي الوحيد والتاجر الوحيد لمنتوجها صار أيضاً الصانع الوحيد لصناعاتها وزاد إيراده زيادة كبيرة2. ووافق هـذا كله عصر اضطراب وحروب في أوروبة فزاد الإقبال على الإنتاج المصري وزادت أرباح العزيز.
وكان من جراء هذا الوفر أن أصبح لدى العزيز من المال ما يكفيه للقيام بإصلاح عسكري طالما تاقت نفسه إليه منذ أن سمع بنابوليون ولمس تفوقه وكانت عساكر العزيز تزداد تمرداً وعربدة وعبثاً بالطمأنينة والأمن على الرغم من تيقظه الشديد ورغبته الأكيدة في القيام بواجبه تجاه الأهالي. ففي السنة ١٨٠٧ بعد فوز العزيز على الإنكليز تخلى العساكر عن راياتهم وانسلوا جماعات وزرافات إلى المدن والقرى للنهب والفتك وعندما أقبـل هو يخمد هذه الروح ثاروا عليه وأطلقوا نيرانهم على منزله. وزاده حادث لطيف باشا الـذي أشرنا إليه سابقاً شوقاً إلى الإصلاح لأنه تيقن أنه مهما أدى السلطان وحاشيته من الخدمات فإنه لن يؤيده إلا رغبة في تنزيله عن سدته. فصمم على إيجاد جند مدرب على الأساليب الغربية مُفعم بروح الطاعة والولاء يعتمده في درء الملمات والتغلب على المحن فأصدر أمره بإنشائه سنة ١٨١٦ ولكن هياج الجند الألبانيين وتمردهم جعلاه يؤجل التدبير إلى وقت آخر. وعاد إلى تنفيذ مشروعه بعد أربع سنوات فتعاقد مع الكولونيل سيف الشهير وفتح مدرسة لتدريب الضباط في محل بعيد عن القاهرة وجنودها القدماء في أسوان ثم شكل أورطه الست الأولى في مطلع العام ١٨٢٣ وأنزلها إلى القاهرة بعد ذلك بعام واحـد وأنشأ المدارس المختلفة والمشاغل والمصانع حتى أصبح جيشه أقوى جيوش السلطنة بأسرها. وكان في الوقت نفسه يعد أسطولاً للدفاع البحري بشراء وحـداته من أوروبة أولاً ثم بإنشاء دار للصناعة في الإسكندرية.
١ - طموح العزيز: وما أن استتب له الحكم على هذا الوجه حتى بدأ بصره يمتد ويرتفع. فتطلَّع أولاً إلى إيالة صيدا المجاورة وإلى سناجق غزة ويافا والقدس وذلك لسببين هامين أولها عطف سليمان باشا والي هذه الإيالة (١٨٠٤-١٨١٩) على المماليك واتصاله بهم. والثاني أنه كان يعد العدة لحرب شاقة في الحجاز فشعر بما لهذه الإيالة ولما كان يجاورها من أهمية ستراتيجية واقتصادية. ولذا فإننا نراه يبعث بالرسالة تلو الأخرى إلى الآستانة يشكو فيها سليمان باشا فيقول أنه على اتصال بالمماليك يمدهم بالمشورة ويحرضهم عليه ويطلب عزله ثم يرجو العفو عن الكنج يوسف باشا وإرجاعه إلى منصبه والياُ على دمشق3. ويقول العزيز في رسالة أخرى أرسلها إلى الباب العالي أن المماليـك قرروا الفرار عند الحاجة إلى إيالة صيدا وأنه قد يضطر هو أن يجهز حملة لمحاربتهم في نواحي العريش وغزة فيقوم إذ ذاك سليمان باشا «بتحرير الوشايات ودس الدسائس».4 ويلوح لنـا أن العزيز أوعز في هذا الوقت نفسه إلى ممثله في الآستانة أو إلى بعض أصدقائه فيها أن يسعوا لتوجيه إيالتي صيدا ودمشق وطرابلس أيضاً إلى عهدته. ودليلنا على ذلك أن الباب العالي في أواخر السنة ۱۸۱٢ أشار إلى رغبة العزيز في توحيد هذه الإيالات إليه في ديباجة فرمان أصدره إليه وأوصاه فيه بسليمان باشا في أثناء وجوده في الحجاز وينص الفرمان بأن هذا الرجاء إنما نشأ عن وقوع النفرة في قلب العزيز لعدم توجيه إيالات سليمان باشا إليه5. فيقوم العزيز لهذا ويقعد ويعد هذا الإلماع نوعاً من التوبيخ. ولكنه لا ينكره فيما يظهر. والثابت الراهن دون أي جدل هو أن العزيز كان قد سبق له أن كتب إلى وكيله في الآستانة محمد نجيب أفندي يطلب إليه «أن يجس النبض فإذا وجد الجو موافقاً عرض على الباب العالي جعل مصر ولاية ممتازة شأن ولاية الجزائر إلى أن تنتهي حرب الحجاز فتعود مصر إلى حالها الأول وذلك لأسباب أهمها اضطراب الأحوال في أوروبة واحتمال تدخل الدولة في بعض الحروب، ومنها أن تجارة مصر مع الخارج ضرورية لها وأن امتيازها يضمن لهـا حياداً وبالتالي كسباً تجارياً كبيراً»6. ونراه في الوقت نفسه يطمئن حكومة الآستانة فيعترف أنه قبل أن يحظى بولاية الوزارة وفي بداية وزارته صدرت عنه بعض حركات تتنافى بظاهرها مع الرضى العالي ولكنه يؤكد أن ليس له أمل ما دام حياً سوی إبراز حسن الخدمة وإظهار الصداقة والعبودية للدين والدولة7. ثم يرجو الحضرة السلطانية في عريضة خاصة ألا تصغي إلى وشايات حساده فيقول: «قد بلغني أن بعض عبيدكم ممن يحسدني على ما نلته من العناية والعطف يقول أن محمد علي باشا ليس بذاهب إلى الحجاز وإنما يجهز العساكر للوصول إلى غرض خصوصي»8.
وجد العزيز الجو غير ملائم فأعرض عن الطلب وبات يترقب الفرص للعودة إليه واكتفى إلى حين بتقوية الروابط بينه وبين الشوام فآوى كل من أوى إليه منهم وأكرم مثواه، ومن هنا ذهاب الشهابي الكبير إليه ونزوله عليه كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ومن هنا أيضاً عطف العزيز على عبدالله باشا والي صيدا والاهتمام بأسره. وما فعله لبشير وعبدالله فعل مثله لآخرين عديدين منهم السياسي والقاضي والتاجر. واشتد اهتمام العزيز في هذه الفترة أيضاً بجيشه وأسطوله ومصانعه وتنوعت مطالبه فازدادت رغبته في الشام وعظم ميله إليها. وهكذا فإننا نراه يستخرج الفحم الحجري من لبنان في أواخر السنة ١٨٢٣9 ويستورد بذور النيلة من فلسطين بكميات كبيرة10 والخشب منها أيضاً لصنع السواقي11 في السنة ١٨٢٦. ونراه أيضاً يكتب في السنة ١٨٢٨ إلى والي حلب فيعلمه بفاجعة نوارين وبوجوب إصلاح ما تبقى من السفن ويرجوه أن يسهل نقل الأخشاب اللازمة من الإسكندرونة إلى مصر12. ثم يكتب إليه بعد سنة شاكراً اهتمامه بأمر أوانس الحكيم الذي أوفد إلى ديار بكر لابتياع النحاس13. ويكتب بعد هذا بقليل إلى والي دمشق يوصيه بأحمد بك أحد رجاله «الذي أوفد خصيصاً إلى بر الشام لابتياع الخيل»14.
وشق اليونان عصا الطاعة في السنة ١٨٢١ وخرجوا على السلطان وأيدتهم دول وشعوب فكسروا جيوش السلطان مراراً وطردوا عماله فالتجأ إلى العزيز يطلب معونته البحرية والبرية وأصدر له فرماناً يدعوه إلى ذلك ويخوله ولاية المورة. ولبى العزيز الطلب وأخمـد الثورة في جزيرة كريت وفي المورة نفسها وبعد أن أتم كل هذا وفي أواخر السنة ١٨٢٧ كتب العزيز إلى ممثله في الآستانة محمد نجيب أفندي أن يسعى لدى ثلاثة من كبار رجالهـا شيخ أفندي وياور أفندي ومهري أفندي لإحالة الشام إلى عهدته مشيراً إلى مطامع الدول وحراجة الموقف ومؤكداً أن المحافظة على مصر وما يليها تقضي بضم الشام إليها. وكتب إلى شيخ أفندي مباشرة موجباً إسناد إيالة الشام إليه وإيالة الرومللي إلى ابنه إبراهيم «كي يجندا من يلزم ويقوما بالدفاع عن الملة»15.
ثم أعلن الروس الحرب على الدولة. واقتحموا حدودها وتوغلوا في أراضيها فعاد السلطان إلى العزيز يستعين به فكتب هو يؤكد ولاءه ويظهر استعداده لإرسال جنوده إلى الآستانة ولكنه رأى أن طريق البر أسلم من طريق البحر نظراً لاتفاق الدول وكثرة بوارجهم في البحر16 فأجابه الصدر الأعظم أنه لا يرى ما يوجب القلق من إرسال العساكر بحراً لمحاربة الروس وإنه إذا كان لا بد من إرسالهم براً عن طريق يافة فإنه يرى من الموافق أن يسيروا دفعات متوالية لا دفعة واحدة17.
وأعاد العزيز الكرة قبيـل الحرب الشامية كما سنرى فطالب بالإيالات الشامية للمرة الأخيرة. ولا يفهم إلحاحه هذا إلا على ضوء رغبة صادقة في إصلاح الدولة أو يأس حلّ به من إمكانية الوصول إلى تفاهم مع رجال هذه الدولة أو الاثنين معاً أو أن يكون العزيز طامعاً بما طمع به عظماء الرجال من قبل فرأى في احتلال الشام مقدمة حربية لعمل أوسع وأكبر. والواقع أنه كان مسلماً مخلصاً في دينه يقوم بأداء الفرائض بكل نشاط وأنه كان يعترف بتأخر «الملة المحمدية» بتعبير ذلك العصر وبضعف الدولة العثمانية وبعجزها عن حماية هذه الملة وبوجوب الصمود لطمع أوروبة وجشعها ودفع شرها عن «الملة». فهو يقول في کتاب أرسله إلى ابنه إبراهيم عند تأزم العلاقات بينه وبين الباب العالي وبمناسبة تدخل الدول الأوربية ما معناه: «لا تهدف الدول إلى تعضيد الدولة العثمانية ولكنها ترمي إلى إضعاف الطرفين كي يتسنى لها الاستيلاء على البلاد الإسلامية بسهولة. ولذا فإن قبول تدخل هذه الدول خيانة للملة ولتمام استقلالها. فبدلاً من أن نقبل هذه الخيانة فنذكر باللعنة إلى يوم القيامة أجدر بنا أن نموت في سبيل الدين فنشيد بذلك دنيانا وآخرتنا معاً. هذا إذا غلبونا وأما إذا لم يغلبونا ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً فحينئذٍ نجد في الدنيا اللذة التي يبحث عنها الناس في الآخرة. فيدوي في الآفاق صدى بطولتنا وسمعتنا الطيبة ويذكرنا العالم بالخير إلى يوم القيامة. هذا لا ريب فيه. والله كفيل بعباده»18. ولا يمكن اعتبار هـذا ضرباً من ضروب الدعاية التي تكثر في أيام الحروب إذ أنه صدر عن العزيز لابنه وبشكل سري وبقي مطوياً مئة عام ولم يظهر للنور إلا في السنوات الأخيرة، ولكنه قد يكون من باب تبرير النفس تجاه عمل أدى القيام به إلى اشتباك المسلمين بعضهم ببعض وإلى سفك الكثير من الدماء. وقد يكون خالياً من هذا صافياً والله أعلم.
ومما لا شبهة فيه أن الدولة العثمانية كانت آنئذٍ في تأخر وانحطاط وأن كبار الرجال فيها كانوا يحسدون العزيز على ما ناله من الجاه والمال وأنه كان بينهم رجل ذكي فطن سبق العزيز إلى مصر وتنازل عن حكمها مكرهاً ممسكاً عداوة للعزيز متربصاً لفرصتها. وتفصيل ذلك أنه لدى خروج الفرنساويين من مصر نشبت منافسة بين يوسف باشا الصدر الأعظم وبين حسين كوجك باشا أمير البحر (قبودان باشا). وكان هذا رفيق صبوة السلطان فتغلب على الصدر وجعل أحد مماليكه محمد خسرو باشا والياً على مصر. وكان تحت إمرة هـذا الوالي قائدان للجند أحدهما العزيز نفسه والآخر يوسف بك. ورأى العزيز أن الوالي الجديد لا يصلح للحكم سيء التدبير محباً لسفك الدماء. وكان قد أسرع هذا الوالي إلى اغتنام عداوة نشبت بين عثمان بك البرديسي وبين محمد بك الألفي زعيمي المماليك وأرسل جنوده لقتال البرديسي بفرقتين إحداهما بإمرة العزيز والأخرى بقيادة يوسف بك فتقدمت القوتان نحو دمنهور حيث رابطت قوة من المماليك بقياده البرديسي نفسه، ولكن يوسف بك سبق العزيز واقتتل مع البرديسي وحده فانقض هـذا بفرسانه واخترق جيش يوسف بك وداس الرجال تحت حوافر الجياد وأعمل بهم السيوف فقتل منهم خلقاً كثيراً. فنسب يوسف اندحاره هذا إلى امتناع العزيز عن المعاونة ووشى به إلى الوالي محمد خسرو باشا. فثارت في قلب الباشا ثورة غضب وصمم على الإيقاع بالعزيز فاستدعاه إليه بعد العشاء. ولكن حيلة الوالي لم تنطل على العزيز فأجابه أنه سيذهب إلى مقابلته في رائعة النهار وعلى رأس جنوده19. وحرّك العزيز جنوده على الباشا فطلبوا دفع الجماكية والمتأخرات. وكانت فتنة أدت إلى خلع خسرو وإخراجه من مصر. فعاد إلى الآستانة متأثراً وساعده الحظ فأصبح من رجال البطانة لا بل رجلها. فأوغر الصدور واقضَّ على العزيز مضجعه وأكرهه على مناصبة العداء والاستعداد للقتال في سبيل الدفاع عن النفس.
ويلوح لنا أن العزيز يئس من إمكانية الوصول إلى تفاهم ودي وأنه رأى أن لا بد من اللجوء إلى العنف ليضمن شيئاً من الاستقرار والطمأنينة ولا سيما وأنه كان قد بذل ما في وسعه لإرضاء السلطان وبطانته فدوّخ الوهابيين وأخضع اليونانيين وأظهر استعداده لمحاربة الروس. وكان أيضاً لا ينفك عن تقديم الهدايا، فإنه في مطلع السنة ١٢٤٣ (۱۸۲۷-۱۸۲۸) وحدها قدم على سبيل الهدية الشخصية نصف مليون غرض إلى السلطان نفسه وخمسين ألف فرش إلى السلحدار الشهرياري وخمسين ألف غرش إلى الصدر الأعظم وعشرين ألفاً إلى شيخ الإسلام وخمسة عشر ألفاً إلى القبودان باشا وخمسة عشر ألفأ غيرها إلى كتخدا الصدر الأعظم ومثلها إلى الريس أفندي (وزير الخارجية) وخمسة وسبعين ألفاً إلى جهات أخرى20. فعمل كل هذا وعندما لبى الطلب لمحاربة الروس وصد طغيانهم أراد أن يرسل جيشه براً إلى الآستانة ولكنه منع بلطف وأشير عليه أن يرسله بحراً وقيل له إذا كان لا بد من إرساله براً فعلی دفعات متوالية!!
يأس العزيز من إمكانية الوصول إلى تفاهم ودي مع رجال الآستانة ولجأ إلى العنف في السنة ١٨٣١ ولكنه هل أراد الاستقلال والانفصال عن الدولة أم أنه أراد أن يفرض إرادته فرضاً فيبعد الخصامه عن السلطان ويحيطه بأصدقائه ويستولي على الشام وغيرها فيصبح لديه من المال والرجال والنفوذ والعظمة ما يمكنه من تسيير سياسة السلطنة كما يشاء دون التعرض إلى أمور أخرى قد تثير جماعة المسلمين عليه وتخلق أزمة دولية كبرى لا يمكن التكهن عن نتائجها؟ نقول ليس لدينا من كلام العزيز نفسه ما يخولنا القول أنـه طلب الانفصال عن الدولة أو أنه رغب فيه. وجل ما هنالك أقوال غيره عنه. وأهم هذه ما جاء في رسالة ابنه إليه بعد وصوله إلى كوتاهية في أوائل السنة ١٨٣٣ وبمناسبة قيام وفد مفاوض إلى الإسكندرية. فإبراهيم يوجب عدم التردد ويرى أن المصلحة تقضي بالمطالبة باستقلال مصر وبضم قبرص وأضالية وعلائية وإيج إيل إلى مصر وكذلك تونس وطرابلس الغرب. أما بغداد فإنها بعيدة عن مصر قليلة الفائدة ولذا فإنه يكتفي بالمفاوضة بشإنها ولا يتمسك بضمها إلى مصر. ويرى القائد ابن العزيز أن الاستقلال هو خير وسيلة للتخلص من ظلم حكومة الآستانة وعدم وفائها ومطالباتها بالمال21. وكان قد سبق لإبراهيم أن كتب إلى والده قبل ذلك بشهر واحد يقول إن مصلحة مصر تقضي بمتابعة الزحف لخلع السلطان والتخلص من ظلمه ومكايده ولإجلاس ولي العهد مكانه وأنه لا يخشى تدخل الدول الأوروبية إذ أنها لا تستطيع منعه لأن الوقت لا يسمح بذلك إلى أن يقول «أما إذا شرعت هذه الدول في تقسيم السلطنة العثمانية فليس له إلا أن يدعو بالسلامة وليحصل ما سيحصل في أقرب وقت حتى تنتهي هذه المشكلة ويزول الخوف»22. ومن هذه الأقوال ما فاه به الأمير الشهابي الكبير حليف العزيز إلى المعلم حنا البحري في أثناء حصار عكة: «أنا كنت أتعشم وما أزال متعشماً في أفندينا أنه يحارب السلطان محمود لأجل فتح الأقطار الواسعة والأقاليم الشاسعة لا أن يتحصن في جبال الدروز ويحتمي بها»23. ومنها أيضاً ما قاله هذا الأمير نفسه في الرد على أوامر قائمقام الصدارة التي قضت بوجوب التعاون مع عبدالله باشا: قال الأمير لابنه الأمير أمين «إصرف التاتار وقل له عندما تسأل الدولة عن رعاياها تسأل الرعايا عن الدولة» إلى أن قال «يا ولدنا شوفوا أحوال هذه الدولة وضعفها الله يخلصنا منها»24. وهناك طائفة من تصريحات رجال الآستانة موجهة إلى الحكام والأعيان في بر الشام تتهم العزيز بالخيانة والخروج فتجعل تجزئة الدولة هدفه والاستقلال غايته، ولكن هذه التصريحات وهي ضرب من الدعاية التي تكثر في الحرب لا يمكن قبولها لما يعوزها من العدالة. فقد تصدق الحكومات فيما تنشر في مثل هذه الظروف ولكنها لا تنشر كل الحقيقة وهي خاضعة بطبيعة الحال لظروف قاهرة تكرهها على التلفيق والنطق بالباطل.
وهكذا يكون العزيز وهو ذاك الرجل العاقل المتزن قد تطلب ما يمكن تحقيقه أعني السيطرة على الشام بالإضافة إلى مصر والحجاز كي يتمتع بشيء من الاستقرار ويطمئن إلى المستقبل. وهو ما ذهب إليه المسيو ميمو قنصل فرنسه العام آنئذٍ. وأقرب المقربين للعزيز بين قناصل الدول أجمعين. فهو يقول مراراً وتكراراً في تقاريره السرية لسفير فرنسه في الآستانة ووزير خارجيتها في باريز أن العزيز ما فتئ يصرح خاصة وعامة أنه لن يخرج على مليكه الشرعي وأن مصلحته وضميره يمنعانه عن ذلك وأنه لن يترك مجالاً للدولة أن تبعده عن مصر حتى ولو كان بإمكانها أن تفعل ذلك25. ويرى هذا القنصل عينه أن لا أساس لما ظهر في بعض الجرائد والمجلات والكراريس من أن العزيز يطمع في عرش السلطنة وسدة الخلافة26. ولكنه ربما يرغب في ضم بعض الأقطار العربية ليجعل منها نواةً تنفع في حال تأزم العلاقات الدولية وتجزئة الدولة العثمانية فتصبح دولة مستقلة له ولأولاده من بعده27.
والآن وقد ثبت لدينا أن جـل ما طمح إليه العزيز عند السنة ١٨٣١ هو توجيه بعض الأقطار الشامية إليه يجدر بنا أن نحدد هذا البعض. فهل طلب العزيز إحالة إيالة صيدا إلى عهدته أم إيالة دمشق أم الاثنين معاً أم طرابلس وحلب أيضاً؟ نقول ليس في المحفوظات الملكية المصرية ما يوضح بجلاء تام هذه الناحية من البحث فهنالك غموض في التعبير إن في الوارد إلى القاهرة أو في الصادر عنها. ويستدل من كلام القنصل الفرنساوي المسير ميمو أن هذا الأمر لم يكن محدداً معيناً في مخيلة العزيز نفسه فإنـه قصد أولاً الوصول إلى عكة والاستيلاء عليها وعلق أمر دمشق وإيالتها إلى أن يكون قد أنجز هذه المهمة الأولية ومثله فيما يتعلق بسائر الإيالات28. وكأني بالعزيز يقول في الرد على هذا السؤال «نبدأ بالاستيلاء على عكة ولكل حادث حديث».
٢ - موقف الباب العالي: أخلص العزيز الطاعة للسلطان ربع قرن من الزمن ومحضه الود والنصح. ولم يكن السلطان قليل الوفاء جاحداً أو غبياً أبله لا تمييز له أو متطرفاً في الحمية على التقاليد لا يذعن للحق ولا يريد الإصلاح. ولكنه قبض على زمام الحكم في عصر تأخر وانحطاط كثرت فيه الثورات الداخلية إن في البلقان واليونان أو في الأناضول والعراق والجزيرة العربية ومصر29 واشتدت فيه روح الاستئثار بالسلطة والانفصال عن السلطنة فتأصلت في نفس السلطان روح الخوف والجزع ولم يعد بإمكانه الصبر على ما نزل به فخرن واضطرب. وقلَّ في ذلك العصر الإخلاص للدولة والملة وغلب فيه الحسد على الرجال والطمع. ففسُدت البطانة وبفسادها فسدت الأحكام. وكان كلما ازداد العزيز قوة وعزاً ازداد حسد حساده في الآستانة وكثرت وشاياتهم. وفي مقدمة هؤلاء محمد خسرو باشا المشار إليه آنفاً.
وارتاب السلطان في أمر العزيز منذ أول عهده في الولاية كما سبق فأوضحنا ولكن الظروف قضت بغض النظر عنه فبقي في منصبه حتى قوي وعظم شأنه. وكان من دواعي الارتياب في نوايا العزيز اتصاله ببعض الخارجين على السلطان زعماء البلقان والأناضول والشام وقبول بعضهم في مصر مما أدى إلى امتعاض السلطان وإلى توجيه التكدير الرسمي له بذلك. قال محمد رؤوف باشا في رسالة له إلى محمد علي باشا في منتصف السنة ١٨١٦: «لا بد من إلقاء القبض على محمد بك ابن حسن باشا الألوانلي الذي التجأ الى مصر والتحق بجيش إبراهيم باشا - لا بد من إلقاء القبض عليه وإرساله إلى الآستانة أو إعدامه في مصر خوفاً من أن يقال أن جميع المضغوط عليهم من قبل الدولة العلية يلتجنون إلى طرفكم»30. وكان قد سبق للعزيز أن قبل كنج يوسف باشا في حماه وحاول استصدار العفو عنه وإعادته إلى منصبه السابق والياً على دمشق31. وفي السنة ١٨٢٨ كتب الصدر الأعظم محمد سليم باشا إلى العزيز يقول إن ما ورد من النقود الذهبية المصرية من فئة الخيرية يحمل العبارة «ضرب في مصر» وإن مثل هذا العمل بعد تجاسراً على الحضرة السلطانية ولذا فإنه يرجوه أن يمتنع عن سك النقود الذهبية32. وبعد هذا ببضعة أشهر لم يتورع العزيز عن مخالفة السلطان في موقفه من الدول بعد واقعة نوارين الشهيرة. فبينما نرى السلطان يرفض مطالب الدول المتحالفة نزى العزيز يتفق مع هذه الدول على وقف القتال في المورة ويعقد اتفاقاً مباشراً معها على الجلاء33. فاشتد اضطراب السلطان وذويه ورأوا في هذه الأعمال وغيرها برهاناً ساطعاً على قلة اكتراث العزيز وخروجه وعندما قضت الظروف بالتعبير عن هذه المخاوف قال أحدهم أحمد خلوصي باشا قائممقام الصدارة في رسالة له إلى والي دمشق في صيف السنة ١٨٣١: «ولا يخفى أن والي مصر يرمي إلى غرضين ظاهري وهو الانتقام من عبدالله باشا وباطني وهو الوصول إلى بر الشام مطمح أنظاره والاستقلال بها كما استقل بمصر. واستعداده الحربي السريع تمّ بناءً على اتفاق سابق أحكمت عراه بينه وبين ذلك الثائر الخبيث الإشقودري بواسطة خال هذا الأخير جلال الدين الأخريلي الذي أرسل من قبل ابن أخته أثناء قيامه بالثورة إلى مصر ليستنجد بواليها فقر قرارهما على ما يظهر على أن يقوما بحركة مزدوجة في آن واحد. وبما أن كل هذه التعليمات قد حصلت وقر الرأي عليها سراً بين أربعة من رجال الدولة المخلصين فيلزم عدم اطلاع الغير عليها»34.
۳ - قضية عبد الله باشا: وأدت إصلاحات العزيز الداخلية إلى فرار ألوف من الفلاحين المصريين إلى غزة ويافة وتوابعها فطلب العزيز إلى عبدالله باشا والي صيدا وصاحب عكة أن يأمر بعودتهم إلى مصر وحرر له بذلك رسالة طيبة في منتصف آذار من السنة ۱۸۳۰ أشاد فيها بما عاهد نفسه عليه من عمران الأقاليم المصرية وكيف أنه تحقيقاً لهذا الأمل قام بأعماله الإصلاحيه إقليماً إقليماً ثم كيف أن أهالي إقليم الشرقية المتاخم لولاية عكة لم يفقهوا الحكمة من هذه الأعمال الخيرية ففر بعضهم إلى ولاية عكة وإنه لما أدركوا خطأهم وهموا بالعودة إلى أوطانهم لم يسمح لهم بذلك ثم يبين العزيز لعبدالله باشا أنه يجب على شيوخ القرى في إيالته ألا يعارضوا في رجوع هؤلاء إلى مصر ويرجوه أن يبين ذلك للشيوخ كي لا يضطر هو بدوره أن يأمر بجلب الفارين وجلب الشيوخ معهم أيضاً. ويختم بقوله: «أن ولاءنا لذاتكم هو الذي اقتضى تسطير ما ذكر أعلاه»35. فأجابه عبدالله باشا بأنه سيسعى لإرجاع الفلاحين إلى مصر ولكنه يرى أن الباب العالي لا يرضى عن تدخل والٍ بشؤون والي آخر36. فعظم ذلك على العزيز وشق عليه ولا سيما وأنه كان قد فعل ما فعل من أجل هذا الزميل الشاب عندما غضب الباب العالي عليه وعزله من منصبه. ومما زاد في الطين بلة أن عبدالله باشا ضبط بضائع لتجار مصريين في إيالته مدعياً أنها لغيرهم من أبناء نابلس37. فحنق العزيز عليه واغتاظ وشكا زميله إلى السلطان طالباً وضع حد لهذه المسألة فإما أن يعين وزير آخر على عكة أو أن يصار إلى حل آخر لهذه المشكلة. فأسف الباب العالي كل الأسف ورأى أن يتريث العزيز في الأمر فيفسح المجال للباب العالي لتوبيخ والي صيدا وتأديبه. وغمزت رسالة التأسف هذه قناة العزيز فأشارت في الديباجة إلى أن الجيوش التي حشدها العزيز للتعاون مع الباب العالي في تأديب مصطفى باشا الإشقودري لم تجمع إلا للزحف على عكة38.
ثم أوفد الباب العالي اثنين من وكلاء رؤساء الأقلام في الصدارة مصطفى نظيف أفندي وأحمد توفيق بك إلى مصر للتدقيق في هذه القضية نفسها. فاستعرض العزيز أمامها تطورات القضية فذكر خروج عبدالله باشا عن طاعة السلطان عام ١٨٢٢ وتدخله هو في الأمر واستصداره العفو عنه وإعادته إلى سابق عهده في الحكم وكيف أنه انتظر مقابل هـذا صداقة ولياقة وائتلافاً ثم كيف ظن بعض ولاة الأمور أن عبدالله رجل بامكانه أن يقف في وجه محمـد علي فناصروه وشجعوه وبالتالي كيف اجترأ على أشياء تمس بشرف محمد علي وكيف التمس العزيز عندئذ عزله من منصبه. فرأى مصطفى نظيف أفندي أن الحق بجانب العزيز وأكد صدور نطق شاهاني بإحالة إيالة الشام إلى عهدة العزيز لتأمين الحج وطلب إلى العزيز أن يعامل عبدالله باشا وأعوانه بالحسنى وإلا فليعمل السيف برقابهم39. ويلوح لنا أن الباب العالي إنما أوعز بهذه الوعود الشفهية ليكسب شيئاً من الوقت ضرورياً لبدء القتال ولا سيما وأنه كان قد كتب بعكس هذا كله إلى والي دمشق ووالي صيدا40. وتشير بعض المراجع غير الرسمية إلى عوامل أخرى عاونت على تأزم العلاقات بين العزيز وبين عبدالله باشا منها أن عبدالله باشا استدان من العزيز مبلغاً كبيراً من المال عند حلول غضب السلطان عليه سنة ١٨٢٣ وأن هذا الدين بلغ ٧٥٠٠٠٠ من الفرنكات الإفرنسية وأن العزيز طالبه به مراراً فلم يلق منه سوى الماطلة والتسويف41. ومنها أيضا أن الباشا الشاب لم يصن لسانه عن القذف بحق العزيز مدعياً أنه ثاثر خارج عن طاعة السلطان42. ومنها أيضاً أن عكة أصبحت قبيل الحرب الشامية الأولى مركزاً للتآمر على سلامة العزيز وسلامة ابنه إبراهيم43. ومنها كذلك قول قنصل فرنسة العام في الإسكندرية المسيو ميمو أن العزيز طمع بصندوق عبدالله باشا وما حواه من المال وأن المال المخزون في هـذا الصندوق بلغ ثلاثين مليوناً من الفرنكات الإفرنسية وأن الاستيلاء عليه كان من أهم أهداف الحملة على الشام44.
واحتاط العزيز في أمره فشاور صديقه قنصل فرنسه العام في الإسكندرية قبل بدء القتال ببضعة أشهر وألح عليه بوجوب إرسال أحد معاونيه في القنصلية إلى باريز ليطلع الحكومة الفرنسية على ما ينوى العزيز أن يقوم به ويطلب موافقتها ومعونتها لدى المحافل البريطانية التي ما فتئت تنظر إليه بشيء من الريبة والتحفظ. وما أن أشار القنصل إلى اعتدال العزيز وتسامحه في إدارة كريت حتى قال العزيز ألم تر كيف أكرمت رئيس أساقفتها فقدمته على فقهانها وخلعتُ عليه فروة ورفعت عنه وعن ذويه ما كان يثقل كاهلهم من الضرائب؟ ثم أضاف وسينال نصارى الشام من الاستقلال والسعادة ما لم يروه من قبل وسيقرعون أجراسهم متى شاؤوا. أكدوا لحكومتكم ولمواطنيكم تحرري في هذه الأمور45.
ولقد أصاب العزيز عندما طلب إلى الحكومة الفرنسية أن تعاونه لدى المحافل البريطانية ذلك أن ساسة الإنكليز آنئذٍ وفي مقدمتهم الفيـكونت بالمرستون كانوا يؤثرون التعاون مع فرنسة على التعاون مع أية دولة أخرى. ويرون في حكومتها الدستورية الجديدة وفي أسطولها خير معونة للصمود في وجه الحكومات المستبدة كحكومة روسية والنمسة وبروسية وتركية. وكانوا آنئدٍ منهمكين في مشاكل سياسية دولية غربية كمشكلة بلجيكة وإسبانية أقرب بكثير إليهم من أي حدث شرقي - مشاكل تتطلب تعاوناً وثيقاً بينهم وبين فرنسة. ويستدل من المحفوظات البريطانية أن وزير الخارجية البريطانية الفيكونت بالمرستون كان لا يزال متردداً في أعماق نفسه متسائلاً ما إذا كان قيام دولة فتية في مصر والشام أقرب لمصالح دولته من الاستبقاء على الدولة العثمانية بكاملها أم لا أو بعبارة أخرى ما إذا كان الحـلُّ الذي لُجئ إليه في اليونان هو ما يجوز تطبيقه في مصر والشام أم لا46؟
وكان العزيز قد نال من انتصاراته في الحجاز ونجد وفي المورة مـا أغناه عن أية دعاية مصطنعة في العالم الإسلامي وقد طبق صيته الآفاق وأصبح ذكره على لسان كل متمسك بالشرع والتقاليد وصار بإمكانه أن يعارض السلطان ذاك الذي اجترأ على كل قديم فتزيا بزي الإفرنج وأمر من أمر منهم في الجيش والأسطول مما دعا إلى معارضة رجال الدين وتجرئهم عليه حتى اعترضه أحدهم على جسر غلطه وقال له «کاور سلطان» سلطان کافر!
١ - جيش العزيز وأسطوله: وكان جيش العزيز مؤلفاً من سبعين ألف مقاتل نظامي منهم ثمانية عشر ألاياً من المشاة وثمانية ألايات من الخيالة وألاي من المدفعيين ووحدات من المهندسين واللغامين. وكان لدى العزيز أيضاً عدد من العساكر غير النظامية يكثر ويقل حسب الظرف والحاجة. وكانت البعثة الفرنسية العسكرية التي ترأسها الجنرال بوابيه قد أشرفت على تدريب المشاة فقامت بهمتها خير قيام من حيث انتظام الحركات ودقة إطلاق النار وسير طوابير الهجوم. وعني الكولونيل راي الإفرنسي بمدفعية الجيش فأدخل عدة تحسينات بمصانع الأسلحة في القاهرة. وكان إبراهيم باشا قد أعجب كل الإعجاب بالخيالة الفرنساويين إبان حرب المورة ووصف ما شاهده لوالده فقرر هذا إعادة تنظيم الفرسان في جيشه وعهد بذلك إلى الضابط الفرنسي بولان دي تارلييه فشكل سبعة ألايات لهذه الغاية واختار جنودها من بين عربان الصحراء وابتاع خيولها من الشام ودنقلة وعتادهـا من فرنسة، فجعل إبراهيم من هذه الألايات السبعه لواءات ثلاثة وكان الجنرال برابيه قد اقترح على العزيز تأسيس مدرسة أركان حرب لتنظيم القيادة فوافق العزيز على ذلك وفتحت هذه المدرسة أبوابها في ربيع السنة ١٨٢٥ برئاسة ضابط إفرنسي آخر هو جول بلانا ومعاونة الآخرين أدولف وبولان دي تلاليه وكلاهما من أمهر ضباط أركان الحرب في فرنسة. ولكن الطلبة لم يتذوقوا علوم هذه المدرسة وآثروا الطيش والكسل فبقي جيش العزيز ناقصاً في ضباطه47. ومن هنا قول الجنرال ويغان أن ضباط الجيش المقاتـل عام ۱۸۳۱ كانوا يعيشون بالقوانين والأنظمة ولا يكترثون بجنودهم ويؤثرون السير في مؤخرة هؤلاء الجنود بدلاً من الرأس. ولكنه يعترف بفضل الجنود أنفسهم فيذكر حبهم للقتال واندفاعهم في سبيله بشجاعة ونشاط ويرى أنه وإن أعوزهم المظهر فإنهم ظفروا بالجوهر وأنـه كفاهم فخراً أن تطلب حكومة شارل العاشر معونتهم لفتح الجزائر. وكان القائد الأعلى لهـذا الجيش إبراهيم باشا نجل العزيز الأكبر قوي البنية صحيح العقـل واسع الحيلة حازماً عادلاً شفوقاً كريماً. وكان شديد اليقظة كالصقر يدهش جنوده بسرعة تنقله بينهم ينام نومهم ويأكل أكلهم ويجلس معهم ويصغي إلى أقوالهم فيبث في قلوبهم الشجاعة.
وكان لدى العزيز في لبنان من جنود حليفه الأمير الشهابي الكبير ما لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل وقد صهرتهم الحرب رجالاً خبروا عساكر الدولة فيهـا مراراً وانتصروا عليها تكراراً يحسنون الرماية ويعرفون الأرض ويتقدون حماسة للتخلص من الأتراك وظلمهم.
وكان العزيز قد أعاد النظر في أسطوله بعد نوارين فابتاع ما ابتاعه من أوروبة وأنشأ ما أنشأ في حوض الإسكندرية واستقدم رجال الاختصاص من فرنسه وبريطانية فأصبح لديه في السنة ١٨٣١ ثلاث وعشرين سفينة حربية منها سبع فرقاطات وست قروبات وثلاثة أباريق وسبع سفن مدفعية وغيرها من النقالات الصغيرة. وكان عثمان نور الدين بك قائد الأسطول قد صرف سبع سنوات في أوروبة أجاد في خلالها بعض لغاتها كالإفرنسية والإيطالية ووقف على مدى تقدم العلم فيها فعاد يؤيد الإصلاح بجد ونشاط وتقرب من العزيز فنـال شطراً وافراً من عطفه وأصبح نافذ الكلمة. وكان ذكياً خفيف الروح يتودد لرؤسائه ومرؤوسيه فتألق نجمه وعقلت له راية الأسطول، وكان يعاونه في سفينة القيادة كل من الكابتين يوسون والكابتين هوسار الإفرنسيين.
۲ - جيش السلطان: وكان السلطان محمود الثاني قد قضى على الإنكشاريين في السنة ١٨٢٦ واستعاض عنهم بجيش نظامي جديد لا يربو على خمسة وأربعين ألفاً. وعلى الرغم من شدة اهتامه بملبس هؤلاء ومأكلهم وراتبهم فإنه لم يوفق إلى تدريبهم فأعوزهم النظام والانضباط واسترسلوا في النهب والسلب. وكان على رأسهم رجل بدأ حياته حمالاً فجاسوساً ثم أصبح جلاداً فضابطاً فقائداً أعني حسين باشا سرعسكر الجيش العثماني. ألبسه السلطان كسوة القيادة العليا المعطف القصير المزركش وأهدى إليه سيفاً مرصعاً بالألماس وجوادين مطهمين وقلده رتبة المشيرية ولقبه بالمشير الأكرم وولّاه مصر وكريت والحبشة.
١ - قيام الحملة: وخصص العزيز لبدء القتال خمسة ألايات من المشاة وألاي الحرس وأربعة ألايات من الخيالة وأورطة من المدفعين وأربعين مدفع ميدان وعشرين مدفع حصار وعشرة مدافع هاون وألف خيال من البدو فبلغ مجموعها خمسة وعشرين ألف مقاتل على أن ينضم إليها لدى وصولها إلى عكة عشرة آلاف مقاتل لبناني. ورأى العزيز أن تقوم هذه الحملة في أوائل السنة ١٨٣١ ولكن انتشار الكوليرا في مصر أخر مسيرها حتى خريف هذه السنة. فقامت طلائعها في الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول من معسكر الخانقاه بقيادة اللواء إبراهيم يكن باشا ابن شقيقة العزيز ومرت ببلبيس والصالحية فقاطية وبئر العبد فالعريش ثم خان يونس وغزة ومنها اتجهت إلى يافة. وكان إبراهيم باشا نجل العزيز قد قام من الإسكندرية على رأس ستة آلاف مقاتل متجهاً بحراً نحو يافة فوصلها في الثامن من تشرين الثاني. وما أن رسا أسطوله في مياهها حتى نزل وجهاتها وعرضوا عليه التسليم. فأوفد بلوكاً واحداً لهذه الغاية واستولى على مدافعها وذخائرها. ثم اندفعت كتيبة نحو بيت المقدس فاحتلتها احتلالاً. وقام القائد الأعلى إلى عكة فبلغ حيفا في السابع عشر من تشرين الثاني وجعل منها قاعدة للهجوم على عكة48. وفيها تقبل طاعة شيوخ نابلس وجنين الشيخ حسين عبد الهادي والشيخ قاسم الأحمد والشيخ عبدالله الجرار واستمع إلى شكواهم من سعد بك طوقان وقبل التماسهم فعين الشيخ حسين متسلماً على جنين وبلادها والشيخ محمد على نابلس وأحال إقليم المشاريق إلى عهـدة الشيخ عبدالله الجرار وإقليم بني صعب إلى عهدة الشيخ يوسف الجيوسي والشيخ عبد الوهاب الجيوسي. وكتب إلى الأمير بشير الشهابي يفيده بحضوره واستيلائه على يافة وحيفا49. وفي العشرين الشهر من نفسه قامت طلائع الجيش إلى عكة للاستكشاف وواكبتها وحدات الأسطول.
٢ - حصار عكة: وكانت عكة آنئذٍ بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف نسمة. وكانت قاعدة إيالة صيدا وحصنها المنيع. يُحدق بها سور داخلي هو سورها الصليبي القديم رممه ظاهر العمر في السنة ١١٦٣ للهجرة (١٧٤٩) وتوجه بأبيات أربعة لا تزال محفوظة على بلاطة رخامية في متحف البلدة:
وكان هذا السور يشكل مخمساً هندسياً ضلعان من أضلاعه يواجهان البر في الشرق والشمال ويشكلان عند التقائهما زاوية حادة اشتهرت في أعمال الحصار. أما الأضلاع الثلاثة الأخرى فإنها كانت توازي الشاطئ فتحيط بالبلدة من الجنوب والغرب والشمال. وكان ارتفاع هذا السور في ضلعيه البريين حوالي الاثني عشر مترا وحوالي العشرة في أضلاعه البحرية. وكان له في نقاط معينة أبراج بارزة تزيده مناعة وقت الحرب وكان يحدق به عند البر خندق عميق عريض أنشأه الجزار بعد حصار نابوليون سنة ١٧٩٩. ولم يكن البحر عميقاً عند الأسوار البحرية فشكل بقرب قعره عقدة حربية عرقلت أعمال القصف في أثناء أي حصار بحري في ذلك العصر. وكان قد أنشأ الجزار في أواخر عهده أيضاً سوراً آخر من ناحية البر يحيط بالسور القديم ويوازيه في الشكل والعلو ولكنه يفوقه في العرض. فإن عرضه كان يتراوح بين الثلاثين والستين متراً. وزاده مناعة بأبراج مربعة أهمها برج الباب «قبو برجي» عند الزاوية الشرقية الجنوبية وبرج النبي صالح بعده فبرج السبيل وبرج القومندار أو برج الزاوية فبرج كريم بتشديد الياء. ثم أحاط هذا السور الخارجي بخندق يماثل الخندق الداخلي، وحين تزايد خوف عبدالله باشا من جنده في الداخل وأعدائه في الخارج أكمل فيما يظهر قلعة داخل السور الداخلي كان قد بدأ بإنشائها الجزار من قبله وأطلق عليها اسم برج الخزنة، وكان قد بولغ في تحصينها فحفرت فيها الآبار وأنشئت فيها المستودعات العميقة والمسالك المعرجة والأبواب الخفية وما إلى ذلك من أساليب الدفاع في ذلك العصر. أكملها عبدالله فيما يظهر فأمر بحفر الأسطر التالية فوق بابها وهي لا تزال قائمة في مكانها:
عبدالله باشا والي إيالت صيدا ومتصرف لوا غزة ويافة
ومحافظ عكة وثغور بلاد الشامية راجياً بذلك الثواب
الملك الوهاب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم سنة ١٢٣٤50
وكان صاحب عـكة كما ـوردنا سابقاً لا يزال شاباً فأنشأ طائشاً معجباً بنفسه وبقلعته. وكان الشهابي الكبير أمير لبنان قد أرسل إليه من يرده إلى الصواب ويحثه على الرضوخ للعزيز موجباً عدم نسيان المعروف ولكن الوالي الشاب أجاب: «إنني أعرف شجاعة الأمير فكيف أهملها الآن. فالدولة لم تسمح برفع الحصار عني إلا بعد عجز عساكرها. وقد عجز بونابرتة عن فتح عكة وكانت محصنة بسور واحد فكيف يقدر عليها العزيز وهي الآن محصنة بسورين. وماذا يقدر محمد علي أن يصنع معي. هل هو أكثر من وزير فأنا وزير مثله فليكن الأمير شجاعاً كما أعهده»51.
وكان إبراهيم باشا لا يزال في حيفا ينتظر وصول إبراهيم يكن باشا وعساكره إليها ويدبر إدارة البلاد المجاورة فعين الشيخ أحمد عبد الحليم «شيخ مشايخ» الساحل وألح على الشهابي الكبير بوجوب حضوره إلى الأوردو. فأجاب الأمير بأن سبب تأخره عن الحضور هو قطع دابر الفساد الذي كاد يدب بين الناس من جراء تواتر الأخبار بقدوم العساكر المنصورة وجس النبض في جميع أنحاء البلاد قبل القيام منها إلى عكة. وطلب الأمير إصدار مرسوم شريف بحضوره لغاية في نفسه يفصح عنها لدى وصوله شفاهاً. فأمر إبراهيم باشا بإصدار هذا المرسوم. وفي هذه الفترة أيضاً كتب العزيز إلى الأمير الشهابي يأسف على ما بلغه من أنه لم يأت إلى معونة إبراهيم باشا ويستنتج من ذلك أنه إنما يبتغي الانضمام إليه بعد الانتهاء من مسألة عكة. ثم ينبهه إلى أن هذا الأمر لا يحتاج إلى الكثير من الملاحظة وعميق التفكير. ثم يتوعده بأنه إذا أحجم بعد وصول هذا الكتاب إليه عن الانضمام إلى إبراهيم باشا فإنه يجرد عليه خمسة ألآيات أو ستة تدك دياره دكاً وتقطع دابر الدروز قطعاً52. والواقع أن الشهابي الكبير كان لا يزال مخلصاً كل الإخلاص للعزيز إذ أنه كان قد نصح عبدالله باشا بالرضوخ للعزيز وأشار على الشيخ حسين عبد الهادي بوجوب ملاقاة المصريين والسير أمامهم على عكة مضيفاً أنه لدى وصولهم إليهـا ينزل هو أيضاً على عكة53. وما أن تسلم المرسوم الذي طلبه من إبراهيم باشا حتى قام من قصره في بتدين على رأس مئة فارس إلى عكة. ولما أقبل على المعسكر في التاسع من كانون الأول سنة ١٨٣١ التقاء ألاي من الجند بالموسيقى وإطلاق البارود ودخلوا به بموكب عظيم وأنزلوه في خيمة قرب خيمة الوزير فالتقاه إبراهيم باشا أحسن ملتقى وكتب إلى والده يخبره بحضور الأمير54. ويرجوه أن ينعم على حفيده بسيف ذهب أو بزوج طبنجات مذهبة55. ففعل العزيز وقال في كتابه إلى الأمير: «أنا عالم بميلك ومحبتك وصدق خلوصيتك وما بقي للإغبرار أثر. فيا أمير أنا اختيار وأنت اختيار وإعطاء أحدنا إلى أحدنا شيئاً يكون غشاً من كون هكذا أشياء تليق بالشبان. فالآن مرسلين إلى ولدنا ولدكم الموجود معكم جوز طبنجات ذهب وسيف ذهب إن شاء الله تعالى عند وصولها وأعطايهما يتقلد بهم بالصحة»56.
والتفت القائد الأعلى في أثناء إقامته في حيفا إلى استقصاء أخبار عدوه فبث جواسيسه في عكة واستمع إلى أقوال غيرهم من أهل الخبرة. ومن هؤلاء الخواجة لويس كتفاکو والسنيور بوزيو اللذان كانا قد استأذنا عبدالله باشا بالخروج من عكة لإيواء عيالهما في الناصرة ووعدا بالعودة ولكنها لم يفعلا. وقد أكد الخواجه كتفاكو لإبراهيم باشا أن أتباع عبدالله باشا يمقتونه وأنهم يترقبون الفرصة للخلاص57. ولكن شيئاً من هذا لم يتفق وواقع الحال فإن إبراهيم كتب إلى والده عند بدء الحصار يقول: «إن أحوال عبدالله باشا وأعماله تدل في الغالب على الطيش وقلة التبصر والجنون إلا أن عمله في هذه المسألة يدل على مهارة وحذق عظيمين. فإنه أحرج عساكره بحيث لا يتجرأ أحد منهم أن يكاشف زميله بما يعلم أو يعتقد وبالتالي فانه ليس لدينا لاستمالة هؤلاء سوى إظهار قوتكم القاهرة وعظمتكم الباهرة»58. وكان العزيز في هذه الفترة يلح على ابنه بوجوب استغواء كبار الرجال في عكة بالمال فيقول إن الحكومات تستولي تارة بقوة السواعد وتارة أخرى بقوة النقود فيجيب قائد الجيش أنه لم يسمع قط أن الحكومات افتتحت القلاع بالنقود59. وحاول العزيز نفسه أن يطمئن جنود عبدالله باشا باستعداده لدفع جماكيتهم وأن يستميل قادتهم بالمال والأمان ولكن دون جدوی60.
وبعد أن وصل إبراهيم يكن باشا بمعظم الرجال إلى حيفا وتم إنزال العتـاد إليها أمر القائد الأعلى بالزحف على عكة. ولدى وصوله إلى سهلها جعل البهجة مقراً له وركز ميمنته بين البهجة والبحر وميسرته بين البهجة ونهر النعمين. ثم أمر بحفر الخنادق بالقرب من عكة نفسها61 - خنادق النار بلغة ذلك العصر. وفي الثامن من كانون الأول بدأ قصف القلعة من البر والبحر معاً فأطلق الأسطول المصري وحده ما بين التاسعة صباحاً والرابعة بعد الظهر ستين ألف طلقة62 فتهدم السور البحري في عدة نقاط وتزعزع عدد كبير من البيوت في القسم الغربي من البلدة. وأدى القصف من البر إلى نتيجة مماثلة فثلم السور الخارجي وظهر خلله في نقاط كثيرة ولكن الجيش لم يتمكن من تسلق الأسوار في النقاط المثلمة نظراً لعدم توفر الأكياس والسلال والأعشاب لديه. وتكرر قصف عكة في الشهر نفسه ولكن دون جدوى للأسباب نفسها ولكثرة تهاطل المطر الذي أوقف القصف مراراً وأفسح المجال لعبدالله باشا ورجاله أن يصلحوا ما خربته المدافع. وهب العزيز يتلافى ما لمسه من نقص فطلب مهندسين عسكريين من إيطالية وفرنسة. ووصل في هذه الأثناء مصطفى نظيف أفندي وأحمد توفيق بك من وكلاء رؤساء الأقلام في الصدارة العظمى إلى الإسكندرية للتحقيق في الدعوى القائمة بين العزيز وبين عبدالله باشا کما أشرنا إلى ذلك سابقاً وأشار مصطفى نظيف أفندي إلى إمكانية إحالة إيالة صيدا إلى عهدة العزيز فكتب هذا إلى ابنه يحتم عليه الإسراع في الاستيلاء على عكة ويلفت نظره إلى أن الحرب خدعة وأنه من المستحسن أن يستدعي كتخدا عبدالله باشا إليه ويطلعه على مأمورية نظيف أفندي ثم يتركه مع الشهابي الكبير لعله يقنعه بزخرف الكلام63. فأقام إبراهيم باشا معالم الزينة في معسكر الجيش وأرسل رئيس سعاة البريد إلى عكة يبلغ إلحاق إيالة صيدا بمصر وإسنادها إلى العزيز ويدعو كتخدا عبدالله باشا إليه. فوصل رئيس السعاة إلى السور وبلغ رسالته وبعد أن حجز نحو ثلاث ساعات تحت السور خرج الكتخدا مع بعض أتباعه. وبعد وصوله إلى المعسكر ارتاح برهة في خيمة الأمير بشير الشهابي ثم دخل والأمير إلى خيمة القائد العام وقال أخوكم الباشا يهدي إليكم سلامه ويدعو لكم بالخير. فأجابه إبراهيم باشا سلمه الله ثم قال لقد ألحقت إيالة صيدا بمصر ووجهت إلى مولانا وهو يسامح في ما مضى والباشا من أبناء مولانا فإذاً فليخرج من عكة وليتفضل إلى مصر أو ليکن معي في الخدمة هنا فنعمل معاً. ثم أضاف إبراهيم باشا قائلاً نحن نريد منك أن تسعى لإتمام هذا الأمر لأننا جميعاً مسلمون إخوان في الدين وأنت ذهبت إلى مصر وكنت أحد أتباع مولانا الذين أحبهم وأنا أيضاً احببتك لذلك. فلما سمع الكتخدا هذا الكلام قال: إني سأنقل هذا كله وربما زدت عليه ولكن ليس في يدي من الأمر شيء والأمير بشير يعرف ذلك. فقال الشهابي: حسن ولكن لم يبق ما يُقال وعلائم النهاية ظهرت في الميدان. فأجاب الكتخدا مصالح الباشا أصبحت في يد السرعسكر خورشيد المملوك الذي عينه الباشا حديثاً، ثم استأذن في الذهاب فأرسل معه رئيس السعاة، وبعد أن أعاقوا رئيس السعاة ساعتين خرج إليه ما يسمونه السرعسكر وهو صبي دون السابعة عشرة واسمه خورشيد مع أميرالاي النظام وأربعين من عساكر النظام وقالوا لرئيس السعاة إن جواب الباشا هو هكذا: سلم على أخي الباشا وقل له نحن لا نصدق الكلام فإذا كانت الدولة قد ألحقت إيالة صيدا بمصر فليرسلوا لنا الأوامر لنراها ونحن نرسل الجواب بمقتضاها. نحن لم نحارب بعضنا بعد والأمر لا ينتهي بحصار عكة أربعين أو خمسين يوماً وبسقوط كم حجر منها فلنعمل على بعضنا بالسيف والخنجر وعندئذ نتفاهم. ويقول إبراهيم باشا في تقريره هذا أن باش جاويش عبدالله باشا الذي خرج مع الكتخدا قال لرجال الأمير بشير الشهابي أنه قتل من جنود عبدالله باشا حوالي مئة. ثم يقول أن الأمير المذكور يقدر عساكر عكة بألفين وسبع مئة أو ألفين وثمان مئة64.
ورافق أعمال الحصار هذه قحط وغـلاء فاضطر القائد الأعلى أن يستقدم مؤونة جيشه من مصر بدلاً من ابتياعها في الأسواق المحلية وأن يستقدم كميات أخرى لتموين الأهالي. وهكذا فإننا نراه يكتب إلى والده في السابع والعشرين من رجب سنة ١٢٤٧ يصف القحط في البلاد ويرجو شحن كميات كبيرة من البقسماد والقمح والدقيق والذرة والفول والشعير والعدس والأرز تكفي لمدة بضعة أشهر. وبعد ذلك بيومين يرجو إرسال كمية كبيرةمن الذرة لبيعها في ثغور الشام. ونرى العزيز في الوقت نفسه يكتب إلى متسلم القـدس فيحيطه علماً بالقحط فيها ويأسف أن الحنطة قليلة في مصر ولكنه ينبئه بأنه أمر بإرسال ألف أردب من الأرز لتباع بسعر السوق65.
لمس إبراهيم نواقص جيشه وأحاط علماً بجميع هذه الصعوبات فرأى أن يتريث قليلاً في أمر الهجوم على عكة وأن يكتفي إلى أمد معين بتشديد الحصار عليها ليمنع وصول المدد إليها، فشاور الشهابي الكبير وقر قرارهما أن يصار إلى احتلال جميع الثغور الشامية لمنع المدد. وطلب إلى مصطفى آغا بربر أن يقوم من عكة بأورطة من المشاة فيضع بلوكاً منها في صور وآخر في صيدا واثنين في بيروت ويتوجه بالأربعة الباقية إلى طرابلس ثم يكتب منها إلى مصطفى آغا هارون في اللاذقية فإن قبل وامتثل كان به وإلا فيرسل مصطفى آغا بربر متسلماً من قبله إليها66.
وكانت الدولة العثمانية قد احتاطت في أمرها فعينت محمد باشا والي الرقة وقائمقام حلب سابقاً والياً على حلب «وسردار سواحل بلاد العرب» وألحقت بـه كلاً من علوش باشا وعثمان باشا أمين المعادن وعثمان خيري باشا متصرف قيصرية. وأمرت محمد باشا والي سلسترة أن يسير بعساكر الرومللي إلى الأناضول كما أخرجت خمسين ألفاً من «نخبة العساكر المدربين» من ناحيتي كيفەلق وطوسقەلق من بلاد الأرناؤوط. وعينت عثمان باشا قائمقام الشام سابقاً والياً على طرابلس لإيجاد قوة عسكرية كافية في هذه البلدة ولتسهيل أعمال الجردة وإعداد العدة لتأمين القيام بفريضة الحج67.
وما أن وصل عثمان باشا والي طرابلس الجديد إلى حلب واتصل بمحمد باشا سردار سواحل بلاد العرب حتى حرر كل منها إلى الشهابي الكبير أمير لبنان يمدحانه ويستميلانه إلى جانب الدولة. ويتضح من أسلوب عثمان باشا وطريقته في الكتابة أنه كان يطلق آمالاً كبيرة فيما إذا نجح في استمالة الأمير. فهو يستهل إحدى رسائله إلى الأمير اللبناني بالعبارات التالية: «صاحب العطوفة والسماحة والمروءة والرأفة أخي حميد المزايا سلطاني وأميري الكريم» ويقول في محل آخر: «إني وإن كنت لم أتشرف بمقابلتكم للآن فإني نظراً لوجودي مدة سبع سنوات بالشام وبلاد العرب وكنت اجتمع بعبد القادر آغا وأحمد آغا ترجمانكم بالشام فنذكركم بالذكر الجميل والسيرة الحسنة ولهذا السبب لم آلو جهداً ولم أؤخر وسعاً في الإطراء بكم والثناء عليكم بالصدق والأمانة والدراية والغطانة وإخلاصكم الشديد للدولة العلية كما برهنتم على ذلك في مواقع كثيرة وأنكم لا تريدون قط الانفصال عن الدولة بحال من الأحوال ولا ترمون إلى ذلك أبداً وقد ذكرت كل هذا للحكومة العثمانية ولا سيما لقايمقام السرعسكر ولدولة السرعسكر خسرو باشا محمد، وإني واعدك بأن أقوم بجميع ملتمساتكم كلما وجدت لدى الحكومة العثمانية»68. وكتب محمد باشا والي حلب وسردار سواحل بلاد العرب في هذه الآونة نفسها إلى إبراهيم باشا يرجوه أن يتخلى عن متسلمية طرابلس وأن يستدعي مصطفى آغا منعاً لوقوع الفتنة بينه وبين عثمان باشا وتسهيلاً لسفر المحمل الشامي69.
وكان العزيز يرى في تعيين عثمان باشا والياً على طرابلس مجرد جس نبض فقط فكتب لابنه إبراهيم «بوجوب طرد كل شخص يأتي إلى الإيالات التي وقعت بيده» وتيقن في الوقت نفسه من ورود الفرامانات السلطانية بإحالة الإيالات الجديدة إلى عهدته70. وهكذا فإننا نرى إبراهيم يعقد مجلساً استشارياً مؤلفاً من الأمير الشهابي الكبير والمعلم يوحنا بحري وعثمان بك لدرس الموقف فيقر قرارهم على تشكيل جيش من المشاة والخيالة والمدفعيين وإرسالهم إلى مرج ابن عامر لإيقاع الرعب في قلوب المعارضين في جبال نابلس والقدس وعلى قيام هذا الجيش نفسه بعد بضعة أيام من وصوله إلى المرج المذكور - على قيامه إلى جسر بنات يعقوب الحـد الفاصل بين إيالتي دمشق وصيدا فمرجعيون. وتقرر في الجلسة نفسها إرسال الأمير خليل الشهابي نجل الأمير بشير على رأس ألف مقاتل لبناني إلى طرابلس وإرسال خمسة بلوكات من مشاة الجيش إليها بالإضافة إلى الأورطة الموجودة فيها وتعزيز البلوكين الموجودين في بيروت ببلوكين آخرين وأنه بعد ذلك إذا زحف أحد من حلب على طرابلس يقوم إبراهيم باشا بنفسه لمجابهته بجيش خاص وإذا أعلنت الدولة الحرب يزحف اللبنانيون بقيادة الأمير أمين الشهابي نجل الأمير بشير على دمشق. ويبقى الشهابي الكبير في المعسكر العام يدير مصالح البلاد الإدارية ويختم ما يلزم من الأوراق والأوامر بختم إبراهيم باشا وذلك نظراً لإحاطته التامة بأحوال بر الشام وفهمه الكامل لحركات سكان هذا القطر وسكناتهم. ورأى إبراهيم أيضاً أن يعين من رجاله الأخصاء حكاماً على القدس ونابلس وبيروت وغيرها من المراكز الهامة71. وكتب الأمير بشير إلى نجله الأمير خليل يستدعيه إليه فقام إلى عكة وتفهم مهمته وعاد إلى الشويفات حيث تجمعت الرجال وأكثرهم من النكديين والتلاحقة والملكيين والخوازنة والحبيشيين فسار إلى طرابلس72. وكان قد سبقه إليها إدريس بك قائد الألاي الثامن عشر فأصبحت حامية طرابلس ثلاثة آلاف رجل نصفها مصري والنصف الآخر لبناني73.
وكان عثمان باشا قد قام من حلب على رأس بضعة آلاف مقاتل غير نظامي واتجه بهم إلى اللاذقية. ولدى وصوله إليهـا أرسل كتخداه إلى عكار ونواحيها ليكرز باسمه وباسم السلطان فيعد الطريق له قبل وصوله74. ثم تقدم الباشا نحو طرابلس مركز إيالته واستقر في قرية المنية ووجه منها خطاباً إلى حامية طرابلس ذكرهم فيه بأنهم من رعايا السلطان وطلب إليهم أن ينقادوا لأوامره وكتب بمثل هذا إلى مصطفى آغا بربر75. ثم نهض إلى طرابلس فوصلت طلائع جيشه إلى أبوابها. وما أن فعلت حتى خرج إليهـا إدريس بك بأورطة من ألالاي الثامن عشر فرد هذه الطلائع على أعقابها ولحق بها إلى السهل خارج المدينة وإلى شمالها الشرقي فكرت عليه كرة مفاجئة أسفرت عن تقهقره وضياع قسم كبير من وحداته المقاتلة. وعندئذ تجرَّأ عثمان باشا وتقوى قلبه فهاجم طرابلس بقواته في الحادي والثلاثين من آذار فخرج لقتاله اللبنانيون بقيادة أميرهم خليل الشهابي فكسروا الخيالة في السهل وقلعوا الأرناؤوط من التل وجدوا في أثرهم حتى بلغوا البدّاوي ثم عادوا ظافرين76. وكان الأمير خليل قد لمس عطفاً من رجال الدين في طرابلس وأعوانهم على عثمان باشا وما فتئ أن تيقن ذلك عندما وقعت رسالة عثمان باشا إليهم في يد مصطفى آغا برير تبين منها أنهم فاوضوه بتسليم المدينة إليه. فاتفق ومصطفى آغا بربر على اعتقال القاضي والمفتي وبعض الأعيان ووضعهم في القلعة وكتب إلى والده يخبره بذلك كله77. فنهض إبراهيم باشا على رأس قوة مؤلفة من عشرة آلاف مقاتل منها ألاي الغارديا وألاي الخيالة السابع وستة مدافع فوصل إلى البترون في السابع من نيسان سنة ١٨٣٢ (٥ ذي القعدة سنة ١٢٤٧) وبات فيها تلك الليلة. وما أن تحقق عثمان باشا من وصول خصمه إلى البترون حتى استولى عليه الذعر وترك خيامه وجرحاه ومقدار من الذخائر والجبخانة وفر شمالاً. وتليت أخبار هذا الفرار في خيمة الأمير بشير الشهابي في معسكر عـكة وكان بين المستمعين الشيخ حسين عبد الهادي والشيخ أحمد عبد الحليم والشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس فدعوا جميعهم بالنصر «وقرأ المفتي الحديث لعنة الله على السلطان الضعيف»78. ثم أرسل إبراهيم باشا الأمير عبدالله الشمالي إلى المنية ليضبط مخلفات عثمان باشا وجد هو في أثره إلى حمص. ولدى وصوله إليها تقبل طاعة أهلها وعلم أن طلائع الجيش السلطاني كانت قد وصلت إلى حماة. فصمم على ضربها ضربة حاسمة ولكنه عاد فآثر التراجع إلى بعلبك ليكون أقرب إلى نقطة التموين التي كان قد أنشأها في زحلة وأقام على حراستها فرقة من اللبنانيين بقيادة الأمير قاسم الشهابي نجل الأمير بشير. وما أن وصل خبر هذا التراجع إلى الباشاوات في منتصف الطريق بين حمص وبين حماة حتى جدوا في أثره فلحقوا به في سهل الزرّاعة بالقرب من قرية القصير. فدبّر إبراهيم خطته وجعل بينه وبين أخصامه ترعة ماء ثم شطر خيالته شطرين وركز خلف كل منها مدفعية كافية وأوهم خصمه أنه سيلزم خطة الدفاع. فانخدع الباشاوات وهجموا بكل ما لديهم. فلبثت الخيالة المصرية صامتة حتى إذا أصبح الخصم على مسافة معلومة ارتدت عليه بسرعة عجيبة والتفت حوله وعندئذ بدأت المدافع المصرية تقذف نيرانها فاصطادت الخيالة عساكر الباشاوات صيداً وقتلت منهم ما يقرب من الثلاث مئة فارتدوا على أعقابهم خائبين79.
وظنت أوساط المعارضة في لبنان أن دورها قد أتى فأصغت إلى إغراء محمد باشا والي حلب وإلى صوت بعض من التجأ إليه من زعمانها كأولاد الشيخ بشير جنبلاط والشيخ أسعد النكدي80 ووقعت من جراء ذلك مشادة بين بعض الدروز وبين بعض النصارى في دير القمر وفي المتن وفي زحلة. فكتب الشهابي الكبير إلى هؤلاء يتهددهم ورأى أن يستغل وجود إبراهيم باشا وجيشه في البقاع فقام من عكة إلى بتدين وأرسل عوضاً عنه الأميرين ملحم حيدر وفاعور قعدان الشهابيين ثم قام مع إبراهيم باشا على رأس قوة مصرية إلى دير القمر وأنزلها في دور النكديين فوقع الرعب في قلوب المعارضين وجاؤوا إلى بتـدين مستسلمين طائعين81، وبعد أن قام إبراهيم باشا من بتدين إلى زحلة كتب إلى الشهابي الكبير أن يرسل بعض وجوه المعارضة إلى المعسكر في عـكة فأرسل الأمير من اللمعيين الأمير سعدالدين مراد والأمير بشير قايدبيه، ثم أرسل الأمير أمين أرسلان والشيخ حسين تلحوق والشيخ يوسف عبد الملك وأمر الوزير أيضاً بداهمة الأمير بشير الشهابي الصغير والأمير سلمان سيد أحمد والأمير حسن أسعد الشهابيين لأنه بلغه أنهم سينهضون لملاقاة عساكر السلطان82. ولكن هذا كله لم يمنع عدداً من النكديين ورجالهم من الفرار إلى حمص ومعهم الشيخ محمد القاضي الشهير ومن المحاربة مع الجنبلاطيين والعماديين هناك إلى جانب الدولة. فأمر إبراهيم باشا بهدم دور الذين توجهوا إلى حمص فنفذ أمره في كل من دير القمر وكفرنبرخ والمختارة83.
وبعد أن أمن شر المعارضة في لبنان على هذا الشكل قـام القائد المصري إلى بعلبك ينظم حاميتها ليلتهي بها العثمانيين عن عكة. وبعلبك كما لا يخفى تهدد بموقعها المتوسط كلاً من دمشق وحمص وطرابلس وبيروت وتسيطر في الوقت نفسه على طريق عسكري شهير يصل شمالي سوريا بجنوبيها ويضيق جداً عند بعلبك نظراً لاقتراب السلسلتين اللبنانيتين بعضها من بعض. وكان إبراهيم باشا قد أمر ابن أخيه عباس باشا أن يأتي إلى بعلبك على رأس ألالاي الثاني عشر من المشاة وألاي الخيالة الثالث وبطاريات ثلاث ففعل وأصبح لدى إبراهيم في تلك البرهة في بعلبك أربعة ألايات من المشاة وألايات من الخيالة ومدفعية كافية84.
وكان السلطان قد أصدر «التوجيهات» السنوية بمناسبة عيد رمضان واستهلها بإرجاء تعيين حكام مصر والحجاز وكريت إلى أن يكون محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا قد رجعا عن الخطأ الذي ارتكباه، وتوقع أن يكون في ذلك ما يكفي لدخولها في الطاعة. ولكن العزيز وابنه ثابرا في خطتها وتابعا أعمال الحصار في عكة مصرين على موقفها مؤكدين أنها إنما يرميان بذلك إلى رفع بلية عكة وإن الأوفق أن تعود القوات المحتشدة في حمص إلى حلب إذ لا بد من صدور العفو السلطاني85. ثم كان ما كان في الزراعة فأصدر السلطان فرماناً همايونياً إلى حسين باشا «السردار الأكرم» بين فيه خروج محمد علي باشا عن الطاعة وأوجب قصاصه وصدرت الفتوى بهذا من جانب شيخ الإسلام مذيلة بإمضاءات أربعين عالماً من علماء الآستانة86. وأعلم السلطان الدول بخروج محمد علي باشا عليه وبعزله من منصبه وتجريد حملة لتأديبه وبفرض حصار بجري على مصر وتوابعها وطلب إليها أن تحافظ على الحياد التام فتمتنع عن إمداد الباشا بالمؤن والذخائر والعتاد87. فهب الكونت مترنيخ وهو المحافظ على كل قديم وعلى الحقوق الموروثة هب يُعلم العزيز باستيائه وأرسل مركبين حربيين إلى مياه الشام ومصر يرقبان الأمور وينقلان أخبارها إلى حكومة الآستانة88. وأظهرت حكومة القيصر الروسي ارتياحها لبيان السلطان ولم تخف موقفها عن العزيز. أما حكومة إنكلترة وحكومة فرنسة فإنها لم تظهرا أي عداء للعزيز89. وقابل العزيز هذه الفتوى السلطانية بغيرها من نوعها صدرت عن شريف مكة المكرمة محمد بن عون وقضت بخروج السلطان عن قواعد الدين الحنيف90.
وكان العزيز منذ إخفاق رجاله في هجومهم الأول على عكة في شهر كانون الأول يلح بوجوب إعادة الكرة وتذليل هذه العقبة كي لا تجرح معنوياته وتنقص سطوته فتنفجر حرب أهلية لا تحمد عقباها. ولذا فإننا نراه يستدعي أعضاء ديوانه العالي في أوائل شهر شباط إلى جلسة فوق العادة لاستماع تقرير رفعه إليه عثمان نور الدين بك ولدرس الموقف على ضوء هذا التقرير. وما أن فعل حتى حرر لابنه إبراهيم موجباً اقتحام عكة وإنهاء قضيتها. فقام قائد الجيش في عيد رمضان في الرابع من آذار يصلي عكة ناراً حامية دامت أسبوعاً كاملاً. فزاد الأسوار خراباً ووسع ثغراتها وخطب في رجاله مبيناً ثواب عملهم ومشيراً إلى ما جمع عدوه من أموال ستصبح حتماً مالاً حلالاً لهم. وعند الفجر هب الرجال إلى الثغرة في برج الباب فتسلقوا السور الخارجي وغنموا مدفعين ثم تدفقوا إلى الخندق الداخلي فتسوروا السور بعده ونفذوا منـه إلى قلب البلدة مكرهين أرناؤوط عبدالله إلى الاحتماء في أبراج السور البحري. ثم أطلقت عليهم النار فجأة من نوافذ المنازل المجاورة وتفجر البارود تحت أقدامهم فهالهم الموقف وانتثر عقدهم فانسحبوا إلى حيث أتوا تاركين وراءهم مئتي قتيل وجريح.
ولكنهم زادوا بعملهم هذا خبرة وازدادوا ثقة وشجاعة91.
ثم قام إبراهيم إلى طرابلس فحمص فالزراعة فبعلبك فزحلة فبتدين کما سبق فأوضحنا ولم يبقَ أمام أسوار عكة سوى عشرة آلاف مقاتل بقيادة إبراهيم الصغير - إبراهيم يكن باشا – ولكن أعمال القصف لم تنقطع فانفتحت ثغرتان جديدتان في السور الشرقي وتهدم أو احترق قسم كبير من البلدة واضطر عبدالله باشا أن يهجر قصره ويختبئ مذعوراً في سراديب برج الخزنة خوفاً من رجاله92.
وكان إبراهيم باشا لا يزال في لبنان ينتظر قدوم عساكر السلطان إلى بعلبك93. ويرى أنه على أتم الاستعداد لمجابهتهم ولاسيما وأنه قد أنهى فتنة جبل الدروز وجيشه المرابط في زحلة يوازي أضاف قوة العدو في حمص. وبالتالي «فلا مجال للتشاؤم وزحلة تبعد مرحلتين عن بعلبك بالسير السريع والبريد بين حمص وبعلبك وزحلة وعكة منتظم كل الانتظام»94. وكان العزيز يشارك ابنه في رأيه هذا فيهزأ من أقوال رجال الآستانة ويسخر من تبجعهم بجيشهم واستعداداتهم فيشير إلى اندحارهم في حمص وإلى تعيين حسين باشا نفسه سرداراً أکرم95. ولكنه كان قد بدأ يشعر باهتمام الدول بقضيته وباحتمال تدخلهم بعد سقوط عكة فأوجب إنهاء مسألتها عن يد السرعسكر نفسه ولاسيما فتنة الدروز كانت قد أخمدت بفضل بسالته96.
وعاد إبراهيم إلى عكة في أواخر الثلث الثاني من شهر أيار سنة ١٨٣٢ فعاين أعمال الحصار بنفسه وأمر باتخاذ التدابير اللازمة وكتب إلى والده بأن نقل الذخائر والمهات سيتم في زهاء يومين فيبدأ عندئذ بإطلاق النيران على القلعة97. وكان إبراهيم يكن باشا قد اتصل بالسلطات في عكة للمفاوضة قبل وصول السرعسكر بأسبوع فرفضت هذه إرسال من يفاوض من قبلها وقالت من يريد أن يفاوضنا بشيء فليأت إلينا إلى القلعة98. فأمر إبراهيم باشا بإعادة الكرة عملاً بتوصية والده فأرسل تاتاره إلى عكة يحمل إنذاراً أخيراً. ولكن عبدالله باشا رفض قائلاً لم يمض على الحصار سوى بضعة أشهر وبإمكاننا أن نتابع الدفاع بضعة سنين فلننتظر خمس سنوات أخرى! فأمر إبراهيم بقصف القلعة طيلة ذلك الليل وبينما كانت المدافع تطلق نيرانها قام المهندسون العسكريون بحفر الخنادق قرب الأسوار وبنصب المدافع اللازمة ونقل السلالم وما إلى ذلك. وفي صباح اليوم التالي - ۲۷ أيار ۱۸۳۲ بدأ هجوم عام فقامت كتيبة من ألاي المشاة الثاني إلى الثغرة في برج الباب وكتبية ثانية من الألاي نفسه إلى ثغرة في برج النبي صالح وثالثة من الألاي نفسه أيضاً إلى ثغرة برج الزاوية وقامت كتيبة من ألاي المشاة العاشر إلى برج كريم لتسلق جدرانه. وأبقى إبراهيم كتيبتين من الألايين الخامس والعاشر تحت تصرفه ليدفع بها إلى برج الزاوية عند اللزوم ووضع تحت تصرف إبراهيم يكن باشا الكتيبة الرابعة من ألاي المشاة الثاني لتدعم الهجوم على برج الباب. ورأى إبراهيم أن يلقي خصمه في أقصى ميسرته في برج كريم أولاً فيضربه ضربة قاصمة في القلب في برج الزاوية وقامت كتيبة ألاي المشاة العاشر تتسلق جدران برج كريم فأصلتها الحامية ناراً حامية أدت إلى إصابات كثيرة غير منتظرة. ولكن كتائب الألاي الثاني نجحوا في مهمتهم بادئ ذي بدء في برج الباب وبرج النبي الصالح وما أن فعلوا حتى هب إبراهيم بجنوده إلى برج الزاوية فركز قوته فيه. وعندئذ تحولت نيران بعض مدافع السور الخارجي فبدأت تنصب على استحكامات السور الداخلي وبرج الخزنة والبلدة. وعندئذ برز عبدالله باشا نفسه إلى الميدان وبـدأ هجوماً معاكساً مستهدفاً قوات خصمه في برج الزاوية بصورة خاصة فصادف بعض النجاح ولكن خسائره في الرجال اضطرته إلى التراجع إلى السور الداخلي. وعند الخامسة مساء نجح إبراهيم نفسه على راس كتابية من الألاي العاشر في تسلق السور الخارجي بين برج الباب وبين «مدورة الإنكليز» في أقصى ميمنة خصمه واستقر في خان الجناين وكان السر عسكر في أثناء هذا كله في طليعة جنوده يشرف على تسور الأسوار ممتشقاً حسامه مشجعاً جنوده بشجاعته فكان لوجوده أشد الأثر في ضراوة القتال.
وما أن بدأ الليل يسدل ستاره حتى خرج أعيان البلدة يلتمسون الرحمة وبعد قليل خرج وفد آخر مؤلف من مفتي البلدة وإمام واليها وبعض رؤساء المدفعية يطلبون الأمان للباشا وللحامية، فأمن رجال الحامية على نفوسهم وأموالهم وبلغ منه أن سمح لهم بأن يحتفظوا بسلاحهم ولكنه لم يسمح لعبدالله باشا بأكثر من تأمينه على حياته، وعند منتصف الليل خرج عبدالله باشا من سراديب برج الخزنة يرافقه كتخداه خورشيد بك ويتقدمها اللواء المصري سليم بك الذي كان قد أوفد خصيصاً لهذه الغاية. فاستقبله السرعسكر بما لاق بمقامه الوزيري وطلب إليه أن يقدم حساب خزنته وأن يسلم أمواله. فاعتذر مؤكداً أن صندوقه أضحى فارغاً بعد حصار طويل كثرت فيه مطالب الجند ولاسيما وأن كلاً منهم كان يتقاضى سبع مئة وخمسين غرشاً في الشهر. وكان قنصل النمسة لويس كتفاكر قد توقع هذا الجواب في حديث بينه وبين السرعسكر فأحضره السرعسكر وقدمه إلى عبدالله باشا قائلاً أترى كيف نجحت في الاعتماد عليه والركون إليه! وانتهت المقابلة في نصف ساعة وخرج عبدالله وكتخداه فامتطيا خيلهما وتوجها إلى قصر البهجة حيث بقيا تلك الليلة99. وفي الغد أمر السرعسكر بنقل عبدالله باشا إلى الإسكندرية ليمثل بين يدي العزيز وأمر كلاً من اللواء سليم بك وكاتب الديوان وأربعه أنفار أن يرافقوه إلى مصر. وطلب إلى خورشيد بك كتخدا عبدالله باشا أن يبقى في عكة ليشرف على أحوال حرم الباشا وأتباعه، ولكن الخوف استولى على عبد الله وتبع كتخداه باكياً وقال إما أن يقطع إبراهيم باشا راسي أو أن يسمح الخورشيد بك بالسفر معي وبات يتضرع ويبكي حتى أمر السرعسكر بتوجه الاثنين معاً100. فقاما إلى الإسكندرية على ظهر سفينة حربية. وودع عبدالله حصناً كان قد نشأ فيه ثم مـا فتئ أن تسلمه فبالغ في الانفاق عليه والتفاخر به ومن ثم تركه قاعاً صفصفاً يعلوه الدخان وتنبعث من جوانبه روائع الجثث المنتنة.
وعلى الرغم من الأوامر المشددة بتحريم النهب والسلب فإن الجنود الفاتحين قضوا ليلتهم يفعلون. وفي اليوم التالي أعيد النظام وأعاد بعض الجند بعض ما سلبوا. وعاد قنصل النمسة إلى عكة بثوبه القنصلي الفضفاض وقبعته المثلثة الزوايا يستغل خراب بلدة طالما استغل إثراءها من قبل. ووضعت السلطات المصرية يدها على مخازن الحامية فوجدت فيها كميات كبيرة من البارود والقنابر والقمح والذرة والأرز والعدس تكفي حاميتها مؤونة سنتين كاملتين101. وخسر المصريون أربعة ألاف ما بين قتيل وجريح. ووقع منهم في أثناء الهجوم الأخير خمس مئة واثنا عشر قتيلاً وألف وأربع مئة وتسعة وعشرون جريحاً. وتوفي في أثناء الحصار من جراء الأمراض المتنوعة ألفا رجل. أما خسارة عبدالله باشا فإنها لم تتجاوز الألف102.
٣ - فتح دمشق: وكان من جراء هذا الانتصار أن زادت ثقة الجنود بالقادة وتضاعفت شجاعتهم وانعقدت ألسنة المعارضة في طول البلاد وعرضها. ورأى العزيز أن لا ينفك عن طمأنة الباب العالي فكتب إلى وكيله في الآستانة محمد نجيب أفندي في الثاني من شهر محرم أي بعد سقوط عكة بيومين فقط يؤكد ولاءه وإخلاصه للذات الشاهانية ولكنه نظراً لما كان ينشره عبدالله باشا من الأقاويل بين الناس من إنه مكلف بالتسلط على مصر ونظراً لقرب بر الشام من مصر ووجوب المحافظة على وادي النيل فإنه التمس إلحاق بر الشام بمصر103. وكتب بعد هذا بثلاثة أيام إلى الخواجه بريكس يطلب إليه أن يخبر «الجهات المختصة» أي الحكومة البريطانية أنه لا يزال عند وعده وأنه كرر الطلب بتوجيه إيالة الشام إلى عهدته وأنه في حال عدم القبول يكون قد استولى عليها. ثم يطلب إليه أن يعرض هذه المسالة على الوزراء ويسألهم إذا كانت ترافق سياستهم أم لا104. وكتب في الوقت نفسه إلى ابنه إبراهيم أنه لا يوافق على اللقب «سرعسكر بلاد العرب» الذي اتخذه لنفسه ويوجب الاكتفاء بالاسم إبراهيم كما اكتفى هو بالاسم محمد علي وأضاف قائلاً أن هذه الألقاب جوفاء لا تليق بإبراهيم وأن استعمالها يدل على الضعف لا على القوة105.
ويعود العزيز إلى الحرب فيوجب استغلال النصر ومتابعة الزحف حتى حلب أو التربص ثلاثة أشهر بعد الاستيلاء على دمشق حتى ينقد قوت الأتراك ولكنه يرى في الوقت نفسه أن لا بد من الاتصال بالشهابي الكبير أمير لبنان والتداول معه «إذ لا يوجد أحد سواه يصلح للاستشارة»106. فاتصل إبراهيم بالشهابي الكبير ودرس الموقف معه فاستصوب هذا الهجوم على دمشق أولاً «لأنه يوصل الحكومة المصرية إلى مقصودها وينيلها مرامها»107. فتبنى العزيز أمر الزحف على دمشق «لتطهيرها» وأهدى سلامه إلى الشهابي الكبير108. وأمر ابنه أن يكتب إلى والي دمشق علوش باشا هكذا: يا أخي أنا أعلم مقدار الخدمات التي أديتها للدولة وأنها كافأتك بأصغر المناصب وبما أنك سوف لا تتمكن من إجراء أي شيء فإنها ستعاقبك كما هو معلوم عنها بالاختبار. فتعال يا أخي ويا مواطني لنتآخى ونتحد معاً لإخراج ملتنا من هذه المذلة109.
وكان العزيز منذ بدء الحصار على عكة قد أمر بمفاوضة أعيان دمشق واجتذابهم إلى جانبه. فكتب إبراهيم إليهم وكتبوا هم إليـه ووعدوه ولكنهم لم يبروا. وكان الشهابي الكبير يحذره منهم فلا يراهم جديرين بالثقة ولا يستثني أحداً منهم سوى علي آغـا خزينه كاتبي ورشيد آغا الشوملي110.
والواقع أن آغاوات دمشق كانوا قبيل الزحف على عكة قد حرقوا أحد ولاتهم محمد سليم باشا الصدر الأسبق. فأمسوا والحالة هـذه ينتظرون عقاباً صارماً من الدولة وراحوا يلتمسون المساعدة من عبدالله باشا والي عكة راجين العفو وغص النظر. وما أن ظهرت طلائع الجيش المصري في أقصى فلسطين حتى تعهـدوا لحكومة الآستانة «ببذل الروح في سبيل المدافعة عن حقوق السلطان في حال وقوع التعدي من قبل والي مصر»111. ورأوا من الحكمة أن يعرضوا لخدماتهم على الجانب المصري أيضاً كي يمسكوا بالحبل من الطرفين. فقالوا إننا من أخلص عبيد أفندينا إبراهيم باشا ولا شبهة في أننا معه قلباً وقالباً في الباطن رغم تصريحنا في الظاهر أننا سنقبل الوالي التركي الجديد، ولكننا نرى في أن لا يتحرك الجيش المصري إلى طرفنا قبل الانتهاء من مصلحة عكة. لأنه إذا أقدم أفندينا الهمام إلى طرفنا قبل فتح عكة وصادف أن قدمت الجيوش الجرارة من الآستانة فلا شك في أن دولة أفندينا يرجع مصر ونصبح نحن بلا نصير فتصب السلطات التركية غضبها علينا باعتبار أننا أصبحنا مجرمين في نظرهم مرتين»112. ولكن أحدهم على الأقل لا بل أكبرهم وأوجههم محمد جوربجي آغـا (الداراني) الذي أكد ولاءه للسلطات المصرية في بدء عمليات الحصار كتب في الآونة نفسها إلى عبدالله باشا والي عكة يزوده بالأخبار ويؤكد مُقسما بتربة الرسول الأعظم «أنه باقٍ بالخدمة يخدم بماله وأولاده وعياله وروحه إلى أن يفرجها المولى». فضُبط كتابه هذا في يد نابلسي في مياه عكة وعُرض على إبراهيم باشا113. ومن هنا في الأرجح اشمئزاز إبراهيم باشا من أعيان دمشق وقلة ثقته فيهم وقوله لوالده أنهم لم يدخلوا في طاعته إلا بعد أن توغلت قواته في بلدتهم114.
وفي التاسع من حزيران سنة ١٨٣٢ قام الفاتح المصري على رأس قوة تألفت من تسعة آلاف نظامي وثلاثة آلاف فارس بدوي من عكة إلى الرامة فبات فيها ثم انتقل منها إلى جسر بنات يعقوب عبر الأردن فقرية القنيطرة فخان سعسع. وقام الشهابي الكبير ببضعة آلاف لبناني إلى وادي الحريد فوادي القرن فقرية داريا خارج دمشق ومعه ولده الأمير خليل والأميران الأرسلانيان أمين ومحمد115. فأصبح الجيش الزاحف والحالة هذه مقسماً هكذا: قلبه في بعلبك بقيادة عباس باشا وميسرته في طرابلس تحت إمرة حسن بك المناستولي وميمنته في مداخل دمشق وعلى رأسها القائد الفاتح وحليفه اللبناني الكبير116.
فقام علوش باشا والي دمشق يجري اتصالاته بأعيـان البلدة وآغاواتها ويوجب مقاومة المصريين واللبنانيين «ولو ساعة واحدة». ودعا محمد جوربجي آغا بعض الأعيان إليه ونهى مخالفة الدولة وسلح أتباعه ونبه على الأهالي أن يتسلحوا ويستعدوا للكفاح فاحتـار هؤلاء في أمرهم ولكنهم انصاعوا إليه في النهاية وخرجوا لقتال المصريين واللبنانيين117. وما أن فعلوا وخرجوا إلى داريا بفرسانهم الثمان مئة وبضعة آلاف من المشاة حتى سلط القائـد المصري فرسان العرب وأورطة نظامية عليهم ففروا هاربين في ظرف ساعة من الزمن. وفي مساء تلك الليلة في الثالث عشر من حزيران سنة ١٨٣٢ فر علوش باشا والقاضي والمفتي والنقيب ومعظم آغاوات البلد إلى حمص بطريق النبك ودير عطية. وقام في صباح اليوم التالي أحمد بك ابن الكنج يوسف باشا وكيل العزيز في دمشق قام إلى داريا يخبر إبراهيم باشا بواقع الحال، فأوعز إبراهيم إلى صديقه الشهابي الكبير أن يقوم إلى الشام بجميع رجاله ففعل وتبعه إبراهيم على رأس ألاي الغارديا فحيته القلعة بالمدافع وبات الجميع تلك الليلة في المرجة خارج دمشق وفي سراي الحكومة داخلها. وفي صباح اليوم التالي نودي بأحمد بك هذا المشار إليه متسلماً على دمشق وبتشكيل مجلس «للمشورة» مؤلف من عشرين عضواً منهم المسلم والنصراني واليهودي فخرج علي آغا عرمان محافظ القلعة ومثل بين يدي الباشا وسلمه مفاتيح القلعة. وعند الظهر قام الباشا بشخصه وحده إلى الجامع الأموي لحضور صلاة الجمعة. فاحتار العلماء والأئمة باسم من يخطبون باسم السلطان أو باسم العزيز. فأجابهم الباشا إني لا أزال عبداً للسلطان فاخطبوا باسم السلطان وادعوا للعزيز118.
وعرض القائد الفاتح جنوده وأجرى بعض المناورات العسكرية فخرجت دمشق بأسرها لحضور العرض. «وكان الوزير والأمير بشير واقفين قدام الخلق» فتقدم بعض الآغاوات الذين فروا مع علوش باشا و«تراموا» على الأمير اللبناني فتشفع بهم أمام القائد وقبلت شفاعته وعفي عنهم - المفتي والنقيب ومحمد آغا كيلار أمين ورشيد آغا الشوملي119. ونفى القائد أولاد الزعماء الباقين الذين نكثوا بوعودهم وفروا مع الوالي وأبعد عن دمشق كل من خشي أمره120.
وترك هذا الفتح اليسير أثراً بالغاً في نفس إبراهيم فإنه كتب إلى الديوان الخديوي يقول: «على المصريين ألا ييأسوا من دخول الجنة فالجنة نفسها قد دخلت تحت حكمنا121. وأعلن نبأ دخوله إلى دمشق في مرسوم وجهه إلى أعيان حلب وأهاليها قال فيه: «ومن ثم أتينا الشام ذات الابتسام فلاقتنا بوجه عبوس وأرادت محاربة عساكرنا الشوس فلم يكن أقـل حتى دخلوا جميعاً تحت نير الإطاعة فدخلناها بسلام بعد التسليم وتلا سيفنا على نار فتنة هذه الأقطار ﴿يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ﴾»122. ولمس العزيز أثراً لهـذه الانتصارات في نفس كل من قنصل النمسة وقنصل إنكلترة اللذين أخذا يميلان إليه فينقلان أخبار عدوه إليه. لمس فابتهج123.
٤ - موقعة حمص: وكان السردار الأكرم قائد القوات العثمانية لا يزال في قونية عندما تسلم نبأ سقوط عكة، وكانت طلائع جيشه مرابطة في أدنة بقيادة محمد باشا. فنقل إليه هذا خبر عكة واقترح أن يقوم سيده إلى أدنة حالاً وأن يتقدم هو بالطلائع إلى أنطاكية. فوافق السردار وأمر القائد الفتى أن يقوم إلى حماة بعـد أنطاكية ويتحصن فيها، وبدلاً من أن يلتحق هو به بأقصر ما يمكن من الوقت فإنه تباطأ حسب عادته وآثر البقاء في أدنة خمسة عشر يوماً قام بعدها إلى الإسكندرونة. وكان قليل الدراية بالنظم الحربية الجديدة لا يعبأ بها فقلت مؤونة جيشه وعلت أصوات الجنود في طلب القوت واشتد احتكاك الجنود غير النظاميين بالنظاميين فكانت فتنة أودت بحياة الدفتردار والقاضي واضطر السردار أن يفتي بوفاتها قضاء وقدراً من جراء الحميات! ثم ألح القائـد الفتى محمد باشا أن تقوم الطلائع إلى حماة بسرعة وأن ينهض سيده السردار بالجيش إلى أنطاكية ففعـل. وقام الملازم الإفرنسي تفنان معاون محمد باشا يدرس إمكانيات الصمود في حماة فرأى أنها طلقة جدًّا وأن قلعتها بحالة من الاندثار شديدة بحيث لا يمكن ترميمها بوقت قصير فأشار على الباشا بوجوب التقدم إلى حمص والارتكاز عليها نظراً لحالة قلعتها ولكثرة جنائنها ومرور العاصي بها مما يعاون في الدفاع. فقام الباشا بالطلائع إلى حمص ووصلها في السابع من تموز سنة ١٨٣٢ فاستقبله محمد باشا والي حلب استقبالاً فخماً وأقام الولائم على شرفه وبات تلك الليلة مطمئناً ظاناً أن الخصم لا يزال على بعد يومين عنه وكانت ـمتعة الطلائع لا تزال في طريقها إلى حمص فأمسى الجنود دون أي مأوى أو طعام وحبوا إلى أسواق حمص يطلبون ما يأكلون. ومما زاد في الطين بلة تفشي الهواء الأصفر بالمدن الشمالية بأسرها من حلب وأنطاكية حتى حمص!124
وكانت ميمنة الجيش المصري قد تحركت بقيادة القائد الأعلى في الثاني من تموز فقامت من دمشق طالبة حمص عن طريق القطيفة والنبك وحسيا تؤازرها قوة لبنانية بقيادة بشير الثاني نفسه. وقامت في الوقت نفسه ميسرة الجيش بقيادة حسن المناستولي من طرابلس إلى واتجه عباس باشا بقلب الجيش من بعلبك نحو الهدف نفسه. فوصلت جميع هذه القوات إلى القصير بالقرب من حمص في السابع من تموز اليوم الذي وصل فيه محمد باشا بطلائع الجيش العثماني ونزلت بالقرب من العاصي عند تل النبي مند125.
وفي أثناء الوليمة التي أقيمت على شرف محمد باشا ابتهاجاً بوصوله إلى حمص جاء من يخبر أن القوات المصرية أمست في القصير قريبة جداً من حمص فهب من فوره يشاور أركان حربه وزملاءه الباشاوات ومنهم محمد باشا والي حلب. فقال بعضهم بوجوب التراجع للاتصال بمعظم الجيش الذي كان لا يزال مرابطاً في أنطاكية. وآثر غيرهم الهجوم على العدو حالاً إذ ليس من الممكن أن يتغلب فلاحو مصر على أسيادهم العثمانيين. وكان محمد باشا فيما يظهر يود أن يستأثر بالنصر لنفسه دون مشاركة سيده السردار فأمر بإجراء ما يلزم لمجابهة الخصم ومقاتلته. وكان بإمكانه أن يتخذ خطة دفاعية فيستتر في حمص وفي جنائنها ويوقف زحف عدوه إلى أن يصل الجيش بمعظمه ولكنه لم يفعل. وفي صباح اليوم التالي خرج بقواته إلى السهل الذي يقع إلى جنوبي حمص ووزع قواته في صفوف ثلاثة فجعل في القلب عبر الطريق الذي يصل حمص بدمشق ألايات من المشاة النظاميين أربعة تتكئ ميمنتهم على العاصي والترعة المتفرعة عنه وميسرتهم في فضاء صحراوي. وأقام خلف هذا الصف الأول صفاً ثانياً مؤلفاً من ألايين نظاميين وألاي خيالة يدعم بها قلب الصف الاول وميمنته. ووضع في الصف الثالث بين العاصي وبين قرية خربة مجاورة تبعد ألفاً وثمان مئة متر عن القلعة إلى جنوبيها الشرقي وضع في هذا الصف قواته غير النظامية وألاياً من الخيالة النظامية لحماية ميسرته. وجعل لكل أورطة كم المشاة مدفعاً ولكل ألاي من الخيالة مدفعين ونصب واحداً وعشرين مدفعاً في مواقع معينة خلف ميمنة قواته126.
وقام إبراهيم الفاتح في صباح الثامن من تموز من القصير إلى حمص فرتب قواته على الشكل التالي: في المقدمة ألايات المشاة الثاني عشر والثالث عشر والثامن عشر يتبعها ألأي الغارديا وألايان آخران من المشاة الخامس والحادي عشر. أما الألاي الثامن فإنه وضع في الاحتياط خلف قلب هذه القوة. واتخذت الأورط شكل قوس مزدوج مفتوح غير كامل الانتشار. وجعل القائد ثلاث بطاريات من المدفعية في الصف الأول وأربعاً مع أوبوسين في الخطين الأول والثاني ثم وضع ثلاثة ألايات من الخيالة في ميمنة القوة وثلاثة غيرها في ميسرتها وجعل قواته غير النظامية من البدو تحرس أطراف جانبي الاحتياط. وأقام اللبنانيين بقيادة أميرهم بشير الثاني في القلب يحرسون الذخائر والمهمات.
ولمس القائد المصري ضعفاً في ميسرة خصمه إذ وجدها خالية من الموانع الطبيعية فرأى أن يقوم قلب جيشه بهجوم شديد على خصمه وأن يقوم المشاة من ميسرته بهجوم خـادع على ميمنة خصمه ثم يندفع هو بالمشاة والخيالة والمدفعية على ميسرة العدو فيلتف حولها ويقضي عليها. فتحركت الخيالة واجتازت القرية الخربة في ميسرة الأتراك ثم هجمت على الخيالة الترك فتراجع هؤلاء وتفرقوا واحتل المصريون الأرض وراء القرية وبينها وبين حدائق حمص. وحاول الفرسان النظاميون من الأتراك صد الهجوم المصري ولكنهم لم يفلحوا فانهارت ميسرة الأتراك وتقهقرت. وانثنى قلب الأتراك من جراء النيران المحكمة. فأمر محمد باشا القائد العثماني بالهجوم على مدفعية ميمنة المصريين فقابلته مدفعية الغارديا بالنار وأكرهته على التراجع. وأَسدل الليل ستاره فامتطى محمد جواده قاصداً حمص وفعل مثله غيره من القواد واقتدى الضباط بالقادة ثم حلت الفوضى في صفوف الجند فالهزيمة فالذعر127.
وفي صباح اليوم التالي دخل الأمير اللبناني برجاله إلى حمص ليرتب أمورها «فداست خيوله القتلى مسافة ميل في سهل بابا عمر» واستقر في السراي فطلب إلى القاضي والمفتي أن يعنيا بدفن القتلى. ثم أرسل الأسرى والجرحى إلى عكة بحراسة قوة لبنانية يتقدمها الشيخ حسين تلحوق. وأطلق سراح ثمان مئة أرمني كانوا في خدمة الأتراك فتسلمهم مطران الروم. وقام كاتبه مخائيل مشاقة إلى جسر المياس لضبط مخلفات الوزراء «فوجد الخيام بفرشها حتى أن الأفندي كاتب الديوان ترك دواته الفضية وأقلامه والورق على الأرض والطبايخ كانت باقية محروقة على النار»128.
بيلان: وجدَّ القائد الفاتح في إثر عدوه منذ العاشر من تموز فبات ليلته الأولى في الرستن في منتصف الطريق بين حمص وحماة وجاءه من يخبره بأن الباشاوات لم يدخلوا حماة بل تعدوها وتركوا وراءهم ستة من مدافعهم ثم تركوا خمسة غيرها والتجأوا إلى قلعة المضيق. فقام من فوره إلى حماة ووصل إليها بعد ساعتين ونصف الساعة. وكتب إلى والده بأنه وصل إلى حمص وتقابل مع ثمانية من الباشاوات وأربعة ألايات من المشاة وثلاثة من الحمالة وخمسة عشر ألفاً من العساكر غير النظاميين وحمل عليهم بالقول بأن محمد علي هو الباشا وبأن سرّه وسيفه ورمحه هو إبراهيم وإنه ضربهم وشتت شملهم حتى قتل منهم ألفي نفر وجرح ألفين وأنه أسر ما ينوف عن الثلاثة آلاف من العساكر النظامية واستولى على عشرين مدفعاً وعلى ذخائر وخيام لا تعد وأنه أرسل الجرحى والأسرى إلى عكة فصار فتح حمص وحماة بعد انهزامهم. فماذا يريد المصريون منه ومن والده وهو قد فتح لهم الشام مثال الجنة وألحق بحكومة مصر حمص وحماة أيضاً وأنه سيستولي على الممالك بالسيف والمدافع والبنادق حتى أسكودار، ثم يدعو لوالده بطول العمر والبقاء وأنه هو ومن معه يقدمون أنفسهم في خدمته وخدمة الملة129. فأنشد «لسان الحال» في الوقائع المصرية:
وكان السردار الأكرم قد بلغ أنطاكية وبارحها متجهاً نحر حمص فالتقى بفلول الجيش المهزوم وعرف منهم نبأ الهزيمة فارتد إلى حلب ليتخذها قاعدة للقتال وطلب إلى أعيانها أن يمدوه بالمؤونة والرجال فتشاوروا ورفضوا الاشتراك في الحرب وأبوا على جيش السردار أن يدخل أحد منه إلى المدينة ولم يسمحوا بذلك إلا للجرحى والمرضى وأغلقوا أبواب البلد!
وفي خلال ذلك كان إبراهيم باشا قد تقدم من حماة إلى المعرة سالكاً طريقاً معطشة منهكاً جنوده من شدة الحر وقلة الماء. ولدى وصوله إلى قرية زيتا جاءه جماعة من العرب يخبرونه بما حل بالسردار في حلب وبقيامه منها فأسرع إليهـا بالفرسان وستة مدافع ووصلها في الخامس عشر من تموز واستقر في الشيخ بكر في ظاهرها. فخرج إليه وجهاؤها وأعيانها يقدمون الطاعة131. وكان إبراهيم قد كتب إلى مفتي حلب يستعطفه منـذ دخوله إلى دمشق وكتب أيضاً في الوقت نفسه إلى مفتي مرعش الذي كان قطباً في حلب يخبره عن فتح عكة ودمشق وطرابلس ويقول له أنه ذاهب إلى حلب لأنها من بلاد العرب الطاهرة ولأنه يجب تخليصها من أدران الظلم والفساد ويوضع له خروج الدولة عن الدين والشرع. وقوّى إبراهيم هذا القول بالفعل فكان ما كان من موقف القاضي والمفتي وامتناعهما عن تقديم المعونة للسردار كما أوضحنا132. ولا يُستبعد أن يكون القائد المصري قد اتصل في الوقت نفسه بزعماء الإنكشارية في حلب للغاية نفسها أو أن يكون الأمير الشهابي قد فعل مثل ذلك نظراً لعلاقاته الطيبة مع بعضهم. ومن هنا في الأرجح تعيين إبراهيم آغا سياف زاده على حلب حال استيلاء المصريين عليها133. وكان العزيز منذ سقوط عكة وفتح دمشق قد أرسل إلى بر الشام محو بك الكردي ليلتحق بابنه إبراهيم ويستميل أكراد الجزيرة وجنوبي الأناضول134، ففعل فيما يظهر ونجح في مهمته وجاءت وفود أورفة وديار بكر إلى حلب تعلن خضوع هاتين المدينتين وتوابعها لحكم العزيز135.
ورأى «السردار الأكرم» أن يأوي إلى مكان حصين يصمد فيه فانسحب إلى مضيق بيلان عبر جبال الأمانوس التي تفصل بين بر الشام وبين أدنة وتعلو في بعض قممها ألفاً وثمان مئة متر. فشطر قواته شطرين أرسل أحدهما عبر كليس والآخر عن طريق أنطاكية. واتخذ مواقعه على قمم الجبال فاحتشد المشاة فوق هضبة على خط منكسر يصل طرفه الأيمن إلى طريق وعر يخترق الجبل آتياً من خان قرموط ذاهباً إلى بيـلان وطرفه الأيسر إلى الطريق الوسط الواصل إلى بيلان نفسها. وكانت ميسرة هذا الجيش ترابط على امتداد هذا الخط فيما يلي هذا الطريق، ويشد أزرها بعض المدافع المنصوبة على أكمة قريبة من الطريق. وأقـام السردار أمام صفوف المشاة استحكامات نصب فيها المدافع وأمامها الفرسان.
وقام إبراهيم الفاتح من حلب في السادس والعشرين من تموز متابعاً خصمه فأرسل النظاميين من قواته عن طريق كلس وأمر غير النظاميين أن يتوجهوا إلى بيلان عن طريق أنطاكية. ولدى وصوله إلى مضيق بيلان في التاسع والعشرين عسكر في السهل المنبسط تحت المضيق. ثم أنعم النظر في مواقع خصمه فألقاها منيعة يصعب على جيش مرابط في السهل أن ينـال منها منالاً. فاجتمع إلى قواده ومعاونيه وتداول وإياهم الرأي فامتنع عن مهاجمة الترك مواجهة ورأى أن يدور حول ميسرتهم فيحتل بعض الهضاب التي تمكنه من التسلط على قلب الجيش التركي وجعل مشاته هدفا لنيران مدافع مصر. ويرسل في الوقت نفسه بعض قواته للإحاطة بميمنة الجيش التركي.
فأنفذ القائد المصري ألاي الغارديا والألاي الثامن والثامن عشر من المشاة إلى طريق كلس بيلان فساروا إليه واحتشدوا وراء أكمة ووراءهم الفرسان والمدافع ثم أخذوا يتحركون شرقاً باتجاه ميسرة العدو. وقد تولى إبراهيم باشا بنفسه قيادة هذه الحركة لأن عليها المعوّل. وكانت تكتنف هذه الحركة مصاعب جمة لأن المصريين اضطروا أن يسيروا صعداً في طرق وعرة، وما أن لمح الترك تقدمهم حتى صوبوا مدافعهم وأطلقوها عليهم، فأمر إبراهيم بنصب مدافعه وراء الأكمة التي احتشد فيها المشاة وأطلقها على خصمه بين القلب والميسرة. واستمر المصريون في زحفهم شرقاً إلى أن تخطوا ميسرة خصمهم فهاجموه من الأمام ومن الجنب وزحزحوه عن مراكزه فاضطرب واضطر أن يرتد شمالاً وبدأت هزيمته، ووصل المصريون إلى مرتفعات تشرف على مراكز العدو ونصبوا فيها المدافع وصبوا نيرانها على ميسرة الخصم المنسحبة فاشتد اضطرابها وحلت بها خسائر جسيمة. وكان قد تقدم فريق من جنود الألاي الثامن عشر واقتربوا من فرسان الترك أمام قلب الخصم وهاجموهم وقت إحاطة جنود الغارديا والألاي الثامن بالميسرة فسارعوا إلى الارتداد مرتبكين مشتتين. ولما وصل المصريون بميمنتهم إلى طريق بيلان تحرج مركز قلب العدو وأدرك أن خط الرجعة إلى بيلان أصبح مقطوعاً فلم يثبت أمام هجوم المصريين ولاذ بالفرار متشتتاً في الجبال. وكان قد أنفـذ القائد المصري الألاي الثالث عشر من المشاة بقيادة حسن بـك المناستولي تصحبه بطارية من المدافع إلى الطريق الذاهب من أنطاكية إلى بيلان وأردفه بالألاي الخامس احتياطاً، فتقدم هؤلاء ووصلوا إلى أكمة قريبة من أقصى ميمنة عدوهم فلم يصمد الترك هنا بعدما علموا بما أصاب الميسرة. فتخلوا عن مراكزهم وتقهقروا في الجبال. وبذلك انتهت واقعة بيلان بعد قتال دام ثلاث ساعات فقد فيه الترك ألفين وخمس مئة قتيل وجريح وألفين من الأسرى وخمسة وعشرين مدفعاً وكثيراً من الذخيرة136. ولم يعترف المصريون بأكثر من عشرين قتيلاً.
وفرّت فلول الترك إلى الإسكندرونة لتتصل بالأسطول الهمايوني ولكنها لم تدركه، فسار المصريون في أعقابها وأسروا الكثير منها واحتلوا الإسكندرونة وباياس وأنطاكية واللاذقية. واختفى «السردار الأكرم» هائماً على وجهه متنكراً خوفاً من الفضيحة والقصاص، ولكنه لم يتورع عن شرب الشامبانية لدى القنصل مرتينلي في الإسكندرونة ومن جمـع جواهره وإرسالها على ظهر سفينة يونانية إلى طرسوس137.
٦ - مؤخرة الجيش الفاتح: واهتم القائد الفاتح لصيانة مؤخرة جيشه الزاحف فأبعد عن بر الشام جميع عناصر المخالفة. وسلم الأحكام للشهابي الكبير أمير لبنان وأصدقائه وأعوانه فجعل إبراهيم آغا سياف زاده متسلماً في حلب وبطال محمد آغا متسلماً في أنطاكية ورشيد آغا الشرملي متسلماً في حماة ومصطفى آغا متسلماً على طرابلس واللاذقية، وألحق بيروت وصيدا وصور بلبنان فانتدب الشهابي الكبير الأمير ملحم الشهابي لإدارة بيروت والأمير بشير قاسم لإدارة صيدا والأمير حسن الأسعـد لتدبير أمور صور. وأبقي إبراهيم في عكة كاتب ديوانه محمد منيب أفندي وأحاطه بمجلس خاص - مجلس أوردو عكة – مؤلف من الشيخ حسين عبد الهادي والشيخ أحمد عبدالحليم والمعلم يوسف القرداحي والمعلم يوحنا بحري. ورأى القائد الفاتح أن يسرع في إشراك أعيان دمشق في الحكم فأمر بتشكيل مجلس فيها منذ دخوله إليها وطلب إلى الشهابي الكبير أن يعاونه في انتقاء الأعضاء فأبقى هذا المعلم بطرس كرامة مدبر أموره في دمشق خصيصاً لهذه الغاية. وبعد شهر من الزمن صدر أمر القائد بذلك فتشكل المجلس من وجهاء البلدة ليسمع جميع الدعاوى فيحول الشرعية منها إلى قضاء الشرع ويفصل في السياسة باتفاق الآراء ثم يحول قراره النهائي إلى المتسلم لتنفيذه138.
وأبت صيدا أن تخضع لحكم الشهابي الكبير. وتزعم هذه المعارضة فيها القاضي الشيخ محمد يونس وأخوه المفتي. وتظاهر أعوانها بذلك مشهرين السلاح. وشكوا أمرهم إلى محمد منيب أفندي في عكة. ورفع هذا شكواهم إلى إبراهيم باشا فأمر هذا بقصاصهم وطلب إلى الشهابي أن يلقي القبض على القاضي والمفتي وأعوانها ويودعهم السجن ففعل. وأمر بقطع رأس من شهر سلاحه في وجه المتسلم اللبناني الأمير بشير قاسم. فنفذ أمره على باب البلدة139.
٧ - في الأناضول: ولم تنثن عزيمة محمود الثاني أمام الهزائم التي حلَّت بجيوشه في حمص وبيلان. فأعد جيشاً جديداً وعمد بقيادته إلى الصدر الأعظم محمـد رشید باشا رفيق إبراهيم باشا في حرب المورة. وعرض السلطان هذا الجيش الجديد بنفسه لينفخ فيه روح الشجاعة والإقدام ثم دفع به إلى الأناضول. فاضطر العزيز أن يأمر ولده بمتابعة الزحف والقتال، واحتل إبراهيم أورفه وعينتاب ومرعش وقيصرية ثم اجتاز حدود بر الشام الشمالية ودخل أدنة وأقام فيها مدة يرتب أموره ويستعد للزحف على الأناضول. ثم نهض بجيشه فأقصى الأتراك عن كولك بوغاز وجفت خان وأولر قشلاق وأركلي فانفتحت طريق قونية أمامه ومضى في زحفه حتى بلغها فاحتلها بدون نزاع وجعلها قاعدة أمامية لمتابعة أعمال الفتح.
وفي الثامن عشر من شهر كانون الأول سنة ١٨٣٢ وصلت طلائع الجيش الثاني الجديد إلى شمالي قونية. فناوشها إبراهيم باشا واستدرجها للقتال ولكن قائدها رؤوف باشا تجنب الدخول في معركة محددة. وفي العشرين من الشهر نفسه وصل الجيش بأكمله بقيادة الصدر الأعظم. وفي اليوم التالي وقعت الواقعة واشتد وطيسها وكان الضباب كثيفاً ورأى الصدر أن يلم ثلث ميسرته ويبث الحمية في نفوس رجالها فنزل إلى حيث مواقع الجند ولكنه ضل لتكاتف الضباب فوقع في أيدي المصريين أسيراً وكان قد مضى على نشوب القتال نحو الساعتين. وانتهت المعركة بهزيمة الترك وتقهقرهم وانفتحت طريق الآستانة فتقدم القائد الفاتح دون معارضة حتى كوتاهية. وأحب أن يتقدم منهـا إلى بروسة ليخلع السلطان ويملي إرادة العزيز على أخصامه وألحّ في ذلك ولكن والده آثر التريث لتحرج الموقف من الناحية الدولية140.
- ↑ للتبسط في هذا راجع تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر لعبد الرحمن الرافعي جـ ٣ ص ۱۲-٣۹
- ↑ المؤلف نفسه ص ٥٩٣-٥٩٦. اطلب أيضاً تاريخ الجبرني تحت أخبار السنين ۱۲٢۷ (۱۸۱۲) و۱٢۲۹ (۱۸۱۰) و۱۳۳۱ (۱۸۱٦).
- ↑ محمد علي باشا إلى الباب العالي ٧٠ شعبان سنة ١٢٢٥ (۱۸۱۰): المحفوظات الملكية المصرية جـ ١ ص ١
- ↑ المحفوظات أيضاً ج ۱ ص ۲
- ↑ محمد علي باشا إلى الباب العالي ٥ شوال سنة ۱۲۲۸ (۱۸۱۲): المحفوظات أيضاً ج ۱ ص ۱۰
- ↑ ۲۷ شوال سنة ١٢٢٠ (۱۸۱۰): المحفوظات أيضاً ج ۱ ص ۱۳
- ↑ محمد علي باشا إلى الصدر الأعظم غير مؤرخ: المحفوظات نفسها ج۱ ص ۱۲
- ↑ غير مؤرخ: المحفوظات أيضاً ج ١ ص ٥ - ٦
- ↑ محمد علي باشا إلى عبدالله باشا ٥ صفر و۷ جمادی الأولى سنة ١٢٣٩ (۱۸۲۳): المحفوظات أيضاً ج ١ ص ٥۸ و٥۹
- ↑ محمد علي باشا إلى عبدالله باشا ٣ جمادى الآخرة سنة ١٣٦١ (۱۸٢۹): المحفوظات أيضاً ج۱ ص۷۲
- ↑ محمد علي باشا إلى عبدالله باشا غرة شعبان ١٣٦١: المحفوظات أيضاً ج۱ ص۷۲
- ↑ المحفوظات نفسـها ج۱ ص۱۰۱
- ↑ محمد علي باشا إلى محمد رؤوف باشا ٢٢ ربيع الأول سنة ۱۳٨٨ (۱۸۲۸- ۱۸٢۹): المحفوظات كذلك ج ١ ص ١٠٧
- ↑ المحفوظات أيضاً ج۱ ص ۱۰۸-۱۰۹
- ↑ ۳۳ و۲۷ جمادی الأولى سنة ۱٢٣ (١۸۳۷): المحفوظات كذلك ج۱ ص۱۰۰ – ۱۰۱
- ↑ محمد علي باشا إلى محمد نجيب أفندي غرة جمادى الآخرة سنة ١٢٤٤ (۱۸۲۸): المحفوظات نفسها ج۱ ص۱۰۹
- ↑ أحمد خلوصي باشا إلى محمد علي باشا ۳ رجب سنة ۱۲٤٤ (۱۸۲۹): المحفوظات أيضاً ج۱ ص۱۰۹
- ↑ المحفوظات أيضاً ج ٤ ص٢٨٦
- ↑ هي حوادث مشهورة عالجها معظم المؤرخين وأجاد في عرضها إلياس الأيوبي. اطلب كتابه محمد علي ص۲۲ – ۳۰
- ↑ محمد علي باشا إلى محمد نجيب أفندي ١٠ محرم سنة ١٢٧٣ (۱۸٢۷): المحفوظات الملكية المصرية ج۱ ص۹٥
- ↑ تجد النص التركي في كتابنا «أسباب الحملة المصرية على سورية» ص ٥٧ ومعه ترجمته إلى الإنكليزية.
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ۱۹ شعبان سنة ١٣٦٨ (۱۸۳۳): المحفوظات المصرية أيضاً ج ۲ ص ۲۲۰
- ↑ حنا بحري إلى الباشمعاون ۲۲ رمضان سنة ١٣٦٧ (۱۸۳۲): المحفوظات أيضاً ج ١ ص۲۱۹
- ↑ الفن أنطون الحلبي إلى البطريرك يوسف حبيش ٢ كانون الثاني سنة ١٨٣٢: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا – لنا أيضاً - ج۱ ص۹۸
- ↑ ميمو إلى سباستياني في ٣٠ أذار سنة ١٨٣٩: الحرب الشامية الأولى لجورج دوان ج١ ص١٦
- ↑ ميمو إلى سباستياني في ١٠ آب سنة ١٨٣٩: المؤلف نفسه ج١ ص٦٢. أما موقف إبراهيم باشا من العرب والخلافة فإنه له وحده فيما يظهر. اطلب تفاصيل ذلك في كتابنا أسباب الحملة المصرية على سورية ص ۸۳ – ٩٦
- ↑ ميمو إلى سباستياني ٨ آذار سنة ١٨٣١: المؤلف نفسه ج ۱ ص۹ راجع أيضاً كتابنا أسباب الحملة المصرية ص٢٤-٢٥ وفيه من كلام ترجمان عبدالله باشا ما يؤيد هذا الرأي.
- ↑ ميمو إلى سباستياني ١٩ أيار سنة ١٨٣١: المؤلف نفسه ج۱ ص۳۳- ٣٤ راجع أيضاً المحفوظات الملكية المصرية ج٢ ص ٧٤ رقم ١٠٧٦ وكذلك لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج٣ ص۸۳۷: «فارتد عليه جواب أن الدولة أنعمت على إبراهيم باشا في إيالة صيدا وأن طرابلس تابعة صيدا من وقت عبدالله باشا».
- ↑ والإشارة هنا إلى ثورة علي باشاقيه ديلتلي وحرب العرب وثورة البوشناق ومصطفى باشا الإشقودري وداود باشا وغير ذلك. اطلب أخبارها في تواريخ الدولة العثمانية.
- ↑ المحفوظات الملكية المصرية ج١ ص١٦
- ↑ المحفوظات نفسها ج۱ ص۱ و۲ و٤
- ↑ المحفوظات أيضاً ج۱ ص۱۰۲
- ↑ اطلب تفصيل هذا في تاريخ الحركة القومية ونظام الحكم في مصر لعبد الرحمن الرافعي ج ٣ ص ۲۲٥ - ۲۲۹
- ↑ المحفوظات الملكية المصرية ج١ ص ۱۲۳ - ١٢٤
- ↑ المحفوظات الملكية أيضاً ج۱ ص۱۱٥
- ↑ عبدالله باشا إلى محمد علي باشا ١٤ شوال سنة ۱۲٤٥ (۱۸۳٥) عابدين بحر بر ١ محفظة ١٣ رقم ٦٩
- ↑ محمد علي باشا إلى برتو أفندي كتخدا الصدر الأعظم ٢٢ ذي الحجة سنة ١٢٤٦ (۱۸۳۱): المحفوظات الملكية المصرية ج۱ ص۱۲۱
- ↑ أحمد خلوصي باشا إلى محمد علي باشا غير مؤرخ: المحفوظات أيضاً ج۱ ص۱۲۲
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ۲۷ رجب سنة ۱۲٤۷ «۱۸٣۱ - ۱۸۳۲»: المحفوظات نفسها ج ١ ص ١٦٠ - ١٦١
- ↑ المحفوظات ج۱ ص١٢٣-۱۲٤ وقد أشرنا إليها سابقاً. راجع أيضاً رسالة أحمد خلوصي باشا إلى عبدالله باشا ۲ رجب سنة ١٣٦٨ «۱۸۲۹»: المحفوظات نفسها ج۱ ص۱۰۹
- ↑ كادالغان وبارو: الحرب الشامية الأولى ص ٣٤
- ↑ راجع مثلاً بيان عبدالله باشا إلى أرباب الأمر والنهي في القدس ۲۹ جمادى الأولى سنة ١٣٤٧ (۱۸۳۱) في كتابنا الأصول العربية الخ ج١ ص ٦٤-٦٧
- ↑ كادالفان وبارو: المؤلف نفسه ص ٤١
- ↑ ميمو إلى سباستياني ١٩ أيار سنة ١٨٣١: الحرب الشامية الأولى لجورج دوان ج۱ ص ۳۱-٣٢. اطلب أيضاً المحررات الإيطالية السياسية لأنجلو سمارکو ج٨ ص ١٣٥ راجع أيضاً كتابنا أسباب الحملة المصرية ص ۲۸-۳۰
- ↑ ميمو إلى سباستياني: المذكرة نفسها المشار إليها آنفاً.
- ↑ اطلب إنكلترة والفرم للدكتور مارولد تمبرلي فهو أفضل ما صنف في سياسة بريطانية آنئذٍ ص ٥۸-٦۲
- ↑ اطلب التاريخ الحربي لعصر محمد علي الكبير للقائمقام عبد الرحمن زكي ص ٢٥٧ – ٢٧٤ و٣۹۰-۳۹۱
- ↑ راجع رسائل إبراهيم باشا إلى والده في هذه الآونة: المحفوظات الملكية المصرية ج١ ص ۱۲۷-۱۲۸
- ↑ يوحنا بحري إلى الباشمعاون ۱٤ و۱٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٩٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج ١ ص ۱۲۸-۱۲۹
- ↑ راجع رسالتنا عكة وحصونها في عهد إبراهيم باشا. وفيها تفاصيل وافية وأهم المراجع.
- ↑ الجواب على اقتراح الأحباب لميخائيل مشاقة: نسخة جامعة بيروت الأميركية ص ۲۱۳
- ↑ المحفوظات الملكية المصرية ج١ ص ۱۳٥
- ↑ الجواب على اقتراح الأحباب لميخائيل مشاقه ص ۲۲۳
- ↑ أخبار الأعيان لطنوس الشدياق ص ٥٦٧-٥٦٨
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ١٣ رجب سنة ١٣٤٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج١ ص ١٤٠
- ↑ محمد علي باشا إلى الأمير بشير الشهابي: الأصول العربية ج١ ص ۱۰۳-١٠٤
- ↑ يوحنا بحري إلى الباشمعاون ۱٤ و۱٥ جمادى الآخرة سنة ١٣٦٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج ١ ص ۱۲۹. اطلب أيضاً كادالفان وبارو ص ٦٨ - ٦٩
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا - رجب سنة ١٣٨٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج۱ ص ۱۳۷
- ↑ الرسالة نفسها.
- ↑ محمد علي باشا إلى أسعد بك طوقان ١٩ جمادى الآخرة سنة ١٢٦٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج ١ ص ۱۳۱: يرسل إليه كتاب الأمان لأخيه مصطفى بك الذي كان داخل عكة ولرئيس المدفعية فيها.
- ↑ كادالفان وبارو ص ٧٣-٧٥ وصل إبراهيم يكن باشا إلى حيفا في ٢٥ جمادى الآخرة (٢٢ تشرين الثاني) - المحفوظات ج۱ ص ۱۳۲
- ↑ تاريخ حروب محمد علي وابنه البحرية للأميرال دوراتفيل ج٢ ص ٦٣-٦٤
- ↑ ۲۷ رجب ۱۲۷۷ (۱۸۳۲): المحفوظات أيضاً ج۱ ص ١٦١
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ۱۰ شعبان سنة ١٣٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات نفسها ج ١ ص ١٦٧-۱۷۰
- ↑ المحفوظات أيضاً ج۱ ص ١٥۹ و١٦١ و١٦٢
- ↑ يوحنا بحري إلى الباشمعاون ۱۳ رجب سنة ١٢٤٧ (۱۸۳۱ : المحفوظات ج١ ص ١٤١
- ↑ علي نجيب أفندي إلى عبدالله باشا ۱۰ رجب سنة ۱۲۸٧ (۱۸۳۱): المحفوظات أيضاً ج ١ ص ١٤٥-١٤٧. راجع أيضاً الفرمان السلطاني إلى والي طرابلس هذا في المجلد نفسه ص ١٤٧-۱٥۰
- ↑ الأصل نفسه: المحفوظات الملكية المصرية ج١ ص ١٩١-١٩٤
- ↑ ۲۳ شعبان سنة ۱٢٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات أيضاً ج۱ ص ۱۸۱-۱۸۲
- ↑ المحفوظات أيضاً ج۱ ص ۱۷۱
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ۱۹ شعبان سنة ١٧٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات ج۱ ص ۱۷۳ - ١۷۷ وفي أخبار الأعيان لطنوس الشدياق: «وفيها كتب العزيز إلى ابنه أن يقوض إلى الأمير معاطاة أحكام إيالة صيدا وأن يكون تصريف جميع المتسلمين ورجال المقاطعات من يده - ص ٥٦۸
- ↑ أخبار الأعيان أيضاً ص ٥٦٩
- ↑ كادالفان وبارو ص ١٠٦. راجع المحفوظات ج۱ ص ۲۳۱ وفيها أن مجموع الحامية ستة آلاف.
- ↑ كاتب مصطفى آغا بربر إلى يوحنا بحري ١٣ رمضان سنة ١٣٦٧ (۱۸۳۲): المحفوظات ج١ ص ۱۹۸-۲۰۰
- ↑ المحفوظات ج ١ ص ٢٤٨ و٢٥٢-٢٥٣
- ↑ أخبار الأعيان ص ٥۷۰
- ↑ أخبار الأعيان أيضاً ص ٥٦٩-٥٧٠ راجع أيضاً لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ٣ ص ٨٤٠-٨٤٢ والمحفوظات ج ۱ ص ٢٠۳-٢٠٤
- ↑ حنا بحري إلى الباشمعاون ٨ ذي القعدة سنة ١٣٦٧: المحفوظات ج۱ ص ٢٥٢
- ↑ الأصول العربية: إبراهيم باشا إلى الأمير قاسم الشهابي ج ١ ص ۱۲۰ راجع أيضاً المحفوظات الملكية المصرية تقرير يوحنا بحري إلى الباشمعاون ج ۱ ص ۲۷۰-۲۷۳
- ↑ راجع بعض رسائل هؤلاء إلى النكديين وبيت الأعور وبني هلال في المحفوظات الملكية أيضاً ج ١ ص ۲٥۷-٢٦٠
- ↑ أخبار الأعيان لطنوس الشدياق ص ٥۷۱ راجع أيضاً كتابنا مخطوطة القس أنطون الحلبي ج ١ ص ۱۳ و۱٥. اطلب أيضاً المحفوظات الملكية المصرية ج ١ ص ٢٨٤ و٢٨٦
- ↑ تجد تفاصيل هذا كله في أخبار الأعيان أيضاً ص ٥۷۲-٥۷۳
- ↑ المرجع نفسه. ويرى المؤرخان الإفرنسيان المعاصران كادالغان وبارو أن الأمير خليلاً ابن الشهابي الكبير كان يقوي هذه المعارضة ويقول قولها لأن والده كان قد قدم أخاه أميناً عليه فسلمه مقاليد الأمور في أثناء غيابه في عكة. ولكننا لم نقف حتى هذه الساعة على أي مصدر آخر يقول هذا القول ولا نرى في سلوك خليل ما يزيد مثل هذا الاستنتاج. راجع كتابنا المشار إليه آنفاً ص ١٢٥
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱۰۸-۱۰۹
- ↑ محمد علي باشا إلى الباشاوات في حمص ١٢ ذي القعدة سنة ١٢٩٧ (۱۸۳۳) لم يرسل. اطلب المحفوظات ج۱ ص ٢٦١
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱۱٤-۱۲۳
- ↑ البارون دي فارين إلى وزير الخارجية في ١١ أيار سنة ١٨٣٢: الحرب الشامية الأولى لجورج دوان ج۱ ص ۱۸۳-۱۸۹
- ↑ ميمو إلى سباستياني في ٢٩ أيار سنة ١٨٣٣: المؤلف نفسه ج۱ ص ۱۹۹-۲۰۰
- ↑ المؤلف نفسه أيضاً ج ۱ ص ۱۸۳-۱۸۰ و۲۰۰-۲۰۲ راجع كذلك كادالغان وبارو ص١٢٤ - إبراهيم يكن باشا إلى محمد علي باشا ٥ ذي الحجة سنة ١٣٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات ج ١ ص ۲۹۰ اطلب أيضاً تقرير لافيزون قنصل روسية إلى بوتينيف ۱۸ حزيران سنة ١٨٣٧: محمد علي والمحفوظات الروسية لرينه قطاوي ج ۱ ص ٥۰۸-٥۱۰
- ↑ کادالفان وبارو ص ۱۰۳
- ↑ کادالنان وبارو ص ۹۳-۹٥
- ↑ المؤلف نفسه ص ۱۲۷-۱۲۸
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ١٢ ذي الحجة سنة ۱٢٤٧ (۱۸۳۳): المحفوظات ج۱ ص۲۹۷
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ١٨ ذي الحجة سنة ۱٢٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات ج۱ ص ۳۰۲
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ٢٨ ذي القعدة سنة ۱٢٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات أيضاً ج ١ ص ۲۸٥
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ٢٨ ذي القعدة سنة ۱٢٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات أيضاً ج ١ ص ۲٩١
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ١٩ ذي الحجة سنة ۱٢٤٧ (۱۸۳۲): المحفوظات ج۱ ص ٣٠٤
- ↑ إبراهيم يكن باشا إلى محمد علي باشا ١٠ ذي الحجة من السنة نفسها: المحفوظات ج۱ ص۲۹٥
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱۲۸-١٣٦
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ٢٨ ذي الحجة سنة ١٣٤٧ (٣٠ أيار سنة ١٨٣٢): المحفوظات ج۱ ص ٣١٣ - ٣١٤
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱۳۷-۱۳۸
- ↑ المؤلف نفسه ص ۱۳۸-۱۳۹ اطلب أيضاً التاريخ الحربي لمصر محمد علي الكبير للقائممقام عبد الرحمن زكي ٤٠٥-٤٠٦ والأرقام المدروجة تشير إلى الخسارة في الهجوم الأخير فقط.
- ↑ المحفوظات ج۲ ص ۳
- ↑ المصدر نفسه ج۲ ص ۷
- ↑ المصدر نفسه أيضاً ج۲ ص ۹-۱۰
- ↑ المحفوظات أيضاً ج۲ ص ٥ و۱۲ و۱۸
- ↑ المصدر نفسه ج۲ ص ١٤-١٥
- ↑ المصدر نفسه أيضاً ج ۲ ص ۱٥-١٦
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ٤ محرم سنة ١٢٦٨ (حزیران ۱۸۳۲): المحفوظات ج۲ ص ٥
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ١٦ رجب سنة ١٣٦٧ (١٨٣١): المحفوظات ج۱ ص ١٥٣ ومن هؤلاء المشار إليهم في الوثائق الملكية محمد جوربجي أغا ومحمد أغا كيلار أميني وشمدين آغا وحمود آغا حاجي بکرزاده ومصطفى آغا الأورفلي ومحمد آغا أجل يقين.
- ↑ علي نجيب أفندي إلى عبدالله باشا ۱۰ رجب سنة ١٢٩٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج١ ص ١٤٦
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ١٦ رجب سنة ١٢٦٧ (۱۸۳۱): المحفوظات أيضاً ج ١ ص ۱٥۱-۱٥۲
- ↑ يوحنا بحري إلى الباشمعاون ۲۷ جمادى الآخرة سنة ١٢٩٧ (۱۸۳۱): المحفوظات ج ١، ص ۱۳۲ و۱٥٤-۱٥٦
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا ٩ ربيع الآخر سنة ١٢٦٨ (أيلول سنة ١٨٣٢): المحفوظات ج۲ ص ۹٥
- ↑ کادالفان وبارو ص ١٤٩-١٥٠ وأخبار الأعيان لطنوس الشدياق ص ٥٧٤
- ↑ کادالغان وبانو ص ١٤٧
- ↑ المعلم يوسف القرداحي إلى يوحنا بحري فالباشمعاون ۱۳ محرم سنة ١٢٤٨ (۱۸۳۲): المحفوظات ج۲ ص ۱۹
- ↑ مذكرات تاريخية بقلم معاصر حكومي نشرها الجوري قسطنطين الباشا ص ٤٨-٥٨ كذلك كادالغان وبارو ص ۱٥۲-۱٥٥
- ↑ المرجع نفسه ص ٥۸-٥۹
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ٢٦ محرم سنة ١٢٤٨٨ (حزیران ۱۸۳۲): المحفوظات ج ۲ ص ۲۸ و۳۲ و٣۸
- ↑ ۲۱ محرم سنة ۱٢٤٨ (حزيران ۱۸۳٢): المحفوظات ج۲ ص ۲٥
- ↑ غير مؤرخ الأصول العربية ج۲ ص ۱۱-۱۲
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ۲۹ محرم سنة ١٣٦٨ (تموز ١٨٣٢): المحفوظات ج۳ ص ۳۳
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱٥۹-۱۷۳ راجع أيضاً أراء الجنرال ويغان في هذا كله ج٢ ص ٣٤-٣٨ ومعظمه مأخوذ من المصدر الأول
- ↑ الجواب على اقتراح الأحباب لمخائيل مشاقة – نسخة جامعة بيروت - ص ٢٤٠
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱۸۰-۱۸۱ ویغان ج۲ ص ۳۷ عبد الرحمن زكي بك ص ٤١٠-٤١١
- ↑ کادالغان وبارو ص ۱۸۰-۱۸۹ عبد الرحمن زكي بك ٤١١-٤١٥ ميخائيل مشاقه ص ٢٤١
- ↑ الجواب على اقتراح الأحباب ص ٢٤٥-٢٤٦
- ↑ مترجم من أصل ضائع: تقوم النيل في مصر محمد علي باشا لأمين سامي باشا ج۳ ص ٤٠٠
- ↑ الوقائع المصرية: ٢٣ صفر سنة ١٢٤٨ العدد ٤٠٧
- ↑ الوقائع المصرية عدد ٤١١ - ٣ ربيع الأول سنة ١٢٤٨
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا ۱۳ محرم سنة ۱٢٤٨ (۱۸۳٢): المحفوظات ج۲ ص ۱۸
- ↑ الأصول العربية ج۲ ص ۲۲
- ↑ ۱۰ محرم سنة ۱۳٨٨ (۱۸۳۲): المحفوظات ج۲ ص ۱۹
- ↑ کادالغان وبارو ص ۲۰۲
- ↑ کادالغان وبارو ص ۲۰۰-۲۱۳ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي بك ج٣ ص ٢٥٢-٢٥٦
- ↑ کادالغان وبارو ص ۲۱۳-۲۱۸
- ↑ الأصول العربية ج ۲ ص ۱۸-۱۹ و۲۹-۳۰ وتقويم النيل لأمين سامي باشا ج ٢ ص ٤٠١ والمحفوظات الملكية المصرية ج ٢ ص ٣٥ وحروب إبراهيم باشا للقس أنطون الحلبي ج١ ص ٢٤
- ↑ حروب إبراهيم باشا للقس أنطون الحلبي ج ۱ ص ۲۷-۲۸
- ↑ اطلب النص الكامل لرسالتين من إبراهيم إلى والده في هذا الموضوع في كتابنا أسباب الحملة المصرية ص ٥٢-٦٢