تاريخ الطبري/الجزء الرابع
►الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس ◄ |
ثم دخلت سنة ست عشرة
قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة بهر سير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزد جرد بن شهريار.
ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهر سير
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: لما نزل سعد على بهر سير بثّ الخيول، فأغارت على ما بين دجلة إلى عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلّاح، فحسبوا، فأصاب كلّ منهم فلاحا؛ وذلك أنّ كلهم فارس ببهرسير. فخندق لهم، فقال له شيرزاذ دهقان ساباط: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا؛ إنما هؤلاء علوج لأهل فارس لم يجرّوا إليك، فدعهم إلىّ حتى يفرق لكم الرأي. فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم.
وكتب سعد إلى عمر: إنّا وردنا بهر سير بعد الذي لقينا فيما بين القادسيّة وبهر سير، فلم يأتنا أحد لقتال؛ فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام؛ فر رأيك.
فأجابه: إنّ من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فلما جاء الكتاب خلّى عنهم. وراسله الدهاقين، فدعاهم إلى الإسلام والرجوع، أو الجزاء ولهم الذمّة والمنعة، فتراجعوا على الجزاء والمنعة ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، ومن دخل معهم؛ فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادىّ إلّا أمن واغتبط بملك الإسلام. واستقبلوا الخراج؛ وأقاموا على بهر سير شهرين يرمونها بالمجانيق ويدبّون إليهم بالدبّابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه، قال: نزل المسلمون على بهرسير، وعليها خنادقها وحرسها وعدّة الحرب، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاذ المجانيق، فنصب على أهل بهرسير عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فلما نزل سعد على بهرسير، كانت العرب مطيفة بها، والعجم متحصّنة فيها، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في جماعتهم وعدّتهم لقتال المسلمين؛ فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا في رجّالة وناشبة، وتجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم، فكذّبوا وتولوا؛ وكانت على زهرة بن الجويّة درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد! فقال: ولم؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إنّي لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلّه ثم أتاني من هذا الفصم، حتى يثبت في! فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشّابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم؛ فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعوني، فإنّ نفسي معي ما دامت في، لعلّي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد، عن عائشة أمّ المؤمنين، قالت: لما فتح الله عز وجل وقتل رستم وأصحابه بالقادسيّة وفضّت جموعهم، اتّبعهم المسلمون حتى نزلوا المدائن، وقد ارفضّت جموع فارس، ولحقوا بجبالهم، وتفرّقت جماعتهم وفرسانهم، إلّا أنّ الملك مقيم في مدينتهم، معه من بقي من أهل فارس على أمره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بن فلان الهجيمىّ، عن أبيه ومحمد بن عبد الله، عن أنس بن الحليس، قال: بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إنّ الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فبدر الناس أو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو ولا نحن؛ فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفزّر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحقّ ما أدري ما هو؛ إلّا أنّ علىّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير؛ وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد؛ فجاءنا فقال: يا أبا مفزّر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهرّاب؛ فحدثه بمثل حديثه إيّانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم؛ وإنّ مجانيقنا لتخطر عليهم؛ فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلّا رجل نادى بالأمان فآمنّاه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسوّرها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فها شيئا ولا أحدا؛ إلّا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: وايله ألا إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم، تردّ علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك؛ ما هذا إلّا شئ ألقى على في هذا الرجل لننتهي؛ فأرزوا إلى المدينة القصوى.
كتب إلي السري عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما دخل سعد والمسلمون بهرسير أنزل سعد الناس فيها، وتحوّل العسكر إليها، وحاول العبور فوجدوهم قد ضمّوا السفن فيما بين البطائح وتكريت. ولما دخل المسلمون بهرسير - وذلك في جوف الليل - لاح لهم الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر؟! أبيض كسرى؛ هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا. فقال محمد وطلحة: وذلك ليلة نزلوا على بهرسير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن - يعني بهرسير - وهي المدينة الدنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير. قال: ثمّ لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد؛ فدخلوها وما فيها أحد.
حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى
قال سيف: وذلك في صفر سنة ست عشرة، قالوا: ولما نزل سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا؛ طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شئ، ووجدهم قد ضمّوا السفن، فأقاموا ببهرسير أياما من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلّواه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردّد عن ذلك، وفجئهم المدّ، فرأى رؤيا؛ أنّ خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت من المدّ بأمر عظيم؛ فعزم لتأويل رؤياه على العبور؛ وفي سنة جود صيفها متتابع. فجمع سعد الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شئ تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصركم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل. فندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستّمائة من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتة وقف على شاطئ دجلة، وقال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوّكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون؛ منهم أصمّ بنى ولّاد وشرحبيل، في أمثالهم، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكورة، ليكون أساسا لعوم الخيل. ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم، فكان أوّل من فصل من الستين أصمّ التيم، والكلج، وأبو مفزّر، وشرحبيل، وجحل العجلى. ومالك بن كعب الهمدانىّ، وغلام من بنى الحارث بن كعب؛ فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أعدّوا للخيل التي تقدمت سعدا مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فأعاموها إليهم، فلقوا عاصما في السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخّوا العيون؛ فالتقوا فاطّعنوا، وتوخّى المسلمون عيونهم، فولّوا نحو الجدّ، والمسلمون يشمّصون بهم خيلهم. ما يملك رجالها منع ذلك منها شيئا. فلحقوا بهم في الجدّ، فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم خيولهم، حتى انتقضت عن الفراض، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين. ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتلاحق عظم الجند، فركبوا اللجّة، وإنّ دجلة لترمى بالزّبد، وإنها لمسودّة، إنّ الناس ليتحدثون في عومهم وقد اقتربوا ما يكترثون، كما يتحدثون في مسيرهم على الأرض، ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم، فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، ودخلها المسلمون في صفر سنة ست عشرة، واستولوا على ذلك كلّه مما بقى في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف، ومما جمع شيرى ومن بعده. وفي ذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:
وأسلنا على المدائن خيلا ** بحرها مثل برّهنّ أريضا
فانتثلنا خزائن المرء كسرى ** يوم ولّوا وحاص منّا جريضا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: لما أقام سعد على دجلة أتاه علج، فقال: ما يقيمك! لا يأتي عليك ثالثة حتى يذهب يزدجرد بكل شئ في المدائن؛ فذلك مما هيّجه على القيام بالدّعاء إلى العبور.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن رجل، عن أبي عثمان النهدىّ في قيام سعد في الناس في دعائهم إلى العبور بمثله، وقال: طبّقنا دجلة خيلا ورجلا ودوابّ حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، فخرجت بنا خيلنا إليهم تنفض أعرافها، لها صهيل. فلما رأى القوم ذلك انطلقوا لا يلوون على شئ، فانتهينا إلى القصر الأبيض، وفيه قوم قد تحصّنوا، فأشرف بعضهم فكلمنا، فدعوناهم وعرضنا عليهم، فقلنا: ثلاث تختارون منهنّ أيّتهن شئتم، قالوا: ما هنّ؟ قلنا: الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن عطيّة بمثله. قال: والسفير سليمان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، قال: لما هزموهم في الماء وأخرجوهم إلى الفراض، ثم كشفوهم عن الفراض أجلوهم عن الأموال، إلّا ما كانوا تقدّموا فيه - وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف - فبعثوا مع رستم بنصف ذلك، وأقرّوا نصفه في بيوت الأموال.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن أبي بكر بن حفص بين عمر، قال: قال سعد يومئذ وهو واقف قبل أن يقحم الجمهور، وهو ينظر إلى حماة الناس وهو يقاتلون على الفراض: والله أن لو كانت الخرساء - يعني الكتيبة التي كان فيها القعقاع بن عمرو وحمّال بن مالك والرّبيل بن عمرو، فقاتلوا قتال هؤلاء القوم هذه الخيل - لكانت قد أجزأت وأغنت؛ وكتيبة عاصم هي كتيبة الأهوال؛ فشبّه كتيبة الأهوال - لما رأى منهم في الماء والفراض - بكتيبة الخرساء. قال: ثمّ إنهم تنادوا بعد هنات قد اعتوروها عليهم ولهم. فخرجوا حتى لحقوا بهم، فلما استووا على الفراض هم وجميع كتيبة الأهوال بأسرهم، أقتحم سعد الناس - وكان الذي يساير سعدا في الماء سلمان الفارسي - فعامت بهم الخيل، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! والله لينصرنّ الله وليّه، وليظهرنّ الله دينه، وليهزمنّ الله عدوّه؛ إن لم يكن في الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذلّلت لهم والله البحور كما ذلّل لهم البرّ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوه أفواجا. فطبّقوا الماء حتى ما يرى الماء من الشاطئ، ولهم فيه أكثر حديثا منهم في البرّ لو كانوا فيه، فخرجوا منه - كما قال سلمان - لم يفقدوا شيئا، ولم يغرق منهم أحد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار، عن أبي عثمان النهدي، أنهم سلموا من عند آخرهم إلّا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زال عن ظهر فرس له شقراء، كأني أنظر إليها تنفض أعرافها عريا والغرق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرصه إليه، فأخذ بيده فجرّه حتى عبر، فقال البارفىّ - وكان من أشدّ الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع! وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: فما ذهب لهم في الماء يومئذ إلّا قدح كانت علاقته رثّة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيّرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إني لعلى جديلة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين أهل العسكر. فلما عبروا إذا رجل ممن كان يحمى الفراض، قد سفل حتى طلع عليه أوائل الناس، وقد ضربته الرياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرفه، فأخذه صاحبه، وقال للذي كان يعاومه: ألم أقل لك! وصاحبه حليف لقريش من عنز، يدعى مالك بن عامر، والذي قال: طاح يدعى عامر بن مالك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن عمير الصائدي، قال: لما أقحم سعد الناس في دجلة اقترنوا، فكان سلمان قرين سعد إلى جانبه يسايره في الماء، وقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم؛ والماء يطمو بهم، وما يزال فرس يستوي قائما إذا أعيا ينشز له تلعة فيستريح عليها؛ كأنه على الأرض، فلم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، وذلك يوم الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان يوم ركوب دجلة يدعى يوم الجراثيم، لا يعيا أحد إلا أنشزت له جرثومة يريح عليها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بين أبي حازم، قال: خضنا دجلة وهي تطفح، فلما كنّا في أكثرها ماء لم يزل فارس واقف ما يبلغ الماء حزامه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما دخل سعد المدينة الدنيا، وقطع القوم الجسر، وضموا السفن، قال المسلمون: ما تنتظرون بهذه النطفة! فاقتحم رجل، فخاض الناس فما غرق منهم إنسان ولا ذهب لهم متاع، غير أنّ رجلا من المسلمين فقد قدحا له انقطعت علاقته، فرأيته يطفح على الماء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن أحد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى المشركون المسلمين وما يهمون به بعثوا من يمنعهم من العبور، وتحمّلوا فخرجوا هرّابا، وقد أخرج يزدجرد - قبل ذلك وبعد ما فتحت بهرسير - عياله إلى حلوان، فخرج يزدجرد بعد حتى ينزل حلوان، فلحق بعياله، وخلّف مهران الرازي والنّخيرجان - وكان على بيت المال - بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حرّ متاعهم وخفيفة، وما قدروا عليه من بيت المال، وبالنساء والذّرارىّ، وتركوا في الخزائن نم الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان مالا يدري ما قيمته، وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة والأشربة، فكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، ثم الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه إلّا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم، فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمّة، وتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم؛ ليس في ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة في المقدّمات في آثار القوم إلى النهروان، فخرج حتى انتهى إلى النهروان، وسرّح مقدار ذلك في طلبهم من كلّ ناحية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما عبر المسلمون يوم المدائن دجلة، فنظروا إليهم يعبرون، جعلوا يقولون بالفارسيّة: ديوان آمد. وقال بعضهم لبعض: والله ما تقاتلون الإنس وما تقاتلون إلّا الجنّ. فانهزموا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة بن الحارث وعطاء بن السائب، عن أبي البختري، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمّروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثا. قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إيّاهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقّ لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلمو فإخواننا لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإلا الجزية، وإلّا نابذناكم على سواء؛ إنّ الله لا يحب الخائنين. قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا. ولما كان اليوم الثالث في المدائن قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتّخذ الإيوان مصلى، وإنّ فيه لتماثيل جصّ فما حرّكها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، وشاركهم سماك الهجيمي، قالوا: وقد كان الملك سرّب عياله حين أخذت بهرسير إلى حلوان، فلما ركب المسلمون الماء خرجوا هرّابا، وخيلهم على الشاطئ يمنعون المسلمون وخيلهم من العبور، فاقتتلوا هم والمسلمون قتالا شديدا، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن من أحد. فانهزموا واقحمتها الخيول عليهم، وعبر سعد في بقيّة الجيش.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: أدرك أوائل المسلمين أخريات أهل فارس، فأدرك رجل من المسلمين يدعى ثقيفا أحد بنى عدىّ ابن شريف؛ رجلا من أهل فارس، معترضا على طريق من طرقها يحمى أدبار أصحابه، فضرب فرسه على الأقدام عليه، فأحجم ولم يقدم، ثم ضربه للهرب فتقاعس حتى لحقه المسلم، فضرب عنقه وسلبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية وعمرو ودثار أبي عمر، قالوا: كان فارس من فرسان العجم في المدائن يومئذ مما يلي جازر، فقيل له: قد دخلت العرب وهرب أهل فارس؛ فلم يلتفت إلى قولهم، وكان واثقا بنفسه، ومضى حتى دخل بيت أعلاج له، وهم ينقلون ثيابا لهم، قال: ما لكم؟ قالوا: أخرجتنا الزنابير، وغلبتنا على بيوتنا، فدعا بجلاهق وبطين، فجعل يرميهنّ حتى ألزقهنّ بالحيطان، فأفناهنّ. وانتهى إليه الفزع، فقام وأمر علجا فأسرج له، فانقطع حزامه، فشدّه على عجل، وركب، ثم خرج فوقف. ومرّ به رجل فطعنه، وهو يقول: خذها وأنا ابن المخارق! فقتله ثم مضى ما يلتفت إليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان بمثله، وإذا هو ابن المخارق بن شهاب.
قالوا: وأدرك رجل من المسلمين رجلا منهم معه عصابة يتلاومون، ويقولون: من أي شئ فررنا! فرماها لا يخطئ، فلما رأى ذلك عاج عاجوا معه وهو أمامهم؛ فانتهى إلى ذلك الرجل، فرماه من أقرب مما كان يرمى منه الكرة ما يصيبه، حتى وقف عليه الرجل، ففلق هامته، وقال: أنا ابن مشرّط الحجارة. وتفارّ عن الفارسي أصحابه.
وقالوا جميعا؛ محمد والمهلب وطلحة وعمرو وأبو عمر وسعيد، قالوا: ولما دخل سعد المدائن، فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأوثناها قوما آخرين ". وصلّى فيه صلاة الفتح - ولا تصلّى جماعة - فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهنّ، واتخذه مسجدا، وفيه تماثيل الجصّ رجال وخيل، ولم يمتنع ولا المسلمون لذلك، وتركوها على حالها. قالوا: وأتمّ سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أوّل جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن، في صفر سنة ستّ عشرة.
ذكر ما جمع من فيء أهل المدائن
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعقبة وعمرو وأبي عمر وسعيد، قالوا: نزل سعد إيوان كسرى، وقدّم زهرة، وأمره أن يبلغ النهروان. فبعث في كلّ وجه مقدار ذلك لنفي المشركين وجمع الفيوء، ثمّ تحوّل إلى القصر بعد ثالثة، ووكّل بالأقباض عمرو بين عمرو ابن مقرّن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدّور وإحصاء ما يأتيه به الطلب؛ وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كلّ وجه، فما أفلت أحد منهم بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط. وألحّ عليهم الطلب فتنقّذوا ما في أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضمّوه إلى ماقدجمع؛ وكان أوّل شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ومنازل كسرى وسائر دور المدائن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركيّة مملوءة سلالا مختّمة بالرصاص، فما حسبناها إلّا طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة فقسمت بعد بين الناس. وقال حبيب: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه الرفيل بن ميسور، قال: خرج زهرة في المقدّمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان، وهم عليه، فازدحموا، فوقع بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم بالله إنّ لهذا البغل لشأنا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لشئ بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حلية كسرى؛ ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة؛ وترجّل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه، حتى ردّه إلى الأقباض، ما يدرون ما عليه، وارتجز يومئذ زهرة:
فدى لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ** هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي
هم فلجوا بالبغل في الخصام ** بكلّ قطّاع شئون الهام
وصرّعوا الفرس على الآكام ** كأنّهم نعم من الأنعام
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عنت جدّه الكلج، قال: كنت فيمن خرج في الطلب، فإذا أنا ببغّالين قد ردا الخيل عنهما بالنّشاب، فما بقي معهما غير نشّابتين، فألظظت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحميني! فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بها. ثم إني حملت عليهما فقتلتهما وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أبلغتهما صاحب الأقباض، وإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان في الخزائن والدّور، فقال: على رسلك حتى ننظر ما معك! فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا - وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان - وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسّ يحمى الناس؛ فاقتتلا فقتله؛ وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان في أحدهما خمسة أسياف وفي الآخر ستّة أسياف؛ وإذا في العيبتين أدراع، فإذا في الأدراع درع كسرى ومغفره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع خاقان ودرع داهر ودرع بهرام شوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان؛ وكانوا استلبوا ما لم يرثوا، استلبوها أيام غزاتهم خاقان وهرقل وداهر؛ وأمّا النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى، وأما أحد الغلافين ففيه سيف كسرى وهرمز وقباذوفيروز، وإذا السيوف الأخر، سيف هرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان. فجاء به إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفّلها في الخرساء إلّا سيف كسرى والنعمان - ليبعثوا بهما إلى عمر لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما، وحبسوهما في الأخماس - وحلىّ كسرى وتاجه وثيابه؛ ثم بعثوا بذلك إلى عمر ليراه المسلمون، ولتسمع بذلك العرب، وعلى هذا الوجه سلب خالد بن سعيد عمرو بن معد يكرب سيفه الصمصامة في الردة والقوم يستحيون من ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن ردل من بني الحارث بن طريف، عن عصمة بن الحارث الضبىّ، قال: خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا وإذا عليه حمّار، فلما رآني حثّه فلحق بآخر قدّامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرّقا، ورماني أحدهما فألظظت به فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة، على ثفره ولببه الياقوت، والزّمرّد منظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة، عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب ولها شناق - أو زمام - من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت؛ وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتي التاج.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عن أبي عبيدة العنبرىّ، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه؛ فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أنّ للرّجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحموني، ولا غيركم لبقرّظوني، ولكنّي أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أنتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محممد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: قال سعد: والله إنّ الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت: وايم الله - على فضل أهل بدر - لقد تتبّعت من أقوام منهم هنات وهنات فيما أحرزوا، ما أحسبها ولا أسمعها من هؤلاء القوم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله، قال: والله الذي لا إله إلّا هو؛ ما أطّلعنا على أحد من أهل القادسيّة، أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتّهمنا ثلاثة نفر، فما رأينا كالذي هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن الكشوح.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس العجلىّ، عن أبيه، قال: لما قدم بسيف كسرى على عمر ومنطقته وزبرجه، قال: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! فقال علىّ: إنّك عففت فعفّت الرعيّة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: قال عمر حين نظر إلى سلاح كسرى: إن أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة.
ذكر صفة قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن بين أهله
وكانوا فيما زعم سيف ستين ألفا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلّب، قالوا: ولما بعث سعد بعد نزوله المدائن في طب الأعاجم، بلغ الطلب النهروان؛ ثمّ تراجعوا، ومضى المشركون نحو حلوان، فقسّم سعد الفئ بين الناس بعد ما خمّسه؛ فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكلّهم كان فارسا ليس فيهم راجل؛ وكانت الجنائب في المدائن كثيرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبىّ بمثله، وقالوا جميعا: ونفّل من الأخماس ولم يجهدها في أهل البلاء. وقالوا جميعا: قسم سعد دور المدائن بين الناس، وأوطنوها، والذي ولى القبض عمرو بن عمرو المزنىّ، والذي ولى القسم سلمان بن ربيعة؛ وكان فتح المدائن في صفر سنة ستّ عشرة. قالوا: ولما دخل سعد المدائن أتمّ الصلاة وصام، وأمر الناس بإيوان كسرى فجعل مسجدا للأعياد، ونصب فيه منبرا، فكان يصلّى فيه - وفيه التماثيل - ويجمّع فيه، فلما كان الفطر قيل: ابرزوا، فإنّ السنّة في العيدين البراز. فقال سعد: صلّوا فيه؛ قال: فصلّى فيه، وقال: سواء في عقر القرية أو في بطنها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما نزل سعد المدائن، وقسم المنازل، بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جولاء وتكريت والموصل، ثم تحوّلوا إلى الكوفة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب، وشاركهم عمرو وسعيد: وجمع سعد الخمس، وأدخل فيه كلّ شئ أراد أن يعجب منه عمر؛ من ثياب كسرى وجليّه وسيفه ونحو ذلك، وما كان يعجب العرب أن يقع إليهم، ونفّل من الأخماس، وفضل بعد القسم بين الناس وإخراج الخمس القطف، فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل لكم في أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى، فإنا لا نراه يتفق قسمه؛ وهو بيننا قليل؛ وهو يقع من أهل المدينة موقعا! فقالوا: نعم ها الله إذا؛ فبعث به على ذلك الوجه، وكان القطف ستين ذراعا في ستين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب؛ فيه طرق كالصّور وفصوص كالأنهار؛ وخلال ذلك كالدّير، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونوّاره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. فلما قدم على عمر نفّل من الخمس أناسا، وقال: إنّ الأخماس ينفل منها من شهد ومن غاب من أهل البلاء فيما بين الخمسين؛ ولا أرى القوم جهدوا الخمس بالنفل؛ ثم قسم الخمس في مواضعه، ثمّ قال: أشيروا علىّ في هذا القطف! فأجمع ملؤهم على أن قالوا: قد جعلوا ذلك لك، فر رأيك، إلّا ما كان من علىّ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا، ولم يبق إلى التروية؛ إنك إن تقبله على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحقّ به ما ليس له، قال: صدقتني ونصحتني. فقطّعه بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى، ثقل عليهم أن يذهبوا به، وكانوا يعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه؛ فكأنهم في رياض بساط ستين في ستين؛ أرضه بذهب، ووشيه بفصوص، وثمره بجوهر، وورقه بحرير وماء الذهب؛ وكانت العرب تسمّية القطف، فلما قسم سعد فيئهم فضل عنهم، ولم يتّفق قسمته، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن الله قد ملأ أيديكم، وقد عسر قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به نفسا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء؛ ففعلوا. فلما قدم على عمر المدينة رأى رؤيا فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره؛ فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق، فقام علىّ حين رأى عمر يأبى حتّى انتهى إليه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا! إنه ليس لك من الدنيا إلّا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. قال: صدقتني. فقطّعه فقسمه بين الناس، فأصاب علياّ قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا؛ وما هي بأجود تلك القطّع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: وكان الذي ذهب بالأخماس؛ أخماس المدائن، بشير بن الخصاصيّة، والذي ذهب بالفتح خنيس بن فلان الأسدي، والذي ولىّ القبض عمرو، والقمس سلمان. قالوا: ولما قسم البساط بين الناس أكثر الناس في فضل أهل القادسيّة، فقال عمر: أولئك أعيان العرب وغررها، اجتمع لهم مع الأخطار الدين، هم أهل الأيام وأهل القوادس. قالوا: ولما أتى بحلىّ كسرى وزيّه في المباهاة وزيّه في غير ذلك - وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زي - قال: علىّ بمحلّم - وكان أجسم عربي يومئذ بأرض المدينة - فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس؛ فنظر إليه عمر، ونظر إليه الناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك، فألبس زيّه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع، حتى أتى عليها كلها؛ ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك، ثم وضعه ثم قال: والله إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة. ونفّل سيف كسرى محلّما، وقال: أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا! هل يبلغنّ مغرور منها إلّا دون هذا أو مثله! وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيم يضرّه ولا ينفعه! إنّ كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزج امرأته أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلّا حصلت للثلاثة بعده؛ وأحمق بمن جمع لهم أو لعدوّ جارف! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عمر مقدم الأخماس عليه حين نظر إلى سلاح كسرى وثيابه وحليّه، مع ذلك سيف النعمان بن المنذر، فقال لجبير: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! إلى من كنتم تنسبون النعمان؟ فقال جبير: كانت العرب تنسبه إلى الأشلاء، أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص، فقال: خذ سيفه فنفّله إياه، فجهل الناس عجم، وقالوا لخم. وقالوا جميعا: وولّى عمر سعد بن مالك صلاة ما غلب عليه وحربه، فولى ذلك؛ وولّى الخراج النعمان وسويدا ابنى عمرو بن مقرّن؛ سويدا على ما سقى الفرات، والنعمان على ما سقت دجلة، وعقدوا الجسور، ثم ولّى عملهما، واستعفيا حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزنّى، ثم ولّى عملهما بعد حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف.
قال: وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ عشرة - كانت وقعة جلولاء، وكذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وكتب إلىّ السري يذكر أن شعيبا حدثه عن سيف بذلك.
ذكر الخبر عن وقعة جلولاء الوقيعة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: لما أقمنا بالمدائن حين هبطناها واقتسمنا ما فيها، وبعثنا إلى عمر بالأخماس، وأوطنّاها، أتانا الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه؛ وأنّ أهل الموصل قد عسكروا بتكريت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة البجلّى، عن أبيه بمثله؛ وزاد فيه: فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إلى سعد: أن سرّح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثني عشر ألفا، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وعلى ميمنته سعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة، واجعل على ساقته عمرو بن مرّة الجهنىّ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: وكتب عمر إلى عمر إلى سعد: إن هزم الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق؛ فقدّم القعقاع حتى يكون بين السواد وبين الجبل على حدّ سوادكم وشاركهم عمرو وسعيد. قالوا: وكان من حديث أهل جلولاء، أنّ الأعاجم لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء، وافترقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس، تذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرّجال؛ وخلّف فيهم الأموال، فأقاموا في خندقهم، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلّا طرقهم. قال عمرو، عن عامر الشعبىّ: كان أبو بكر لا يستعين في حربه بأحد من أهل الردّة حتى مات، وكان عمر قد استعان بهم؛ فكان لا يؤمّر منهم أحدا إلى على النفر وما دون ذلك؛ وكان لا يعدل أن يؤمّر الصحابة إذا وجد من يجزى عنه في حربه؛ فإن لم يجد ففي التابعين بإحسان؛ ولا يطمع من انبعث في الردّة في الرياسة؛ وكان رؤساء أهل الردّة في تلك الحروب حشوة إلى أن ضرب الإسلام بجرانه.
ثم اشترك عمرو ومحمد والمهلب وطلحة وسعيد، فقالوا: ففصل هاشم ابن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ستّ عشرة، في اثني عشر ألفا؛ منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ وممن لم يرتدّ؛ فسار من المدائن إلى جلولاء أربعا، حتى قدم عليهم، وأحاط بهم، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلّا إذا أرادوا؛ وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا، كلّ ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب، فاتّخذوا حسك الحديد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عقبة بن مكرم، عن بطان بن بشر، قال: لما نزل هاشم على مهران بجلولاء حصرهم في خندقهم، فكانوا يزاحفون المسلمين في زهاء وأهاويل، وجعل هاشم يقوم في الناس، ويقول: إنّ هذا المنزل منزل له ما بعده؛ وجعل سعد يمدّه بالفرسان حتى إذا كان أخيرا احتفلوا للمسلمين؛ فخرجوا عليهم، فقام هاشم في الناس، فقال: أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله. فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق؛ فلم يجدوا بدّا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم؛ تصعد منه خيلهم؛ فأفسدا حصنهم؛ وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه! فلما نهد المسلمون الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا يقدم عليهم الخيل، وتركوا للمجال وجها، فخرجوا على المسلمين منه، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير، إلا أنه كان أكمش وأعجل؛ وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فأقبلوا إليه؛ ولا يمنعنّكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، فحمل المسلمون ولا يشكّون إلا أن هاشما فيه، فلم يقم لحملتهم شئ، حتى انتهوا إلى باب الخندق، فإذا هم بالقعقاع بن عمرو، وقد أخذ به؛ وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم؛ فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين فعقرت دوابّهم، وعادوا رجّالة؛ وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعدّ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت جلولاء بما جللها من قتلاهم؛ فهي جلولاء الوقيعة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفّز، عن أبيه، قال: إني لفي أوائل الجمهور، مدخلهم ساباط ومظلمها، وإني لفي أوائل الجمهور حين عبروا دجلة، ودخلوا المدائن؛ ولقد أصبت بها تمثالا لو قسم في بكر بن وائل لسدّ منهم مسداّ، عليه جوهر، فأدّيته؛ فما لبثنا بالمدائن إلّا قليلا حتى بلغنا أنّ الأعاجم قد جمعت لنا بجلولاء جمعا عظيما، وقدّموا عيالاتهم إلى الجبال، وحبسوا الأموال؛ فبعث إليهم سعد عمرو بن مالك بن عتبة بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وكان جند جلولاء اثنى عشر ألفا من المسلمين، على مقدّمتهم القعقاع بن عمرو، وكان قد خرج فيهم وجوه الناس وفرسانهم؛ فلما مرّوا ببابل مهروذ صالحه دهقانها، على أن يفرش له جريب أرض دراهم؛ ففعل وصالحه. ثم مضى حتى قدم عليهم بجلولاء، فوجدهم قد خندقوا وتحصنوا في خندقهم، ومعهم بيت مالهم، وتواثقوا وتعاهدوا بالنيران ألّا يفرّوا، ونزل المسلمون قريبا منهم، وجعلت الأمداد تقدم على المشركين كلّ يوم من حلوان، وجعل يمدّهم بكلّ من أمدّه من أهل الجبال، واستمدّ المسلمون سعدا فأمدّهم بمائتي فارس، ثم مائتين، ثم مائتين. ولما رأى أهل فارس أمداد المسلمين بادروا بقتال المسلمين. وعلى خيل المسلمين يومئذ طليحة بن فلان، أحد بنى عبد الدار، وعلى خيل الأعاجم خرّ زاذ بن خرّ هرمز - فاقتتلوا قتالا شديدا، لم يقاتلوا المسلمين مثله في موطن من المواطن، حتى أنفذوا النبل؛ وحتى أنفدوا النشّاب، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطّبرزينات. فكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهر؛ ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة وجاءت أخرى فوقفت مكانها، فأقبل القعقاع بن عمرو على الناس، فقال: أهالتكم هذه؟ قالوا: نعم؛ نحن مكلّون وهم مريحون، والكالّ يخاف العجز إلا أن يعقب؛ فقال: إنا حاملون عليهم ومجادّوهم وغير كافّين ولا مقلعين حتى يحكم الله بيننا وبينهم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى تخالطوهم، ولا يكذبنّ أحد منكم. فحمل فانفرجوا، فما نهنه أحد عن باب الخندق، وألبسهم الليل رواقه، فأخذوا يمنة ويسرة؛ وجاء في الأمداد طليحة وقيس بن المكشوح وعمرو بن معد يكرب وحجر بن عدىّ، فوافقوهم قد تحاجزوا مع الليل، ونادى منادى القعقاع بن عمرو: أين تحاجزون وأميركم في الخندق! فتفارّ المشركون، وحمل المسلمون، فأدخل الخندق، فآتى فسطاطا فيه مرافق وثياب؛ وإذا فرش على إنسان فأنبشه، فإذا امرأة كالغزال في حسن الشمس، فأخذتها وثيابها، فأدّيت الثياب، وطلبت في الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أمّ ولد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حماد بن فلان البرجمىّ، عن أبيه، أنّ خارجة بن الصلت أصاب يومئذ ناقة من ذهب أو فضة موشحة بالدرّ والياقوت مثل الجفرة إذا وضعت على الأرض، وإذا عليها رجل من ذهب موشّح كذلك، فجاء بها وبه حتّى أدّاهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد والوليد بن عبد الله والمجالد وعقبة بن مكرم، قالوا: وأمر هاشم القعقاع بن عمرو بالطلب، فطلبهم حتى بلغ خانقين، ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبال، وقدم القعقاع حلوان، وذلك أنّ عمر كان كتب إلى سعد: إن هزم الله الجندين؛ جند مهران وجند الأنطاق، فقدّم القعقاع؛ حتى يكون بين السواد والجبل، على حدّ سوادكم. فنزل القعقاع بحلوان في جند من الأفناء ومن الحمراء، فلم يزل بها إلى أن تحوّل الناس من المدائن إلى الكوفة؛ فلما خرج سعد من المدائن إلى الكوفة لحق به القعقاع؛ واستعمل على الثغر قباذ - وكان من الحمراء، وأصله من خراسان - ونفّل منها من شهدها، وبعض من كان بالمدائن نائيا.
وقالوا - واشتركوا في ذلك: وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان واستأذنوه في إتباعهم، فأبى، وقال: لوددت أنّ بين السواد وبين الجبل سداّ لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم؛ حسبنا من الريف السواد، إنىّ آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. قالوا: ولما بعث هاشم القعقاع في آثار القوم، أدرك مهران بخانقين، فقتله وأدرك الفيرزان فنزل، وتوقّل في الظراب، وخلّى فرسه، وأصاب القعقاع سبايا، فبعث بهم إلى هاشم من سباياهم، واقتسموهم فيما اقتسموا من الفئ، فاتّخذن، فولدن في المسلمين. وذلك السبي ينسب إلى جلولاء، فيقال: سبي جلولاء. ومن ذلك السبي أم الشعبي، وقعت لرجل من بني عبس، فولدت فمات عنها فخلف عليها شراحيل، فولدت له عامرا، ونشأ في بني عبس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: واقتسم في جلولاء على كلّ فارس تسعة آلاف، تسعة آلاف؛ وتسعة من الدواب، ورجع هاشم بالأخماس إلى سعد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: أفاء الله على المسلمين ما كان في عسكرهم بحلولاء وما كان عليهم، وكلّ دابة كانت معهم إلّا اليسير لم يفلتوا بشئ من الأموال، وولى قسم ذلك بين المسلمين سلمان بن ربيعة؛ فكانت إليه يومئذ الأقباض والأقسام، وكانت العرب تسمّيه لذلك سلمان الخيل؛ وذلك أنه كان يقسم لها ويقصّر بما دونها، وكانت العتاق عنده ثلاث طبقات، وبلغ سهم الفارس بجلولاء مثل سهمه بالمدائن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وعمرو، عن الشعبي، قال: اقتسم الناس فئ جلولاء على ثلاثين ألف ألف، وكان الخمس ستة آلاف ألف.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والمهلب وسعيد، قالوا: ونفّل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها ومن أعظم البلاء ممن كان نائيا بالمدائن، وبعث بالأخماس مع قضاعىّ ابن عمرو الدؤلي من الأذهاب والأوراق والآنية والثياب، وبعث بالسبي مع أبي مفزّر الأسود، فمضيا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زهرة ومحمد بن عمرو، قالا: بعث الأخماس مع قضامىّ وأبى مفزّر، والحساب مع زياد ابن أبى سفيان، وكان الذي يكتب للناس ويدوّنهم، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء له، ووصف له، فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك! فقام بالناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما تستأذنون فيه من الانسياح في البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال: إنّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زهرة ومحمد، عن أبي سلمة، قال: لما قدم على عمر بالأخماس من جلولاء، قال عمر: والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عن جلابيبه - وهي الأنطاع - فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال: عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلّا ألقي بأسهم بينهم. وأشكل على عمر في أخماس القادسيّة حتى خطر عليه ما أفا الله - يعني من الخمس - فوضع ذلك في أهله، فأجرى خمس جلولاء مجرى خمس القادسيّة عن ملإ وتشاور وإجماع من المسلمين، ونفّل من ذلك بعض أهل المدينة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وسعيد وعمرو، قالوا: وجمع سعد من وراء المدائن، وأمر بالإحصاء فوجدهم بضعة وثلاثين ومائة ألف، ووجدهم بضعة وثلاثين ألف أهل بيت، ووجد قسمتهم ثلاثة لكلّ رجل منهم بأهلهم؛ فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن أقرّ الفلاحين على حالهم؛ إلّا من حارب أو هرب منك إلى عدوّك فأدركته، وأجر لهم ما أجريت للفلاحين قبلهم؛ وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم. فكتب إليه سعد فيمن لم يكن فلاحا فأجابه: أما من سوى الفلّاحين فذاك إليكم ما لم تغنموه - يعني تقتسموه - ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلّاها فهي لكم؛ فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذّمة؛ وإن لم تدعوهم ففئ لكم لمن أفاء الله ذلك عليه. وكان أحظى بفئ الأرض أهل جلولاء؛ استأثروا بفئ ما وراء النهروان، وشاركوا الناس فيما كان قبل ذلك، فأقرّوا الفلاحين ودعوا من لجّ، ووضعوا الخراج على الفلاحين وعلى من رجع وقبل الذمة، واستصفوا ما كان لآل كسرى ومن لجّ معهم فيئا لمن أفاء الله عليه، لا يجاز بيع شئ من ذلك فيما بين الجبل إلى الجبل من أرض العرب إلّا من أهله الذين أفاء الله عليهم، ولم يجيزوا بيع ذلك فيما بين الناس - يعني فيمن لم يفئه الله تعالى عليه ممن يعاملهم من لم يفئه الله عز وجل عليه - فأقرّه المسلمون؛ لم يقتمسوه؛ لأن قسمته لم تتأتّ لهم؛ فمن ذلك الآجام ومغيض المياه وما كان لمن قتل، والأرحاء؛ فكان بعض من يرقّ يسأل الولاة قسم ذلك؛ فيمنعهم من ذلك الجمهور، أبوا ذلك، فانتهوا إلى رأيهم ولم يجيبوا، وقالوا: لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا؛ ولو كان طلب ذلك منهم عن ملإ لقسمها بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن ماهان، قال: لم يثبت أحد من أهل السواد على العهد فيما بينهم وبين أهل الأيام إلّا أهل قريات، أخذوها عنوة، كلهم نكث؛ ما خلا أولئك القريات، فلما دعوا إلى الرجوع صاروا ذمّة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، إلا ما كان لآل كسرى ومن معهم، فإنه صافية فيما بين حلوان والعراق؛ وكان عمر قد رضى بالسّواد من الريف.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كتبوا إلى عمر في الصوافى، فكتب إليهم: أن اعمدوا إلى الصوافى التي أصفاكموها الله، فوزّعوها على من أفاءها الله عليه؛ أربعة أخماس للجند، وخمس في مواضعه إلىّ، وإن أحبّوا أن ينزلوها فهو الذي لهم. فلما جعل ذلك إليهم رأوا ألّا يفترقوا في بلاد العجم، وأقرّوها حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه، ثم يقتسمونها في كلّ عام، ولا يولونها إلا من أجمعوا عليه بالرّضا، وكانوا لا يجمعون إلّا على الأمراء، كانوا بذلك في المدائن؛ وفي الكوفة حين تحوّلوا إلى الكوفة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: كتب عمر: أن احتازوا فيئكم فإنكم إن لم تفعلوا فتقادم الأمر يلحج؛ وقد قضيت الذي علىّ. اللهمّ إنّي أشهدك عليهم فاشهد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله، عن أبيه، قال: فكان الفلّاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدّلالة مع الجزاء عن أيديهم على قدر طاقتهم؛ وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين، وكانت الضيافة لمن أفاءها الله خاصّة ميراثا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت بنحو منه، وقالوا جميعا: كان فتح جلولاء في ذي القعدة سنة ستّ عشرة في أولها، بينها وبين المدائن تسعة أشهر. وقالوا جميعا: كان صلح عمر الذي صالح عليه أهل الذمة؛ أنهم إن غشّوا المسلمين لعدوّهم برئت منهم الذمة، وإن سبّوا مسلما أن ينهكوا عقوبة، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا؛ وعلى عمر منعتهم؛ وبرئ عمر إلى كلّ ذي عهد من معرّة الجيوش.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله والمستنير، عن إبراهيم بمثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان أشفى أهل فارس بجلولاء أهل الرى؛ كانوا بها حماة أهل فارس ففنى أهل الرى يوم جلولاء. وقالوا جميعا: ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم، وصار السواد ذمة لهم إلا ما أصفاهم الله به من مال الأكاسرة، ومن لجّ معهم. وقالوا جميعا: ولما بلغ أهل فارس قول عمر ورأيه في السواد وما خلفه، قالوا: ونحن نرضى بمثل الذي رضوا به، لا يرضى أكراد كلّ بلد أن ينالوا من ريفهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد وحكيم بن عمير، عن إبراهيم بن يزيد، قال: لا يحلّ اشتراء أرض فيما بين حلوان والقادسيّة؛ والقادسيّة من الصوافى، لأنه لمن أفاءه الله عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي مثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن المغيرة بن شبل، قال: اشترى جرير من أرض السواد صافية على شاطئ الفرات، فأتى عمر فأخبره، فردّ ذلك الشراء وكرهه، ونهى عن شراء شئ لم يقتسمه أهله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، قال: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكلّ أرض إلّا بعض القلاع والحصون؛ فإن بعضهم صالح وبعضهم غلب، قلت: فهل لأهل السواد ذمّة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمّة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد إلّا بني صلوبا وأهل الحيرة وأهل كلواذى وقرى من قرى الفرات، ثم غدروا، ثم دعوا إلى الذمّة بعد ما غدروا. وقال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء:
يوم جلولاء ويوم رستم ** ويوم زحف الكوفة المقدّم
ويوم عرض النهر المحرّم ** من بين أيّام خلون صرّم
شيّبن أصداغى فهنّ هرّم ** مثل ثغام البلد المحرّم
وقال أبو بجيذ في ذلك:
ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت ** كتائبنا تردى بأسد عوابس
ففضّت جموع الفرس ثمّ أنمتهم ** فتبا لأجساد المجوس النجائس!
وأفلتهنّ الفيرزان بجرعة ** ومهران أردت يوم حزّ القوانس
أقاموا بدار للمنّية موعد ** وللتّرب تحثوها خجوج الروامس
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب ومرو وسعيد، قالوا: وقد كان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد: إن فتح الله عليكم جلولاء فسرّح القعقاع بن عمرو في آثار القوم حتى ينزل بحلوان، فيكون ردءا للمسلمين ويحرز الله لكم سوادكم. فلما هزم الله عز وجل أهل جلولاء، أقام هاشم بن عتبة بجلولاء، وخرج القعقاع بن عمرو في آثار القوم إلى خانقين في جند من أفناء الناس ومن الحمراء، فأدرك سبيا من سبيهم؛ وقتل مقاتلة من أدرك، وقتل مهران وأفلت الفيرزان؛ فلما بلغ يزدجرد هزيمة أهل جلولاء ومصاب مهران، خرج من حلوان سائرا نحو الري، وخلف بحلوان خيلا عليها خسروشنوم؛ وأقبل القعقاع حتى إذا كان بقصر شيرين على رأس فرسخ من حلوان خرج إليه خسروشنوم، وقدم الزينبي دهقان حلوان، فلقيه القعقاع فاقتتلوا فقتل الزينبي، واحتقّ فيه عميرة بن طارق وعبد الله، فجعله وسلبه بينهما، فعدّ عميرة ذلك حقرة وهرب خسروشنوم، واستولى المسلمون على حلوان وأنزلها القعقاع الحمراء، وولّى عليهم قباذ، ولم يزل القعقاع هنالك على الثغر والجزاء بعد ما دعاهم، فتراجعوا وأقرّوا بالجزاء إلى أن تحوّل سعد من المدائن إلى الكوفة، فلحق به، واستخلف قباذ على الثغر، وكان أصله خراسانياّ.
ذكر فتح تكريت
وكان في هذه السنة - أعني سنة عشرة في رواية سيف - فتح تكريت، وذلك في جمادى منها.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والملهب وسعيد، وشاركهم الوليد بن عبد الله بن أبي طيبة، قالوا: كتب سعد في اجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقاله حتى نزلت بتكريت، وخندق فيه عليه ليحمى أرضه، وفي اجتماع أهل جلولاء على مهران معه؛ فكتب في جلولاء ما قد فرغنا منه، وكتب في تكريت واجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق بها: أن سرّح إلى الأنطاق عبد الله بن المعتمّ، واستعمل على مقدّمته ربعىّ ابن الأفكل العنزىّ، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلىّ، وعلى ميسرته فرات بن حيّان العجلىّ، وعلى ساقته هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة؛ ففصل عبد الله بن المعتمّ في خمسة آلاف من المدائن، فسار إلى تكريت أربعا؛ حتى نزل على الأنطاق؛ ومعه الروم وإياد وتغلب النمر ومعه الشهارجة وقد خندقوا بها، فحصرهم أربعين يوما، فتزاحفوا فيها أربعة وعشرين زحفا؛ وكانوا أهون شركة، وأسرع أمرا من أهل جلولاء، ووكّل عبد الله بن المعتمّ بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم؛ فهم لا يخفون عليه شيئا؛ ولما رأت الروم أنهم لا يخرجون خرجة إلّا كانت عليهم، ويهزمون في كلّ ما زاحفوهم؛ تركوا أمراءهم، ونقلوا متاعهم إلى السفن، وأقبلت العيون من تغلب وإياد والنّمر إلى عبد الله بن المعتمّ بالخبر، وسألوه للعرب السلم، وأخبروه أنهم قد استجابوا له؛ فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين بذلك فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقرّوا بما جاء به من عند الله؛ ثم أعلمونا رأيكم. فرجعوا إليهم بذلك، فردّوهم إليه بالإسلام؛ فردّهم إليهم، وقال: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التي تلينا لندخل عليهم منها، فخذوا بالأبواب التي تلي دجلة، وكبّروا واقتلوا من قدرت عليه؛ فانطلقوا حتى تواطئوهم على ذلك. ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبّروا، وكبّرت تغلب وإياد والنّمر؛ وقد أخذوا بالأبواب، فحسب القوم أنّ المسلمين قد أتوهم من خلفهم، فدخلوا عليهم مما يلي دجلة، فبادروا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم السيوف؛ سيوف المسلمين مستقبلتهم، وسيرف الربعيّين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم؛ فلم يفلت من أهل الخندق إلّا من أسلم من تغلب وإياد والنّمر. وقد كان عمر عهد إلى سعد؛ إن هم هزموا أن يأمر عبد الله بن المعتمّ ابن الأفكل العنزي إلى الحصنين؛ فسّرح عبد الله بن المعتمّ ابن الأفكل العنزي إلى الحصنين، فأخذ بالطريق، وقال: اسبق الخبر، وسر ما دون القيل، وأحى الليل. وسرّح معه تغلب وإياد والنّمر، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل؛ أحد بنى جشم بن سعد وذو القرط وأبو وداعة بن أبي كرب وابن ذي السنينة قتيل الكلاب وبان الحجير الإيادي وبشر بن أبي حوط متساندين، فسبقوا الخبر إلى الحصنين. ولما كانوا منها قريبا قدّموا عتبة ابن الوعل فادّعى بالظفر والنّفل والقفل، ثم ذو القرط، ثم ابن ذي السنينة، ثم ابن الحجير، ثمّ بشر؛ ووقفوا بالأبواب، وقد أخذوا بها، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعىّ بن الأفكل حتى اقتحمت عليهم الحصنين، فكانت إيّاها، فنادوا بالإجابة إلى الصلح، فأقام من استجاب، وهرب من لم يستجب، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتمّ، فلما نزل عليهم عبد الله دعا من لجّ وذهب، ووفّى لمن أقام، فتراجع الهرّاب واغتبط المقيم، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة، واقتسموا في تكريت على كلّ سهم ألف درهم، للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيّان، وبالفتح مع الحارث بن حسان وولى حرب الموصل ربعىّ بن الأفكل، والخراج عرفجة ابن هرثمة.
ذكر فتح ماسبذان
وفي هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - كان فتح ماسبذان أيضا.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والملهب وعمرو وسعيد قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا، فخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدّمته ابن الهذيل الأسدىّ، وعلى مجنّبتيه عبد الله بن وهب الراسبي حليف بجيلة، والمضارب بن فلان العجلىّ؛ فخرج ضرار بن الخطاب، وهو أحد بنى محارب بن فهر في الجند، وقدّم ابن الهذيل حتى انتهى إلى سهل ماسبذان، فالتقوا بمكان يدعى بهندف، فاقتتلوا بها، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين سلما، فأسره فانهزم عنه جيشه فقدّمه فضرب عنقه. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان فأخذ ماسبذان عنوة فتطاير أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه، فنزل الكوفة استخلف ابن الهذيل على ماسبذان فكانت إحدى فروج الكوفة.
ذكر وقعة قرقيسياء
وفيها كانت وقعة قرقيسياء في رجب.
ذكر الخبر عن الوقعة بها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة عن جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة، فأمدّوا هرقل على أهل حمص، وبعثوا جندا إلى أهل هيت، وكتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند، وابعث على مقدّمته الحارث بن يزيد العامري، وعلى مجنّبتيه ربعىّ بن عامر ومالك ابن حبيب، فخرج عمر بن مالك في جنده سائرا نحو هيت، وقدّم الحارث ابن يزيد حتى نزل على من بهيت، وقد خندقوا عليهم. فلما رأى عمر ابن مالك امتناع القوم بخندقهم واعتصامهم به، استطال ذلك، فترك الأخبية على حالها وخلّف عليهم الحارث بن يزيد محاصرهم، وخرج في نصف الناس يعارض الطريق حتى يجئ قرقيسياء في عرّة، فأخذها عنوة، فأجابوا إلى الجزاء، وكتب إلى الحارث بن يزيد إن هم استجابوا فخلّ عنهم فليخرجوا، وإلّا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه ممّا يليك حتى أرى من رأي. فسمحوا بالاستجابة، وانضمّ الجند إلى عمر والأعاجم إلى أهل بلادهم.
أخبار متفرقة
وقال الواقدي: وفي هذه السنة غرّب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع.
قال: وفيها تزوّج ابن عمر صفيّة بنت أبي عبيدة.
قال: وفيها ماتت مارية أمّ ولد رسول الله ﷺ، أمّ إبراهيم، وصلّى عليها عمر، وقبرها بالبقيع، في المحرّم.
قال: وفيها كتب التأريخ في شهر ربيع الأول.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن المسيّب، قال: أوّل من كتب التأريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لستّ عشرة من الهجرة بمشورة علي بن أبي طالب.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم ابن حمّاد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم من أي يوم نكتب؟ فقال علىّ: من يوم هاجر رسول الله ﷺ، وترك أرض الشرك. ففعله عمر.
وحدثني عبد الرحمن، قال: حدثني يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله ﷺ المدينة. وفيها ولد عبد الله بن الزبير.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب، واستخلف على المدينة فيما زعم الواقدي - زيد بن ثابت. وكان عامل عمر في هذه السنة على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى ابن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشأم كلها أبو عبيدة بن الجرّاح، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها المغيرة بن شعبة، وعلى حرب الموصل ربعىّ بن الأفكل، وعلى الخراج بها عرفجة بن هرثمة في قول بعضهم، وفي قول آخرين عتبة بن فرقد على الحرب والخراج - وقبل ذلك كلّه كان إلى عبد الله بن المعتمّ - وعلى الجزيرة عياض بن عمرو الأشعري.
ثم دخلت سنة سبع عشرة
ففيها اختطّت الكوفة، وتحولّ سعد بالناس من المدائن إليها في قول سيف بن عمر وروايته.
ذكر سبب تحول من تحول من المسلمين من المدائن إلى الكوفة وسبب اختطاطهم الكوفة في رواية سيف
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما جاء فتح جلولاء وحلوان ونزول القعقاع بن عمرو بحلوان فيمن معه، وجاء فتح تكريت والحصنين، ونزول عبد الله بن المعتمّ وابن الأفكل الحصنين فيمن معه؛ وقدمت الوفود بذلك على عمر، فلمّا رآهم عمر قال: والله ما هيئتكم بالهيئة التي أبدأتم بها؛ ولقد قدمت وفودالقادسيّة والمدائن وإنهم لكما أبدءوا، ولقد انتكيّم فما غيّركم؟ قالوا: وخومة البلاد. فنظر في حوائجهم، وعجل سراحهم؛ وكان في وفود عبد الله بن المعتمّ عتبة بن الوعل، وذو القرط، وابن ذي السنينة، وابن الحجير وبشر، فعاقدوا عمر على بنى تغلب، فعقد لهم؛ على أنّ من أسلم منهم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزاء؛ وإنما الإجبار من العرب على من كان في جزيرة العرب. فقالوا: إذا يهربون وينقطعون فيصيرون عجما؛ فأمر أجمل الصدقة؛ فقال: ليس إلّا الجزاء، فقالوا: تجعل جزيتهم مثل صدقة المسلم، فهو مجهودهم، ففعل على ألّا ينصّروا وليدا ممن أسلم آباؤهم، فقالوا: لك ذلك، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمريّين والأدياديّين إلى سعد بالمدائن وخطّوا معه بعد بالكوفة، وأقام من أقام في بلاده على ما أخذوا لهم على عمر مسلمهم وذميّهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: كتب حذيفة إلى عمر: إنّ العرب قد أترفت بطونها، وخفّت أعضادها، وتغيّرت ألوانها. وحذيفة يومئذ مع سعد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأصحابهما، قالوا: كتب عمر إلى سعد: أنبئني ما الذي غيّر ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إنّ العرب خدّدهم وكفى ألوانهم وخومة المدائن ودجلة؛ فكتب إليه: إن العرب لا يوافقها إلّا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان رائدا وحذيفة - وكانا رائدي الجيش - فليرتادا منزلا برّيّا بحريّا، ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شئ إلا وقد أسنده إلى رجل، فبعث سعد حذيفة وسلمان، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئا، حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة، والكوفة على حصباء - وكلّ رملة حمراء يقال لها سلهة، وكلّ حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة - فأتيا عليها، وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليّا، وقال كلّ واحد منهما: اللهمّ ربّ السماء وما أظلّت، وربّ الأرض وما أقلت، والريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلّت، والخصائص وما أجنّت؛ بارك لنا في هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات. وكتب إلى سعد بالخبر.
حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان، قال: حدثنا أميّة بن خالد، قال: حدثنا أو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: لما هم الناس يوم جلولاء، رجع سعد بالناس، فلمّا قدم عمار خرج بالناس إلى المدائن فاجتووها؛ قال عمّار: هل تصلح بها الإبل؟ قالوا: لا؛ إنّ بها البعوض، قال: قال عمر: إنّ العرب لا تصلح بأرض لا تصلح بها الإبل. قال: فخرج عمار بالناس حتى نزل الكوفة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس، عن أبيه، عن النسير بن ثور، قال: ولما اجتوى المسلمون المدائن بعد ما نزلناها وآذاهم الغبار والذّباب، وكتب إلى سعد في بعثه روّادا يرتادون منزلا بريّا بحريّا، فإن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح البعير والشاة؛ سأل من قبله عن هذه الصفة فيما بينهم، فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب باللّسان - وظهر الكوفة يقال له اللسان، وهو فيما بين النهرين إلى العين، عين بنى الحذاء، كانت العرب تقول: أدلع البرّ لسانه في الريف، فما كان يلي الفرات منه فهو الملطاط، وما كان يلي الطين منه فهو النجاف - فكتب إلى سعد يأمره به:
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: ولما قدم سلمان وحذيفة على سعد، وأخبراه عن الكوفة، وقدم كتاب عمر بالذي ذكرا له، كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو: أن خلّف على الناس بجلولاء قباذ فيمن تبعكم إلى من كان معه من الحمراء. ففعل وجاء حتى قدم على سعد في جنده، وكتب سعد إلى عبد الله بن المعتمّ: أن خلّف على الموصل مسلم بن عبد الله الذي كان أسر أيام القادسيّة فيمن استجاب لكم من الأساورة، ومن كان معكم منهم. ففعل، وجاء حتى قدم على سعد في جنده، فارتحل سعد بالناس من المدائن حتى عسكر بالكوفة في المحرّم سنة سبع عشرة. وكان بين وقعة المدائن ونزول الكوفة سنة وشهران، وكان بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر؛ اختطّت سنة أربع من إمارة عمر في المحرّم سنة سبع عشرة من التأريخ، وأعطوا العطايا بالمدائن في المحرّم من هذه السنة قبل أن يرتحلوا. وفي بهرسير، في المحرّم سنة ستّ عشرة، واستقرّ بأهل البصرة منزلهم اليوم بعد ثلاث نزلات قبلها، كلها ارتحلوا عنها في المحرّم سنة سبع عشرة، واستقرّ باقي قرارهما اليوم في شهر واحد.
وقال الواقدي: سمعت القاسم بن معن يقول: نزل الناس الكوفة في آخر سنة سبع عشرة.
قال: وحدثني ابن أبي الرقاد، عن أبيه، قال: نزلوها حين دخلت سنة ثماني عشرة، في أوّل السنة.
رجع الحديث إلى حديث سيف. قالوا: وكتب عمر إلى سعد بن مالك وإلى عتبة بن غزوان أن يتربّعا بالناس في كلّ حين ربيع في أطيب أرضهم، وأمر لهم بمعاونهم في الربيع من كلّ سنة، وبإعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشعرى في كلّ سنة؛ وذلك عند إدراك الغلّات، وأخذوا قبل نزول الكوفة عطاءين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس، عن رجل من بني أسد يدعى المغرور، قال: لما نزل سعد الكوفة، كتب إلى عمر: إنىّ قد نزلت بكوفة منزلا بين الحيرة والفرات برّيا بحريا، ينبت الحلّى والنّصىّ، وخيّرت المسلمين بالمدائن، فمن أعجبه المقام فيها تركته فيها كالمسلحة. فبقى أقوام من الأفناء، وأكثرهم بنو عبس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلب، قالوا: ولما نزل أهل الكوفة الكوفة، واستقرّت بأهل البصرة الدار، عرف القوم أنفسهم، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا. ثمّ إنّ أهل الكوفة استأذنوا في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة، فقال عمر: العسكر أجدّ لحربكم وأذكى لكم، وما أحبّ أن أخالفكم، وما القصب؟ قالوا: العكرش إذا روى قصّب فصار قصبا، قال: فشأنكم؛ فابتنى أهل المصرين بالقصب.
ثم إنّ الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة، وكان أشدّهما حريقا الكوفة، فاحترق ثمانون عريشا، ولم يبق فيها قصبة في شوّال، فما زال الناس يذكرون ذلك. فبعث سعد منهم نفرا إلى عمر يستأذنون في البناء باللبن، فقدموا عليه بالخبر عن الحريق، وما بلغ منهم - وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلّا وآمروه فيه - فقال: افعلوا؛ ولا يزيدنّ أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنّة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك. وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك؛ وعلى تنزيل أهل الكوفة أو الهيّاج بن مالك، وعلى تنزيل أهل البصرة عاصم ابن الدلف أبو الجرباء.
قال: وعهد عمر إلى الوقد وتقدّم إلى الناس إلّا يفعوا بنيانا فوق القدر.
قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقرّبكم من السرف، ولا يخرجكم من القصد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما أجمعوا على أن يضعوا بنيان الكوفة، أرسل سعد إلى أبي الهيّاج فأخبره بكتاب عمر في الطرق، أنه أمر بالمناهج أربعين ذراعا، وما يليها ثلاثين ذراعا، وما بين ذلك عشرين، وبالأزّفة سبع أذرع، ليس دون ذلك شئ، وفي القطائع ستين ذراعا إلّا الذي لبنى ضبّة. فاجتمع أهل الرأى للتقدير؛ حتى إذا أقاموا على شئ قسّم أبو الهيّاج عليه؛ فأوّل شئ خطّ بالكوفة وبنى حين عزموا على البناء المسجد، فوضع في موضع أصحاب الصابون والتّمارين من السوق، فاختطوه، ثم قام رجل في وسطه، رام شديد النزع، فرمى عن يمينه فأمر من شاء أن يبنى وراء موقع السهمين. فترك المسجد في مرّبعة غلوة من كلّ جوانبه، وبنى ظلّة في مقدمه، ليست لها مجنّبات ولا مواخير، والمربعة لاجتماع الناس لئلا يزدحموا - وكذلك كامن المساجد ما خلا المسجد الحرام، فكانوا لا يشبّهون به المساجد تعظيما لحرمته، وكانت ظلّته مائتى ذراع على أساطين رخام كانت للأكاسرة، سماؤها كأسمية الكنائس الرومية، وأعلموا على الصحن بخندق لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله بينهما طريق منقب مائتى ذراع، وجعل فيها بيوت الأموال، وهي قصر الكوفة اليوم، بنى ذلك له بوزبه من آجرّ بنيان الأكاسرة بالحيرة، ونهج في الودعة من الصحن خمسة مناهج، وفي قبلته أربعة مناهج، وفي شرقيّه ثلاثة مناهج، وفي غربيّه ثلاثة مناهج، وعلّمها، فأنزل في ودعة الصحن سليما وثقيفا مما يلي الصحن على طريقين، وهمدان على طريق، وبجيلة على طريق آخر، وتيم اللات على آخرهم وتغلب، وأنزل في قبلة الصحن بنى أسد على طريق، وبين بنى أسد والنّخع طريق، وبي النخع وكندة طريق، وبين كندة والأزد طريق، وأنزل في شرقىّ الصحن الأنصار، ومزينة على طريق، وتميما ومحاربا على طريق، وأسدا وعامرا على طريق، وأنزل في غربىّ الصحن بجالة وبجلة على طريق، وجديلة وأخلاطا على طريق، وجهينة وأخلاطا على طريق، فكان هؤلاء الذين يلون الصحن وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك. واقتسمت على السهمان؛ فهذه مناهجها العظمى. وبنوا مناهج دونها تحاذى هذه ثم تلاقيها، وأخر تتبعها، وهي دونها في الذرع، والمحالّ من ورائها؛ وفيما بينها، وجعل هذه الطرقات من وراء الصحن، ونزل فيها الأعشار من أهل الأيّام والقوادس، وحمى لأهل الثغور والموصل أماكن حتى يوافوا إليها؛ فلما ردفتهم الروادف؛ البدء والثّناء، وكثروا عليهم، ضيّق الناس المحالّ فمن كانت رادفته كثيرة شخص إليهم وترك محلّته، ومن كانت رادفته قليلة أنزلوهم منازل من شخص إلى رافته لقلته إذا كانوا جيرانهم؛ وإلّا وسعوا على روادفهم وضيّقوا على أنفسهم؛ فكان الصحن على حاله زمان عمر كله، لا تطمع في القبائل؛ ليس فيه إلا المسجد والقصر، والأسواق في غير بنيان ولا أعلام. وقال عمر: الأسواق على سنّة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له؛ حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه؛ وقد كانوا أعدّوا مناخا لكل رادف؛ فكان كلّ من يجئ سواء فيه - وذلك المناخ اليوم دور بنى البكّاء - حتى يأتوا بالهيّاج، فيقوم في أمرهم حتى يقطع لهم حيث أحبّوا. وقد بنى سعدفي الذين خطّوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، فشيّده، وجعل فيه بيت المال، وسكن ناحيته. ثم إنّ بيت المال نقب عليه نقبا، وأخذ من المال، وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن مما يلي ودعة الدار. فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار، واجعل الدار قبلته؛ فإنّ للمسجد أهلا بالنهار وبالليل؛ وفيهم حصن لما لهم، فنقل المسجد وأراغ بنيانه، فقال له دهقان من أهل همذان؛ يقال له روزيبه بن بزرجمهر: أنا أبنيه لك، وأبنى لك قصرا فأصلهما، ويكون بنيانا واحدا. فخطّ قصر الكوفة على ما خطّ عليه، ثم أنشأه من نقض آجرّ قصر كان للأكاسرة في ضواحى الحيرة على مساحته اليوم، ولم يسمح به، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال منه إلى منتهى القصر، يمنة على القبلة، ثم مدّ به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة علي بن أبي طالب عليه السلام، والرحبة قبلته، ثم مدّ به فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر، وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغير مجنّبات؛ فلم يزل على ذلك حتى بنى أزمان معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم؛ على يدى زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنّائين من بنّائي الجاهليّة، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهى من طوله في السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته؛ فقال له بنّاء قد كان بنّاء لكسرى: لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقّفه، وتجعل له مجنّبات ومواخير؛ فيكون أثبت له. فقال: هذه الصفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها. وغلّق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث؛ فلمّا بنى ادّعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكّن عنى الصويت. وبلغ عمر ذلك، وأنّ الناس سيمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة، فسّرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك؛ فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتى سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن ادخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول النزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا؛ فليس بقصرك؛ ولكنه قصر الخبال؛ انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت؛ فحلف له سعد ما قال الذي قالوا. ورجع محمد بن مسلمة من فوره؛ حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلّغ بلحاء نمت لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إنّ أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل؛ وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدّق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني. وية بن أبي سفيان بنيانه اليوم؛ على يدى زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنّائين من بنّائي الجاهليّة، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهى من طوله في السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته؛ فقال له بنّاء قد كان بنّاء لكسرى: لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقّفه، وتجعل له مجنّبات ومواخير؛ فيكون أثبت له. فقال: هذه الصفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها. وغلّق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث؛ فلمّا بنى ادّعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكّن عنى الصويت. وبلغ عمر ذلك، وأنّ الناس سيمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة، فسّرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك؛ فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتى سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن ادخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول النزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتّخذته حصنا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا؛ فليس بقصرك؛ ولكنه قصر الخبال؛ انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت؛ فحلف له سعد ما قال الذي قالوا. ورجع محمد بن مسلمة من فوره؛ حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلّغ بلحاء نمت لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إنّ أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل؛ وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدّق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطاء أبي محمد، مولى إسحاق بن طلحة، قال: كنت أجلس في المسجد الأعظم قبل أن يبنيه زياد؛ وليست له مجنّبات ولا مواخير، فأرى منه دير هند وباب الجسر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: كان الرجل يجلس في المسجد فيرى منه باب الجسر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر بن عيّاش، أخى أبي بكر بن عيّاش، عن أبي كثير، أن روزبه بن بزرجمهر بن ساسان كان همذانيّا، وكان على فرج من فروج الروم، فأدخل عليهم سلاحا، فأخافه الأكاسرة، فلحق بالرّوم، فلم يأمن حتى قدم سعد بن مالك، فبنى له القصر والمسجد. ثم كتب معه إلى عمر، وأخبره بحاله، فأسلم، وفرض له عمر وأعطاه، وصرفه إلى سعد مع أكريائه - والأكرياء يومئذ هو العباد - حتى إذا كان بالمكان الذي يقال له قبر العبادىّ مات، فحفروا له ثم انتظروا به من يمرّ بهم ممن يشهدونه موته، فمرّ قوم من الأعراب، وقد حفروا له على الطريق، فأروهموه ليبرءوا من دمه، وأشهدوهم ذلك، فقالوا: قبر العبادىّ - وقيل قبر العبادىّ لمكان الأكرياء - قال أبو كثير: فهو والله أبى، قال: فقلت: أفلا تخبر الناس بحاله! قال: لا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد وزياد، قالوا: ورجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا، فكتب سعد إلى عمر في تعديلهم، فكتب إليه: أن عدّ لهم، فأرسل إلى قوم من نسّاب العرب وذوى رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران ومشعلة ابن نعم، فعدّلوهم عن الأسباع، فجعلوهم أسباعا، فصارت كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم، وجديلة - وهم بنو عمرو بن قيس عيلان - سبعا، وصارت قضاعة - ومنهم يومئذ غسان بن شبام - وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت، والأزد سبعا، وصارت مذحج وحمير وهمدان وحلفاؤهم سبعا، وصارت تميم وسائر الرباب وهوزان سبعا، وصارت أسد وغطفان ومحارب والنّمر وضبيعة وتغلب سبعا، وصارت إياد وعكّ وعبد القيس وأهل هجر والحمراء سبعا، فلم يزالوا بذلك زمان عمر وعثمان وعلىّ، وعامّة إمارة معاوية، حتى ربّعهم زياد.
إعادة تعريف الناس
وعرّفوهم على مائة ألفة درهم، فكانت كل عرافة من القادسيّة خاصّة ثلاثة وأربعين رجلا وثلاثا وأربعين امرأة وخمسين من العيال؛ لهم مائة ألف درهم، وكلّ عرافة من أهل الأيّام عشرين رجلا على ثلاثة آلاف وعشرين امرأة، وكلّ عيّل على مائة، على مائة ألف درهم، وكلّ عرافة من الرادفة الأولى ستّين رجلا وستين امرأة وأربعين من العيال ممن كان رجالهم ألحقوا على ألف وخمسمائة على مائة ألف درهم، ثم على هذا من الحساب.
وقال عطيّة بن الحارث: قد أدركت مائة عريف، وعلى مثل ذلك كان أهل البصرة، كان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرايات، والرّايات على أيادى العرب، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه إلى أهله في دورهم.
فتوح المدائن قبل الكوفة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: فتوح المدائن السواد وحلوان وماسبذان وقرقيسياء؛ فكانت الثغور ثغور الكوفة أربعة: حلوان عليها القعقاع بن عمرو، وماسبذان عليها ضرار بن الخطاب الفهرىّ، وقرقيسياء عليها عمر بن مالك أو عمرو بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، والموصل عليها عبد الله بن المعتمّ، فكانوا بذلك، والناس مقيمون بالمدائن بعد ما تحوّل سعد إلى تمصير الكوفة، وانضمام هؤلاء النفر إلى الكوفة واستخلافهم على الثغور من يمسك بها ويقوم عليها؛ فكان خليفة القعقاع على حلوان قباذ بن عبد الله، وخليفة عبد الله على الموصل مسلم بن عبد الله، وخليفة ضرار رافع بن عبد الله، وخليفة عمر عشنّق بن عبد الله، وكتب إليهم عمر أن يستعينوا بمن احتاجوا إليه من الأساورة، ويرفعوا عنهم الجزاء، ففعلوا. فلما اختّطت الكوفة وأذن للناس بالبناء، نقل الناس أبوابهم من المدائن إلى الكوفة فعلّقوها على ما بنوا وأوطنوا الكوفة. وهذه ثغورهم، وليس في أيديهم من الريف إلا ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد عن عامر، قال: كانت الكوفة وسوادها والفروج: حلوان، والموصل، وماسبذان وقرقيسياء. ثم وافقهم في الحديث عمرو بن الريان، عن موسى بن عيسى الهمدانىّ بمثل حديثهم، ونهاهم عمّا وراء ذلك، ولم يأذن لهم في الانسياح. وقالوا جميعا: ولى سعد بن مالك على الكوفة بعد ما اختّطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها، وعمالته ما بين الكوفة وحلوان والموصل وماسبذان وقرقيسياء إلى البصرة، ومات عتبة بن غزوان وهو على البصرة فظع بعمله، وسعد على الكوفة فولّى عمر أبا سبرة مكان عتبة بن غزوان، ثم عزل أبا سبرة عن البصرة، واستعمل المغيرة، ثم عزل المغيرة، واستعمل أبا موسى الأشعرىّ.
ذكر خبر حمص حين قصد من فيها من المسلمين صاحب الروم
وفي هذه السنة قصدت الروم أبا عبيدة بن الجرّاح ومن معه من جند المسلمين بحمص لحربهم؛ فكان من أمرهم وأمر المسلمين ما ذكر أبو عبيدة؛ وهو فيما كتب به إلىّ السري عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد - قالوا: أوّل ما أذن عمر للجند بالانسياج؛ أن الروم خرجوا، وقد تكاتبوا هم وأهل الجزيرة يريدون أبا عبيدة والمسلمين بحمص، فضّم أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكروا بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضّم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصّن إلى مجئ الغياث، فكان خالد يأمره أن يناجزهم، وكان سائرهم يأمرونه بأن يتحصّن ويكتب إلى عمر، فأطاعهم وعصى خالدا، وكتب إلى عمر يخبره بخروجهم عليه، وشغلهم أجناد أهل الشأم عنه، وقد كان عمر اتّخذ في كلّ مصر عل قدره خيولا من فضول أموال المسلمين عدّة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس. فلمّا وقع الخبر لعمر كتب إلى سعد ابن مالك: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرّحهم من يومهم الذي يأتيك في كتابي إلى حمص؛ فإنّ أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدّم إليهم في الجدّ والحثّ.
وكتب أيضا إليه أن سرّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند وليأت الرقة فإنّ أهل الجزيرة. هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص؛ وإن أهل قرقيسياء لهم سلف. وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، فإن أهل قرقيسياء لهم سلف، ثم لينفضا حرّان والرّهاء. وسرّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وسرّح عياضا؛ فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض بن غنم - وكان عياض من أهل العراق الذين خرجوا مع خالد بن الوليد ممدّين لأهل الشأم، وممّن انصرف أيام انصرف أهل العراق ممدّين لأهل القادسيّة، وكان يرافد أبا عبيدة - فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص؛ وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقة الجزيرة على الفراض وغير الفراض؛ وتوجّه كلّ أمير إلى الكورة التي أمّر عليها. فأتى الرقة، وخرج عمر من المدينة مغيثا لأبى عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية. ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص واستثاروهم وهم معهم مقيمون عن حديث من بالجزيرة منهم بأنّ الجنود قد ضربت من الكوفة، ولم يدروا: ألجزيرة يريدون أم حمص! فتفرّقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وخلّوا الروم. ورأى أبو عبيدة أمرا لما انفضّوا غير الأوّل، فاستشار خالدا في الخروج، فأمره بالخروج، ففتح الله عليهم. وقدم القعقاع بن عمرو في أهل الكوفة في ثلاث من يوم الوقعة، وقدم عمر فنزل الجابية، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم في ثلاث، وبالحكم في ذلك. فكتب إليهم أن أشركوهم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيرا! يكفون حوزتهم ويمدّون أهل الأمصار.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن الشعبىّ، قال: استمدّ أبو عبيدة عمر، وخرجت عليه الروم، وتابعهم النصارى فحصروه، فخرج وكتب إلى أهل الكوفة، فنفر إليهم في غداة أربعة آلاف على البغال يجنبون الخيل، فقدموا على أبى عبيدة في ثلاث بعد الوقعة، فكتب فيهم إلى عمر، وقد انتهى إلى الجابية، فكتب إليه: أن أشركهم، فإنهم قد نفروا إليكم، وتفرّق لهم عدوّكم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان لعمر أربعة آلاف فرس عدّة لكون إن كان، يشتّيها في قبلة قصر الكوفة وميسرته؛ ومن أجل ذلك يسمّى ذلك المكان الآرىّ إلى اليوم، ويربّعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة مما يلي العاقول، فسمّته الأعاجم آخر الشاهجان، يعنون معلف الأمراء، وكان قيّمه عليها سلمان ابن ربيعة الباهلىّ في نفر من أهل الكوفة، يصنّع سوابقها، ويجريها في كلّ عام، وبالبصرة نحو منها، وقيّمه عليها جزء بن معاوية، وفي كلّ مصر من الأمصار الثمانية على قدرها، فإن نابتهم نائبة ركب قوم وتقدّموا إلى أن يستعدّ الناس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حلّام، عن شهر ابن مالك بنحو منه. فلما فرغوا رجعوا.
ذكر فتح الجزيرة
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - افتتحت الجزيرة في رواية سيف. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، وذكر من سبب فتحها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه؛ أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إنّ الله قد فتح على المسلمين الشام والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمّر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هاشم بن عتبة، أو عياض بن غنم. فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخّر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر القوم إلا أنه له فيه هوى أن أولّيه؛ وأنا موليه. فبعثه وبعث معه جيشا، وبعث أبا موسى الأشعرى، وابنه عمر بن سعد - وهو غلام حدث السنّ ليس إليه من الأمر شئ - وعثمان بن أبى العاص بن بشر الثقفي، وذلك في سنة تسع عشرة. فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرهاء فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حرّان حين صالحت الرهاء، فصالحه أهلها على الجزية. ثمّ بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين، ووجّه عمر بن سعد إلى رأس العين في خيل ردءا للمسلمين، وسار بنفسه في بقيّة الناس إلى دارا، فنزل عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنة تسع عشرة. ثمّ وجه عثمان بن أبى العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شئ من قتال؛ أصيب فيه صفوان بن المعطّل السلمى شهيدا. ثمّ صالح أهلها عثمان بن أبى العاص على الجزية، على كلّ أهل بيت دينار. ثم كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل.
وأما في رواية سيف؛ فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد؛ قالوا: خرج عياض بن غنم في أثر القعقاع، وخرج القوّاد - يعنى حين كتب عمر إلى سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبى عبيدة حين قصدته الروم وهو بحمص - فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها، فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرقة، وقد ارفضّ أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه؛ وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشأم؛ فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة؛ فرأى أن يقبل منهم؛ فبايعوه وقبل منهم؛ وكان الذي عقد لهم سهيل بن عدي عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج الوليد بن عقبة حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلّا إياد ابن نزار، فإنهم ارتحلوا بقلّيّتهم، فاقتحموا أرض الروم، فكتب بذلك الوليد إلى عمر بن الخطاب. ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضمّ عياض سهيلا وعبد الله إليه فسار بالناس إلى حرّان، فأخذ ما دونها. فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه مجرى أهل الذمة. ثم إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرهاء، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم؛ فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بن غنم:
من مبلغ الأقوام أنّ جموعنا ** حوت الجزيرة يوم ذات زحام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفّسوا ** عمّن بحمص غيابة القدّام
إنّ الأعزّة والأكارم معشر ** فضّوا الجزيرة عن فراخ الهام
غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ** عن غزو من يأوى بلاد الشام
ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمدّ عياض بن غنم بحبيب ابن مسلمة، فقدم على عياض مددًا، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض بن غنم إذ ضمّ خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه، وصرف سهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله إلى الكوفة ليصرفهما إلى المشرق، واستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما.
قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم: إنه بلغني أن حيّا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك؛ فو الله لتخرجنّه أو لننبذنّ إلى النصارى؛ ثم لنخرجنّهم إليك. فأخرجهم ملك الروم، فخرجوا فتمّ منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبى عدىّ بن زياد، وخنس بقيّتهم، فتفرّقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم؛ فكلّ إيادىّ في أرض العرب من أولئك الأربعة الآلاف؛ وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من بنى تغلب إلّا الإسلام؛ فقالوا له: أمّا من نقّب على قومه في صلح سعد ومن كان قبله فأنتم وذاك، وأمّا من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلّا الإسلام، فدعهم على ألّا ينصّروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا. فقبل منهم على ألّا ينصّروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلى الجزاء، فرضى منهم بما رضى من العباد وتنوخ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن أبي سيف التغلبي، قال: كان رسول الله ﷺ قد عاهد وفدهم على ألّا ينصّروا وليدا، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفّدهم، ولم يكن على غيرهم، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم: لا تنفّروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزاء على ألّا ينصّروا مولودا إذا أسلم آباؤهم. فخرج وفدهم في ذلك إلى عمر؛ فلما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديّانيهم، قال لهم عمر: أدّوا الجزية، فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلنّ أرض الروم، والله لتفضحنا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمّتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، وتالله لتؤدّنّه وأنتم صغرة قمأة، ولئن هربت إلى الروم لأكتبنّ فيكم، ثمّ لأسبينّكم. قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسمّه جزاء، فقال: أمّا نحن فنسمّيه جزاء، وسمّوه أنتم ما شئتم. فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه، فرضى به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك، وكان في بنى تغلب عزّ وامتناع، ولا يزالون ينازعون الوليد، فهمّ بهم الوليد، وقال في ذلك:
إذا ما عصبت الرأس منّى بمشوذ ** فغيّك منّى تغلب ابنة وائل
وبلغت عنه عمر، فخاف أن يحرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمّر عليهم فرات بن حيّان وهند بن عمرو الجملىّ، وخرج الوليد واستودع إبلا له حريث بن النعمان، أحد بنى كنانة بن تيم من بنى تغلب، وكانت مائة من الإبل فاختانها بعد ما خرج الوليد.
خروج عمر بن الخطاب إلى الشام
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - خرج عمر من المدينة يريد الشام حتى بلغ سرغ، في قول ابن إسحاق، حدثنا بذلك ابن حميد عن سلمة عنه، وفي قول الواقدي.
ذكر الخبر عن خروجه إليها
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: خرج عمر إلى الشأم غازيا في سنة سبع عشرة؛ حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، فأخبروه أنّ الأرض سقيمة، فرجع بالناس إلى المدينة.
وقد كان عمر - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، نعبد الله ابن عباس - خرج غازيا، وخرج معه المهاجرون والأنصار. وأوعب الناس معه، حتى إذا نزل بسرغ، لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة ابن الجرّاح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة؛ فأخبروه أنّ الأرض سقيمة، فقال عمر: اجمع إلىّ المهاجرين الأولين، قال: فجمعنهم له، فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدّك عن بلاء عرض لك. ومنهم القائل: إنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه؛ فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عنى، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الأنصار، فجمعتهم له، فاستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين، فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عنى، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش، فجمعتهم له، فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم اثنان، وقالوا: ارجع بالناس، فإنه بلاء وفناء. قال: فقال لي عمر: يابن عباس، اصرخ في الناس فقل: إنّ أمير المؤمنين يقول لكم أني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه قال: فأصبح عمر على ظهر، وأصبح الناس عليه، فلما اجتمعوا عليه قال: أيّها الناس؛ إني راجع فارجعوا، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله! قال: نعم فرارا من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان: إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله! ثم قال: لو غيرك يقول هذا يا أبو عبيدة! ثم خلا به بناحية دون الناس؛ فبينا الناس على ذلك إذ أتى عبد الرحمن بن عوف - وكان مخلّفا عن الناس لم يشهدهم بالأمس - فقال: ما شأن الناس؟ فأخبر الخبر، فقال: عندي من هذا علم، فقال عمر: فأنت عندنا الأمين المصدّق، فماذا عندك؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه "؛ ولا يخرجنّكم إلّا ذلك، فقال عمر: فلله الحمد! انصرفوا أيها الناس، فانصرف بهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهرىّ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة وسالم بن عبد الله بن عمر؛ أنهما حدثاه أنّ عمر إنما رجع بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف؛ فلما رجع عمّال الأجناد إلى أعمالهم.
وأما سيف، فإنه روى في ذلك ما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان والربيع، قالوا: وقع الطاعون ومصر والعراق، واستقرّ بالشام، ومات فيه الناس الذين هم في كلّ الأمصار في المحرّم وصفر، وارتفع عن الناس وكتبوا بذلك إلى عمر ما خلا الشام، فخرج حتى إذا كان منها قريبا بلغه أنه أشدّ ما كان، فقال وقال الصحابة: قال رسول الله ﷺ: " إذا كان بأرض وباء فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها "، فرجع حتى ارتفع عنها؛ وكتبوا بذلك إليه وبما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، فاستشارهم في البلدان، فقال: إني قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علىّ - وكعب الأحبار في القوم، وفي تلك السنة من إمارة عمر أسلم - فقال كعب: بأيّها تريد أن تبدأ يا أمير المؤمنين؟ قال: بالعراق، قال: فلا تفعل؛ فإن الشرّ عشرة أجزاء والخير عشرة أجزاء، فجزء من الخير بالمشرق وتسعة بالمغرب، وإنّ جزءا من الشرّ بالمغرب وتسعة بالمشرق، وبها قرن الشيطان، وكلّ داء عضال.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد، عن الأصبغ، عن علىّ، قال: قام إليه علىّ، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنّ الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبّه الإسلام، وليأتينّ عليها يوم لا يبقى مؤمن إلّا أتاها وحنّ إليها؛ والله لينصرنّ بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المطرّح، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: وقال عثمان: يا أمير المؤمنين؛ إنّ المغرب أرض الشرّ، وأن الشرّ قسم مائة جزء؛ فجزء في الناس وسائر الأجزاء بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي يحيى التميمي، عن أبي ماجد، قال: قال عمر: الكوفة رمح الله، وقبّة الإسلام، وجمجمة العرب، يكفون ثغورهم، ويمدّون الأمصار، فقد ضاعت مواريث أهل عمواس، فأبدأ بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والربيع بن النعمان، قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث الناس بالشأم؛ أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثمّ أرجع فأتقلّب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري. فأتى عمر الشام أربع مرّات، مرّتين في سنة ست عشرة، ومرّتين في سنة سبع عشرة، لم يدخلها في الأولى من الآخرتين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بكر بن وائل، عن محمد بن مسلم، قال: قال رسول الله ﷺ: " قسّم الحفظ عشرة أجزاء، فتسعة في الترك وجزء في سائر الناس، وقسّم البخل عشرة أجزاء، فتسعة في فارس، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم السخاء عشرة أجزاء، فتسعة في السودان، وجزء في سائر الناس، وقسّم الشبق عشرة أجزاء، فتسعة في الهند، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في النساء، وجزء في سائر الناس، قسّم الحسد عشرة أجزاء، فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس، وقسم الكبر عشرة أجزاء، فتسعة في الروم وجزء في سائر الناس.
خبر طاعون عمواس
واختلف في خبر طاعون عمواس وفي أي سنة كان، فقال ابن إسحاق ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: ثم دخلت سنة ثماني عشرة؛ ففيها كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفي أبو عبيدة ابن الجرح؛ وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس.. وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كان طاعون عمواس والجابية في سنة ثماني عشرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شعبة بن الحجاج، عن المخارق بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي، قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا عليكم أن تخفّوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزّهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء؛ سأخبركم بما يكره مما يتّقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظنّ من أقام فأصابه ذلك لو أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظنّ هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزّه عنه؛ إني كنت مع أبى عبيدة بن الجرّاح بالشأم عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع، وبلغ ذلك عمر، كتب إلى أبى عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أمّا بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألّا تضعه من يدك حتى تقبل إلىّ. قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثمّ كتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلىّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضى الله في وفيهم أمره وقضاءه؛ فحلّلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد. قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة. فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إنّ كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج صاحبتى قد أصيبت، فرجعت إليه، فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدث، فقال: لعلّ وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت. ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، ورفع عن الناس الوباء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابة - رجل من قومه، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس - قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا، فقال: أيّها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم محمد ﷺ، وموت الصالحين قبلكم، وإنّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له من حظّه. فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل. قال: فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ، فمات. ثمّ قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته؛ فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحبّ أنّ لي بما فيك شيئا من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيبا في الناس، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبّلوا منه في الجبال. فقال أبو وائلة الهذلي: كذبت؛ والله لقد صحبت رسول الله ﷺ وأنت شرّ من حماري هذا! قال: والله ما أردّ عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس فتفرّقوا، ورفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأى عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمىّ، أنه كان يقول: بلغني هذا من قول أبى عبيدة وقول معاذ بن جبل: إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم؛ فكنت أقول: كيف دعا به رسول الله ﷺ لأمّته، حتى حدثني بعض من لا أتّهم عن رسول الله أنّه سمعه منه، وجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن فناء أمتك يكون بالطعن أو الطاعون؛ فجعل رسول الله ﷺ يقول: اللهمّ فناء الطاعون! فعرفت أنها التي كان قال أبو عبيدة ومعاذ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبى عبيدة ويزيد بن أبى سفيان، أمّر معاوية ابن أبى سفيان على جند دمشق وخراجها، وأمّر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها.
وأما سيف، فإنه زعم أن طاعون عمواس كان في سنة سبع عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والربيع بإسنادهم، قالوا: كان ذلك الطاعون يعنون طاعون عمواس موتانا لم ير مثله طمع له العدوّ في المسلمين، وتخوّفت له قلوب المسلمينّ كثر موته، وطال مكثه، مكث أشهرا حتى تكلّم في ذلك الناس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي سعيد، قال: أصاب البصرة من ذلك موت ذريع، فأمر رجل من بنى تميم غلاما له أعجميّا أن يحمل ابنا له صغيرا ليس له ولد غيره على حمار، ثم يسوق به إلى سفوان، حتى يلحقه. فخرج في آخر الليل ثم اتّبعه، وقد أشرف على سفوان، ودنا من ابنه وغلامه، فرفع الغلام عقيرته يقول:
لن يعجزوا الله على حمار ** ولا على ذي غرّة مطار
قد يصبح الموت أمام السارى فسكت حتى انتهى إليهم، فإذا هم هم، قال: ويحك، ما قلت! قال: ما أدرى، قال: ارجع، فرجع بابنه، وعلم أنه قد أسمع آية وأريها.
قال: وعزم رجل على الخروج إلى أرض بها الطاعون فتردد بعد ما طعن، فإذا غلام له أعجمي يحدو به:
يا أيّها المشعر همّا لا تهمّ ** إنّك إن تكتب لك الحمّى تحمّ
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - كان خروج عمر إلى الشأم الخرجة الأخيرة فلم يعد إليها بعد ذلك قي قول سيف؛ وأما ابن إسحاق فقد مضى ذكره.
ذكر الخبر عن سيف في ذلك والخبر عما ذكره عن عمر في خرجته تلك أنه أحدث في مصالح المسلمين
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والرّبيع، قالوا: وخرج عمر وخلف عليّا في المدينة، وخرج معه الصحابة وأغذّوا السير واتّخذ أيلة طريقا؛ حتى إذا دنى منها تنحّى عن الطريق، واتّبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فروة مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه أوائل الناس، قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم - يعنى نفسه - وذهبوا هم إلى أمامهم، فجاوزه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها وقيل للمتلقّين: دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: لما قدم عمر بن الخطاب أيلة، ومعه المهاجرون والأنصار دفع قميصا له كرابيس قد انجاب مؤخّره عن قعدته من طول السير إلى الأسقفّ، وقال: اغسل هذا وارقعه، فانطلق الأسقفّ بالقميص، ورقعه، وخاط له آخر مثله، فراح به إلى عمر، فقال: ما هذا؟ قال الأسقفّ: أمّا هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك منّي. فنظر إليه عمر ومسحه، ثم لبس قميصه، وردّ عليه ذلك القميص، وقال: هذا أنشفهما العرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة وهلال، عن رافع بن عمر، قال: سمعت العباس بالجابية يقول لعمر: أربع من عمل بهنّ استوجب العدل: الأمانة في المال، والتسوية في القسم، والوفاء بالعدة، والخروج من العيوب؛ نظّف نفسك وأهلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان والربيع وأبي حارثة بإسنادهم، قالوا: قسم عمر الأرزاق، وسمّى الشواتي والصوائف، وسدّ فروج الشأم ومسالحها، وأخذ يدور بها، وسمّى ذلك في كلّ كورة، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كلّ كورة، وعزل شرحبيل، واستعمل معاوية، وأمّر أبا عبيدة وخالدا تحته، فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنك لكما أحبّ ولكني أريد رجلا أقوى من رجل، قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل. وأمّر عمرو بن عبسة على الأهراء، وسمى كلّ شئ، ثم قام في الناس بالوداع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة وأبي عمرو، عن المستورد، عن عدي بن سهيل، قال: لما فرغ عمر من فروجه وأموره قسم المواريث، فورّث بعض الورثة من بعض، ثم أخرجها إلى الأحياء من ورثة كلّ امرئ منهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته، فلم يرجع منهم إلا أربعة، فقال المهاجر بن خالد بن الوليد:
من يسكن الشأم يعرّس به ** والشأم إن لم يفننا كارب
أفنى بنى ريطة فرسانهم ** عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم ** لمثل هذا أعجب العاجب
طعنا وطاعونا مناياهم ** ذلك ما خطّ لنا الكاتب
قال: وقفل عمر من الشأم إلى المدينة في ذي الحجة، وخطب حين أراد القفول، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا أني قد ولّيت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولّاني الله من أمركم، إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجنّدنا لكم الجنود، وهيّأنا لكم الفروج، وبوّأناكم ووسّعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شأمكم، وسمّينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم، وأرزاقكم ومغانمكم فمن علم شئ ينبغي العمل به فبلّغنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله. وحضرت الصلاة، وقال الناس: لو أمرت بلالًا فأذّن! فأره فأذّن، فما بقي أحد كان أدرك رسول الله ﷺ وبلال يؤذّن له إلّا بكى حتى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم، ولذكره ﷺ.
ذكر خبر عزل خالد بن الوليد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة، قالا: فمازال خالد على قنّسرين حتى غزا غوته التي أصاب فيها، وقسم فيها ما أصاب لنفسه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد مثله. قالوا: وبلغ عمر أنّ خالدا دخل الحمام، فتدلّك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر؛ فكتب إليه: بلغني أنك تدلّكت بخمر؛ وإنّ الله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرّم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرّم مسّ الخمر إلّا أن تغسل كما حرّم شربها، فلا تمسّوها أجسادها فإنّها نجس، وإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّي أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه! فانتهى إليه ذلك.
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم في رواية سيف عن شيوخه.
ذكر من قال ذلك
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والمهلّب، قالوا: وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض، فسارا فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يديه على قنّسرين، وعلى دمشق يزيد بن أبي سفيان، وعلى الأردنّ معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزّز، وعلى الأهراء عمرو بن عبسة، وعلى السواحل عبد الله بن قيس، وعلى كلّ عمل عامل. فقامت مسالح الشأم ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمّة إلى أخرى عملها بعد؛ إلّا أن يقتحموا عليهم بعد كفر منهم، فيقدّموا مسالحهم بعد ذلك، فاعتدل ذلك سنة سبع عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد وأبى عثمان والربيع وأبى حارثة، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائبة انتجعه رجال، فانتجع خالد رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بن قيس ممّن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف. وكان عمر لا يخفى عليه شئ في علمه، كتب إليه من العراق بخروج من خرج، ومن الشأم بجائزة من أجيز فيها - فدعا البريد، وكتب معه إلى أبى عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلونسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث؛ أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. وأعزله على كلّ حال، وأضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال إليه، فقال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول! أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. قالوا: وأقام خالد متحيّرا لا يدري أمعزول أم غير معزول؟ وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالإقبال، فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم! فقال أبو عبيدة: إنّي والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بداّ، وقد علمت أن ذلك يروعك. قال: فرجع خالد إلى قنّسرين، فخطب أهل علمه وودّعهم وتحمّل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثمّ خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين؛ وبالله أنّك في أمري غير مجمل يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد عن الستين ألفا فهو لك ما زاد على الستين ألفا فلك. فقوّم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علىّ لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شئ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المستورد، عن أبيه، عن عدىّ بن سهيل، قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ الناس فتنوا به، فخفت أن يوكّلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثّلا:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ** وما يصنع الأقوام فالله يصنع
فأغرمه شيئا، ثمّ عوّضه، وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصّرهم.
ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعة فيه
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - اعتمر عمر، وبنى المسجد الحرام - فيما زعم الواقدي - ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها.
قال: وكان ذلك الشهر الذي اعتمر فيه رجب، وخلّف على المدينة زيد بن ثابت.
قال الواقدي: وفي عمرته هذه أمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزّى وسعيد بن يربوع.
قال: وحدثني كثير بن عبد الله المزنىّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قدمنا مع عمر مكة في عمرته سنة سبع عشرة، فمرّ بالطريق فكلّمه أهل المياه أن يبتنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم، وشرط عليهم أنّ ابن السبيل أحقّ الظلّ والماء.
قال: وفيها تزوّج عمر بن الخطاب أمّ كلثوم ابنة علي بن أبى طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ودخل بها في ذي القعدة.
ذكر خبر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى
قال: وفي هذه السنة ولىّ عمر أبا موسى البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة في ربيع الأول - فشهد عليه - فيما حدثني معمر، عن الزهرىّ، عن ابن المسيّب - أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلىّ، ونافع بن كلدة، وزياد.
قال: وحدثني محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، قال: كان يختلف إلى أمّ جميل، امرأة من بنى هلال؛ وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال له الحجّاج بن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها، وقد وضعوا عليها الرصد، فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها. فوفد أبو بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم، قال: لقد جئت لشرّ، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قصّ عليه القصّة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا، وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فأهدى المغيرة لأبى موصى عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوّج امرأة من بنى مرّة، فقال له: إنك لفارغ القلب، طويل الشبق، فسمعت عمر يسأل عن المرأة. فقال: يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بنى هلال.
قال أبو جعفر: وكان سبب ما كان بين أبى بكرة والشهادة عليه - فيما كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة أنّ المغيرة كان يناغيه، وكان أبو بكر ينافره عند كلّ ما يكون منه، وكانا بالبصرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبّت ريح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّة مشربته، وهو بين رجلى امرأة، فقال: للنّفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال أمّ جميل ابنة الأفقم - وكانت أمّ جميل إحدى بنى عامر بن صعصعة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى الأمراء والأشراف - وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها - فقالوا: إنما رأينا أعجازا، ولا ندرى ما الوجه؟ ثم إنهم صمّموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصلّ بنا. فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا، فبعث عمر إلى أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، إني مستعملك؛ إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرّخ، فالزم ما تعرف؛ ولا تستبدل فيستبدل الله بك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعني بعدّة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإنّي وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلّا به، فاستعن بمن أحببت. فاستعان بتسعة وعشرين رجلًا؛ منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر. ثمّ خرج أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أنّ أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: والله ما جاء أبو موسى زائرًا، ولا تاجرًا، ولكنّه جاء أميرًا. فإنهم لفي ذلك، إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم، فدفع إليه أو موسى كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس؛ أربع كلم عزل فيها، وعاتب، واستحثّ، وأمّر: أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرًا، فسلّم إليه ما في يدك، والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: أمّا بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرًا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويّكم، وليقاتل بكم عدوّكم، وليدفع عن ذمّتكم، وليحصى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقّى لكم طرقكم.
وأهدى له المغيرة وليدة من مولّدات الطائف تدعى عقيلة، وقال: إني قد رضيتها لك - وكانت فارهة - وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلىّ حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؛ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر، أو مستدبرىّ فبأي شئ استحلّوا النظر إلىّ في منزلي على امرأتي! والله ما أتيت إلّا امرأتي - وكانت شبهها - فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أمّ جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال: فكيف استثبتّ رأسها؟ قال: تحاملت. ثم دعا بشبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، فقال: استدرتهما أو استقبلتهما؟ قال: استقبلتهما. وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم؛ قال: رأيته جالسًا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانًا شديدًا. قال: هل رأيت الميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبّهها، قال: فتنحّ، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحدّ وقرأ: " فإذ لم يأتوا بالشّهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " فقال المغيرة: اشفني من الأعبد، فقال: اسكت أسكت الله نأمتك! أما والله لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
فتح سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ستّ عشرة من الهجرة.
ذكر الخبر عن سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى
كتب إلي السري، يذكر أن شعيبا حدثه عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمتّه مهرجان قذق وكور الأهواز، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسيّة كان وجهه إلى أمّته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهرتيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان سعدا، فأمدّه سعد بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا على ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى. ووجّه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة - وكانا من المهاجرين مع رسول الله ﷺ، وهما من بني العدوية من بني حنظلة - فنزلا على حدود أرض ميسان ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك؛ فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإنّ أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى؛ فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك.
قال: وكان من حديث العمى؛ والعمى مرّة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - أنه تنخت عليه وعلى العصيّة بن امرئ القيس أفناء معدّ فعمّاه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل أردوان، فقال في ذلك كعب بن مالك أخوه - ويقال: صدي بن مالك:
لقد عم عنها مرّة الخير فانصمى ** وصمّ فلم يسمع دعاء العشائر
ليتنخ عنّا رغبة عن بلاده ** ويطلب ملكا عاليا في الأساور
فبهذا البيت سمى العم؛ فقيل بنو العم؛ عمّوه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول الله تبارك وتعالى: " عموا وصمّوا "؛ وقال يربوع بن مالك:
لقد علمت عليا معدّ بأنّنا ** غداة التباهى غرّ ذاك التبادر
تنخنا على رغم العداة ولم ننخ ** بحي تميم والعديد الجماهر
نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ** لنا فيهم إحدى الهنات والبهاتر
إذ العرب العلياء جاشت بحورها ** فخرنا على كلّ البحور الزواخر
وقال أيّوب بن العصية بن امرئ القيس:
لنحن سبقنا بالتّنوخ القبائلا ** وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا
وكنّا ملوكا قد عززنا الأوائلا ** وفي كلّ قرن قد ملكنا الحلائلا
فلما كانت تلك الليلة من ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرملة صبيحتها في تعبية، وأنهضا نعيمًا ونعيمًا فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرّن على أهل الكوفة. فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأنّ مناذر نهر تيرى قد أخذتا، فكسر الله في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وأيّاهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدىّ، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على هرم ابن حيّان - فيما بين الدلوث ودجيل - بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جلّ زاده إذا تزوّد التمر، فإذا فنى انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يردّ عليهم ما تنقّذنا. وجعل سلمى بن القين على مناذر مسحلة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها على كليب؛ فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، وفّد منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة - وكانا من الصحابة - وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلّهم قال: أما العمّة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواصّ أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلّا ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحقّ علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامّة، وإنّما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنّا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البرّ، وإنّ إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة؛ من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنّا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشّاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجرى إليها ما جرى في مثل مرىء النعامة. دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيّقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فيناكثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير؛ وقد وسّع الله علينا، وزادنا في أرضنا، فوسّع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظّف علينا، ونعيش بها. فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفّلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبّوا، ويقتسمونه بينهم؛ لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالي. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع؛ وكان أصحاب الألفين ممّن شهد القادسيّة. ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيّد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويشرب برأيه، وردّ سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدّة فيه لكون إن كان، وليميّزا خراجها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادّعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظروا فيما بينهم، فوجدا غالبًا وكليبًا محقّين والهرمزان مبطلًا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده. وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغى الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدّهم عمر بحرقوص بن زهير السعدىّ، وكانت له صحبة من رسول الله ﷺ، وأمّره على القتال وعلى ما غلب عليه. فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إمّا أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر ممّا يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجّه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشغر حتى حلّ برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتّسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفّد وفدا بذلك، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وقال الأسود بن سريع في ذلك - وكانت له صحبة:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا ** ولكن حافظوا فيمن يطيع
أطاعوا ربّهم وعصاه قوم ** أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب ** فلاقوا كبّة فيها قبوع
وولّى الهرمزان على جواد ** سريع الشدّ يثفنه الجميع
وخلّى سرّة الأهواز كرها ** غداة الجسر إذ نجم الربيع
وقال حرقوص:
غلبنا الهرمزان على بلاد ** لها في كلّ ناحية ذخائر
سواء برّهم والبحر فيها ** إذا صارت نواجبها بواكر
لها بحر يعجّ بجانبيه ** جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستر
وفيها فتحتتستر في قول سيف وروايته - أعني سنة سبع عشرة - وقال بعضهم: فتحت سنة ستّ عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرّق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح الله عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرّق. فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجّه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزه بها الهرمزان؛ فمال جزء إلى دورق من قرية الشغر؛ وهي شاغرة برجلها - ودورق مدينة سرّق فيها قوم لا يطيقون منعها - فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بن معاوية وإلى حرقوص بن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا وأستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشقّ الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلّال فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور، والبنيان ومهرجا نقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبّوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علىّ وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفّد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف. فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدّق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني أأن ظلمت الذمّة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحبّ. قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم. فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمّه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص ممّا كان أخذه به - وكان قد أخذه باثنى عشر - قال: فهلّا بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغنى به مسلما! حصّوا وشعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم؛ إن نظر امرؤ لنفسه وقدّم لها يخلف له. وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتّقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنّما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدّم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر أنّ حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشقّ على من رامه. فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلّا على مشقّة، فأسهل ولا تشقّ على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنّك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك.
ثم إن حرقوصا تحرّر يوم صفّين وبقى على ذلك، وشهد النهروان مع الحروريّة.
غزو المسلمين فارس من قبل البحرين
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - غزا المسلمون أرض فارس من قبل البحرين فيما زعم سيف ورواه.
ذكر الخبر بذلك
كتب إلي السري، يقول: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف، عن محمد والمهلّب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها - وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز عل ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدّون الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمّة والمنعة - وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أنّ بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة: وددت أنّ بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم.
وكان العلاء بن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل قدامة بن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة وردّ العلاء، وكان العلاء يباري سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردّة بالفضل؛ فلما ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة عن الدار، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سرّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدّر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن له في قتال أهل الردّة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا؛ على أحدهما الجارود بن المعلىّ، وعلى الآخر السوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى؛ وخليد على جماعة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازيا؛ يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي ﷺ وبأبي بكر، لم يغز فيه النبي ﷺ ولا أبو بكر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين بين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم؛ وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى طاوس، وجعل السوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول:
يا آل عبد القيس للقراع ** قد حفل الأمداد بالجراع
وكلّهم في سنن المصاع ** يحسن ضرب القوم بالقطّاع
حتى قتل. وجعل الجارود يرتجز ويقول:
لو كان شيئا أمما أكلته ** أو كان ماء سادما جهرته
لكنّ بحرا جاءنا أنكرته حتى قتل. ويومئذ ولى عبد الله بن السوار والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول:
يال تميم أجمعوا النزول ** وكاد جيش عمر يزول
وكلكم يعلم ما أقول
انزلوا، فنزلوا. فاقتتل القوم فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها. ثمّ خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم، ثمّ لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا. ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق؛ فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم. ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إله يعزله وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه؛ بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إنّ العلاء بن الحضرمىّ حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إلّا ينصروا أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية؛ فخرجوا في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، والمسالح على حالها بالأهواز والذمّة، وهم ردء للغازي والمقيم. فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له؛ حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غبّ وقعة القوم بطاوس، وإنما كان ولى قتالهم أهل إصطخر وحدهم، والشذّاذ من غيرهم؛ وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق، وأنشبوهم؛ استصرخوا عليهم أهل فارس كلّهم؛ فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك؛ فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا - وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة؛ وكانوا أفضل نوابت الأمصار؛ فكانوا أفضل المصرين نابتة - ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحثّ وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرّق الذين تنقّذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقّذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس؛ استأذن عمر في الحجّ، فأذن له، فلمّا قضى حجّه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعنّ إلى عمله؛ فدعا الله ثم انصرف؛ فمات في بطن نخلة، فدفن؛ وبلغ عمر، فمرّ به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم؛ وأثنى عليه بفضله، ولم يختطّ فيمن اختطّ من المهاجرين؛ وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان خبّاب مولاه قد لزم سمته فلم يختطّ، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم، وعمّاله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى ومناذر وسوق الأهواز وسرّق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس والبنيان وجندى سابور ومهرجان قذق؛ وذلك بعد تنقّذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة.
وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة. وأقرّ عمر أبا سبرة ابن أبي رهم على البصرة بقيّة السنة. ثم استعمل المغيرة بن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها بقيّة تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله؛ وكان مرزوقا السلامة؛ ولم يحدث شيئا إلّا ما كان بينه وبين أبي بكرة.
ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثمّ استعمل عمر بن سراقة، ثمّ صرف عمر بن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى إلى البصرة من الكوفة؛ فعمل عليها ثانية.
ذكر فتح رامهرمز وتستر
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - كان فتح رامهرمز والسوس وتستر. وفيها أسر الهرمزان في رواية سيف.
ذكر الخبر عن فتح ذلك في روايته
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم؛ فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكّرهم الأحقاد ويؤنّبهم؛ أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد ما والاه، والأهواز. ثم لم يرضوا بذلك حتى تورّدوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحرّكوا وتكاتبوا: أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب؛ فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث سويد بن مقرّن، وعبد الله بن ذي السهمين، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلىّ؛ فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبيّنوا أمره. وكتب إلى أبى موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمّر عليهم سهل بن عدىّ - أخا سهيل ابن عدىّ - وابعث معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن ابن سهيل، والحصين بن معبد؛ وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة ابن أبي رهم؛ وكلّ من أتاه فمدد له.
وخرج النعمان بن مقرّن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البرّ إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلّف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثمّ سار نحو الهرمزان - والهرمزان يومئذ برامهرمز - ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدّة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ إنّ الله عز وجل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها.
قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبى موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكّب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أنّ الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمدّه أبو سبرة فأمدّهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدّة من أهل البصرة. وفي الكوفيين مثل ذلك؛ منهم حبيب بن قرّة، وربعىّ بن عامر، وعامر بن عبد الأسود - وكان من الرؤساء - في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم؛ يكون عليهم مرّة ولهم أخرى؛ حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتدّ القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربّك ليهزمنّهم لنا! فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى. قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النعمان رجل فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبى موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء؛ فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بن عبد قيس، وكعب بن سور، ومجزأة بن ثور، وحسكة الحبطىّ، وبشر كثير؛ فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرجل، فانتدب له سويد بن المثعبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمىّ، ونافع ابن زيد الحميرىّ، وعبد الله بن بشر الهلالىّ، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد الله بن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا اجتمعوا فيها - والناس على رجل من خارج - كبّروا فيها، وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب؛ فاجتلدوا فيها، فأناموا كلّ مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطالف به الذين دخلوا من مخرج الماء؛ فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم! قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مائة نشّابة؛ ووالله ما تصلون إلىّ ما دام معي منها نشّابة؛ وما يقع لي سهم؛ وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدّوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم؛ فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا؛ ودعا صاحب الرميّة بها، فجاء هو والرّجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا؛ علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم. فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك.
قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفلّ من تستر - وقد قصدوا للسّوس - إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان؛ حتى اشتملوا على السوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب عمر إلى عمر بن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبى موسى فردّه على البصرة، وقد ردّ أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، وردّ عمر عليها مرتين؛ وكتب إلى زرّ بن عبد الله بن كليب الفقيمىّ أن يسير إلى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمّر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بن ربيعة أحد بنى ربيعة بن مالك، وكان الأسود وزرّ من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين - وكان الأسود قد وفد على رسول الله ﷺ، وقال: فنى بطنى، وكثر إخوتنا، فادع الله لنا، فقال: اللهمّ أوف لزرّ عمره، فتحوّل إليهم العدد - وأوفدوا أبو سبرة وفدا؛ فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة؛ حتى إذا دخلوا هيّئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته، كما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدّدكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه - وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسّده فنام - فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدّرّة في يده معلّقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا؛ وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه؛ وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيّا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء؛ وكثر الناس؛ فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم؛ فتأمّله، وتأمّل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين الله! وقال: الحمد لله الذي أذّل بالإسلام هذا وأشياعه؛ يا معشر المسلمين، تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا فإنها غرّارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلّمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شئ، فرمى عنه بكلّ شئ عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه يوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنا وإيّاكم في الجاهليّة كان الله قد خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهليّة باجتماعكم وتفرّقنا. ثم قال عمر: ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك. واستسقى ماء، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد آمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمّن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتينّ بمخرج أو لأعاقبنّك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم؛ فأسلم. ففرض له على ألفين؛ وأنزله المدينة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان طلحة ابن عبد الرحمن، عن ابن عيسى، قال: كان الترجمان يوم الهرمزان المغيرة بن شعبة إلى أن جاء المترجم، وكان المغيرة يفقه شيئا من الفارسيّة، فقال عمر للمغيرة: قل له: من أي أرض أنت؟ فقال المغيرة: أزكدام أرضي؟ فقال: مهرجانىّ، فقال: تكلم بحجّتك، قال: كلام حتى أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد آمنتني، قال: خدعتني، إنّ للمخدوع في الحرب حكمه؛ لا والله لا أؤمّنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة. وقال المغيرة: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خبّ، وما خبّ إلا دقّ. إيّاكم وإيّاها، فإنها تنقض الإعراب. وأقبل زيد فكلّمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو، عن الشعبىّ وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلّا وفاء حسن ملكة، قال: فيكف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلّا ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم؛ وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم؛ ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه؛ وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شئ إلّا بانبعاثهم، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعزّ أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا. فقال: صدقتنى والله، وشرحت لي الأمر عن حقه. ونظر في حوائجهم وسرّحهم.
وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجا نقذق وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الإنسياح.
ذكر فتح السوس
اختلف أهل السير في أمرها؛ فأمّا المدائني فإنه - فيما حدثني عن أبو زيد - قال: لما انتهى فلّ جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصّته والموبذ، فقال: إنّ القوم لا يلقون جمعا إلّا فلّوه، فما ترون؟ فقال: الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر؛ فإنها بيت المملكة، وتضمّ إليك خزائنك، وتوجّه الجنود. فأخذ برأيه، وسار إلى أصبهان دعا سياه، فوجّهه في ثلاثمائة، فيهم سبعون رجلا من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كلّ بلدة ويمرّ بها من أحبّ، فمضى سياه وأتبعه يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السوس، فوجّه سياه إلى السوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانيّة، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعري الصلح، فصالحهم، وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانيّة، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحوّل سياه، فنزل بين رامهرمز وتستر، حتى قدم عمّار بن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان؛ فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في إيوانات إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلّا فتحوه، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم. ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام. فقدم شيرويه على أبي موسى، فقال: إنّا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب؛ وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك. فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، قالوا: لا نرضى.
وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى موسى: أعطهم ما سألوك. فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر؛ فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حّسر. فكتب أبو موسى إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء وأكثر شئ أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين، وخمسمائة لسياه وخسرو - ولقبه مقلاص - وشهريار، وشهرويه، وأفروذين.
فقال الشاعر:
ولمّا رأى الفاروق حسن بلائهم ** وكان بما يأتي من الأمر أبصرا
فسنّ لهم ألفين فرضا وقد رأى ** ثلاثمئين فرض عكّ وحميرا
قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسلّ سياه في آخر الليل في زي العجم حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن، وتضح ثيابه بالدّم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا، فمضى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلّمه، فرماه خسرو بنشّابة فقتله.
وأما سيف فإنه قال في روايته ما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عنه، عن محمد وطلحة وعمرو ودثار أبى عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما نزل أبو سبرة في الناس على السوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشوهم مرّات؛ كلّ ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم يوما الرهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا؛ أنه لا يفتح السوس إلّا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا. وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة، وعمّل على أهل البصرة المقترب مكان أبى موسى بالسّوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة محاصرا لأهل السوس مع أبى سبرة، وزرّ محاصر أهل نهاوند من وجهه ذلك؛ وضرب على أهل الكوفة البعث مع حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند؛ وأقبل النعمان على التهيؤ للسير إلى نهاوند، ثمّ استقلّ في نفسه، فناوشهم قبل مضيّه، فعاد الرهبان والقسّيسون، وأشرفوا على المسلمين، وقاولوا: يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلّا الدجال أو قوم معهم الدجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بن صيّاد يومئذ مع النعمان في خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق؛ ولمّا يخرج أبو موسى بعد. وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقّه برجله، وقال انفتح فطار فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصلح الصلح! وأمسكوا بأيديهم، فأجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح؛ ثم افترقوا. فخرج النعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرّح أبو سبرة المقترب حتى ينزل على جندى سابور مع زرّ، فأقام النعمان بعد دخول ماه، حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عمّن أورد فتح السوس، قال: وقيل لأبى سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: ومالنا بذلك! فأقرّه بأيديهم - قال عطيّة بإسناده: إنّ دانيال كان لزم أسياف فارس بعد بختنصّر؛ فلمّا حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على الإسلام؛ أكرم كتاب الله عمّن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربّه، فقال لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضنّ به، وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا؛ وقال: قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فخرج من عنده، ففعل مثل فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشدّ من غضبه الأوّل، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر الثالثة، فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف البحر عن الأرض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت. ومات دانيال بالسّوس؛ فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقرّوه في أيديهم، حتى إذا ولّى أبو سبرة عنهم إلى جندى سابور أقام أبو موسى بالسّوس. وكتب إلى عمر فيه؛ فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفّنه ودفنه المسلمون. وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا، فكتب إليه أن تختّمه، وفي فصّه نقش رجل بين أسدين.
ذكر مصالحة المسلمين أهل جندي سابور
وفيها - أعني سنة سبع عشرة - كانت مصالحة المسلمين أهلَ جُنْدَيْ سابور.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمرها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبى عمرو وأبى سفيان والمهلّب، قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور، وزرّ بن عبد الله بن كليب محاصرهم؛ فأقاموا عليها يغادنهم ويراوحونهم القتال؛ فما زالوا مقيمين عليها حتى رمى إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفجأ المسلمين إلّا وأبوابها تفتح، ثمّ خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبثّ أهلها، فأرسل المسلمون: أن مالكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمتعونا. فقالوا: ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم؛ فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها؛ هو الذي كتب لهم. فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: إنا لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدّل؛ فإن شئتم فاغذروا. فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إنّ الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شكّ أجيزوهم، وفوا لهم. فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياج سنة سبع عشرة في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرّق الأمراء والجنود، وأمّر على أهل البصرة أمراء؛ وأمّر على أهل الكوفة أمراء، وأمّر هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشرة، فساحوا في سنة ثمان عشرة، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة؛ فيكون هنالك حتى يحدث إليه؛ وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدىّ حليف بنى عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن قيس، ولواء أردشيرخرّه وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمى، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان مع سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان إلى عاصم ابن عمرو - وكان عاصم من الصحابة - ولواء مكران إلى الحكم بن عمير الغلبي. فخرجوا في سنة سبع عشرة، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب مسيرهم، حتى دخلت سنة ثمان عشرة، وأمدّهم عمر بأهل الكوفة؛ فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة ابن النضر، وبعبد الله بن أبي عقيل، وبربعىّ بن عامر، وبابن أمّ غزال. وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق المازني. قال بعضهم: كان فتح السوس ورامهرمز وتوجيه الهرمزان إلى عمر من تستر في سنة عشرين.
أخبار متفرقة
وحجّ بالناس في هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - عمر بن الخطاب؛ وكان عامله على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقّاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى الأشعري - وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي ردّ فيه إليها أميرا. وعلى القضاء - فيما قيل - أبو مريم الحنفي. وقد ذكرت من كان على الجزيرة والموصل قبل.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة ثمان عشرة - أصابت الناس مجاعة شديدة ولزبة، وجدوب وقحوط؛ وذلك هو العام الذي يسمّى عام الرمادة.
ذكر القحط وعام الرمادة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: دخلت سنة ثمان عشرة، وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس، فتفانى فيها الناس.
وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت الرمادة سنة ثمان عشرة. قال: وكان في ذلك العام طاعون عمواس.
كتب إلي السري يقول، حدثنا شعيب، عن سيف، عن الربيع وأبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، قالوا: وكتب أبو عبيدة إلى عمر: إنّ نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل، فسألناهم فتأوّلوا، وقالوا: خيّرنا فاخترنا، قال: " فهل أنتم منتهون "! ولم يعزم علينا. فكتب إلى عمر: فذلك بيننا وبينهم، " فهل أنتم منتهون "؛ يعنى فانتهوا. وجمع الناس، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة، ويضمّنوا الفسق من تأوّل عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. فكتب عمر إلى أبى عبيدة أن ادعهم؛ فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم فسألهم على رءوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحدّ القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثنّ فيكم يا أهل الشام حادث؛ فحدثت الرمادة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبىّ بمثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: لما قدم على عمر كتاب أبى عبيدة في ضرار وأبى جندل، كتب إلى أبى عبيدة في ذلك، وأمره أن يدعو بهم على رءوس الناس فيسألهم: أحرام الخمر أم حلال؟ فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين جلدة، واستتبهم، وإن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فدعّا بهم فسألهم، فقالوا: بل حرام، فجلدهم، فاستحيوا فلزموا البيوت. ووسوس أبو جندل، فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل قد وسوس، إلّا أن يأتيه الله على يديك بفرج، فاكتب إليه وذكّره، فكتب غليه عمر وذكّره، فكتب إليه: من عمر إلى أبى جندل " إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، فتب وارفع رأسك، وابرز ولا تقنط، فأنّ الله عزّ وجلّ، يقول: " يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرحيم ". فلما قرأه عليه أبو عبيدة تطلّق وأسفر عنه. وكتب إلى الآخرين بمثل ذلك فبرزوا، وكتب إلى الناس: عليكم أنفسكم، ومن استوجب التغيير فغيّروا عليه، ولا تعيّروا أحدا فيفشو فيكم البلاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء نحوا منه، إلّا أنه لم يذكر أنه كتب إلى الناس ألا يعيّروهم، وقال: قالوا: جاشت الروم، دعونا نغزوهم، فأن قضى الله لنا الشهادة فذلك، وإلّا عمدت للذي يريد. فاستشهد ضرار بن الأزور في قوم، وبقى الآخرون فحدّوا. وقال أبو الزهراء القشيرىّ في ذلك:
ألم تر أنّ الدهر يعثر بالفتى ** وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ** ولست عن الصهباء يوما بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ** فخلّانها يبكون حول المعاصر
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وأبى المجالد جراد بن عمرو وأبى عثمان يزيد بن أسيد الغسّانىّ، وأبى حارثة محرز العبشمىّ بإسنادهم، ومحمد بن عبد الله، عن كريب، قالوا: أصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينة وما حولها، فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد، فسمّى ذلك العام عام الرمادة، فآلى عمر ألّا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أوّل الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أوّل الحيا، فقدمت السوق عكّة من سمن وطب من لبن؛ فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبرّ الله يمينك، وعظّم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر أغليت بهما، فتصدّق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافا. وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعّية إذا لم يمسسنى ما مسّهم! كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف السلمىّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كانت في آخر سنة سبع عشر وأول سنة ثمان عشر، وكانت الرمادة جوعا أصاب الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتّى جعلت الوحش تأوى إلى الأنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنّه لمقفر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن عبد الرحمن بن كعب، قال: كان الناس بذلك وعمر كالمحصورة عن أهل الأمصار؛ حتى أقبل بلال بن الحارث المزنىّ، فاستأذن عليه، فقال: أنا رسول رسول الله إليك؛ يقول لك رسول الله ﷺ: لقد عهدتك كيّسا، وما زلت على رجل؛ فما شأنك! فقال متى رأيت هذا؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس: الصلاة جامعة! فصلّى بهم ركعتين؛ ثم قام فقال: أيّها الناس، أنشدكم الله، هل تعلمون منىّ أمرا غيره خير منه؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإنّ بلال بن الحارث يزعم ذيّة وذيّة؛ فقالوا: صدق بلال، فاستغث بالله وبالمسلمين، فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر! بلغ البلاء مدتّه فانكشف؛ ما أذن لقوم في الطلب إلّا وقد رفع عنهم البلاء؛ فكتب إلى أمراء الأمصار: أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم؛ وأخرج الناس إلى الاستسقاء، فخرج وخرج معه بالعباس ماشيا، فخطب فأوجز؛ ثم صلى، ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهمّ إيّاك نعبد وإياك نستعين؛ اللهمّ اغفر لنا وارحمنا وارض عنّا. ثم انصرف، فما بلغوا المنزل راجعين حتى خاضوا الغدران.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّرين الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهنّ شئ، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمّداه! فأرى فيما يرى النائم أنّ رسول الله ﷺ أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه منّى السلام، وقل له: إنّ عهدي بك وأنت وفي العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر؛ فقال لغلامه: استأذن لرسول الله ﷺ، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسّا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام؛ هل رأيتم مني شيئا تكرهونه! قالوا: اللهمّ لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن؛ فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس، فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهمّ عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوّة إلا بك، اللهمّ فاسقنا، وأحى العباد والبلاد؟! كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وجراد أبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، كلّهم عن رجاء - وزاد أبو عثمان وأبو حارثة: عن عبادة وخالد، عن عبد الرحمن بن غنم - قالوا: كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، ويستمدّهم، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجرّاح في أربعة آلاف راحلة من طعام، فولّاه قسمتها فيمن حول المدينة؛ فلمّا فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين؛ إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علىّ الدنيا، فقال: خذها فلا بأس بذلك إذ لم تطلبه، فأبى فقال: خذها فإنىّ قد وليت لرسول الله ﷺ مثل هذا، فقال لي مثل ما قلت لك، فقلت له كما قلت لي فأعطاني. فقبل أبو عبيدة وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأحيوا مع أوّل الحيا.
وقالوا بإسنادهم: وجاء كتاب عمرو بن العاص جواب كتاب عمر في الاستغاثة: إن البحر الشامىّ حفر لمبعث رسول الله ﷺ حفيرا، فصبّ في بحر العرب، فسدّه الروم والقبط، فإن أحببت أن يقوم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر، حفرت له نهرا وبنيت له قناطر. فكتب إليه عمر: أن افعل وعجّل ذلك؛ فقال له أهل مصر: خراجك زاج، وأميرك راض؛ وإن تمّ هذا انكسر الخراج. فكتب إلى عمر بذلك، وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها. فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجّل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها، فعالجه عمرو وهو بالقلزم، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصر إلّا رخاء، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها، حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان رضي الله عنه. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا.
قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أن الرقة والرّها وحرّان فتحت في هذه السنة على يدي عياض بن غنم، وأن عين الوردة فتحت فيها على يدي عمير ابن سعد. وقد ذكرت قول من خالفه في ذلك فيما مضى، وزعم أن عمر رضي الله عنه حوّل المقام في هذه السنة في ذي الحجّة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك. وقال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا.
قال أبو جعفر: وقال بعضهم: وفي هذها لسنة استقضى عمر شريح ابن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي.
قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وكانت ولاته في هذه السنة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في سنة سبع عشرة.
ثم دخلت سنة تسع عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة تسع عشرة
قال أبو جعفر: قال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى عنه: إنّ فتح جلولاء كان في سنة تسع عشرة على يدي سعد، وكذلك قال الواقدي.
وقال ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرّهاء وحرّان ورأس العين ونصيبين فيسنة تسع عشرة.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل.
وقال أبو معشر: كان فتح قيساريّة في هذه السنة - أعني سنة تسع عشرة - وأميرها معاوية بن أبى سفيان؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازىّ، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكالذي قال أبو معشر في ذلك قال الواقدي.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وأما سيف بن عمر فإن قال: كان فتحها في سنة ستّ عشرة.
قال: وكذلك فتح مصر.
وقد مضى الخبر عن فتح قيساريّة قبل، وأنا ذاكر خبر مصر وفتحها بعد في قول؛ من قال: فتحت سنة عشرين، وفي قول من خالف ذلك.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة تسع عشرة - سالت حرّة ليل نارا - فيما زعم الواقدي - فأراد عمر الخروج إليها بالرّجال، ثمّ أمرهم بالصدقة فانطفأت.
وزعم أيضا الواقدي أنّ المدائن وجلولاء فتحتا في هذه السنة، وقد مضى ذكر من خالفه في ذلك.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
وكان عمّاله على الأمصار وقضاته فيها الولاة والقضاة الذين كانوا عليها في سنة ثمان عشرة.
ثم دخلت سنة عشرين
ذكر الخبر عما كان فيها من مغازي المسلمين وغير ذلك من أمورهم
قال أبو جعفر: ففي هذه السنة فتحت مصر في قول ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فتحت مصر سنة عشرين.
وكذلك قال أبو معشر؛ حدثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، أنه قال: فتحت مصر سنة عشرين، وأميرها عمرو بن العاص.
وحدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: فتحت إسكندريّة سنة خمس وعشرين.
وقال الواقدي - فيما حدثت عن ابن سعد عنه: فتحت مصر والإسكندرية في سنة عشرين.
وأما سيف فإنه زعم - فيما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف - أنها فتحت والإسكندرية في سنة ستّ عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها وفتح الإسكندرية
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدى من كان؛ على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا؛ فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، أنّ عمر رضي الله عنه حين فرغ من الشأم كلها كتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون في سنة عشرين.
قال: وقد اختلف في فتح الإسكندريّة، فبعض الناس يزعم أنها فتحت في سنة خمس وعشرين، وعلى سنتين من خلافة عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وعليها عمرو بن العاص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني القاسم بن قزمان - رجل من أهل مصر - عن زياد بن جزء الزبيدىّ، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بن الخطاب في سنة إحدى وعشرين - أو سنة اثنتين وعشرين - قال: لما افتتحنا باب اليون تدنّينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية؛ حتى انتهينا إلى بلهيب - قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش - وقد بلغت سبايانا المدينة ومكّة واليمن.
قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو ابن العاص: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن تردّ علىّ ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت.
قال: فبعث إليه عمرو بن العاص: إنّ ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنّي حتى أكتب إليه بالذي عرضت علىّ، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره. قال: فقال: نعم. قال: فكتب عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطاب - قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به - يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم. ثم وقفنا ببلهيب؛ وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا؛ فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد؛ فإنه جاءني كتابك تذكر أنّ صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترّد عليه ما أصيب من سبايا أرضه؛ ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحبّ إلىّ من فئ يقسم، ثم كأنّه لم يكن؛ فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيّروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه؛ فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين؛ له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرّق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكّة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردّهم، ولا نحبّ أن نصالحه على أمر لا نفي له به. قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين. قال: فقال: قد فعلت. قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرّجل ممن في أيدينا، ثمّ نخيّره بين الإسلام وبين النصرانيّة؛ فإذا اختار الإسلام كبّرنا تكبيرة هي أشدّ من تكبيرتنا حين تفتح القرية؛ قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانيّة نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا؛ حتى كأنّه رجل خرج منا إليهم. قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم، وقد أتى فيمن أتينا به بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن - قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد - قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانيّة - وأبوه وأمه وإخوته في النصارى - فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى. ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإنّ هذه الكناسة التي ترى يابن أبى القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أنّ الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد؛ فقد والله كذب. قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بنى أميّة كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنّ مصر إنما دخلت عنوة؛ وإنما هم عبدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا.
قال أبو جعفر: وأما سيف؛ فإنه ذكر فيما كتب به إلىّ السري، يذكر أن شعيبا حدثه عنه، عن الربيع أبى سعيد، وعن أبي عثمان وأبى حارثة، قالوا: أقام عمر بإيلياء بعد ما صالح أهلها، ودخلها أياما، فأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في أثره الزبير ابن العوّام مددا له، وبعث أبا عبيدة إلى الرمادة، وأمره إن فتح الله عليه أن يرجع إلى عمله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، قال: حدثنا أبو عثمان عن خالد وعبادة، قالا: خرج عمرو بن العاص إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة؛ حتى انتهى إلى باب اليون، وأتبعه الزبير؛ فاجتمعا، فلقيهم هنالك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيّات بعثه المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد. فكفّوا أصحابهم، وأرسل إليهم عمرو: إني بارز فليبرز إلىّ أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضا، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلدة فاسمعا، إنّ الله عز وجل بعث محمّدا ﷺ بالحقّ وأمره به، وأمرنا به محمد ﷺ، وأدّى إلينا كلّ الذي أمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة؛ وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنّعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بك حفظا لرحمنا فيكم، وإنّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمّة إلى ذمّة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيّين خيرا؛ فإنّ رسول الله ﷺ أوصانا بالقبطيّين خيرا، لأنّ لهم رحما وذمّة، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلّا الأنبياء، معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا، وكانت من أهل منف والملك فيهم، فأديل عليهم أهل عين شمس، فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا، آمنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إنّ مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظروا قومكما؛ وإلّا ناجزتكم، قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعا إلى المقوقس فهمّ، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشئ إلّا رجونا أن يكون له أمان. فلم يفجأ عمرا والزبير إلّا البيات من فرقب، وعمرو على عدّة، فلقوه فقتل ومن معه، ثم ركبوا أكساءهم، وقصد عمرو والزبير لعين الشمس، وبها جمعهم، وبعث إلى الفرّما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندريّة، فنزل عليها، فقال كلّ واحد منهما لأهل مدينته: إن تنزلوا فلكم الأمان، فقالوا: إنّ الإسكندر قال: إني أبني مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنيّة - أو لأبنينّ مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية - فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إنّ الفرما قال: إني أبني مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها.
وكان الإسكندر والفرما أخوين.
قال أبو جعفر: قال الكلبىّ: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدث بمثل ذلك، فنسبتا إليهما، فالفرما ينهدم فيها كل يوم شئ، وخلقت مرآتها، وبقيت جدّة الإسكندرية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس؛ وكان الملك بين القبط والنّوب، ونزل معه الزبير عليها. قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلّوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرّضنا لهم - وذلك في اليوم الرابع - فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسّوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين؛ فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة؛ حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه؛ فصاروا ذمّة، وكان صلحهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملّتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرّهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمّتنا ممّن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنّوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا. عليهم ما عليهم أثلاثًا في كلّ ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمّته وذمّة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألّا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه. وكتب وردان وحضر.
فدخل في ذلك أهل مصر كلّهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصّر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلّما عمرًا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كلّ شئ أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمّة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزّعوه، ووقع في بلدان العرب. وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعد الوفود فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مرّوا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شئ من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى ردّ ذلك السبى الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلّا من قاتل بعد، فترادّوهم إلّا ما كان من ذلك الضرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمرًا أنهم يقولون: ما أرثّ العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذّن لأهل مصر، وجئ باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين؛ فأكلوا أكلًا عربيًا، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعًا وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد؛ وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر؛ فرأوا شيئًا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوّام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا. وبعث إليهم أن تسلّحوا للعرض غدًا، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم. ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شئ حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أنّ من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرّقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه لليّنة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره؛ إنّ عمرًا لعضّ. ثم أمّره عليها وقام بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سعيد الربيع ابن النعمان، عن عمرو بن شعيب، قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد. فدمّرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن: إنّا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال: اسكت؛ فإنما أنت كلب، قال: فأنت أمير الكلاب، قال: فلما جعل ذلك يتواصل نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله ﷺ؟ فحضر من شهدها من أصحاب رسول الله ﷺ، فقال: تقدّموا، فبكم ينصر الله المسلمين. فتقدّموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتحا الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظفر. وافتتحت مصر في ربيع الأول سنة ستّ عشرة، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك؛ فكان أهل مصر يتدفّقون على الأجلّ، وأهل مكران على راسل وداهر، وأهل سجستان على الشاه وذويه، وأهل خراسان والباب على خاقان، وخاقان ومن دونهما من الأمم، فكفكفهم عمر إبقاء على أهل الإسلام، ولو خلّى سربهم لبلغوا كلّ منهل.
حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمى، فسمّوا رماة الحدق، فلمّا ولّى عبد الله بن سعد بن أبى سرح مصر، ولّاه إياها عثمان بن عفان رضي الله عنه، صالحهم على هديّة عدّة رءوس منهم، يؤدّونهم إلى المسلمين في كلّ سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كلّ سنة طعامًا مسمّى وكسوة من نحو ذلك.
قال علىّ: قال الوليد: قالابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقرّه عمر بن عبد العزيز نظرًا منه للمسلمين، وإبقاء عليهم.
قال سيف: ولمّا كان ذو القعدة من سنة ستّ عشرة، وضع عمر رضي الله عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أنّ هرقل أغزى مصر والشأم في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من إمارة عمر رضي الله عنه.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - غزا ارض الروم أبو بحريّة الكندىّ عبد الله بن قيس؛ وهو أوّل من دخلها - فيما قيل. وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلم وغنم.
قال: وقال الواقدي: وفي هذه السنة عزل قدامة بن مظعون عن البحرين، وحدّه في شرب الخمر.
وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة.
قال: وفيها تزوّج عمر فاطمة بنت الوليد أمّ عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام.
قال: وفيها توفي بلال بن رباح رضي الله عنه، ودفن في مقبرة دمشق. وفيها عزل عمر سعدًا عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلّى.
وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها؛ وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم؛ ومضى إلى وادي القرى فقسمها.
وفيها أجلي يهود نجران إلى الكوفة - فيما زعم الواقدي.
قال الواقدي: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - دوّن عمر رضي الله عنه الدواوين. قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه.
وفيها بعث عمر رضي الله عنه علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة في البحر؛ وذلك أنّ الحبشة كانت تطرّفت - فيما ذكر - طرفًا من أطراف الإسلام؛ فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه ألّا يحمل في البحر أحدًا أبدًا.
وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين.
قال الواقدي: وفيها مات أسيد بن الحضير في شعبان.
وفيها ماتت زينب بنت جحش.
وحجّ في هذه السنة عمر رضي الله عنه.
وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلّا من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين
قال أبو جعفر: وفيها كانت وقعة نهاوند في قول ابن إسحاق؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وكذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكذلك قال الواقدي.
وأمّا سيف بن عمر فإنه قال: كانت وقعة نهاوند في سنة ثمان عشرة في سنة ستّ من إمارة عمر؛ كتب إلىّ بذلك السري، عن شعيب، عن سيف.
ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوند
وكان ابتداء ذلك - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - كان من حديث نهاوند أن النعمان بن مقرّن كان عاملًا على كسكر؛ فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره أنّ سعد ابن وقّاص استعمله على جباية الخراج، وقد أحببت الجهاد ورغبت فيه.
فكتب عمر إلى سعد: إنّ النعمان كتب إلىّ يذكر أنّك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك، ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهمّ وجوهك؛ إلى نهاوند.
قال: وقد اجتمعت بنهاوند الأعاجم، عليهم ذو الحاجب - رجل من الأعاجم - فكتب عمر إلى النعمان بن مقرّن: رسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرّن، سلام عليك؛ فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أمّا بعد؛ فإنه قد بلغني أنّ جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند؛ فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقّهم فتكفّرهم؛ ولا تدخلنّهم غيضة، فإنّ رجلًا من المسلمين أحبّ إلىّ من مائة ألف دينار. والسلام عليك.
فسار النعمان إليه ومعه وجوه أصحاب النبي ﷺ؛ منهم حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معد يكرب الزبيدىّ، وطليحة بن خويلد الأسدىّ، وقيس بن مكشوح المرادي. فلما انتهى النعمان بن مقرّن في جنده إلى نهاوند، طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيونًا، فساروا لا يعلمون الحسك، فزجر بعضهم فرسه؛ وقد دخلت في يده حسكة، فلم يبرح، فنزل، فنظر في يده فإذا في حافره حسكة، فأقبل بها، وأخبر النعمان الخبر، فقال النعمان للناس: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم، فيخرجوا في طلبك؛ فانتقل النعمان من منزله ذلك، وكنست الأعاجم الحسك، ثم خرجوا في طلبه، وعطف عليهم النعمان، فضرب عسكره، ثم عبّى كتائبه، وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله، وإن أصيب جرير بن عبد الله فعليكم قيس بن مكشوح؛ فوجد المغيرة بن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه، فأتاه، فقال له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: إذا أظهرت قاتلتهم، لأني رأيت رسول الله ﷺ يستحبّ ذلك؛ فقال المغيرة: لو كنت بمنزلتك باكرتهم القتال، قال له النعمان: ربما باكرت القتال؛ ثم لم يسوّد الله وجهك. وذلك يوم الجمعة. فقال النعمان: نصلّى إن شاء الله، ثم نلقى عدوّنا دبر الصلاة، فلما تصافّوا قال النعمان للناس: إنّي مكبّر ثلاثًا؛ فإذا كبّرت الأولى فشدّ رجل شسعه، وأصلح من شأنه؛ فإذا كبّرت الثانية، فشدّ رجل إزاره، وتهيّأ لوجه حملته؛ فإذا كبّرت الثالثة فاحملوا عليهم؛ فإني حامل. وخرجت الأعاجم قد شدّوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفرّوا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمى النعمان بنشّابة فقتل رحمه الله، فلفّه أخوه سويد بن مقرّن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح الله عليهم، ثم دفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، وقتل الله ذا الحاجب، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة.
قال أبو جعفر: وقد كان - فيما ذكر لي - بعث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع، مولى ثقيف - وكان رجلًا كاتبًا حاسبًا - فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم؛ فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس الله وخمس رسوله؛ وإن هذا الجيش أصيب، فاذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين نهاوند، أصابوا غنائم عظامًا، فوالله إني لأقسم بين الناس، إذ جاءني علج من أهلها فقال: أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي؛ على أن أدلك على كنوز النخيرجان - وهي كنوز آل كسرى - تكون لك ولصاحبك، لا يشركك فيها أحد؟ قال: قلت: نعم، قال: فابعث معي من أدلّه عليها، فبعثت معه، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت؛ فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي؛ ث قدمت على عمر بن الخطاب؛ فقال: ما وراءك يا سائب؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين؛ فتح الله عليك بأعظم الفتح، واستشهد النعمان ابن مقرّن رحمه الله. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: ثم بكى فنشج، حتى إنّي لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده. قال: فلما رأيت ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه. فقال المستضعفون من المسلمين: لكنّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر بن أمّ عمر! ثم قام ليدخل، فقلت: إنّ معي مالًا عظيمًا قد جئت به، ثم أخبرته خبر السفطين، قال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعًا إلى الكوفة. قال: وبات تلك الليلة التي خرجت فيها، فلم أصبح بعث في أثري رسولًا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلّا الآن. قال: قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله، قال: فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال: مالي ولابن أمّ السائب! بل ما لابن السائب ومالي! قال: قلت: وماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلّا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارًا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين؛ فخذها عنّي لا أبالك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما منّي عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف؛ ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم، فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالًا بعد.
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن زياد بن حدير، قال: حدثني أبي؛ أنّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، قال للهرمزان حين آمنه: لا بأس، انصح لي، قال: نعم، قال: إنّ فارس اليوم رأس وجناحان؛ قال: وأين الرأس؟ قال: بنهاوند مع بندار؛ فإنّ معه أساورة كسرى وأهل إصبهان، قال: وأين الجناحان؟ فذكر مكانًا نسيته، قال: فاقطع الجناحين يهن الرأس. فقال عمر: كذبت يا عدوّ الله! بل أعمد إلى الرأس فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يعص عليه الجناحان. قال: فأراد أن يسير إليه بنفسه، فقالوا: نذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى حلبة العجم؛ فإن أصبت لم يكن للمسلمين نظام؛ ولكن ابعث الجنود؛ فبعث أهل المدينة فيهم عبد الله بن عمرو بن الخطّاب، وفيهم المهاجرون والأنصار؛ وكتب إلى أبي موسى الأشعرىّ أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة حتى تجتمعوا جميعًا بنهاوند؛ وكتب: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرّن المزني؛ فلما اجتمعوا بنهاوند، أرسل بندار العلج إليهم: أن أرسلوا إلينا رجلا نكلّمه؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة. قال أبي: كأني أنظر إليه؛ رجلا طويل الشعر أعور، فأرسلوه إليه، فلمّا جاء سألناه، فقال: وجدته قد استشار أصحابه؛ فقال: بأي شئ نأذن لهذا العربي؟ بشارتنا وبهجتنا وملكنا، أو نتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ فقالوا: لا، بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدّة، فتهيّئوا بها، فلما أتيناهم كادت الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، فإذا هم على رأسه مثل الشياطين، وإذا هو على سرير من ذهب على رأسه التاج. قال: فمضيت كما أنا ونكّست، قال: فدفعت ونهنهت، فقلت: الرسل لا يفعل بهم هذا، فقالوا: إنما أنت كلب، فقلت: معاذ الله! لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه؛ فانتهروني، وقالوا: اجلس؛ فأجلسوني. قال - وترجم له قوله: إنكم معشر العرب أبعد الناس قذرًا، وأبعده دارًا؛ وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشّاب إلّا تنجّسًا لجيفكم؛ فإنكم أرجاس؛ فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأتوا نركم مصارعكم؛ قال: فحمدت الله، وأثنيت عليه، فقلت: والله ما أخطأت من صفتنا شيئًا، ولا من نعتنا، إن كنا لأبعد الناس دارًا، وأشدّ الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاء، وأبعد الناس من كلّ خير، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله ﷺ؛ فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة؛ فوالله ما زلنا نتعرّف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر؛ حتى أتيناكم؛ وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على ما في أيديكم؛ أو نقتل بأرضكم. فقال: أما والله إنّ الأعور قد صدقكم الذي في نفسه. قال: فقمت وقد والله أرعبت العلج جهدي. قال: فأرسل إلينا العلج: إمّا أن تعبروا ألينا بنهاوند؛ وإمّا أن نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا، قال أبى: فلم أر والله مثل ذلك اليوم، إنهم يجيئون كأنهم جبال حديد؛ قد تواثقوا ألّا يفرّوا من العرب، وقد قرن بعضهم بعضًا؛ سبعة في قران، وألقوا حسك الحديد خلفهم، وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك الحديد. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم فشلًا، إنّ عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أما والله لو أنّ الأمر لي لقد أعجلتهم - وكان النعمان بن مقرّن رجلًا ليّنًا - فقال له: فالله عز وجل يشهدك أمثالها فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك، إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلّا شئ شهدته من رسول الله ﷺ؛ إنّ رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أوّل النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهبّ الأرواح، ويطيب القتال؛ فما منعني إلّا ذلك. اللهمّ إني اسألك أن تقرّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، وذلّ يذلّ به الكفّار، ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله! فأمّنّا وبكينا. ثم قال: إني هاز لوائي فتيسّروا للسلاح، ثم هاز الثانية، فكونوا متأهّبين لقتال عدوّكم، فإذا هززت الثالثة فليحمل كلّ قوم على من يليهم من عدوّهم على بركة الله.
قال: وجاءوا بحسك الحديد. قال: فجعل يلبث حتّى إذا حضرت الصلاة وهبّت الأرواح كبّر وكبّرنا، ثم قال: أرجو أن يستجيب الله لي؛ ويفتح علي، ثم هزّ اللواء، فتيسّرنا للقتال، ثم هزّه الثانية فكنّا بإزاء العدوّ، ثم هزّه الثالثة.
قال: فكبّر وكبّر المسلمون، وقالوا: فتحًا يعزّ الله به الإسلام وأهله، ثم قال النعمان: إن أصبت فعلى الناس حذيفة بن اليمان؛ وإن أصيب حذيفة ففلان؛ وإن أصيب فلان ففلان؛ حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم هزّ اللواء الثالثة، فحمل كلّ إنسان على من يليه من العدوّ. قال: فوالله ما علمت من المسلمين أحدًا يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله، حتى يقتل أو يظفر، فحملنا حملة واحدة، وثبتوا لنا، فما كنّا نسمع إلّا وقع الحديد على الحديد، حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمة، فلمّا رأوا صبرنا وأنّا لا نبرح العرصة انهزموا، فجعل يقع الواحد فيقع عليه سبعة؛ بعضهم على بعض في قياد، فيقتلون جميعًا، وجعل يعقرهم حسك الحديد الذي وضعوا خلفهم. فقال النعمان رضي الله عنه: قدّموا اللواء، فجعلنا نقدّم اللواء، ونقتلهم ونهزمهم. فلما رأى أن الله قد استجاب له ورأى الفتح، جاءته نشّابه فأصابت خاصرته، فقتلته. قال: فجاء أخوه معقل فسجّى عليه ثوبًا، وأخذ اللواء فقاتل، ثم قال: تقدّموا نقتلهم ونهزمهم؛ فلما اجتمع الناس قالوا: أين أميرنا؟ قال معقل: هذا أميركم، قد أقرّ الله عينه بالفتح؛ وختم له بالشهادة. قال: فبايع الناس حذيفة وعمر بالمدينة يستنصر له، ويدعو له مثل الحبلى.
قال: وكتب إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين؛ فلما أتاه قال له: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعزّ الله به الإسلام وأهله، وأذلّ به الكفر وأهله. قال: فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسب النعمان يا أمير المؤمنين، قال: فبكى عمر واسترجع. قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان؛ حتى عدّ له ناسًا كثيرًا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرّهم ألّا يعرفهم عمر؛ ولكنّ الله يعرفهم.
وأما سيف، فإنه قال -فيما كتب إلي السري يذكر أن شعيبًا حدثه عنه؛ وعن محمد والمهلب وطلحة وعمر وسعيد- إنّ الذي هاج أمر نهاوند أنّ أهل البصرة لما أشجوا الهرمزان، وأعجلوا أهل فارس عن مصاب جند العلاء، ووطئوا أهل فارس، كاتبوا ملكهم؛ وهو يومئذ بمرو، فحرّكوه، فكاتب وتكاتبوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ويبرموا فيها أمورهم، فتوافى إلى نهاوند أوائلهم.
وبلغ سعد الخبر عن قباذ صاحب حلوان، فكتب إلى عمر بذلك، فنزل بسعد أقوام، وألبوا عليه فيما بين تراسل القوم واجتماعهم إلى نهاوند، ولم يشغلهم ما دهم المسلمين من ذلك، وكان ممن نهض الجراح بن سنان الأسدي في نفر، فقال عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر، وقد استعد لكم من استعدوا، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة، والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع -وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شكي زمان عمر- فقدم محمد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شأنهم إذ ذاك، وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيرا ولا نشتهي به بدلا، ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءا ولا يسوغ لهم، و يتعمدون ترك الثناء حتى انتهوا إلى بني عبس، فقال محمد: أنشد بالله رجلا يعلم حقا إلا قال! قال أسامة بن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن قالها كاذبا ورئاء وسمعة فأعم بصره وأكثر عياله وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها فإذا عثر عليه، قال: دعوةُ سعد الرجل المبارك. ثم أقبل على الدعاء على النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فأجهد بلاءهم، فجهد بلاؤهم، فقطح الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصه بالحجارة، وقُتل أربد بالوجء وبنعال السيوف. وقال سعد: إني لأول رجل أهرق دما من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله ﷺ بين أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أن أصلي وأن الصيد يلهيني. وخرج محمد به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد، ويحك، كيف تصلي، فقال: أطيل الأوليين، وأحذف الأخريين، فقال: هكذا الظن بك. ثم قال: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا. ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره واستعمله، فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها في زمان سعد، وأما الوقعة ففي زمان عبد الله.
قالوا: وكان من حديثهم أنهم نفروا بكتاب يزدجرد الملك، فتوافوا إلى نهاوند، فتوافق إليها من بين خراسان إلى حلوان، ومن بين الباب إلى حلوان، وبين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفَهْلوج أهل الجبال من بين الباب إلى حلوان ثلاثين ألف مقاتل، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل، واجتمعوا على الفيرُزان، وإليه كانوا توافوا وشاركهم موسى.
عن حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبي طعمة الثقفي-وكان قد أدرك ذلك- قال: ثم إنهم قالوا إن محمد الذي جاء العرب بالدين لم يغرض غرضنا، ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض غرض فارس إلا في غارة تعرض لهم فيها، وإلا فيما يلي بلادهم من السواد. ثم ملك عمر من بعده، فطال ملكه وعرض، حتى تناولكم وانتقصكم السواد والأهواز، وأوطأها، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم، وهو آتيكم إن لم تأتوه، فقد أُخبر بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنتهٍ حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقلعوا هذين المصرين، ثم تشغلوه في بلاده وقراره. وتعاهدوا وتعاقدوا، وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا عليه.
وبلغ الخبر سعدا وقد استخلف عبد الله بن عبد الله بن عِتبان. ولما شخص لقي عمر بالخبر مشافهة، وقد كان كتب إلى عمر بذلك وقال إن أهل الكوفة يستأذنوك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة - وقد كان عمر منعهم من الانسياح في الجبل.
وكتب إليه أيضا عبد الله وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل، فإن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلكم؛ وكان الرسول بذلك قَريب بن ظَفَر العبدي.
ثم خرج سعد بعده فوافى مشورة عمر، فلما قدم الرسول بالكتاب إلى عمر بالخبر فرآه قال: ما اسمك؟ قال: قريب، فال: ابن من؟ قال: ابن ظفر، فتفاءل إلى ذلك وقال: ظَفَر قريب إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله! ونودي في الناس: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس، ووافاه سعد، فتفاءل إلى سعد بن مالك، وقام على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه، ثم أخبروني وأوجزوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ولا تكثروا ولا تطيلوا، فتفشغ بكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأي - أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه، حتى أنزل منزلا واسطا بين هذين المصرين، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم، وليتنازعوا ملكهم. فقام عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، في رجال من أهل الرأي من أصحاب رسول الله ﷺ، فتكلموا كلاما فقالوا: لا نرى ذلك، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأثرك، وقالوا: بإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم، ومن قد فض جموعهم، وقتل ملوكهم، وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذه، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك، فأذن لهم واندب إليهم وادع لهم. وكان الذي ينتقد له الرأيَ إذا عرض عليه العباس رضي الله عنه.
كتب إلي السري، عن شعبة، عن سيف، عن حمزة عن أبي طُعمة، قال: فقام علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأي، وفهموا ما كُتب به إليك، وإن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خِذلانه لكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعز وأيده بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجزٌ وعده وناصر جنده، ومكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل يفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهي كثير عزيز بالإسلام، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، ومن لم يحفل بمن هو أجمع وأحد وأجد من هؤلاء فليأتهم الثلثان وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم.
فسر عمر بحسن رأيهم وأعجبه ذلك منهم. وقام سعد فقال: يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنهم إنما جمعوا لنقمة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي بكر الهذلي، قال: لما أخبرهم عمر الخبر واستشارهم، وقال: أوجزوا في القول، ولا تطيلوا فتفشغ بكم الأمور، واعلموا أن هذا يوم له ما بعده من الأيام، تكلموا، فقام طلحة بن عبيد الله -وكان من خطباء أصحاب رسول الله ﷺ- فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المومنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلايا، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو في يديك، ولا نكل عليك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، ووفِّدنا نفِد، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واختبرت، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار. ثم جلس. فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا. فقام عثمان بن عفان، فتشهد وقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشأم فيسيروا من شأمهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأمر هذين الحرمين إلى المصرين الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزا وأكثر، يا أمير المؤمنين أنك لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقية ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ عنها بحريز، إن هذا ليوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأقرانك ولا تغب عنه. ثم جلس.
فعاد عمر فقال: إن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا، فقام علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المزمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات؛ أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق، فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم، لئلا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم في الكوفة مددا لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب، وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلَبهم، وألّبتهم على نفسك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيها مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالنصر.
فقال عمر: أجل والله، لئن شخصت من البلدة لتنقضن علي الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت إلي الأعاجم لا يفارقُن العرصة، وليمدنهم من لم يمدهم، وليقولن: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب، فأشيروا علي برجل أُوَلِّهِ ذلك الثغرَ غدا. قالوا: أنت أفضل رأيا وأحسن مقدرة، قال: أشيروا علي به، واجعلوه عراقيا. قالوا: يا أمير المزمنين، أنت أعلم بأهل العراق، ونجدك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم، فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن لأول الأسنّة إذا لقيها غدا، فقيل: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها - والنعمان يومئذ بالبصرة معه قواد من قواد أهل الكوفة أمدهم بهم عمر عند انتقال الهرمزان، فافتتحوا رامَهُرْمُز وإيذَج، وأعانوهم على تُسْتَر وجُنْدَيْ سابور والسُّوس. فكتب إليه عمر مع زِرّ بن كُليب والمقترب الأسود بن ربيعة بالخبر، وأني قد وليتك حربهم، فسر من وجهك ذلك حتى تأتي ماه، فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع لك جنودك فسر إلى الفَيرُزان ومن تحمل إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا الله، وأكثروا من قول: لا حول ولا قرة إلا بالله.
وروي عن أبي وائل في سبب توجيه عمر النعمان بن مقرن إلى نهاوند ما حدثني به محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: كان النعمان بن مقرن على كَسْكَر، فكتب إلى عمر: مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب وإلى جنبه مومسة تلوّنُ له وتَعَطّر، فأنشدك الله لما عزلتني عن كسكر وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين!
قال: فكتب إليه عمر: أن ائت الناس بنهاوند، فأنت عليهم، قال: فالتقوا، فكان أول قتيل، وأخذ الرأية أخوه سويد بن مقرن، ففتح الله على المسلمين، ولم يكن لهم -يعني للفرس- جماعة بعد يومئذ، فكان أهل كل مصر يغزون عدوهم في بلادهم.
رجع الحديث إلى حديث سيف. وكتب -يعني عمر- إلى عبد الله بن عبد الله مع ربعي بن عامر، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها، وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمّرت عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن حدث لحذيفة حدث فعلى الناس نُعيم بن مقرن، ورُدَّ قريب بن ظفر ورد معه السائب بن الأقرع أمينا. وقال: إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تراني ولا أراك. فقدما إلى الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث، وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظا، وخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم حتى قدموا على النعمان بالطزر، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النُّسَير. وقد كتب عمر إلى سُلمى بن القيْن وحَرْملة بن مُريطة وزر بن كليب والمقترب الأسود بن ربيعة، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري. وبعث مجاشع بن مسعود السُّلَمي إلى الأهواز، وقال له: انصُل منها على ماه، فخرج حتى إذا كان بغُضَى شجر، أمره النعمان أن يقيم مكانه، فأقام بين غضى شجر ومَرْج القلعة، ونَصَل سُلْمى وحرملة وزر والمقترب، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن أهل نِهاوند أمداد فارس.
ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب: إن معك حدَّ العرب ورجالهم في الجاهلية، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب، واستعن بهم، واشرب برأيهم، وسلْ طليحة وعَمرا وعَمرا ولا تولهم شيئا. فبعث من الطزر طليعة وعمرا وعمرا طليعة ليأتوه بالخبر، وتقدم إليهم ألا يَغِلُوا. فخرج طليحة بن خويلد وعمرو بن أبي سلمى العنزي وعمرو بن معديكرب الزبيدي، فلما ساروا يوما إلى الليل رجع عمرو بن أبي سلمى، فقالوا: ما رجعك؟ قال: كنت في أرض العجم، وقتلتْ أرضٌ جاهلها، وقتل أرضا عالمُها. ومضى طليحة وعمرو حتى إذا كان من آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة، ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق. ونفذ طليحة ولم يحفل بهما. فقال الناس: ارتد الثانية، ومضى طُليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخا. فعلم علمَ القوم، واطلع على الأخبار، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبر الناس، فقال: ما شأن الناس؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربية ما كنت لأُجزِر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأتى النعمان فدخل عليه، فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، ولا أحد. فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل، فأمرهم بالتعبية. وبعث إلى مجاشع بن مسعود أن يسوق الناس، وسار النعمان على تعبيته، وعلى مقدمته نُعيم بن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجرَّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع، وقد توافى إليه أمداد المدينة، فيهم الغيرة وعبد الله، فانتهوا إلى الإسبيذَهان والقوم وقوف دون واي خُرْد على تعبيتهم وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنبتيه الزردُق وبَهْمن جاذَوَيه الذي جعل مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها، وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس، وعلى خيولهم أنوشق. فلما رآهم النعمان كبّر وكبر الناس معه، فتزلزلت الأعاجم، فأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال، وبضرب الفسطاط، فضُرب وهو واقف، فابتدره أشراف أهل الكوفة وأعيانهم، فسبق إليه يومئذ عدة من أشراف أهل الكوفة، تسابقوا فبنوا له فسطاطا سابقوا أكفاءهم فسبقوهم، وهم أربعة عشر، منهم حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب بن الربيع، وابن الهوْبر، ورِبعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، والأقرع بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمذاني، ووائل بن حجر، فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء، وأنشب النعمان بعدما حط من الأثقال القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس، والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من إمارة عمر، في سنة تسع عشرة، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمين، فأقاموا عليهم ما شاء الله والأعاجم بالخيار، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فاشتد ذلك على المسلمين، وخافوا أن يطول أمرهم، وسرّهم أن يناجزهم عدوهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين، فتكلموا، وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه، فوافقوه وهو يُروّي في الذي رَوَّوا فيه. فقال: على رسلكم، لا تبرحوا! وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب، فتوافوا إليه، فتكلم النعمان ففال: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه وعليه من الخيار عليهم في الخروج، فما الرأي الذي به نُحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟
فتكلم عمرو بن ثُبي-وكان أكبر الناس يومئذ سنا، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان- فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرِجهم وطاولهم، وقاتل من أتاك منهم، فردوا عليه جميعا رأيه. وقالوا: إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا.
وتكلم عمرو بن معديكرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تَخَفْهم. فردوا عليه جميعا رأيه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعوان علينا.
وتكلم طليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا، وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية، فيحدقوا بهم، ثم يرموا لينشبوا القتال، ويحمشوهم، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلانهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منها طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم، حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو -وكان على المجردة- ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، فأنغضهم فلما خرجوا نكص، ثم نكص، ثم نكص، واغتنمها الأعاجم، ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرَز القعقاع إلى الناس، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبيرهم في يوم جمعة في صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه! ألا ترى ما لقي الناس، فما تنتطر بهم! ائذن للناس في قتالهم، فقال لهم النعمان: رويدا رويدا! قالوا له ذلك مرارا، فأجابهم بمئل ذلك مرارا: رويدا رويدا، فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر إلي علمت ما أصنع! فقال: رويدا ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك، ونحن نرجو في المكث الذي ترجو في الحثّ. وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول الله ﷺ في القتال أن يلقى فيها العدو، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح. فلما كان قريبا من تلك الساعة تحشحش النعمان، وسار في الناس على بِرذون أحوى قريب من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحمد الله ويثني عليه، ويقول: قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين، وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هَوادِيَ ما وعدكم وصدوره، وإنما بقي أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله. واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد الله حقا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظفركم وعزكم، والذي عليه في هزيمتكم وذلكم، وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم، فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحمى منكم على دينكم، واتقى الله عبدٌ صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين منتظرين، إحدى الحسنيين، من بين شهيد حي مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير. فكفى كل رجل ما يليه، ولم يكل قِرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه، وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معًا. اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك!
فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف، وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه، فكبر الأولى والثانية والثالثة، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة، يُنَحّي بعضهم بعضا عن سَنَنهم. وحمل النعمان وحمل الناس، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب، والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا بالسيوف قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعه يوم قط كانت أشد قتالا منها، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب فيه، وأصيب فرسان من فرسان السلمين في الزلق في الدماء، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه، وصرع. وناول الراية نعيم بن مقرن قبل أن يقع، وسجى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه، وكان اللواء مع حذيفة، فجعل حذيفة نعيم بن مقرر مكانه، وأتى المكان الدي كان فيه النعمان فأقام اللواء، وقال له المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم، لكيلا يهن الناس، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل انكشف المشركون وذهبوا، والمسلمون ملظون بهم متلبسون، فعُمّي عليهم قصدُهم، فتركوه وأخذوا نحو اللهب الدي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان، فوقعوا فيه، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال: "وايه خُرْد"، فسمي بذلك "وايه خرد" إلى اليوم، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة منهم أعدادهم، لم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة، فهرب نحو هَمَذان في ذلك الشريد، فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلا، فحبسه الدواب على أجله، فقتله على الثنية بعدما امتنع، وقال المسلمون: إن لله جنودا من عسل، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال، فأقبل بها، وسميت الثنية بذلك ثنية العسل. وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقّل في الجبل إذ لم يجد مساغا، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم، فدخلوها، فنزل المسلمون عليهم، وحووا ما حولها، فلما رأى ذلك خُسْرَوْشُنُوم استأمنهم، وقبل منهم على أن يضمن لهم همذان ودَسْتَبى، وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوهم إلى ذلك وآمنوهم، وأمن الناس، وأقبل كل من كان هرب، ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند واحتووا ما فيها وما حولها، وجمعوا الأسلاب والرِّثاث إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع.
فبينا هم كذلك على حالهم وفي عسكرهم يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤّمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ قال: نعم، قال: إن النخَيْرَجان وضع عندي ذخيرة لكسرى، فانا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت، فأعطاه ذلك، فأخرج له ذخيرة كسرى، جوهرا كان أعده لنوائب الزمان، فنظروا في ذلك، فأجمع رأي المسلمين على رفعه إلى عمر، فجعلوه له، فأخروه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس، وقسم حذيفة بن اليمان بين الناس غنائمهم، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف، وسهم الراجل ألفين، وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بن الأقرع، فقبض السائب الأخماس، فخرج بها إلى عمر وبذخيرة كسرى. وأقام حذيفة بعد الكتاب بفتح نهاوند بنهاوند ينتظر جواب عمر وأمره، وكان رسوله بالفتح طريف بن سهم، أخو بني ربيعة بن مالك.
فلما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همذان قد أخِذت، ونزلها نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو اقتدوا بخسروشنوم، فراسلوا حذيفة، فأجابهم إلى ما طلبوا، فأجمعوا على القبول، وعزموا على إتيان حذيفة، فخدعهم دينار -وهو دون أولئك الملوك، وكان ملكا إلا أن غيره منهم كان أرفع منه، وكان أشرفهم قارن- وقال: لا تلقوهم في جَمالكم ولكن تَقَهّلوا لهم، ففعلوا، وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلي، وأعطاهم حاجتهم واحتمل للمسلمين ما أرادوا، فعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول في أمره، فقيل "ماه دينار" لذلك. فذهب حذيفة بماه دينار، وقد كان النعمان عاقد بَهْراذان على مثل ذلك، فنسبت إلى بهراذان، ووكل النسير بن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فجاهدهم، فافتتحها فنسبت إلى النسير، وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة ولمن أقام بغضى شجر ولأهل المسالح جميعا في فيء نهاوند مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنهم كانوا ردءا للمسلمين لثلا يؤتوا من وجه من الوجوه. وتململ عمر تلك الليلة التي كان قدر للقائهم، وجعل يخرج ويلتمس الخبر، فبينا رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه، فرجع إلى المدينة ليلا، فمر به راكب في الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة. فقال: يا عبد الله، من أين أقبلت؟ قال: من نهاوند، قال: ما الخبر؟ مال: الخبر خير، فتح الله على النعمان، واستشهد، واقتسم المسلمون فيء نهاوند، فأصاب الفارس ستة آلاف. وطواه الراكب حتى انغمس في المدينة، فدخل الرجل، فبات فأصبح فتحدث بحديئه، ونمى الخبر حتى بلغ عمر، وهو فيما هو فيه، فأرسل إليه، فسأله فأخبره، فقال: صدق وصدقت، هذا عثيم بريد الجن، وقد رأى بريد الإنس، فقدم عليه طريف بالفتح بعد ذلك، فقال: الخبر! فقال: ما عندي أكثر من الفتح، خرجت والمسلمون في الطلب وهم على رِجل؛ وكتمه إلا ما سرّه.
ثم خرج وخرج معه أصحابه، فأمعن، فرفع له راكب، فقال: قولوا، فقال عثمان بن عفان: السائب، فقال: السائب، فلما دنا منه قال: ما وراءك؟ قال: البشرى والفتح، قال: ما فعل النعمان؟ قال: زلق فرسه في دماء القوم، فصرع فاستشهد، فانطلق راجعا والسائب يسايره، وسأل عن عدد من قتل من المسلمين، فأخبره بعدد قليل، وأن النعمان أول من استشهد يوم فتح الفتوح -وكذلك كان يسميه أهل الكوفة والمسلمون- فلما دخل المسجد حطَّت الأحمال فوضعت في المسجد وأمر نفرا من أصحابه -منهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم- بالمبيت فيه، ودخل منزله، واتبعه السائب بن الأقرع بذينك السَّفَطَيْن، وأخبره خبرهما وخبر الناس، فقال: يا ابن مليكة، والله ما دروا هذا، ولا أنت معهم! فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تاتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليه، فأقبل راجعا بقبل حتى انتهى إلى حُذيفة بماه، فأقامهما فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس الأسدي: أن رجلا يقال له جعفر بن راشد قال لطليحة وهم مقيمون على نهاوند: لقد أخذتنا خلة، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟ فقال: كما أنتم حتى أنظر، فأخذ كساء فتقنع به غير كثير، ثم قال: البيان البيان، غنم الدهقان، في بستان، مكان أرْوَنان. فدخلوا البستان فوجدوا الغنم مسمنة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي معبد العبسي وعروة بن الوليد، عمن حدثهم من قومهم، قال: بينما نحن محاصرو أهل نهاوند خرجوا علينا ذات يوم، فقاتلونا فلم نلبثهم أن هزمهم الله، فتبع سماك بن عُبيد العبسي رجلا منهم معه نفر ثماينة على أفراس لهم فبارزهم، فلم يبرز له أحد إلا قتله، حتى أتى عليهم. ثم حمل على الذي كانوا معه، فأسره وأخذ سلاحه، ودعا له رجلا اسمه عبد، فوكله به، فقال: اذهبوا بي إلى أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض، وأؤدي إليه الجزية، وسلني أنت عن إسارك ما شئت. وقد مننت علي إذ لم تقتلني، وإنما أنا عبدك الآن، وإن أدخلتني على الملك وأصلحت ما بيني وبينه، وجدت لي شكرا، وكنت لي أخا. فخلى سبيله وآمنه، وقال: من أنت؟ قال: أنا دينار -والبيت منهم يومئذ في آل قارن- فأتى به حذيفة، فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل ونظره للمسلمين، فصالحه على الخراج، فنسبت إليه ماه، وكان يواصل سماكا ويهدي له، ويوافي الكوفة كلما كان عمله إلى عامل الكوفة، فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس بالكوفة، فقال: يا معشر أهل الكوفة، أنتم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل، وخب، وكدر، وضيق؛ ولم يكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم، فإذا ذلك في مولّديكم، فعلمت من أين أُتيتم، فإذا الخب من قبل النَّبَط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خُراسان، والضيق من قبل الأهواز.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد عن الشَّعبي، قال: لما قُدم بسبي نهاوند إلى المدينة، جعل أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال: أكل عمر كبدي - وكان نهاونديا، فأسرته الروم أيام فارس، وأسره المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: قتل في اللهب ممن هوى فيه ثمانون ألفا وفي المعركة ثلاثون ألفا مقترين، سوى من قتل في الطلب، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، وافتتحت مدينة نهاوند في أول سنة تسع عشرة، لسبع سنين من إمارة عمر، لتمام سنة ثمان عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سبيف عن محمد والمهلب وطلحة في كتاب النعمان بن مقرن وحذيفة لأهل الماهين:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى النعمان بن مقرن أهل ماه بهراذان، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون على ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا، فذمتنا منهم بريئة. شهد عبد الله بن ذي السهمين والقعقاع بن عمرو وجرير بن عبد الله.
وكتب في المحرم سنة تسع عشرة.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى حذيفة بن اليمان أهل ماه دينار، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين من مر بهم، فأوى إليهم يوما ولليلة، ونصحوا؛ فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة. شهد القعقاع بن عمرو، ونعيم بن مقرن، وسويد بن مقرن. وكتب في المحرم.
قالوا: وألحق عمر من شهد نهاوند فأبلى من الروادف بلاء فاضلا في ألفين ألفين، ألحقهم بأهل القادسية.
وفي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالميل إلى أرض فارس وكَرْمان وإصبهان، وبعض من كان منهم بناحية الكوفة وماهاتها إلى إصبهان وأذربيجان والري. وكان بعضهم يقول: إنما كان ذلك من فعل عمر في سنة ثمان عشرة. وهو قول سيف بن عمر.
ذكر الخبر عما كان في هذه السنة -أعني سنة إحدى وعشرين- من أمر الجنديْن اللذين ذكرت أن عمر أمرهما بما ذكر أنه أمرهما به.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حربا، وقيل له: لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته، أذن للناس في الانسياح في أرض العجم، حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد بن أبي وقاص وبين عمل عمار بن ياسر أميران: أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان -وفي زمانه كانت وقعة نهاوند- وزياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي-وفي زمانه أمر بالانسياح- وعزل عبد الله بن عبد الله، وبُعث في وجه آخر من الوجوه، وولى زياد بن حنظلة -وكان من المهاجرين- فعمل قليلا وألح في الاستعفاء، فأعفي، وولى عمار بن ياسر بعد زياد، فكان مكانه، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى، وجعل عمر بن سراقة مكانه، وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بن حنظلة، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن، وقد كان أهل همذان كفروا بعد الصلح، فأمره بالسير نحو همذان، وقال: فإن فتح الله على يديك فإلى ما وراء ذلك، في وجهك ذلك إلى خُراسان. وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله وعقد لهما على أذْرَبيجان، وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان إلى ميمنتها، وأمر الآخر أن يأخذ إليها من الموصل إلى ميسرنها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتساير هذا عن صاحبه. وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بلواء، وأمره أن يسير إلى إصبهان، وكان شجاعا بطلا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، حليفا لبني الحبلى من بني أسد، وأمده بأبي موسى من البصرة، وأمر عمر بن سراقة على البصرة.
وكان من حديث عبد الله بن عبد الله أن عمر حين أتاه فتح نهاوند بدا له أن يؤذن في الانسياح فكتب إليه: أن سِر من الكوفة حتى تنزل الدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، واكتب إلي بذلك، وعمر يريد توجيهه إلى إصبهان فانتدب له فيمن انتدب عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعبد الله بن الحارث بن ورقاء الأسدي. والذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، لذكر ورقاء، وظنوا أنه نسب إلى جده، وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء يوم قتل بصفين ابن أربع وعشرين سنة، وهو أيام عمر صبي.
ولما أتى عمرَ انبعاثُ عبد الله، بعث زياد بن حنظلة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم أمر عمارا بعد، وقرأ قول الله عز وجل: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }. وقد كان زياد صرف في وسط من إمارة سعد إلى قضاء الكوفة بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة، ليقضي إلى أن يقدم عبد الله بن مسعود من حمص، وقد كان عمل لعمر على ما سقى الفرات ودجلة النعمان وسويد ابنا مقرّن، فاستعفيا وقالا: أعفنا من عمل يتغول ويتزين لنا بزينة المومسة. فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن أسيد الغفاري وجابر بن عمرو المُزني، ثم استعفيا فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، حذيفة على ما سقت دِجلة وما وراءها، وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعا، وكتب إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليهم عمار بن ياسر أميرا، وجعلت عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى.
ذكر الخبر عن إصبهان
قالوا: ولما قدم عمار إلى الكوفة أميرا، وقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر إلى إصبهان وزياد على الكوفة، وعلى مقدمتك عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعلى مجنبتيك عبد الله بن ورقاء الأسدي وعصمة بن عبد الله -وهو عصمة بن عبد الله بن عبيدة بن سيف بن عبد الحارث- فسار عبد الله في الناس حتى قدم على حذيفة، ورجع حذيفة إلى عمله، وخرج عبد الله فيمن كان معه ومن انصرف معه من جند النعمان من نهاوند نحو جند قد اجتمع له من أهل إصبهان عليهم الأُسْتَنْدار، وكان على مقدّمته شَهْربراز جاذَوْيه، شيخ كبير في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برُستاق عن رساتيق إصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء، فقتله وانهزم أهل إصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم. ودعا عبد الله بن عبد الله من يليه، فسال الأستندار الصلح، فصالحهم، فهذا أول رستاق أخذ من إصبهان. ثم سار عبد الله من رستاق الشيخ نحو جَيّ حتى انتهى إلى جي والملك بإصبهان يومئذ الفاذوسفان، ونزل بالناس على جي، فحاصرهم، فخرجوا إليه بعد ما شاء الله من زحف؛ فلما التقوا قال الفاذوسفان لعبد الله: لا تقتل أصحابي، ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يقع لهم نُشّابة. فبرز له عبد الله وقال: إما أن تحمل علي، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمِل عليك، فوقف له عبد الله، وحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قَرَبُوس سرجه فكسره، وقطع اللبب والحزام، وزال اللبد والسرج، وعبد الله على الفرس، فوقع عبد الله قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه، وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإني قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن أرجعُ معك إلى عسكرك فأصالحك، وأدفع المدينة إليك، على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تُجري من أخذتم أرضه عنوة مجراهم، ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيه ذهب حيث شاء، ولكم أرضه. قال: لكم ذلك.
وقدم عليه أبو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وقد صالح الفاذوسفان عبد الله فخرج القوم من جي، ودخلوا الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل إصبهان خالفوا قومهم وتجمعوا فلحقوا بكرمان في حاشيتهم، لجمع كان بها، ودخل عبد الله وأبو موسى جي -وجي مدينة إصبهان- وكتب بذلك إلى عمر، واغتبط من أقام، وندم من شخص. فقدم كتاب عمر على عبد الله أن سر حتى تقدم على سُهيل بن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، وخلّف في جي من بقي عن جي، واستخلف على إصبهان السائب بن الأقرع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن نفر من أصحاب الحسن منهم المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف، قال: شهدت مع أبي موسى فتح إصبهان، وإنما شهدَها مددا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: كتاب صلح إصبهان:
بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل إصبهان وحواليها؛ إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم عن الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة ئؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلةٍ، لا تسلّطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غير مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بُلغ منه، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله.
فلما قدم الكتاب من عمر على عبد الله، وأمر فيه باللحاق بسهيل بن عدي بكرمان، خرج في جريدة خيل، واستخلف السائب، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
وقد روي عن معقل بن يسار أن الذي كان أميرا على جيش المسلمين حين غزوا إصبهان النعمان بن مقرن.
ذكر الرواية بذلك
حدثنا يعقوب بن إبراهيم وعمرو بن علي، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمى، عن أبي عمران الجوني، عن علقمة بن عبد الله المدني، عن معقل بن يسار، أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان، فقال: ما ترى: أبدأ بفارس أم بأذربيجان أم بإصبهان؟ فقال: إن فارس وأذربيجان الجناحان، وإصبهان الرأس. فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس. فدخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك، قال: أما جابيًا فلا، ولكن غازيا، قال: فأنت غاز. فوجهه إلى إصبهان، وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فأتاها وبينه وبينهم الظهر، وأرسل إليهم المغيرة بن شعبة، فأتاهم، فقيل لملكهم، وكان يقال له ذو الحاجبين: إن رسول العرب على الباب، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ أقعد له في بهجة الملك؟ فقالوا: نعم، فقعد على سريره، ووضع التاج على رأسه، وقعد أبناء الملوك نحو السلاطين عليهم القِرَطة وأسورة الذهب وثياب الديباج. ثم أذن له فدخل ومعه رمحه وترسه، فجعل يطعن برمحه بسطهم ليتطيروا، وقد أخذ بضبعيه رجلين، فقام بين يديه، فكلمه ملكهم، فقال: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد فخرجتم، فإن شئتم أمرناكم ورجعتم ال بلادكم. فتكلم المغيرة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنا معاشر العرب، كنا نكل الجيف والميتة، ويطؤنا الناس ولا نطؤهم، وإن الله عز وجل ابتعث منا نبيا أوسطنا حسبا وأصدقنا حديثا -فذكر النبي ﷺ بما هو أهله- وإنه وعدنا أشياء فوجدناها كما قال، وإنه وعدنا أنا سنظهر عليكم، ونغلب على ما هاهنا. وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها.
قال: ثم قلت في نفسي: لو جمعت جراميزي، فوثبت وثبة، فقعدت مع العلج على سريره لعله يتطير! قال: فوجدت غفلة، فوثبت، فإذا أنا منه على سريره. قال: فأخذوه يتوجئونه ويطئونه بأرجلهم. قال: قلت: هكذا تفعلون بالرسل! فإنا لا نفعل هكذا، ولا نفعل برسلكم هذا. فقال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئنا قطعنا إليكم. قال: فقلت: بل نقطع إليكم. قال: وقطعنا إليهم فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة، وكل خمسة وكل ثلاثة. قال: فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: يرحمك الله، إنه قد أسرِع في الناس فاحمل، فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدت مع رسول الله ﷺ القتال، فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر.
قال: ثم قال: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه وفي شِسعه فأصلحه، وأما الثالئة فاحملوا، ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل النعمان فلا يلو عليه أحد، فإني أدعو الله عز وحل بدعوة، فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها! اللهم أعط اليوم النعمان الشهادة في نصر المسلمين، وافتح عليهم؛ وهز لواءه أول مرة، ثم هز الثانية، ثم هزه الثالثة، ثم شَلّ درعه، ثم حمل فكان أول صريع، فقال معقل: فأتيت عليه، فذكرت عزمته فجعلت عليه علما، ثم ذهبت -وكنا إذا قتلنا رجلا شُغل عنا أصحابه- ووقع ذو الحاجبين عن بغلته فانشق بطنه، فهزمهم الله، ثم جئت إلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب، ففال: من أنت؟ قلت: معقل بن يسار، قال: ما فعل الناس؟ فقك: فتح الله عليهم، قال: الحمد لله، اكتبوا بذلك إل عمر، وفاضت نفسه.
واجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس، وفيهم ابن عمر وابن الزبير وعمرو بن معديكرب وحذيفة، فبعثوا إلى أم ولده، فقالوا: أما عهد إليك عهدا؟ فقالت: ها هنا سَفَط فيه كتاب، فأخذوه، فكان فيه: إن قتل النعمان ففلان، وإن قتل فلان ففلان.
أخبار متفرقة
وقال الواقدي: في هذه السنة -يعني سنة إحدى وعشرين- مات خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
قال: وفيها غزا عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمرو وأبو سروعة، فقدموا مصر، فشرب عبد الرحمن وأبو سروعة الخمر، وكان من أمرهما ما كان.
فال: وفيها سار عمرو بن العاص إل أنطابُلُس -وهي برقة- فافتتحها وصالح أهل برقة على ثلاثة عشر ألف دينار، وأن يبيعوا من أبنائهم ما أحبوا في جزيتهم.
قال: وفيها ولى عمر بن الخطاب عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، فشكا أهل الكوفة عمارا، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فأصاب جبير بن مطعم خاليا فولاه الكوفة، فقال: لا تذكره لأحد، فبلغ المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير بن مطعم، فرجع إل امرأته، فقال: اذهبي إلى امرأة جبير بن مطعم، فاعرضي عليها طعام السفر، فأتتها فعرضت عليها، فاستعجمت عليها، ثم قالت: نعم، فجيئني به، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر، فقال: بارك الله لك فيمن وليت! قال: فمن وليت؟ فأخبره أنه ولى جبير بن مطعم، فقال عمر: لا أدري ما أصنع! وولى المغيرة بن شعبة الكوفة؛ فلم يزل عليها حتى مات عمر.
قال: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري، فافتتح زَويلة بصلح وما بين برقة وزويلة سِلم للمسلمين.
وحدثا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان بالشأم في سنة إحدى وعشرين غزوة الأمير معاوية بن أبي سفيان، وعمير بن سعد الأنصاري على دمشق والبثنية وحوران وحِمص وقنَّسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسواحل وأنطاكيَة ومَعَرّة مَصْرين وقِلِقيّة. وعند ذلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين.
وقيل: وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي.
قال الواقدي: وحج بأناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وخلف على المدينة زيد بن ثابت؛ وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين والشام ومصر والبصرة من كان عليها في سنة عشرين، وأما الكوفة فإن عامله عليها كان عمار بن ياسر، وكان إليه الأحداث، وإلى عبد الله بن مسعود بيت المال، وإلى عثمان بن حنيف الخراج، وإلى شريح فيما قيل القضاء.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين
ذكر فتح همذان
قال أبو جعفر: ففيها فتحت أذربيجان، فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت أذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بن شعبة. وكذلك قال الواقدي.
وأما سيف بن عمر، فإنه قال فيما كتب إلي به السري عن شعيب عنه، قال: كان فتح أذربيجان سنة ثمان عشرة من الهجرة بعد فتح همذان والرّي وجرجان وبعد صلح إصبهبذ طبرستان المسلمين. قال: وكلّ ذلك كان في سنة ثمان عشرة.
قال: فكان سبب فتح همذان - فيما زعم - أنّ محمدًا والمهلب وطلحة وعمرًا وسعيدًا أخبروه أنّ النعمان لما صرف إلى الماهين لاجتماع الأعاجم إلى نهاوند، وصرف إليه أهل الكوفة وافوه مع حذيفة؛ ولما فصل أهل الكوفة من حلوان وأفضوا إلى ماه هجموا على قلعة في مرج فيها مسلحة، فاستزلوهم، وكان أوّل الفتح، وأنزلوا مكانهم خيلًا يمسكون بالقلعة، فسمّوا معسكرهم بالمرج؛ مرج القلعة؛ ثم ساروا من مرج القلعة نحو نهاوند؛ حتى إذا انتهوا إلى قلعة فيها قوم خلّفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة؛ فنسبت إليه؛ وافتتحها بعد فتح نهاوند ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي - أقاموا مع النسير على القلعة، فلما جمعوا فيء نهاوند والقلاع أشركوا فيها جميعًا؛ لأنّ بعضهم قوّى بعضًا. ثم وصفوا ما استقروا فيما بين مرج القلعة وبين نهاوند مما مرّوا به قبل ذلك فيما استقرّوا من المرج إليها بصفاتها، وازدحمت الركاب في ثنيّة من ثنايا ماه، فسمّيت بالركاب، فقيل: ثنيّة الركاب. وأتوا على أخرى تدور طريقها بصخرة، فسمّوها ملويّة، فدرست أسماؤها الأولى، وسمّيت بصفاتها، ومرّوا بالجبل الطويل المشرف على الجبال، فقال قائل منهم: كأنه سنّ سميرة - وسميرة امرأة من المهاجرات من بني معاوية، ضبيّة لها سنّ مشرفة على أسنانها، فسمّي ذلك الجبل بسنّها - وقد كان حذيفة أتبع الفالّة - فالّة نهاوند - نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو؛ فبلغا همذان، فصالحهم خسروشنوم، فرجعا عنهم، ثم كفر بعد. فلمّا قدم عهده في العهود من عند عمر ودّع حذيفة وودّعه حذيفة؛ هذا يريد همذان، وهذا يريد الكوفة راجعًا. واستخلف على الماهين عمرو بن بلال بن الحارث.
وكان كتاب عمر إلى نعيم بن مقرّن: أن سر حتى تأتي همذان، وابعث على مقدّمتك سويد بن مقرّن، وعلى مجنّبتيك ربعي بن عامر ومهلهل ابن زيد؛ هذا طائي، وذاك تميمي. فخرج نعيم بن مقرّن في تعبيته حتى نزل ثنيّة العسل - وإنما سمّيت ثنيّة العسل بالعسل الذي أصابوا فيها غبّ وقعة نهاوند حيث أتبعوا الفالّة تعالى فانتهى الفيرزان إليها، وهي غاصّة بحوامل تحمل العسل وغير ذلك؛ فحبست الفيرزان حتى نزل؛ فتوقّل في الجبل وغار فرسه فأدرك فأصيب. ولما نزلوا كنكور سرقت دوابّ من دوابّ المسلمين، فسمّى قصر اللصوص.
ثم انحدر نعيم من الثنيّة حتى نزل على مدينة همذان، وقد تحصّنوا منهم، فحصرهم فيها، وأخذ ما بين ذلك وبين جرميذان، واستولوا على بلاد همذان كلها. فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب مجرىً واحدًا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المتعة، وفرّق دستبي بين نفر من أهل الكوفة، بين عصمة بن عبد الضبّيبّ ومهلهل بن زيد الطائي وسماك بن عبيد العيسي وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن خرشة الأنصاري؛ فكان هؤلاء أوّل من ولي مسالح دستبي وقاتل الديّلم.
وأما الواقدي فإنه قال: كان فتح همذان والرّي في سنة ثلاث وعشرين. قال: ويقال افتتح الري قرظة بن كعب.
وحدثني ربيعة بن عثمان أنّ فتح همذان كان في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب؛ وكان أميرها المغيرة بن شعبة.
قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر بسنتين، ويقال: قتل عمر وجيوشه عليها.
رجع الحديث إلى حديث سيف. قال: فبينما نعيم في مدينة همذان في توطئتها في اثني عشر ألفًا من الجند تكاتب الديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، ثم خرج موتًا في الديلم حتى ينزل بواج روذ؛ وأقبل الزيني أبو الفرّخان في أهل الري حتى انضمّ إليه، وتحصّن أمراء مسالح دستبي، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس، وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالًا شديدًا؛ وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند؛ ولم تكن دونها، وقتل من القوم مقتلة عظيمة لا يحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار؛ وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتمّ بحربها، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلّا البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة؛ فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير؛ فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر؛ وأخبره الخبر؛ فحمد الله، وأمر بالكتاب فقرىء على الناس؛ فحمدوا الله. ثم قدم سماك بن مخرمة وسماك بن عبيد وسماك بن خرشة في وفود من وفود أهل الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك وسماك وسماك، فقال: بارك الله فيكم؛ اللهمّ اسمك بهم الإسلام وأيّدهم بالإسلام. فكانت دستبي من همذان ومسالحها إلى همذان، حتى رجع الرسول إلى نعيم بن مقرّن بجواب عمر بن الخطّاب: أما بعد، فاستخلف على همذان، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة، وسر حتى تقدم الري، فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد. فأقرّ نعيم يزيد بن قيس الهمداني على همذان، وسار من واج الروذ بالناس إلى الري.
وقال نعيم في واج الروذ:
لمّا أتاني أن موتًا ورهطه ** بني باسل جرّوا جنود الأعاجم
نهضت إليهم بالجنود مساميًا ** لأمنع منهم ذمّتي بالقواصم
فجئنا إليهم بالحديد كأننا ** جبال تراءى من فروع القلاسم
فلما لقيناهم بها مستفيضة ** وقد جعلوا يسمون فعل المساهم
صدمناهم في واج روذ بجمعنا ** غداة رميناهم بإحدى العظائم
فما صبروا في حومة الموت ساعة ** لحدّ الرماح والسيوف الصوارم
كأنهم عند انبثاث جموعهم ** جدار تشظّى لبنه للهوادم
تبعناهم حتى أووا في شعابهم ** نقتّلهم قتل الكلاب الجواحم
كأنهم في واج روذ وجوّه ** ضئين أصابها فروج المخارم
وسماك بن مخرمة هو صاحب مسجد سماك.
وأعاد فيهم نعيم كتاب صلح همذان، وخلّف عليها يزيد بن قيس الهمذاني، وسار بالجنود حتى لحق بالرّي، وكان أوّل نسل الديلم من العرب، وقاولهم فيه نعيم.
فتح الري
قالوا: وخرج نعيم بن مقرّن من واج روذ في الناس - وقد أخربها - إلى دستبي، ففصل منها إلى الري، وقد جمعوا له، وخرج الزينبي أبو الفرّخان، فلقيه الزينبي بمكان يقال له قها مسالمًا ومخالفًا لملك الري، وقد رأى من المسلمين ما رأى مع حسد سياوخش وأهل بيته، فأقبل مع نعيم والملك يومئذ بالري سياوخش بن مهران بن بهرام شوبين، فاستمدّ أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان. وقال: قد علمتم أنّ هؤلاء قد حلّوا بالرّي، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وقد كان الزينبي قال لنعيم: إنّ القوم كثير، وأنت في قلّة؛ فابعث معي خيلًا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلًا من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة، ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتًا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثمّ إنهم انهزموا فقتلوا مقتلةً عدّوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالرّي نحوًا من فيء المدائن، وصالحه الزيبنبي على أهل الري ومرزبه عليهم نعيم، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي الأكبر، ومنهم شهرام وفرّخان، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم ميدنتهم، وهي التي يقال لها العتيقة - يعني مدينة الري - وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالذي فتح الله عليه مع المضارب العجلي، ووفّد بالأخماس مع عتيبة بن النهاس وأبي مفزّر في وجوه من وجوه أهل الكوفة، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة الأنصاري بعد ما فتح الري، فسار سماك إلى أذربيجان مددًا لبكير، وكتب نعيم لأهل الري كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعيم بن مقرّن الزينبي بن قوله، أعطاه الأمان على أهل الري ومن كان معهم من غيرهم على الجزاء، طاقة كلّ حالم في كلّ سنة، وعلى أن ينصحوا ويدلّوا ولا يغلّوا ولا يسلّوا، وعلى أن يقروا المسلمين يومًا وليلة، وعلى أن يفخّموا المسلم، فمن سبّ مسلمًا أو استخفّ به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدّل منهم فلم يستلم برمّته فقد غيّر جماعتكم. وكتب وشهد.
وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدى به منهم من غير أن يسأله النصر والمنعة، فقبل منه، وكتب بينه وبينه كتابًا على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من نعيم بن مقرّن لمردانشاه مصمغان دنباوند وأهل دنباوند والخوار واللارز والشّرّز. إنك آمن ومن دخل معك على الكفّ، أن تكفّ أهل أرضك، وتتقي من ولي الفرج بمائتي ألف درهم وزن سبعة في كلّ سنة، لا يغار عليك، ولا يدخل عليك إلّا بإذن؛ ما أقمت على ذلك حتى تغيّر، ومن غيّر فلا عهد له ولا لمن لم يسلمه. وكتب وشهد.
فتح قومس
قالوا: ولما كتب نعيم بفتح الري مع المضارب العجلي، ووفّد بالأخماس كتب إليه عمر: أن قدّم سويد بن مقرّن إلى قومس، وابعث على مقدّمته سماك بن مخرمة وعلى مجنّبتيه عتيبة بن النهاس وهند بن عمرو الجملي، ففصل سويد بن مقرّن في تعبيته من الري نحو قومس؛ فلم يقم له أحد، فأخذها سلمًا، وعسكر بها، فلمّات شربوا من نهر لهم يقال له ملاذ، فشا فيهم القصر؛ فقال لهم سويد: غيّروا ماءكم حتى تعودوا كأهله؛ ففعلوا، واستمرءوه، وكاتبه الذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز، فدعاهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سويد بن مقرّن أهل قومس ومن حشوا من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، على أن يؤدّوا الجزية عن يد؛ عن كلّ حالم بقدر طاقته؛ وعلى أن ينصحوا ولا يغشّوا، وعلى أن يدلّوا، وعليهم نزل من نزل بهم من المسلمين يومًا وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدّلوا واستخفّوا بعهدهم فالذمّة منهم بريئة. وكتب وشهد.
فتح جرجان
قالوا: وعسكر سويد بن مقرّن ببسطام، وكاتب ملك جرجان رزبان صول ثم سار إليها، وكاتبه رزبان صول، وبادره بالصّلح على أن يؤدّي الجزاء، ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه. فقبل ذلك منه، وتلقّاه رزبان صول قبل دخول سويد جرجان؛ فدخل معه وعسكر بها حتى جبى إليه الخراج، وسمى فروجها، فسدّها بترك دهستان، فرفع الجزاء عمّن أقام يمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها؛ وكتب بينهم وبينه كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول ابن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان؛ إنّ لكم الذمة، وعلينا المنعة؛ على أنّ عليكم من الجزاء في كلّ سنة على قدر طاقتكم؛ على كلّ حالم؛ ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه؛ ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدّوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سلّ ولا غلّ، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه؛ وعلى أنّ من سبّ مسلمًا بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمرو، وسماك بن مخرمة، وعتيبة بن النهاس. وكتب في سنة ثمان عشرة.
وأما المدائني، فإنه قال - فيما حدثنا أبو زيد، عنه: فنحت جرجان في زمن عثمان سنة ثلاثين.
فتح طبرستان
قالوا: وأرسل الإصبهبذ سويدًا في الصلح، على أن يتوادعا؛ ويجعل له شيئًا على غير نصر ولا معونة على أحد؛ فقبل ذلك منه، وجرى ذلك لهم، وكتب له كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن للفرّخان إصبهبذ خراسان على طبرستان وجيل جيلان من أهل العدوّ؛ إنك آمن بأمان الله عز وجل على أن تكفّ لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا بغية، وتنّقي من ولي فرج أرضك بخمشمائة ألف درهم من دراهم أرضك فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرّق أرضك، ولا يدخل عليك إلّا بإذنك؛ سبيلنا عليكم بالإذن آمنة؛ وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية، ولا تسلّون لنا إلى عدوّ، ولا تغلّون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم. شهد سواد بن قطبة التميمي، وهند بن عمرو المرادي، وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسي، وعتيبة بن النهّاس البكري. وكتب سنة ثمان عشرة.
فتح أذربيجان
قال: ولما افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الري من واج روذ، كتب إليه عمر: أنّ يبعث سماك بن خرشة الأنصاري ممدًّا لبكير بن عبد الله بأذربيجان؛ فأخّر ذلك حتى افتتح الري، ثم سرّحه من الري، فسار سماك نحو بكير بأذربيجان؛ وكان سماك بن خرشة وعتبة بن فرقد من أغنياء العرب؛ وقدما الكوفة بالغنى؛ وقد كان بكير سار حين بعث إليها؛ حتى إذا طلع بحيال جرميذان - طلع عليهم إسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزومًا من واج روذ، فكان أوّل قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الله جنده؛ وأخذ بكير إسفندياذ أسيرًا، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح، قال: فأمسكني عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء لم يقيسوا لك، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان على التحصّن تحصّن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلّا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممدًّا وإسفندياذ في إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وقال بكير لسماك مقدمه عليه، ومازحه: ما الذي أصنع بك وبعتبة بأغنيين؟ لئن أطعت ما في نفسي لأمضينّ قدما ولأخلّفنّكما، فإن شئت أقمت معي، وإن شئت أتيت عند فقد أذنت لك، فإني لا أراني إلّا تارككما وطالبًا وجهًا هو أكره من هذا. فاستعفى عمر؛ فكتب إليه بالإذن على أن يتقدّم نحو الباب؛ وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف عتبة على الذي افتتح منها، ومضى قدما، ودفع إسفندياذ إلى عتبة، فضمّه عتبة إليه، وأمّر عتبة سماك بن خرشة - وليس بأبي دجانة - على عمل بكير الذي كان افتتح، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد.
قالوا: وقد كان بهرام بن الفرّخزاذ أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فهزمه عتبة، وهرب بهرام. فلما بلغ الخبر بهزيمة بهرام ومهربه إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وأجاب إلى ذلك كلهم، وعادت أذربيجان سلمًا، وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر، وبعثوا بما خمّسوا مما أفاء الله عليهم، ووفّدوا الوفود بذلك؛ وكان بكير قد سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. وكتب عتبة بينه وبين أهل أذربيجان كتابًا حيث جمع له عمل بكير إلى عمله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان - سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها - كلّهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم؛ على أن يؤدّوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن لي في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبّد متخلّ ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم؛ وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يومًا وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه. وكتب جندب، وشهد بكير بن عبد الله الليثي وسماك بن خرشة الأنصاري. وكتب في سنة ثمان عشرة.
قالوا: وفيها، قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهداه له، وذلك أنّ عمر كان يأخذ عمّاله بموافاة الموسم في كلّ سنة يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه.
فتح الباب
وفي هذه السنة كان فتح الباب في قول سيف وروايته، قال: وقالوا - يعني الذين ذكرت أسماءهم قبل: ردّ عمر أبا موسى إلى البصرة، وردّ سراقة بن عمرو - وكان يدعى ذا النور - إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة - وكان أيضًا يدعى ذا النور - وجعل على إحدى المجنّبتين حذيفة بن أسيد الغفاري، وسمّى للأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة بن عمرو عليه، وكتب إليه أن يلحق به - وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة. فقدّم سراقة عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم على بكير في أداني الباب، فاستدفّ ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عبّاه عمر. وأمدّه عمر بحبيب بن مسلمة، صرفه إليه من الجزيرة، وبعث زياد بن حنظلة مكانه على الجزيرة. ولما أطلّ عبد الرحمن بن ربيعة على الملك بالباب - والملك بها يومئذ شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه، فقال: إنّي بإزاء عدوّ كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين أمثال هؤلاء، ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء؛ ولا من الأرمن؛ وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا اليوم منكم ويدي مع أيديكم، وصغوى معكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوّكم. فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه، فجوّزه، فسار إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك، فقال سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزاء ممّن يقيم ولا ينهض. فقبل ذلك، وصار سنّة فيمن كان يحارب العدوّ من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلّا أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة. وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب بذلك، فأجازه وحسّنه، وليس لتلك البلاد التي في ساحة تلك الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلّا على أوفاز؛ وإنما هم سكان ممّن حولها ومن الطرّاء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم؛ واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابًا:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملّتهم ألّا يضارّوا ولا ينتقضوا، وعلى أهل أرمينية والأبواب؛ الطرّاء منهم والتّنّاء ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكلّ غارة، وينفذوا لكلّ أمر ناب أولم ينب رآه الوالي صلاحًا؛ على أن توضع الجزاء عمّن أجاب إلى ذلك إلّا الحشر، والحشر عوضٌ من جزائهم ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنّزل يومًا كاملًا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله. وكتب مرضي بن مقرّن وشهد.
ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيرًا إلى موقان، ووجه حبيبًا إلى تفليس، وحذيفة بن أسيد إلى من بجبال اللآن، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبالذي وجّه فيه هؤلاء النفر إلى عمر بن الخطاب، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتمّ له على ما خرج عليه في سريح بغير مؤونة. وكان فرجًا عظيمًا به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.
فلما استوسقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، وقد مضى أولئك القوّاد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجّه له إلّا بكير فإنه فضّ موقان، ثم تراجعوا على الجزية، فكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى بكير بن عبد الله أهل موقان من جبال القبج الأمان على أموالهم وأنفسهم وملّتهم وشرائعهم على الجزاء، دينار على كلّ حالم أو قيمته، والنصح، ودلالة المسلم ونزله يومه وليلته، فلهم الأمان ما أقرّوا ونصحوا، وعلينا الوفاء؛ والله المستعان. فإن تركوا ذلك واستبان منهم غشّ فلا أمان لهم إلا أن يسلموا الغششة برمّتهم؛ وإلّا فهم متمالئون. شهد الشمّاخ بن ضرار والرسارس بن جنادب، وحملة بن جويّة. وكتب سنة إحدى وعشرين.
قالوا: ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقرّ عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك، فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر؛ قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال: لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم؛ وتالله إنّ معنا لأقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم لارّدم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله ﷺ ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائمًا لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم بمن غيّرهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبي، وبلغ خيله في غزاتها البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم؛ ثمّ غزا غزوات في زمان عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتدّ اصتصلاحًا لهم، فلم يصلحهم ذلك، وزادهم فسادًا أن سادهم من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى جعل يتمثل:
وكنت وعمرًا كالمسمّن كلبه ** فخدّشه أنيابه وأظافره
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة، قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعه الملائكة تمنعه من الموت؛ فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظّفر، وذلك في إمارة عمر؛ ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر، حتى إذا تبدّل ألهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتدّ فغزاهم بعد ذلك، تذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون، قال: انظروا، وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض؛ فرمى رجلٌ منهم رجلًا من المسلمين على غرّة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتدّ قتالهم، ونادى مناد من الجوّ: صبرًا آل عبد الرحمن وموعدكم الجنّة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجوّ: صبرًا آل سلمان ابن ربيعة! فقال سلمان: أوترى جزعًا! ثمّ خرج بالناس، وخرج سلمان وأبو هريرة الدوسي على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
وحدث عمرو بن معد يكرب عن مطر بن ثلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهر براز عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة؛ حتى دخل على عبد الرحمن، فجلس إلى شهربراز، وعلى مطرقباء برود يمينيّة، أرضه حمراء، ووشيه أسود - أو وشيه أحمر - وأرضه سوداء، فتساءلا.
ثمّ إنّ شهربراز، قال: أيّها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ هذا الرجل بعثته منذ سنين نحو السدّ لينظر ما حاله ومن دونه، وزوّدته مالًا عظيمًا، وكتبت له إلى من يليني، وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراءه، وزوّدته لكلّ ملك هدّية؛ ففعل ذلك بكلّ ملك بينه وبينه، حتى انتهى إليه، فانتهى إلى الملك الذي السدّ في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فأعطاه حريرة، قال: فتشكّر لي البازيار، فلما انتهينا فإذا جبلان بينهما سدّ مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشدّ سوادًا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله، وتفرّست فيه، ثم ذهبت لانصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك! إنه لا يلي ملك بعد ملك إلّا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمى به في هذا اللهب، فشرّح بضعة لحم معه، فألقاها في ذلك الهواء، وانقضّت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء؛ وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء؛ فخرجت علينا العقاب باللحم في مخالبها؛ وإذا فيه ياقوتة، فأعطانيها؛ وها هي هذه. فتناولها شهر براز حمراء، فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها، ثم ردّها إلى شهر براز، وقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد - يعني الباب - وايم الله لأنتم أحبّ إلي ملكة من آل كسرى؛ ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني؛ وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر.
فأقبل عبد الرحمن على الرسول، وقال: ما حال هذا الردم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرجل، قال: فنظر إلى ثوبي، فقال مطر بن ثلج لعبد الرحمن بن ربيعة: صدق والله الرجل؛ لقد نفذ ورأى، فقال: أجل، وصف صفة الحديد والصفر، وقال: " آتوني زبر الحديد.. " إلى آخر الآية.
وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديّتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان.
وزعم الواقدي أنّ معاوية غزا الصائفة في هذه السنة، ودخل بلاد الروم في عشرة آلاف من المسلمين.
وقال بعضهم: في هذه السنة كانت وفاة خالد بن الوليد.
وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان.
وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى سائر أمصار المسلمين الذين كانوا عمّاله في السنة التي قبلها. وقد ذكرناهم قبل.
ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرة
وفي هذه السنة عدّل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
ذكر الخبر بذلك
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، وسعيد، قالوا: أقام عمّار بن ياسر عاملًا على الكوفة سنةً في إمارة عمر وبعض أخرى. وكتب عمر بن سراقة وهو يومئذ على البصرة إلى عمر ابن الخطاب يذكر له كثرة أهل البصرة، وعجز خراجهم عنهم؛ ويسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ما سبذان. وبلغ ذلك أهل الكوفة، فقالوا لعمّار: اكتب لنا إلى عمر أنّ رامهرمز وإيذج لنا دونهم، لم يعينونا عليهما بشيء؛ ولم يلقحوا بنا حتى افتتحناهما، فقال عمّار: مالي ولما هاهنا! فقال له عطارد: فعلام تدع فيئنا أيها العبد الأجدع! فقال: لقد سببت أحبّ أذني إلي. ولم يكتب في ذلك فأبغضوه؛ ولما أبى أهل الكوفة إلّا الخصومة فيهما لأهل البصرة شهد لهم أقوام على أبي موسى؛ أنه قد كان آمن أهل رامهرمز وإيذج؛ وأنّ أهل الكوفة والنعمان راسلوهم وهم في أمان. فأجاز لهم عمر ذلك، وأجراها لأهل البصرة بشهادة الشهود. وادّعى أهل البصرة في إصبهان قريات افتتحها أبو موسى دون جي، أيام أمدّهم بهم عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فقال أهل الكوفة: أتيتمونا مددًا وقد افتتحنا البلاد، فآسيناكم في المغانم، والذّمة ذمتنا، والأرض أرضنا؛ فقال عمر: صدقوا. ثمّ إنّ أهل الأيّام وأهل القادسيّة من أهل البصرة أخذوا في أمر آخر حتى قالوا: فليعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيه. فقال لهم عمر: أترضون بماه؟ وقال لأهل الكوفة: أترضون أن نعطيهم من ذلك أحد الماهين؟ فقالوا: ما رأيت أنه ينبغي فاعمل به، فأعطاهم ماه دينار بنصيبهم لمن كان شهد الأيام والقادسيّة منهم إلى سواد البصرة ومرهجانقذق، وكان ذلك لمن شهد الأيّام والقادسيّة من أهل البصرة. ولما ولي معاوية بن أبي سفيان - وكان معاوية هو الذي جنّد قنّسرين من رافضة العراقين أيام علي، وإنما كانت قنّسرين رستاقًا من رساتيق حمص حتى مصّرها معاوية وجنّدها بمن ترك الكوفة والبصرة في ذلك الزمان، وأخذ لهم معاوية بنصيبهم من فتوح العراق أذربيجان والموصل والباب، فضمّها فيما ضمّ، وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة رميتا بكلّ من كان ترك هجرته من أهل البلدين؛ وكانت الباب وأذربيجان والجزيرة والموصل من فتوح أهل الكوفة - نقل ذلك إلى من انتقل منهم إلى الشام أزمان علي؛ وإلى من رميت به الجزيرة والموصل ممن كان ترك هجرته أيام علي، وكفر أهل أرمينية زمان معاوية؛ وقد أمّر حبيب بن مسلمة على الباب - وحبيب يومئذ بجرزان - وكاتب أهل تفليس وتلك الجبال؛ ثم ناجزهم؛ حتى استجابوا واعتقدوا من حبيب. وكتب بينه وبينهم كتابًا بعد ما كاتبهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من حبيب بن مسلمة إلى أهل تفليس من جرزان أرض الهرمز. سلم أنتم؛ فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو؛ فإنه قد قدم علينا رسولكم تفلى، فبلّغ عنكم، وأدّى الذي بعثتم. وذكر تفلى عنكم أنّا لم نكن أمّة فيما تحسبون؛ وكذلك كنا حتى هدانا الله عز وجل بمحمد ﷺ، وأعزّنا بالإسلام بعد قلة وذلة وجاهلية. وذكر تفلى أنكم أحببتم سلمنا. فما كرهت والذين آمنوا معي، وقد بعثت إليكم عبد الرحمن بن جزء السلمي؛ وهو من أعلمنا من أهل العلم بالله وأهل القرآن؛ وبعثت معه بكتابي بأمانكم، فإن رضيتم دفعه إليكم؛ وإن كرهتم آذنكم بحرب على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من جرزان أرض الهرمز؛ بالأمان على أنفسكم وأموالكم وصوامعكم وبيعكم وصلواتكم؛ على الإقرار بصغار الجزية؛ على كلّ أهل بيت دينار واف، ولنا نصحكم ونصركم على عدوّ الله وعدوّنا، وقرى المجتاز ليلة من حلال طعام أهل الكتاب وحلال شرابهم، وهداية الطريق في غير ما يضّرّ فيه بأ؛ د منكم. فإن أسلمتم وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فإخواننا في الدين وموالينا؛ ومن تولّى عن الله ورسله وكتبه وحزبه فقد آذناكم بحرب على سواء؛ إن الله لا يحبّ الخائنين. شهد عبد الرحمن بن خالد؛ والحجّاج، وعياض. وكتب رباح، وأشهد الله وملائكته والذين آمنوا، وكفى بالله شهيدًا.
ذكر عزل عمار عن الكوفة
وفي هذه السنة عزل عمر بن الخطاب عمّارًا عن الكوفة؛ واستعمل أبا موسى في قول بعضهم؛ وقد ذكرت ما قال الواقدي في ذلك قبل.
ذكر السبب في ذلك
قد تقدّم ذكري بعض سبب عزله، ونذكر بقيّته. ذكر السري - فيما كتب به إلي - عن شعيب، عن سيف، عمّن تقدم ذكري من شيوخه، قال: قالوا: وكتب أهل الكوفة؛ عطارد ذلك وأناس معه إلى عمر في عمّار، وقالوا: إنه ليس بأمير، ولا يحتمل ما هو فيه، ونزا به أهل الكوفة. فكتب عمر إلى عمّار: أن أقبل؛ فخرج بوفد من أهل الكوفة، ووفّد رجالًا ممن يرى أنهم معه، فكانوا أشدّ عليه ممن تخلّف، فجزع فقيل له: يا أبا اليقظان، ما هذا الجزع! فقال: والله ما أحمد نفسي عليه؛ ولقد ابتليت به - وكان سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار، وجرير بن عبد الله معه - فسعيا به، وأخبرا عمر بأشياء يكرهها، فعزله عمر ولم يولّه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: قيل لعمّار: أساءك العزل؟ فقال: والله ما سرّني حين استعملت، ولقد ساءني حين عزلت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبي، قال: قال عمر لأهل الكوفة: أي منزليكم أعجب إليكم؟ - يعني الكوفة أو المدائن - وقال: إني لأسألكم وإني لأعرف فضل أحدهما على الآخر في وجوهكم، فقال جرير: أما منزلنا هذا الأدنى فإنه أدنى محلّةً من السواد من البرّ، وأما الآخر فوعك البحر وغمّه وبعوضه. فقال عمار: كذبت؛ فقال عمر لعمّار: بل أنت أكذب منه، وقال: ما تعرفون من أميركم عمّار؟ فقال جرير: هو والله غير كاف ولا مجز ولا عالم بالسياسة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن هشام بن عبد الرحمن الثقفي، أن سعد بن مسعود، قال: والله ما يدري علام استعملته! فقال عمر: علام استعملتك يا عمّار؟ قال: على الحيرة وأرضها. فقال: قد سمعت بذكرها في القرآن. قال: وعلى أي شيء؟ قال: على المدائن وما حولها، قال: أمدائن كسرى؟ قال: نعم. قال: وعلى أي شيء؟ قال: على مهرجا نقذق وأرضها. قالوا: قد أخبرناك أنه لا يدري علام بعثته! فعزله عنهم، ثم دعاه بعد ذلك، فقال: أساءك حين عزلتك؟ فقال: والله ما فرحت به حين بعثتني، ولقد ساءني حين عزلتني. فقال: لقد علمت ما أنت بصاحب عمل، ولكني تأوّلت: " ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ".
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النمري، عن أبيه بمثله وزيادة، فقال: أو تحمد نفسك بمعرفة من تعالجه منذ قدمت! وقال: والله يا عمّار لا ينتهي بك حدّك حتى يلقيك في هنة، وتالله لئن أدركك عمر لترقّنّ، ولئن رققت لتبتلينّ، فسل الله الموت. ثمّ أقبل على أهل الكوفة فقال: من تريدون يا أهل الكوفة؟ فقالوا: أبا موسى. فأمّره عليهم بعد عمار، فأقام عليهم سنة، فباع غلامه العلف. وسمعه الوليد بن عبد شمس، يقول: ما صحبت قومًا قطّ إلا آثرتهم؛ ووالله ما منعني أن أكذّب شهود البصرة إلّا صحبتهم، ولئن صحبتكم لأمنحنّكم خيرًا. فقال الوليد: ما ذهب بأرضنا غيرك؛ ولا جرم لا تعمل علينا. فخرج وخرج معه نفر، فقالوا: لا حاجة لنا في أبي موسى، قال: ولم؟ قالوا: غلام له يتّجر في حشرنا. فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة، وصرف عمر بن سراقة إلى الجزيرة. وقال لأصحاب أبي موسى الذين شخصوا في عزله من أهل الكوفة: أقوي مشدّد أحبّ إليكم أم ضعيف مؤمن؟ فلم يجد عندهم شيشئًا، فتنحّى، فخلا في ناحية المسجد، فنام فأتاه المغيرة بن شعبة فكلأه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلّا من عظيم؛ فهل نابك من نائب؟ قال: وأي نائب أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير، ولا يرضى عنهم أمير! وقال في ذلك ما شاء الله.
واختطّت الكوفة حين اختطّت على مائة ألف مقاتل؛ وأتاه أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما شأنك؟ قال: شأني أهل الكوفة قد عضّلوا بي. أعاد عليهم عمر المشورة التي استشار فيها، فأجابه المغيرة فقال: أمّا الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأمّا القوىّ المشدّد فوّته لك وللمسلمين، وشداده عليه وله. فبعثه عليهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن سعيد بن عمرو؛ أنّ عمر قال قبل أن استعمل المغيرة: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مشدّد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإنّ إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المشدّد فإنّ شداده لنفسه وقوّته للمسلمين. قال: فإنّا باعثوك يا مغيرة. فكان المغيرة عليها حتى مات عمر رضي الله تعالى عنه وذلك نحو من سنتين وزيادة. فلما ودّعه المغيرة للذهاب إلى الكوفة، قال له: يا مغيرة. ليأمنك الأبرار، وليخفك الفجّار. ثم أراد عمر أن يبعث سعدًا على عمل المغير فقتل قبل أن يبعثه، فأوصى به؛ وكان من سنّة عمر وسيرته أن يأخذ عمّاله بموافاة الحجّ في كل سنة للسياسة، وليحجزهم بذلك عن الرعيّة، وليكون لشكاة الرعيّة وقتًا وغاية ينهونها فيه إليه.
وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس - في قول بعضهم خراسان - وحارب يزدجرد؛ وأما في رواية سيف فإنّ خروج الأحنف إلى خراسان كان في سنة ثمان عشرة من الهجرة.
ذكر مصير يزدجرد إلى خراسان وما كان السبب في ذلك
اختلف أهل السير في سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه؛ فأمّا ما ذكره سيف عن أصحابه في ذلك، فإنه فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى - وهو يومئذ ملك فارس - لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الري، وقد جعل له محمل واحد يطبق ظهر بعيره، فكان إذا سار نام فيه ولم يعرّس بالقوم. فانتهوا به إلى مخاضة وهو نائم في محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إذا خاض البعير إن هو استيقظ، فعنّفهم وقال: بئسما صنعتم! والله لو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمة، إني رأيت أني ومحمدًا تناجينا عند الله، فقال له: أملّكهم مائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرًا ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: لك. وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمة.
فلما انتهى إلى الري، وعليها آبان جاذويه، وثب عليه فأخذه، فقال: يا آبان جاذويه، تغدر بي! قال: لا، ولكن قد تركت ملكك، وصار في يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت غير ذلك. وأخذ خاتم يزجرد ووصل الأدم؛ واكتتب الصكاك وسجّل السجلات بكلّ ما أعجبه، ثم ختم عليها وردّ الخاتم. ثم أتى بعد سعدًا فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. ولما صنع آبان جاذويه بيزجرد ما صنع خرج يزدجرد من الري إلى إصبهان، وكره آبان جاذويه، فارًّا منه ولم يأمنه. ثم عزم على كرمان، فأتاها والنار معه، فأراد ان يضعها في كرمان، ثمّ عزم على خراسان، فأتى مرو، فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتًا واتّخذ بستانًا، وبنى أزجًا فرسخين من مرو إلى البستان؛ فكان على رأس فرسخين من مرو، واطمأنّ في نفسه وأمن أن يؤتى؛ وكاتب من مرو من بقيَ من الأعاجم فيما لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى أثار أهل فارس والهرمزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيرزان فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر للمسلمين في الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا في الأرض؛ فخرج الأحنف إلى خراسان، فأخذ على مهرجان نقذق، ثم خرج إلى إصبهان - وأهل الكوفة محاصرو جى - فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي. ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور - وليس دونها قتال - مطرف بن عبد الله بن الشخير والحارث بن حسان إلى سرخس؛ فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان؛ وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده؛ وكتب إلى ملك الصغد يستمده؛ فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد، وكتب إلى ملك الصين يستعينه، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان؛ واستخلف عليها حاتم بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت مبه أمداد أهل الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بن النضر النضري، وربعي بن عامر التميمي، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي، وابن أم غزال الهمداني؛ وخرج سائرًا نحو مرو الروذ؛ حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ؛ وقدم أهل الكوفة؛ فساروا إلى بلخ، وأتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزد جرد ببلخ؛ فهزم الله يزدجرد، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة؛ وقد فتح الله عليهم؛ فبلخ من فتوح أهل الكوفة. وتتابع أهل خراسان ممن شذّ أو تحصّن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ممن كان في مملكة كسرى؛ وعاد الأحنف إلى مرو الروذ، فنزلها واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر؛ وهو الذي يقول فيه النجاشي - ونسبه إلى أمه؛ وكانت من أشراف العرب:
ألا رب من يدعى فتى ليس بالفتى ** ألا إن رعي ابن كأس هو الفتى
طويل قعود القوم في قعر بيته ** إذ شبعوا من ثفل جفتته سقى
كتب الأحنف إلى عمر بفتح خراسان، فقال: لوددت مأني لم أكن بعثت إليها جندًا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار؛ فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات، فيجتاحون في الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلى من أن يكون بالمسلمين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عبد الرحمن الفزاري، عن أبي الجنوب اليشكري، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: لما قدم عمر على فتح خراسان، قال: لوددت أن بيننا وبينها بحرًا من نار، فقال علي: وما يشتد عليك من فتحها! فإنّ ذلك لموضع سرور، قال: أجل ولكني.. حتى أتى على آخر الحديث.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عيسى بن المغيرة، وعن رجل من بكر بن وائل يدعى الوازع بن زيد بن خليدة، قال: لما بلغ عمر غلبة الأحنف على المروين وبلخ، قال: وهو الأحنف، وهو سيد أهل المشرق المسمّى بغير اسمه. وكتب عمر إلى الأحنف: أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا معلى الذي دخلتم به خراسان يدم لكم النصر؛ وإياكم أن تعبروا فتفضّوا.
ولما بلغ رسولا يزدجرد خاقان وغوزك، لم يستتب لهما إنجاده حتى عبر إليهما النهر مهزومًا، وقد استتب فأنجده خاقان - والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك - فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد؛ ثم خرج بهم، وخرج يزدجرد راجعًا إلى خراسان، حتى عبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ إلى الأحنف، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان والصغد نهر بلخ غازيًا له، خرج في عسكره ليلاُ يتسمع: هل يسمعبرأي ينتفع به؟ فمر برجلين ينقيان علفًا، إما تبنًا وإما شعيرًا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أن الأمير أسندنا إلى هذاالجبل، فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقًا؛ وكان الجبل في ظهورنا من أن نؤتي من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع واجتزأ بها، وكان في ليلة مظلمة، فلما أصبح جمع الناس، ثم قال: إنكم قليل، وإنّ عدوكم كثير، فلا يهولنكم؛ فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وه مع الصابرين؛ ارتحلوا من مكانكم هذا، فاسندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوهم من وجه واحد. ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم، وهو في عشرة آلاف من أهل البصرة وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن أجلبت حتى نزلوا بهم، فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله. وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل، فخرج ليلة بعد ما علم علمهم؛ طليعة لأصحابه حتى كان قريبًا من عسكر خاقان فوقف، فلما كان في وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه، وضرب بطبله، ثم وقف من العسكر موقفًا يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز ويقول:
إن على كل رئيس حقا ** أن يخضب الصغدة أو تندقا
إن لنا شيخًا بها ملقى ** سيف أبي حفص الذي تبقى
ثم وقف موقف التركي وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه الأول، ثم وقف دونه فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:
إن الرئيس يرتبي ويطلع ** ويمنع الخلاء إما أربعوا
ثم وقف موقف التركي الثاني، وأخذ طوقه، ثم خرج ثالث من الترك، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنته الأحنف، فقتله وهو يرتجز:
جرى الشموس ناجزًا بناجز ** محتفلًا في جريه مشارز
ثم انصرف الأحنف إلى عسكره؛ ولم يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد. وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء؛ كلهم يضرب بطلبه، ثم يخرجون بعد خروج الثالث، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، فتشاءم خاقان وتطير، فقال: قد طال مقامنما، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكنمان لم يصب بمثله قط؛ ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا؛ فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئًا، وأتاهم الخير بانصراف خاقان إلى بلخ. وقد كان يزدجرد بن شهر يار بن كسى ترك خاقن بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان؛ فتحصن منه حاتم بن النعمان ومن معه، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها؛ وخاقان ببلخ مقيم له، فقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو، فأعجل عنه؛ وأراد أن يستقل مبه منها، إذْ هو أمر عظيم من خزائن أهل فارس، وأراد اللحاق بخاقان فقال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ فقال: أريد اللحاق بخاقان، فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلًا؛ فإنّ هذا رأى سوء، إنّك إنما تأتي قومًا في مملكتهم وتدع أرضك وقومك؛ ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وأهل دين؛ وهم يلون بلادنا، وإن عدوًا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا يديهن لهم؛ ولا ندري ما وفاؤهم؛ فأبى عليهم وأبوا عليه؛ فقالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها، فأبى؛ فقالوا: فإنا لا ندعك؛ فاعتزلوا وتركوه في حاشيته، فاقتتلوا، فهزوه وأخذوا الخزائن، واستولوا عليها ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر، فاعترضهم المسلمون والمشركون بمر يثفنونه، فقاتلوه وأصابوه في أخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال؛ ومضى مموائلا حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك؛ فلم يزل مقيمًا زمان عمر رضي الله عنه كله يكاتبهم ويكاتبونه، أو من شاء الله منهم.
فكفر أهل خراسان زمان عثمان. وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه وعاقدوه، ودفعوا إله تلك الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة؛ فكانوا كأنما هم في ملكهم؛ إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم، فاغتبطوا وغبطوا؛ وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.
ولما خلع أهل خراسان زمان عثمان أقبل يزدجرد حتى نزل بمرو، فلما اختلف هو ومن معه وأهل خراسان. أوى إلى طاحونة، فأتوا عليه يأكل من كرد حول الرحا؛ فقتلوه ثم رموا مبه في النهر.
ولما أصيب يزدجرد بمرو - وهو يومئذ مختيىء في طاحونة يريد أن يطلب اللحاق بكرمان - فاحتوى فيئه المسلمون والمشركون، وبلغ ذلك الأحنف، فسار من فوره ذلك في الناس إلى بلخ يريد خاقان، ويتبع حاشية يزدجرد وأهله في المسلمين والمشركين من أهل فارس، وخاقان والترك ببلخ. فلما سمع بما ألقى يزدجرد وبخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر؛ وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ؛ ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس، ووقد إليه الوفود.
قالوا: ولما عبر خاقان النهر، وعبرت معه حاشية آل كسرى، أو من أخذ نحو بلخ منهم مع بزدجرد، لقوا رسول يزدجرد الذي كان بعث إلى ملك الصين، وأهدي إليه معه هدايا، ومعه جواب كتابه من ملك الصين. فسألوه عما وراءه، فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا أنا بما ترون - وأراهم هديته. وأجاب يزدجرد، فكتب إليه بهذا الكتاب بعد ماكان قال لي: قد عرفت أنّ حقًا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم؛ فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم؛ ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلّا بخير عندهم وشر فيكم؛ فقلت: سلني عما أجبت، فقال: أوفون بالعهد؟ قلت: نعم، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم لمرشدهم، قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته، فقال: أو يحرمون ما حلل لهم، أو يحلون ما حرم عليهم؟ قالت: لا، قال: فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدًا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم. ثم قال: أخبرني عن لباسهم؛ فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب - ووصفتها - فقال: نعمت الحصون هذه! ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها، فقال: هذهصفة دواب طوال الأعناق.
وكتب معه إلى يزدجرد كتابًا إنه لم يمنعني مأن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق على، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولن الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف؛ فسالمهم وارض منهم بالمساكنة؛ ولا تهجهم ما لم يهيجوك. وأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة، معهم عهد من خاقان. ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم بعمر بن الخطاب من قبل الأحنف، جمع الناس وخطبهم، وأمر بكتاب الفتح فقرىء عليهم، فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى ذكر رسوله ﷺ وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة. فقال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )، فالحمد الذي أنجز موعده، ونصر جنده. ألا إن الله قد أهلك ملك المجوسية، وفرق شملهم، فليسوا يملكون من بلادهم شبرًا يضر بمسلم. ألا وإن الله قد أورثم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم؛ لنظر كيف تعملون! ألا وإنّ المصرين من مسالحها اليوم كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد وغلوا في البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، فقوموا في أمره على رجل يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده؛ ولا تبدلوا ولا تغيروا، فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتي إلا من قبلكم.
قال أبو جعفر: ثم إن أداني أهل خراسان وأقاصيه اعترضوا زمان عثمان ابن عفان لسنتين خلتا من إمارته؛ وسنذكر بقية خبر انتقاضهم في موضعه إن شاء الله مع مقتل يزدجرد.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكانت عماله على الأمصار فيها عماله الذين كانوا عليها في سنة إحدى وعشرين غير الكوفة والبصرة؛ فإن عامله على الكوفة وعلى الأحداث كان المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبا موسى الأشعري.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين
فكان فيها فتح إصطخر في قول أبي معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت إصطخر الأولى وهمذان سنة ثلاث وعشرين. وقال الواقدي مثل ذلك. وقال سيف: كان فتح إصطخر بعد توج الآخرة.
ذكر الخبر عن فتح توج
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: خرج أهل البصرة الذين وجهّوا إلى فارس أمراء على فارس؛ ومعهم سارية بن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك، وأهل فارس مجتمعون بتوّج؛ فلم يصمدوا لجمعهم بجموعهم؛ ولكن قصد كلّ أمير كورة منهم قصد إمارته وكورته التي أمر بها؛ وبلغ ذلك أهل فارس؛ فاقترقوا إلى بلدانهم؛ كما افترق المسلمون ليمنعوها؛ وكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم وتفريق جموعهم؛ فتطير المشركون من ذلك؛ وكأنما كانوا ينظرون إلى ما صاروا إليه، فقصد مجاشعبن مسعود لسابور وأردشير خره فيمن معه من المسلمين، فالتقوا بتوج وأهل فارس، فاقتتلوا ما شاء الله. ثم إن الله عز وجل هزم أهل توج للمسلمين، وسلط عليهم المسلمين، فقتلوهم كل قتلة، وبلغوا منهم ما شاءوا، وغنمهم ما مفي عسكرهم فحووه؛ وهذه توج الآخرة؛ ولم يكن لهابعدهاشوكة، والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء أيام طاوس، الوقعة التي اقتتلوا فيها؛ والوقعتان الأولى والآخرة كلتاهما متساجلتان.
ثم دعوا إلى الجزية والذمة؛ فراجعوا وأقروا، وخمس مجاشع الغنائم، وبعث بها، ووفدوا وفدًا؛ وقد كانت البشراء والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم، لسنة جرت بذلك من رسول الله ﷺ.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: خرجنا مع مجاشع بن مسعود غازين توج، فحاصرناها، وقاتلناهم ما شاء الله، فلما افتتحناها وحوينا نهبها نهبًا كثيرًا، وقتلنا قتلى عظيمة؛ وكان على قميص قد تخرّق؛ فأخذت إبرة وسلكًا وجعلت أخيط قميصي بها. ثم إني نظرت إلى رجل في القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء، فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه، فلبسته؛ فلما جمعت الرثة، قام مجاشع خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: أيها الناس لا تغلوا، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة. ردوا ولو الخميط. فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته في الأخماس.
فتح إصطخر
قال: وقصد عثمان بن أبي العاص لإصطخر؛ فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا ما شاء الله. ثم إنّ الله عز وجل فتح لهم جور؛ وفتح المسلمون إصطخر، فقتلوا ما شاء الله، وأصابوا ما شاءوا، وفر من فر. ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة، فراسلوه وراسلهم، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى؛ فتراجعوا وباحوا بالجزاء، وقد كان عثمان لما هزم القوم جمع إليه ما أفاء الله عليهم، فخمسه، وبعث بالخمس إلى عمر، وقسم أربعة أخماس المغنم في الناس وعفّت الجند من النهاب، وأدوا الأمانة، واستدقوا الدنيا. فجمعهم عثمان؛ ثم قام فيهم، وقال: إنّ هذا الأمر لا يزال مقبلًا؛ ولا يزال أهله معافين مما يكرهون، ما لم يغلوا، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان، عن الحسن، قال: قال عثمان بن أبي العاص يوم إصطخر: إن الله إذا أراد بقوم خيرًا كفهم، ووفر أمانتهم، فاحفظوها؛ فإنّ أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة؛ فإذا فقدتموها جدد لكم في كلّ يوم فقدان شيء من أموركم.
ثم إنّ شهرك خلع في آخر إمارة عمر وأوّل إمارة عثمان، ونشط أهل فارس، ودعاهم إلى النقض، فوجه إليه عثمان بن أبي العاص ثانية، وبعث معه جنود أمد بهم، عليهم عبيد الله بن معمر، وشبل بن معبد البجلى، فالتقوا بفارس، فقال شهرك لابنه وهو في المعركة؛ وبينهم وبين قرية تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ، وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخًا: يا بني، أين يكون غداؤنا؟ ها هنا أو ريشهر؟ فقال: يا أبت إن تركونا فلا يكون غداؤنا ها هنا ولا ريشهر، ولا يكونن إلا في المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، قتل فيه شهرك وابنه، وقتل الله جلّ وعزّ منهم مقتلة عظيمة وولى قتل شهرك الحكم بن أبي العاص بن بشر بن دهمان، أخو عثمان.
وأما أبومعشر فإنّه قال: كانت فارس الأولى وإصطخر الآخرة في سنة ثمان وعشرين. قال: وكانت فارس الآخرة وجور سنة تسع وعشرين؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني عبيد الله، قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان، قال: كان عثمان بن أبي العاص أرسل إلى البحرين، فأرسل أخاه الحكم بن أبي العاص في ألفين إلى توج؛ وكان كسى قد فرّ عن المدائن، ولحق بجور من فارس.
قال: فحدثني زياد مولى الحكم بن أبي العاص، عن الحكم بن أبي العاص، قال: قصد إلى شهرك - قال عبيد: وكان كسرى أرسله الحكم: فصعد إلي في الجنود فهبطوا من عقبة، عليهم الحديد، فخشيت أن تعشو أبصار الناس، فأمرت مناديًا، فنادى أنّ من كان عليه عمامة فليلفها على عينيه، ومن لم يكن عليه عمامة فليغمض بصره؛ وناديت أن حطوا عن دوابكم. فلما رأى شهرك ذلك حط أيضًا. ثم ناديت: أن اركبوا، فصففنا لهم وركبوا، فجعلت الجارود العبدي على الميمنة وأبا صفرة على الميسرة - يعني أبا المهلب - فحملوا على المسلمين فهزموهم؛ حتى ما أسمعلهم صوتًا، فقال لي الجارود: أيها الأمير؛ ذهب الجند، فقلت: إنك ستري أمرك، فلما لثنا أن رجعت خليهم، ليس عليها فرسانها، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرءوس بين يدي، ومعي بعض ملوكهم - يقال له المكعبر، فارق كسرى ولحق بي - فأتيت برأس ضخم، فقال المكعبر: هذا رأس الازدهاق - يعني شهرك - فحوصروا في مدينة سابور، فصالحهم - وملكهم آذريبان - فاستعان الحكم آذربيان على قتال أهل إصطخر، ومات عمر رضي الله عنه؛ فبعث عثمان عبيد الله بن ممعمر مكانه، فبلغ عبيد الله أن آذربيان يريد أن يغدر بهم، فقال له: إني أحبّ أن تتخذ لأصحابي طعامًا، وتذبح لهم بقرة، وتجعل عظامهما في الجفنة التي تليني، فإني أحبّ أن أتمشش العظام. ففعل، فجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر إلا بالفئوس، فكسره بيده، فيتمخخه - وكان من أشد الناس - فقام الملك، فأخذ برجله، وقال: هذا مقام العائذ. فأعطاه عهدًا، فأصابت عبيد الله منجنيفة، فأوصاهم، فقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء الله فاقتلوهم بي فيها ساعة. ففعلوا فقتلوا منهم بشرًا كثيرًا.
وكان عثمان بن أبي العاص لحق الحكم، وقد هزم شهرك، فكتب إلى عمر: إنّ بيني وبين الكوفة فرجة أخاف أن يأتيني العدوّ منها. وكتب صاحب الكوفة بمثل ذلك: إنّ بيني وبين كذا فرجة. فاتفق عنده الكتابان، فبعث أبا موسى في سبعمائة، فأنزلهم البصرة.
ذكر فتح فسا ودارابجرد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: وقصج سارية بن زنيم، فسا ودارا بجرد، حتى انتهى إلى عسكرهم، فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله. ثم إنهم استمدّوا، فتجمعّوا وتجمّعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمع كثير؛ فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم؛ وكان أريهم والمسلمون بصحراء؛ إن أقاموا فيهاأحيط بهم، وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ثمّ قام فقال: يأيها الناس؛ إني رأيت هذين الجمعين - وأخبر بحالهما - ثم قال: يا سارية، الجبل، الجبل! ثمّ أقبل عليهم، وقال: إنّ لله جنودًا، ولعل بعضها أن يبلغهم؛ ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد؛ فهزمهم الله لهم؛ وكتبوا بذلك إلى عمر واستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار بن أبي شبيب، عن أبي عثمان وأبيعمرو بن العلاء، عن رجل من بني مازن، قالا: كان عمر قد بعث سارية بن زنيم الدؤلي إلى فسا ودار بجرد؛ فحاصرهم. ثم إنهم تداعوا فأصحروا له، وكثروه فأتوه من كلّ جانب، فقال عمر وهو يخطب في يوم جمعة: يا سارية بن زنيم، الجبل، الجبلّ ولما كان ذلك اليوم وإلى جنب المسلمين جبل، إن لجئوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم، فأصاب مغانمهم وأصاب في المغانم سفطًا فيه جوهر، فاستوهبه المسلمين لعمر، فوهبوه له فبعث به مع رجل، وبالفتح. وكان الرسل والوفد يجازون وتقضى لهم حوائجهم، فقال له سارية: استقرض ما تبلّغ به وما تخلفه لأهلك على جائزتك. فقدم الرجل البصرة، ففعل، ثمّ خرج فقدم على عمر، فوجده يطعم الناس، ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره، فقصد له، فأقبل عليه بها، فقال: اجلس، فجلس حتى إذا أكل القوم انصرف عمر، وقام فأتبعه، فظن عمر أنه رجل لم يشبع، فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخل - وقد أمر الخبّاز أن يذهب بالخوان إلى مطبخ المسلمين - فلما جلس في البيت أتى بغدائه خبز وزيت وملح جريش، فوضع وقال: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ قالت: إني لأسمع حس رجل، فقال: أجل، فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال اشتريت لي غير هذه الكسوة؛ فقال: أو ما ترضين أن يقال: أمّ كلثوم بنت علي وامرأة عمر! فقالت: ما أقل غناء ذلك عني! ثم قال للرجل: ادن فكل؛ فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى، فأكلا حتى إذا فرغ قال: رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين.
فقال: مرحبًا وأهلًا، ثم أدناه حتى مسّت ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم، فأخبره، ثم أخبره بقصّة الدرج، فنظر إليه ثم صاح به، ثم قال: لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجند فتقسمه بينهم. فطرده، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني قد أنضيت إبلي واستقرضت في جائزتي، فأعطني ما مأتبلّغ به؛ فما زال عنه حتى أبدله بعيرًا ببعيره من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله في إبل الصدقة، ورجع الرسول مغضوبًا عليه محرومًا حتى قدم البصرة، فنفذ لأمر عمر، وقد كان سأله أهل المدينة عن سارية، وعن الفتح وهل سمعوا شيئًا يوم الوقعة؟ فقال: نعم، سمعنا: يا سارية، الجبل وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه، ففتح الله علينا.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، مثل حديث عمرو.
ذكر فتح كرمان
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: وقصد سهيل بن عدي إلى كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بن عدي النسير بن عمرو العجلي، وقد حشد له أهل كَرمان، واستعانوا بالقفس؛ فاقتتلوا في أدنى أرضهم، ففضّهم الله، فأخذوا عليهم بالطريق، وقتل النسير مرزبانها، فدخل سهيل من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير، فأصابوا ما شاءوا من بعير أوشاء، فقوّموا الإبل والغنم فتحاصوها باللأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر؛ فكتب إليهم: إن البعير العربي إنما قوم بتعيير اللحم؛ وذلك مثله؛ فإذا رأيتم أنّ في البخت فضلًا فزيدوا فإنما هي من قيمه.
وأما المداثني، فإنه ذكر أنّ علي بن مجاهد أخبره عن حنبل بن أبي حريدة - وكان قاضي قهستان - عن مرزبان قهستان، قال: فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر بن الخطاب، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني افتتحت الطبسين فأقطعنيهما، فأراد أن يفعل، فقيل لعمر: إنهما رستاقان عظيمان، فلم يقطعه إياهما؛ وهما بابا خراسان.
ذكر فتح سجستان
قالوا: وقصد عاصم بن عمرو لسجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلوهم فالتقوا هم وأهل سجستان في أدنى أرضهم، فهزموهم ثم أتبعوهم، حتى حصروهم بزرنج، ومخروا أرض سجستان ما شاءوا. ثمّ إنهم طلبوا الصلح على زرنج ما احتازوا من الأرضين؛ فأعطوه، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم أنّ فدا فدها حمى؛ فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروا خشية أن يصيبوا منها شيئًا، فيخفروا. فتم أهل سجستان على الخراج والمسلمون على الإعطاء؛ فكانت سجستان أعظم من خراسان، وأبعد فروجًا، يقاتلون القنارهار والترك وأممًا كثيرة، وكانتفيما بين السند إلى نهر بلخ بحياله، فلم تزل أعظم البلدين، وأصعب الفرجين، وأكثرها عددًا وجندًا؛ حتى زمان معاوية، فهرب الشاه من أخيه - واسم أخي الشاه يومئذ رتبيل - إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بن زياد، وهو يومئذ على سجسان، ففرح بذلك وعقد لهم، وأنزلهم بتلك البلاد، وكتب إلى معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه. فقال معاوية: إنّ ابن أخي ليفرح بأنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنّ آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم نكر غدر، فيضطرب الحبل غدًا، فأهون ما يجيء منهم أني يغلبوا على بلاد آمل بأسرها وتم لهم على عهد ابن زياد؛ فلمّا وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه، وغلب على آمل، وخاف رتبيل الشاه فاعتصم منه بمكانه الذي هوبه اليوم، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع في زرنج، فغزاها فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة، فصار رتبيل والذين جاءوا معه؛ فنزلوا تلك البلاد شجًا لم ينتزع إلى اليوم؛ وقد كانت تلك البلاد مذلّلة إلى أن مات معاوية.
فتح مكران
قالوا: وقصد الحكم بن عمرو التغلبي لمكران؛ حتى انتهى إليها؛ ولحق به شهاب بن المخارق بن شهاب، فانضمّ إليه، وأمدّه سهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله بن عتبانبأنفسهما، فانتهوا إلى دوين النهر، وقد انفضّ أهل مكران إليه حتى نزلوا على شاطئه، فعسكروا، وعبر إليهم راسل ملكهم ملك السند، فازدلف بهم مستقبل المسلمين.
فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام، بعد ما كان قد انتهى إليه أوائلهم، وعسكروا به ليلحق أخراهم، فهزم الله راسل وسلبه، وأباح المسلمين عسركهن وقتلوا في المعركة مقتلة عظيمة، وأتبعوهم يقتلونهم أيامًا، حتى انتهوا إلى النهر. ثم رجعوا فأقاموا بمكران. وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي، واستأمره في الفيلة، فقدم صحار على عمر بالخبر والمغانم، فسأله عمر عن مكران - وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه - فقال: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرّها طويل، والكثير بها قليل، والقليلُ بها ضائع وما وراءها شر منها. فقال: اسجاعٌ أنت أم مخبر؟ قال: لا بل مخبر، قال: لا، والله يغزوها جيش لي ما أطعتُ؛ وكتب إلى الحكم بن عمرو وإلى سهيل ألا يجوزن مكران أحد من جنودكما واقتصرا على ما دون النهر؛ وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام، وقسم أثمانها على من أفاءها الله عليه.
وقال الحكم بن عمرو في ذلك:
لقد شبع الأرامل غير فخر ** بفيء جاءهم من مكران
أتاهم بعد مشغبة وجهد ** وقد صفر الشتاء من الدخان
فإني لا يذم الجيش فعلى ** ولا سيفي يذم ولا سنان
غداة أدفع الأوباش دفعًا ** إلى السند العريضة والمداني
ومهران لنا فينا أردنا ** مطيع غير مسترخي العنان
فلولا ما نهى عنه أميري ** قطعناه إلى البدد الزواني
خبر بيروذ من الأهواز
قالوا: ولما فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهي إلى ذمة البصرة، كي لا يؤتي المسلمون من خلفهم، وخشي أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف، أو يخلفوا في أعقابهم؛ فكان الذي حذر من اجتماع أهل بيروذ؛ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، فخرج أبو موسى حتى ينزل بيروذ على الجمع الذي تجمّعوا بها في رمضان؛ فالتقوا بين نهر تيري ومناذر؛ وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد، ليكيدوا المسلمين، وليصيبوا منهم عورة؛ ولم يشكوا في واحدة من اثنتين. فقام المهاجرين زياد وقد تحنّط واستقتل، فقال لأبي موسى: أقمم علي كل صائم لما رجع فأفطر. فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم، وإنما مأراد بذلك توجيه أخيه عنه لئلا يمنعه من الاستقتال؛ وتقدّم فقاتل حتى قتِل، ووهن الله المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة؛ وأقبل أخوه الربيع، فقال: هيء يا والع الدنيا؛ واشتدّ جزعه عليه؛ فرقّ أبو موسى للربيع للذي رآه دخله من مصاب أخيه، فخلفه عليهم في جند؛ وخرج أبو موسى حتى بلغ إصبهان، فلقى بها جنود أهل الكوفة محاصري جي، ثم انصرف إلى البصرة؛ بعد ظفر الجنود، وقد فتح الله على الربيع بن زياد أهل بيروذ من نهر تيري؛ وأخذ ما كان معهم من السبي، فتنقى أبو موسى رجالًا منهم ممن كان لهم فداء - وقد كان الفداء أرد على المسلمين من أعيانهم وقيمتهم فيما بينهم - ووفد الوفود والأخماس؛ فقام رجل من عنزة فاستوفده؛ فأبى فخرج فسعى به فاستجلبه عمر، وجمع بينهما فوجد أبا موسى أعذر إلا في أمر خادمه، فضعفه فردّه إلى عمله، وفجّر الآخر؛ وتقدم إليه في ألا يعود لمثلها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما رجع أبو موسى عن إصبهان بعد دخول الجنود الكور، وقد هزم الربيع أهل بيروذ، وجمع السبي والأموال؛ فغدا على ستين غلامًا من أبناء الدهاقين تنقاهم وعزلهم؛ وبعث بالفتح إلى عمر، ووفّد وفدًا فجاءه رجل من عنزة، فقال: اكتبني في الوفد، فقال: قد كتبنا من هو أحق منك؛ فانطلق مغاضبًا مراغمًا، وكتب أبو موسى إلى عمر: إنّ رجلًا من عنزة يقا له ضبة بن محصن، كان من أمره.. وقص قصته.
فلما قدم الكتاب والوفد والفتح على عمر قدم العنزي فأتى عمر فسلم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبًا ولا أهلًا! فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل؛ فاختلف إليه ثلاثًا، يقول له هذا ويرد عليه هذا؛ حتى إذا كان في اليوم الرابع، دخل عليه، فقال: ما نقمت على أميرك؟ قال: تنقى ستين غلامًا من أبناء الدهاقين لنفسه؛ وله جارية تدعى عقيلة، تغدى جفنة وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك؛ وله قفيزان، وله خاتمان، وفوّض إلى زياد ابن سفيان - وكان زياد يلي أمور البصرة - وأجاز الحطيئة بألف.
فكتب عمر كل ما قال.
فبعث إلى أبي موسى؛ فلما قدم حجبه أيامًا؛ ثم دعا به، ودعا ضبة بن محصن؛ ودفع إلي الكتاب، فقال: اقرأ ما كتبت، فقرأ: أخذ ستين غلامًا لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين؛ فقال ضبّة: والله ما كذب ولا كذبت، وقال: له قفيزان؛ فقال أبو موسى: فقيز لأهلي أقوتهم، وقفيز للمسلمين في أيديهم؛ يأخذون به أرزاقهم؛ فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت؛ فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر؛ وعلم أنّ ضبّة قد صدقه. قال: وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا مايلي؛ قال: وجدت له نُبلا ورأيًا، فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بألف، قال: سددتُ فمه بمالي أن يشتمني، فقال: قد فعلت ما فعلت. فردّه عمر وقال: إذا قدمت فأرسل إلي زيادًا وعقيلة، ففعل، فقدمتعقيلة قب زياد؛ وقدم زياد فقام بالبا، فخرج عمر وزياد بالباب قائم، وعليه ثياب بياض كتّان، فقال له: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير، وصدّقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال ألفان، قال: ما صنعت في أول عطاء خرج لك؟ قال: اشتريت والدتي فأعتقتها، واشتريت في الثاني ربيبي عبيدًا فأعتته، فقال: وفقت، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن، فوجده فقيهًا. فردّه، وأمر أمراء البصرة أن يشربوا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة. وقال عمر: ألا إن ضبّة العنزي غضب على أبي موسى في الحق أن أصابه، وفارقه مراغمًا أن فاته أمر من أمور الدنيا، فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه؛ فإياكم والكذب؛ فإنّ الكذب يهدي إلى النار. وكان الحطيئة قد لقيه فأجازه في غزاة بيروذ، وكان أبو موسى قد ابتدأ حصارهم وغزاتهم حتى فلهم، ثم جازهم ووكلّ بهم الربيع؛ ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف بن قيس، قال: شهدت مع أبي موسى يوم إصبهان فتح القرى، وعليها عبد الله بن ورقاء الرياحي وعبد الله بن ورقاء الأسدي. ثم إنّ أبا موسى صرف إلى الكوفة، واستعمل على البصرة عمر بن سراقة المخزومي، بدوي.
ثم إن إبا موسى مرد على البصرة، فمات عمر وأبو موسى على البصرة على صلاتها، وكان عملها مفترقًا غير مجموع؛ وكان عمر ربما بعث إليه فأمدّ به بعض الجنود، فيكون مدّدًا لبعض الجيوش.
ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد
حدثني عبد الله بن كثير العبدي، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا أبو جَناب، قال: حدثنا أبو المحجل الرديني، عن مخلد البكري وعلقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، أن أمير المؤمنين كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمر عليهم رجلًا منأهل اعلم والفقه؛ فاجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمر عليهم رجلًا من أهل العلم والفقه؛ فاجتمع إليه جيش، فبعث عليهم سملة بن قيس الأشجعي فقال: سر باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله؛ فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام فإن اسملوا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم في فيء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم مفلهم مثل الذي لكم، وعليهم مثل الذي عليكم؛ فإن أبوا فادعوهم إلى الخراج؛ فإن أقروا بالخراج فقاتلوا عدوّهم من ورائهم؛ وفرّغوهم لخراجهم؛ ولا تكلّفوهم فوق طاقتهم؛ فإن أبوأ فقاتلوهم؛ فإنّ الله ناصركم عليهم؛ فإن تحصنُوا منكم في حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله وحكم رسوله؛ فلا تنزلوهم على حكم الله: فإنكم لا تدرون ما حكم مه ورسوله فيهم! وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمّة الله وذمَة رسوله فلا تعطُوهم ذمّة الله وذمة رسوله؛ وأعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولاتغدروا ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا. قال سلمة: فسرنا حتى لقينا عدونا من المشركين، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير المؤمنين، فأبوا أن يسلموا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا أن يقروا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، وجمعنا الرثة، فرأى سلمة بن قيس شيئًا من حلية، فقال: إنّ هذا لا يبلغفيكم شيئًا، فتطيب أنفسكم أن نبعث به إلى أمير المؤمنين، فإنّ له بردًا ومؤونة؟ قالوا: نعم، قد طابت أنفسنا. قال: فجعل تلك الحلية فس يفط، ثم بعث برجل من قومه، فقال: اركب بها؛ فإذا اتيت البصرة فاشتر على جوائز أمير المؤمنين راحلتين؛ فأوقرهما زادًا لك ولغلامك، ثم سر إلى أمير المؤمنين.
قال ففعلت، فأتيت أمير المؤمنين وهو يغدّي الناس متكئًا على عصا كما يصنع الراعي وهو يدور على القصاع، يقول: يا برفأ؛ زد هؤلاء لحمًا، زد هؤلاء خبزًا، زد هؤلاء مرقة، فلما دفعت إليه، قال: اجلس؛ فجلست في أدنى الناس؛ فإذا طعام فيه خشونة طعامي، الذي معي أطيبُ منه فلما فرغ الناس من قصاعهم قال: يا يرفأ، ارفع قصاعك ثمّ أدبر؛ فاتبعته فدخل دارًا، ثم دخل حجرة، فاستأذنت وسلمت، فأذن لي، فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح تكىء على وسادتين من أدم محشوّتين ليفًا؛ فنبذ إلى بإحدهما، فجلست عليها، وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستير، فقال: يا أم كلثوم، غداءناّ فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا؟ قالت: إني أسمع عندك حسن رجل، قال: نعم ولا أراه من أهل البلد - قال: فذلك حين عرفت أنه لم يعرفني - قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما مكسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته! قال: أو ما يكفيك أن يقال: أمّ مكلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر! فقال: مكل؛ فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا. قال: فأكلت قليلًا - وطعامي الذي معي أطيب منه - وأكل، فما رأيت أحدًا أحسن أكلا منه ما يتلبّس طعامه بيده ولا فمه، ثم قال: اسقونا، فجاءوا بعس من سلت فقال: أعط مالرجل، قال: فشربت قليلاُ، سويقي الذي معي أطيب منه، ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته، وقال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشعبنا، وسقانا فأروانا. قال: قلت: قد أكل أمير المؤمنين فشبع، وشرب فروى؛ حاجتي يا أمير المؤمنين! قال: وما حاجتك؟ قال: قلت: أنا رسول مسملة بن قيس، قال: مرحبًا بسلمة بن قيس ورسوله، حدثني معن المهاجرين كيف هم؟ قال: قلت: هم يا أمير المؤمنين كما تحبّ من السلامة والظفر على عدوهم قال: كيف أسعارهم؟ قال: قلت: أرخص أسعار. قال: كيف اللحم فيهم فإنها مشجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها؟ قال: قلت: البقرة فيهم بكذا، والشاة فيهم بكذا يا مأمير المؤمنين، سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلو وسبينا الذرية، وجمعنا الرثة؛ فرأى سملة في الرثّة حلية، فقال للناس: إن هذا لا يبلغ فيكم شيئًا، فتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين؟ فقالوا: نعم. فاستخرجت سفطي، فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر، وثب ثم جعل يده في خاصرته، ثم قال: لا أشعبع الله إذًا بطن عمر! قال: فظن النساء أني أريد أن أغتاله، فجئن إلى الستر، فقال: كف ما جئت به، يا يرفأ، جأ عنقه. قال: فأنا أصلح سفطي وهو يجأ عنقي! قلت: يا أمير المؤمنين أبدع بي فاحملني، قال: يا يرفأ أعطه راحلتين من الصدقة، فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه. قلت: أفعل يا أمير المؤمنين، فقال: أما والله لئن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة.
قال: فارتحلت حتى أتيت سملة، فقلت: ما بارك الله لي فيما اختصصتني به، اقسم هذا في الناس قبل أن تصيبني وإياك فاقرة، فقسمه فيهم، والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم؛ وهو خير من عشرين ألفًا.
وأما السري فإنه ذكر - فيما كتب به إلى يذكر عن شعيب، عن سيف، عن أبي جناب، عن سليمان بن بريدة - قال: لقيت رسول سلمة ابن قيس الأشجعي، قال: كان عمر بن الخطاب إذا اجتمع إليه جيش من العرب.. ثم ذكر نحو حديث عبد الله بن كثير عن جعفر بن عون؛ غير أنه قال في حديثه عن شعيب عن سيف: وأعطوهم ذمم أنفسكم. قال: فلقينا عدونا من الأكراد، فدعوناهم.
وقال أيضًا: وجمعنا الرثة، فوجد فيها سلمة حقتين جوهرًا، فجعلها في سفط.
وقال أيضًا: أو ما كفاك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب امرأة عمر بن الخطاب! قالت: إنّ مذلك عني لقليل الغناء، قال: كل.
وقال أيضًا: فجاءوا بعس من سلت، كلما حركوه فار فوقه مما فيه؛ وإذا تركوه سكن. ثم قال: اشرب، فشربت قليلًا؛ شرابي الذي معي أطيب منه، فأخذ القدح فضرب به جبهته. ثم قال: إنك لضعيف الأكل، ضعيف الشرب.
وقال أيضًا: قلت: رسول سلمة، قال: مرحبًا بسلمة وبرسوله؛ وكأنما خرجت من صلبه، حدثني عن المهاجرين.
وقال أيضًا: ثم قال: لا أشبع الله إذًا بطن عمر! قال: وظنّ النساء أني قد اغتلته، فكشفن الستر؛ وقال: يا يرفأ، جأ عنقه؛ فوجأ عنقي وأنا أصيح، وقال النجاء؛ وأظنّك ستبطىء. وقال: أما والله الذي لا إليه غيره لئن تفرّق الناس إلى مشاتيهم.. وسائر الحديث نحو حديث عبد الله بن كثير.
وحدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا شهاب بن خراش الحوشبي، قال: حدثنا الحجاج بن دينار، عن منصور ابن المعتمر، عن شقيق بن سلمة الأسدي، قال: حدثنا الذي جرى بين عمر بن الخطاب وسلمة بن قيس، قال: ندب عمر بن الخطاب الناس إلى سلمة بن قيس الأشجعي بالحيرة، فقال: انطلقوا باسم الله.. ثم ذكر نحو حديث عبد الله بن كثير، عن جعفر.
قال أبو جعفر: وحجّ عمر بأزواج رسول الله ﷺ في هذه السنة؛ وهي آخر حجّة حجّها بالناس؛ حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن الواقدي.
ذكر الخبر عن وفاة عمر
وفي هذه السنة كانت وفاته
ذكر الخبر عن مقتله
حدثني سلم بن جنادة، قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة. - وكانت أمّه عاتكة بنت عوف - قال: خرج عمر بن الخطاب يومًا يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وكان نصرانيًّا، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة؛ فإنّ علي خراجًا كثيرًا، قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كلّ يوم، قال: وأيشٍ صناعتك؟ قال: نجّار، نقّاش، حدّاد، قال: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال؛ قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أعمل رحًا تطحن بالريح فعلت، قال: نعم؛ قال: فاعمل لي رحًا، قال: لئن سلمت لأعملنّ لك رحًا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه؛ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لقد توعّدني العبد آنفًا! قال: ثمّ انصرف عمر إلى منزله؛ فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد، فإنك ميّت في ثلاثة أيام؛ قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر ابن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهمّ لا؛ ولكني أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك - قال: وعمر لا يحسّ وجعًا ولا ألمًا - فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يومان وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى صبيحتها. قال: فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة؛ وكان يوكّل بالصّفوف رجالا؛ فإذا استوت جاء هو فكبّر. قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ستّ ضربات، إحداهنّ تحت سرّته؛ وهي التي قتلته؛ وقتل معه كليب ابن أبي البكير الليثي - وكان خلفه - فلما وجد عمر حرّ السلاح سقط، وقال: أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، هو ذا؛ قال: تقدّم فصلّ بالناس، قال: فصلى عبد الرحمن بن عوف، وعمر طريح، ثم احتمل فأدخل داره، فدعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: إني أريد أن أعهد إليك؛ فقال: يا أمير المؤمنين نعم؛ إن أشرت علي قبلت منك؛ قال: وما تريد؟ قال: أنشدك الله؛ أتشير علي بذلك؟ قال: اللهم لا، قال: والله لا أدخل فيه أبدًا، قال: فهب لي صمتًا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض. ادع لي عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا. قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثًا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم؛ أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس؛ أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس؛ أنشك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس؛ قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم؛ وليصلّ بالناس صهيب.
ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم؛ فلا تدع أحدًا يدخل إليهم؛ وأوصى الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، أن يحسن إلى محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم؛ وأوصى الخليفة من بعدي بالعرب؛ فإنها مادّة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فيوضع في فقرائهم، وأوصى الخليفة من بعدي بذمّة رسول الله ﷺ أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلّغت! تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة؛ يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة؛ يا عبد الله بن عمر، اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي ﷺ وأبي بكر، يا عبد الله بن عمر، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر؛ وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتّبع اعلحزب الذي فيه عبد الرحمن؛ يا عبد الله ائذن للناس، قال: فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه، ويقول لهم: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فيقولون: معاذ الله! قال: ودخل في الناس كعب، فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول:
فأوعدني كعب ثلاثًا أعدّها ** ولا شكّ أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت إنّي لميّت ** ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
قال: فقيل له: يا أمير المؤمنين لو دعوت الطبيب! قال: فدعى طبيب من بني الحارث بن كعب، فسقاه نبيذًا فخرج النبيذ مشكّلًا، قال: فاسقوه لبنًا، قال: فخرج اللبن محضًا، فقيل له: يا أمير المؤمنين، اعههد، قال: قد فرغت.
قال: ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين. قال: فخرجوا به بكرة يوم الأربعاء، فدفن في بيت عائشة مع النبي ﷺ وأبي بكر. قال: وتقدّم صهيب فصلّى عليه، وتقدّم قبل ذلك رجلان من أصحاب رسول الله ﷺ: علي وعثمان، قال: فتقدّم واحد من عند رأسه، والآخر من عند رجليه؛ فقال عبد الرحمن: لا إله إلا الله؛ ما أحرصكما على الإمرة! أما علمتما أنّ أمير المؤمنين قال: ليصلّ بالناس صهيب! فتقدّم صهيب فصلّى عليه. قال: ونزل في قبره الخمسة.
قال أبو جعفر: وقد قيل إن وفاته كانت في غرّة المحرّم سنة أربع وعشرين.
ذكر من قال ذلك
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال: طعن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرّم سنة أربع وعشرين؛ فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين ليلة، من متوفّى أبي بكر، على رأس اثنتين وعشرين سنة وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا من الهجرة. وبويع لعثمان بن عفان يوم الاثنين لثلاث مضين من المحرم.
قال: فذكرت ذلك لعثمان الأخنسي، فقال: ما أراك إلا وهلت؛ توفّيَ عمر رضي الله تعالى عنه لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان بن عفّان لليلة بقيت من ذي الحجّة، فاستقبل بخلافته المحرّم سنة أربع وعشرين.
وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجّة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام؛ ثم بويع عثمان بن عفان.
قال أبو جعفر: وأما المدائني، فإنه قال فيما حدثني عمر عنه، عن شريك، عن الأعمش - أو عن جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الأشجعي وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه؛ وعثمان بن عبد الرحمن، عن ابني شهاب الزهري، قالوا: طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة. قال: وقال غيرهم: لستّ بقين من ذي الحجة.
وأما سيف، فإنه قال فيما كتب إلي به السريبّ يذكر أن شعيبًا حدثه عنه، عن خليد بن ذفرة ومجالد، قال: استخلف عثمان لثلاث مضين من المحرم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلّى بالناس العصر؛ وزاد: ووفّد فاستنّ به.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان؛ لثلاث مضين من المحرّم؛ وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلّى بالناس، وزاد الناس مائة؛ ووفّد أهل الأمصار، وصنع فيهم. وهو أوّل من صنع ذلك.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: قتل عمر لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام.
ذكر نسب عمر رضي الله عنه
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر وهشام ابن محمد. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قالوا جميعًا في نسب عمر: هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. وكنيته أبو حفص، وأمّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
تسميته بالفاروق
قال أبو جعفر: وكان يقال له الفاروق.
وقد اختلف السلف فيمن سمّاه بذلك، فقال بعضهم: سماه بذلك رسول الله ﷺ.
ذكر من قال ذلك
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو حزرة يعقوب بن مجاهد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي عمرو ذكوان، قال: قلت لعائشة: من سمّى عمر الفاروق؟ قالت: النبي ﷺ.
وقال بعضهم: أوّل من سمّاه بهذا الاسم أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك
حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، قال: قال ابن شهاب: بلغنا أنّ أهل الكتاب كانوا أوّل من قال لعمر: الفاروق؛ وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم؛ ولم يبلغنا أن رسول الله ﷺ ذكر من ذلك شيئًا.
ذكر صفته
حدثنا هنّاد بن السري، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: خرج عمر في يوم عيد - أو في جنازة زينب - آدم طوالًا أصلع أعمر يسرًا، يمشي كأنه راكب.
حدثنا هنّاد؛ قال: حدثنا شريك، عن عاصم، عن زرّ، قال: رأيت عمر يأتي العيد ماشيًا حافيًا أعمر أيسر متلبّبًا بردًا قطريًّا، مشرفًا على الناس كأنه على دابّة؛ وهو يقول: أيّها الناس؛ هاجروا ولا تهجّروا.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد؛ قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عمر بن عمران بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: رأيت عمر رجلًا أبيض أمهق، تعلوه حمرة، طوالًا أصلع.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا شعيب بن طلحة، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت ابن عمر يصف عمر يقول: رجل أبيض، تعلوه حمرة، طوال، أشيب، أصلع.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: أخبرنا خالد بن أبي بكر، قال: كان عمر يصفّر لحيته، ويرجّل رأسه بالحنّاء.
ذكر مولده ومبلغ عمره
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: ولدت قبل الفجار الأعظم الآخر بأربع سنين.
قال أبو جعفر: واختلف السلف في مبلغ سني عمر، فقال بعضهم: كان يوم قتل ابن خمس وخمسين سنة.
ذكر بعض من قال ذلك
حدثني زيد بن أخزم الطائي، قال: حدثنا أبو قتيبة، عن جرير ابن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قتل عمر بن الخطّاب وهو ابن خمس وخمسين سنة.
وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم ابن حمّاد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: توفي عمر وهو ابن خمس وخمسين سنة.
وحدثت عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب أنّ عمر توفي على رأس خمس وخمسين سنة.
وقال آخرون: كان يوم توفّي ابن ثلاث وخمسين سنة وأشهر.
ذكر من قال ذلك
حدثت بذلك عن هشام بن محمد بن الكلبي.
وقال آخرون توفّي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن المثنّى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر، قال: مات عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وقال آخرون: توفّي وهو ابن إحدى وستين سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثت بذلك، عن أبي سلمة التبوذكي، عن أبي هلال، عن قتادة.
وقال آخرون: توفي وهو ابن ستّين سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: توفّي عمر وهو ابن ستين سنة.
قال محمد بن عمر: وهذا أثبت الأقاويل عندنا؛ وذكر عن المدائني أنه قال: توفّي عمر وهو ابن سبع وخمسين سنة.
ذكر أسماء ولده ونسائه
حدثني أبو زيد عمر بن شبّة، عن علي بن محمد والحارث، عن محمد بن سعد؛ عن محمد بن عمر. وحدثت عن هشام بن محمد - اجتمعت معاني أقوالهم، واختلفت الألفاظ بها - قالوا: تزوّج عمر في الجاهلية زينب ابنة مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة.
وقال علي بن محمد: وتزوّج مليكة ابنة جرول الخزاعي في الجاهليّة، فولدت له عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلف عليها بعد عمر أبو الجهم بن حذيفة.
وأما محمّد بن عمر، فإنه قال: زيد لأصغر وعبيد الله الذي قتل يوم صفّين مع معاوية، أمّهما أمّ كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيّب بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشيّة بن سلول بن كعب ابن عمرو بن خزاعة؛ وكان الإسلام فرّق بينها وبين عمر.
قال علي بن محمد: وتزوّج قريبة ابنة أبي أميّة المخزومي في الجاهليّة، ففارقها أيضًا في الهدنة، فتزوّجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
قالوا: وتزوّج أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم في الإسلام؛ فولدت له فاطمة فطلّقها. قال المدائني: وقد قيل: لم يطلقها.
وتزوج جميلة أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - واسمه قيس بن عصمة بن مالك بن ضبيعة بن زيد بن الأوس من الأنصار في الإسلام - فولدت له عاصمًا، فطلّقها.
وتزوّج أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب؛ وأمّها فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وأصدقها - فيما قيل - أربعين ألفًا، فولدت له زيدًا ورقية.
وتزوّج لهيّة، امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن. قال المدائني: ولدت له عبد الرحمن الأصغر. قال: ويقال كانت أمّ ولد. قال الواقدي: لُهيّة هذه أم ولد. وقال أيضًا: ولدت له لهيّة عبد الرحمن الأوسط. وقال: عبد الرحمن الأصغر أمه أمّ ولد.
وكانت عنده فكيهة، وهي أمّ ولد وفي أقوالهم فولدت له زينب. وقال الواقدي: هي أصغر ولد عمر.
وتزوّج عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل؛ وكانت قبله عند عبد الله ابن أبي بكر؛ فلمّا مات عمر تزوّجها الزبير بن العوّام.
قال المدائني: وخطب أمّ كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة، وأرسل فيها إلى عائشة، فقالت: الأمر إليك، فقالت أمّ كلثوم: لا حاجة لي فيه؛ فقالت لها عائشة: ترغبين عن أمير المؤمنين! قالت: نعم؛ إنه خشن العيش، شديد على النساء؛ فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته، فقال: أكفيك؛ فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين؛ بلغني خبر أعيذك بالله منه، قال: وما هو؟ قال: خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر! قال: نعم؛ أفرغبت بي عنها، أم رغبت بها عني؟ قال: لا واحدة؛ ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمّ المؤمنين في لين ورفق؛ وفيك غلظة، ونحن نهابك، وما ننقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك؛ فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوت بها! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك. قال: فكيف بعائشة وقد كلّمتها؟ قال: أنا لك بها؛ وأدلّك على خير منها، أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بسبٍ من رسول الله ﷺ.
قال المدائني: وخطب أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة، فكرهته، وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابسًا، ويخرج عابسًا.
ذكر وقت إسلامه
قال أبو جعفر: ذكر أنه أسلم بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى وعشرين امرأة.
ذكر من قال ذلك
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن أبيه، قال: ذكرت له حديث عمر، فقال: أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: أسسلم عمر بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى وعشرين امرأة.
ذكر بعض سيره
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن حصين المرّي، قال: قالعمر: نما مثل العرب مثل جمل أنفٍ اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده؛ فأمّا أنا فوربّ الكعبة لأحملنّهم على الطريق.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، عن الحسن، قال: قال عمر: إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز عن الناس فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوةً للناس.
حدثنا خلّاد بن أسلم، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا قطن، قال: حدثنا أبو يزيد المديني، قال: حدثنا مولىً لعثمان ابن عفان، قال: كنت رديفًا لعثمان بن عفان؛ حتى أتى على حظيرة الصدقة في يوم شديد الحرّ شديد السموم؛ فإذا رجل عليه إزار ورداء، قد لفّ رأسه برداء يطرد الإبل يدخلها الحظيرة؛ حظيرة إبل الصدقة؛ فقال عثمان: من ترى هذا؟ قال: فانتهينا إليه؛ فإذا هو عمر بن الخطاب، فقال: هذا والله القوي الأمين.
حدثني جعفر بن محمد الكوفي وعباس بن أبي طالب؛ قالا: حدثنا أبو زكرياء يحيى بن مصعب الكلبي، قال: حدثنا عمر بن نافع، عن أبي بكر العبسي، قال: دخلت حير الصدقة مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، قال: فجلس عثمان في الظلّ يكتب، وقام على رأسه يملّ عليه ما يقول عمر، وعمر في الشمس قائم في يوم حارّ شديد الحرّ، عليه بردان أسودان؛ متّزرًا بواحد، وقد لفّ على رأسه آخر، يعدّ إبل الصدقة، يكتب ألوانها وأسنانها، فقال علي لعثمان - وسمعته يقول: نعت بنت شعيب في كتاب الله: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين "، ثم أشار علي بيده إلى عمر، فقال: هذا القوي الأمين! حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل، عن يونس، عن الحسن، قال: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرنّ في الرعيّة حولًا، فإني أعلم أنّ للناس حوائج تقطع دوني؛ أما عمّالهم فلا يرفعونها إلي؛ وأمّا هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشأم، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا! حدثنى محمد بن عوف، قال: حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، قال حدثنى أبو المخارق زهير ابن سالم، أنّ كعب الأحبار، قال: نزلت على رجل يقال له مالك - وكان جارًا لعمر بن الخطاب - فقلت له: كيف بالدخول على أمير المؤمنين؟ فقال: ليس عليه باب ولا حجاب، يصلي الصلاة ثم يقعد فيكلمه من شاء.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال حدثنا سفيان، عن يحيى، قال أخبرني سالم، عن أسلم، قال: بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى، فوضعت جهازي على ناقة منها؛ فلما أردت أن أصدرها، قال: اعرضها علي، فعرضتها عليه، فرآى متاعي على ناقة منها حسناء، فقال: لا أم لك! عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت المسلمين! فهلّا ابن لبون بوّالًا، أو ناقةً شصوصًا! حدثنى عمر بن إسماعيل بن مجالد الهمدانى، قال: حدثنا أبو معاوية عن أبي حيان، عن أبي الزنباع، عن أبي الدهقانة، قال: قيل لعمر بن الخطاب: إن ها هنا رجلًا من أهل الأنبار له بصر بالديوان؛ لو اتخذته كاتبًا؟! فقال عمر: لقد اتخذت إذًا بطانةً من دون المؤمنين! حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن جدّه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس، فقال: والذى بعث محمدًا بالحق؛ لو أنّ جملا هلك ضياعًا بشطّ الفرات خشيت أن يسأل الله آل الخطاب. قال أبو زيد: آل الخطاب يعنى نفسه، مايعنى غيرها.
حدثنا ابن المثنى، قال حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي عمران الجوني، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائجهم؛ فأكرم من قبلك من وجوه الناس، وبحسب المسلم الضعيف من العدل؛ أن ينصف فى الحكم وفى القسم.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرّفًا عن الشعبي، قال: أتى أعرابي عمر، فقال: إن ببعيري نقبًا ودبرًا فاحملني؛ فقال له عمر، ما ببعيرك نقب ولا دبر، قال: فولى وهو يقول:
أقسم بالله أبو حفص عمر ** ما مسّها من نقبٍ ولا دبرٍ
فاغفر له اللهم إن كان فجر
فقال: اللهم اغفر لي! ثم دعا الأعرابي فحمله.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرنا أيّوب، عن محمد، قال: نبّئت أن رجلًا كان بينه وبين عمر قرابة، فسأله فزبره، وأخرجه فكلم فيه، فقيل: يا أمير المؤمنين؛ فلان سألك فزبرته وأخرجته، فقال: إنه سألني من مال الله؛ فما معذرتي إن لقيته ملكًا خائنًا! فلولا سألني من مالى! قال: فأرسل إليه بعشرة آلاف. وكان عمر رحمه الله إذا بعث عاملًا له على عمل يقول - ما حدثنا به محمد بن المثّنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن يحيي بن حضين، سمع طارق بن شهاب يقول: قال عمر فى عماله: اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموالهم، ولا ليضربوا أبشارهم، من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني.
وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة؛ أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوم الجمعة، فقال: اللهمّ إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعلّموا الناس دينهم وسنّة نبيّهم؛ وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا؛ فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: سمعت أبا حصين، قال: كان عمر إذا استعمل العمّال خرج معهم يشيّعهم فيقول: إنّي لم أستعملكم على أمة محمد ﷺ على أشعارهم، ولا على أبشارهم؛ إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل؛ وإنّي لم أسلّطكم على أبشارهم ولا على أشعارهم؛ ولا تجلدوا العرب فتذلّوها، ولا تجمّروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها؛ جرّدوا القرآن، وألقّوا الرواية عن محمّد ﷺ؛ وأنا شريككم. وكان يقتصّ من عمّاله، وإذا شكي إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه؛ فإن صحّ عليه أمرٌ يجب أخذه به أخذه به.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي فراس، قال: خطب عمر ابن الخطاب، فقال: يا أيها الناس؛ إني والله ما أرسل إليكم عمّالًا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم؛ ولكني أرسلهم إليكم ليعلّموكم دينكم وسنّتكم؛ فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي؛ فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّه منه. فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيّة، فأدّب بعض رعيّته، إنك لتقصّه منه! قال: إي والذي نفس عمر بيده إذًا لأقصّنّه منه، وكيف لا أقصّه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقصّ من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم، ولا تجمّروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيّعوهم.
وكان عمر رضي الله عنه - فيما ذكر عنه - يعسّ بنفسه، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقّد أحوالهم بيديه.
ذكر الخبر الوارد عنه بذلك
حدثنا ابن بشّار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرّة بن خالد، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف فضربه، فجاءت المرأة ففتحته؛ ثم قالت له: لا تدخل حتى أدخل البيت وأجلس مجلسي، فلم يدخل حتى جلست، ثم قالت: ادخل، فدخل، ثم قال: هل من شيء؟ فأتته بطعام فأكل، وعبد الرحمن قائم يصلّي، فقال له: تجوّز أيّها الرجل؛ فسلم عبد الرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه، فقال: ما جاء بك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ قال: رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سرّاق المدينة، فانطلق فلنحرسهم؛ فانطلقا فأتيا السوق، فقعدا على نشزٍ من الأرض يتحدثان، فرفع لهما مصباح، فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم! فانطلقا، فإذا هم قوم على شراب لهم، فقال: انطلق فقد عرفته؛ فلما أصبح أرسل إليه فقال: يا فلان، كنت وأصحابك البارحة على شراب؟ قال: وما علمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته؛ فقال: أو لم ينهك الله عن التجسّس! قال: فتجاوز عنه.
قال بكر بن عبد الله المزني: وإنّما نهى عمر عن المصابيح، لأن الفأرة تأخذ الفتيلة فترمي بها في سقف البيت فيحترق، وكان إذ ذاك سقف البيت من الجريد.
وحدثني أحمد بن حرب، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: حدثني أبي، عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رحمه الله إلى حرّة واقم، حتى إذا كنا بصرار؛ إذا نار تؤرّث؛ فقال: يا أسلم؛ إني أرى هؤلاء ركبًا قصّر بهم الليل والبرد؛ انطلق بنا؛ فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا امرأة معها صبيان لها، وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون؛ فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء - وكره أن يقول: يا أصحاب النار - قالت: وعليك السلام؛ قال: أأدنو؟ قالت: ادن بخير أو دع؛ فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصّر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أسكّتهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أيْ رحمك الله، ما يدري عمر بكم! قالت: يتولّى أمرنا ويغفل عنّا! فأقبل علي، فقال: انطلق بنا؛ فخرجنا نهرول؛ حتى أتينا دار الدقيق؛ فأخرج عدلًا فيه كبّة شحم؛ فقال: احمله علي، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: احمله علي؛ مرتين أو ثلاثًا، كلّ ذلك أقول: أنا أحمله عنك؛ فقال لي في آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة، لا أمّ لك! فحمّلته عليه؛ فانطلق وانطلقت معه نهرول، حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، فجعل يقول لها: ذرّي علي، وأنا أحرّك لك؛ وجعل ينفخ تحت القدر - وكان ذا لحية عظيمة - فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج وأدم القدر ثم أنزلها، وقال: ابغني شيئًا، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثمّ جعل يقول: أطعميهم، وأنا أسطّح لك؛ فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلّى عندها فضل ذلك، وقام وقمتت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيرًا! أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيرًا، إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاشء الله. ثم تنحى ناحية عنها؛ ثم استقبلها وربض مربض السبع، فجعلت أقول له: إنّ لك شأنًا غير هذا، وهو لا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ويضحكون ثم ناموا وهدءوا، فقام وهو يحمد الله، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم؛ إنّ الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألّا انصرف حتى أرى ما رأيت منهم.
وكان عمر إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم بدأ بأهله، وتقدّم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره كالذي حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر بالمدينة، عن سالم، قال: كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون إليكم نظر الطير - يعني إلى اللحم - وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة.
قال أبو جعفر: وكان رضي الله عنه شديدًا على أهل الريب، وفي حقّ الله صلبًا حتى يستخرجه، وليّنًا سهلا فيما يلزمه حتى يؤدّيه، وبالضعيف رحيمًا رءوفًا. حدثني عبيد الله بن سعيد الزهري، قال: حدثنا عمّي، قال: حدثنا أبي، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عجلان، أنّ زيد بن أسلم حدثه عن أبيه، أنّ نفرًا من المسلمين كلّموا عبد الرحمن بن عوف، فقالوا: كلّم عمر بن الخطاب؛ فإنه قد أخشانا حتى والله ما نستطيع أن نديم إليه أبصارنا. قال: فذكر ذلك عبد الرحمن بن عوف لعمر، فقال: أوقد قالوا ذلك! فوالله لقد لنت لهم حتى تخوّفت الله في ذلك؛ ولقد اشتددت عليهم حتى خشيت الله في ذلك، وايم الله لأنا أشدّ منهم فرقًا منهم منّي! وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: استعمل عمر رجلًا على مصر، فبينا عمر يومًا مارّ في طريق من طرق المدينة إذ سمع رجلًا وهو يقول: الله يا عمر! تستعمل من يخون وتقول: ليس علي شيشء، وعاملك يفعل كذا! قال: فأرسل إليه، فلما جاءه أعطاه عصًا وجبّة صوف وغنمًا، فقال: ارعها - واسمه عياض بن غنم - فإن أباك كان راعيًا، قال: ثم دعاه، فذكر كلامًا، فقال: إن أنا رددتك! فردّه إلى عمله، وقال: لي عليك ألّا تلبس رقيقًا، ولا تركب برذونًا!
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الله بن الوليد، عن عاصم، عن ابن خزيمة بن ثابت الأنصاري، قال: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب له عهدًا، وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه ألّا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يتخذ بابًا دون حاجات الناس.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن سلّام بن مسكين، قال: حدثنا عمران، أنّ عمر بن الخطاب كان إذا احتاج أتى صاحب بيت المال، فاستقرضه؛ قال: فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه، فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه.
وعن أبي عامر العقدي، قال: حدثنا عيسى بن حفص، قال: حدثني رجل من بني سلمة، عن ابن البراء بن معرور أن عمر رضي الله عنه خرج يومًا حتى أتى المنبر، وقد كان اشتكى شكوى له، فنعت له العسل، وفي بيت المال عكّة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلّا فهي علي حرام.
تسمية عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين
قال أبو جعفر: أوّل من دعي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ ثم جرت بذلك السنّة، واستعمله الخلفاء إلى اليوم.
ذكر الخبر بذلك
حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، قال: حدثتني أمّ عمرو بنت حسّان الكوفيّة، عن أبيها، قال: لما ولي عمر قيل: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر رضي الله عنه: هذا أمر يطول، كلّما جاء خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله! بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم؛ فسمّيَ أمير المؤمنين.
قال أحمد بن عبد الصمد: سألتها كم أتى عليك من السنين؟ قالت: مائة وثلاث وثلاثون سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة، عن جابر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب: يا خليفة الله، قال: خالف الله بك! فقال: جعلني الله فداءك! قال: إذًا يهينك الله!
وضعه التأريخ
قال أبو جعفر: وكان أوّل من وضع التأريخ وكتبه - فيما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر - في سنة ستّ عشرة في شهر ربيع الأول منها، وقد مضى ذكري سبب كتابه ذلك؛ وكيف كان الأمر فيه.
وعمر رضي الله عنه أوّل من أرّخ الكتب، وختم بالطين. وهو أوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح في شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمرهم به، وذلك - فيما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر - في سنة أربع عشرة، وجعل للناس قارئين: قارئًا يصلّي بالرجال وقارئًا يصلّي بالنساء.
حمله الدرة وتدوينه الدواوين
وهو أوّل من حمل الدرّة، وضرب بها؛ وهو أوّل من دوّن للناس في الإسلام الدواوين، وكتب الناس على قبائلهم، وفرض لهم العطاء.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن جبير بن الحويرث بن نقيد، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال له علي بن أبي طالب: تقسم كلّ سنة ما اجتمع إليك من مال، فلا تمسك منه شيئًا. وقال عثمان بن عفان: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى تعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت الشأم، فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديوانًا، وجنّدوا جندًا، فدوّن ديوانًا، وجند جندًا. فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نسّاب قريش - فقال: اكتبوا الناس على منازلهم؛ فكتبوا فبدءوا ببني هاشم؛ ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه على الخلافة؛ فلما نظر فيه عمر قال: لوددت والله أنه هكذا؛ ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله ﷺ؛ الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عرض عليه الكتاب، وبنو تيم على أثر بني هاشم وبنو عدي على أثر بني تيم، فأسمعه يقول: ضعوا عمر موضعه، وابدءوا بالأقرب فالأقرب من رسول الله، فجاءت بنو عدي إلى عمر، فقالوا: أنت خليفة رسول الله، قال: أو خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله، قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! قال: بخ بخ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري؛ وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أطبق عليكم الدفتر ولو أن تكتبوا في آخر الناس؛ إن لي صاحبين سلكا طريقًا، فإن خالفتهما خولف بي؛ والله ما أدركنا الفضل في الدنيا، ولا نرجو ما نرجو من الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلّا بمحمّد ﷺ؛ فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب؛ إن العرب شرفت برسول الله، ولعلّ بعضها يلقاه إلى آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة؛ مع ذلك والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمّد منّا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى قرابة، وليعمل لما عند الله، فإنّ من قصّر به عمله لم يسرع به نسبه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني حزام بن هشام الكعبي، عن أبيه، قال: رأيت عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يحمل ديوان خزاعة حتى ينزل قديدًا، فنأتيه بقديد، فلا يغيب عنه ارمأة بكر ولا ثيّب، فيعطيهنّ في أيديهنّ، ثم يروح فينزل عسفان، فيفعل مثل ذلك أيضًا حتى توفّيَ.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر الزهري وعبد الملك بن سليمان، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن السائب بن يزيد، قال: سمعت عمر ابن الخطاب، يقول: والله الذي لا إله إلا هو؛ ثلاثًا؛ ما من أحد إلّا له في هذا المال حقّ أعطيه أو منعه؛ وما أحد أحقّ به من أحد إلّا عبد مملوك؛ وما أنا فيه إلّا كأحدهم؛ ولكنّا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله ﷺ، والرجل وبلاؤه في الإسلام، والرّجل وقدمه في الإسلام، والرّجل وغناؤه في الإسلام، والرّجل وحاجته؛ والله لئن بقيت ليأتينّ الراعي بجبل صنعاء حظّه من هذا المال وهو مكانه.
قال إسماعيل بن محمد: فذكرت ذلك لأبي، فعرف الحديث.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: رأيت خيلًا عند عمر بن الخطاب موسومة في أفخاذها: حبيس فس سبيل الله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب؛ عن زاذان، عن سلمان؛ أنّ عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقلّ أو أكثر؛ ثمّ وضعته في غير حقه؛ فأنت ملك غير خليفة؛ فاستعبر عمر.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد، قال: حدثني نافع مولى آل الزبير، قال: سمعت أبا هريرة يقول: يرحم الله ابن حنتمة! لقد رأيته عام الرمادة؛ وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكّة زيت في يده؛ وإنه ليعتقب هو وأسلم؛ فلمّا رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبًا؛ فأخذت أعقبه؛ فحملناه حتى انتهينا إلى صرار؛ فإذا صرم نحو من عشرين بيتًا من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد؛ وأخرجوا لنا جلد الميتة مشويًّا كانوا يأكلونه، ورمّة العظام مسحوقة كانوا يستفّونها؛ فرأيت عمر طرح رداءه، ثم اتّزر، فمازال يطبخ لهم حتى شبعوا، فأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبّانة، ثم كساهم. وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرني موسى بن يعقوب، عن عمه، عن هشام بن خالد، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا تذرّنّ إحداكنّ الدقيق حتى يسخن الماء ثم تذرّه قليلًا قليلا، وتسوطه بمسوطها، فإنه أريع له؛ وأحرى ألّا يتقرّد.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن مصعب القرقساني، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن راشد بن سعد؛ أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أتي بمال؛ فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس؛ حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدّرّة، وفال: إنّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض؛ فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لن يهابك.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: قالت الشفا ابنة عبد الله - ورأيت فتيانًا يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدًا، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نسّاك، فقالت: كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، هو والله الناسك حقًا.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا عبد الله ابن عامر، قال: أعان عمر رجلًا على حمل شيء، فدعا له الرجل، وقال: نفعك بنوك يا أمير المؤمنين! فقال: بل أغناني الله عنهم.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، عن عمر بن مجاشع. قال: قال عمر بن الخطاب: القوّة في العمل ألّا تؤخّر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية؛ واتّقوا الله عز وجل، فإنما التقوى بالتّوقّي، ومن يتّق الله يقه.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن عوانة، عن الشعبي - وغير عوانة زاد أحدهما على الآخر - أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن محمد بن صالح، أنه سمع موسى بن عقبة يحدث أنّ رهطًا أتوا عمر، فقالوا: كثر العيال، واشتدّت المؤونة، فزدنا في أعطياتنا، قال: فعلتموها، جمعتم بين الضرائر، واتّخذتم الخدم في مال الله عز وجل! أما والله لوددت أني وإيّاكم في سفينة في لجّة البحر، تذهب بنا شرقًا وغربًا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلًا منهم؛ فإن استقام اتّبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن تعوّج عزلوه! فقال: لا، القتل أنكل لمن بعده؛ احذروا فتى قريش وابن كريمها الذي لا ينام إلّا على الرضا، ويضحك عند الغضب؛ وهو يتناول من فوقه ومن تحته.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن عبد الله بن داود الواسطي، عن زيد بن أسلم، قال: قال عمر: كنا نعدّ المقرض بخيلًا، إنما كانت المواساة.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن ابن دأب، عن أبي معبد الأسلمي، عن ابن عباس، أنّ عمر قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتّخذون مجالس؛ لا يجلس اثنان معًا حتى يقال: من صحابة فلان؟ من جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس؛ وايم الله إنّ هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم؛ ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقسامًا؛ أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معًا؛ فإنّه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في الناس. اللهمّ ملّوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسّوا مني؛ ولا أدري بأيّنا يكون الكون، وقد أعلم أن لهم قبيلًا منهم؛ فاقبضني إليك.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد، عن أبيه، قال: اتّخذ عبد الله بن أبي ربيعة أفراسًا بالمدينة، فمنعه عمر بن الخطاب، فكلّموه في أن يأذن له، قال: لا آذن له، إلّا أن يجيء بعلفها من غير المدينة. فارتبط أفراسًا، وكان يحمل إليها علفًا من أرض له باليمن.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني، عن مجالد، قال: بلغني أنّ قومًا ذكروا لعمر بن الخطاب رجلًا؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ فاضل لا يعرف من الشرّ شيئًا، قال: ذاك أوقع له فيه!
ذكر بعض خطبه رضي الله تعالى عنه
حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن أبي معشر، عن ابن المنكدر وغيره، وأبي معاذ الأنصاري عن الزهري، ويزيد بن عياض عن عبد الله ابن أبي بكر، وعلي بن مجاهد عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عياض، عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أنّ عمر رضي الله تعالى عنه خطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكّر الناس بالله عز وجل واليوم الآخر، ثم قال: يأيّها الناس؛ إني قد ولّيت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدّكم استضلاعًا بما ينوب من مهمّ أموركم، ما تولّيت ذلك منكم؛ ولكفيَ عمر مهمًا محزنًا انتظار موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها، ووضعها أين أضعها؛ وبالسير فيكم كيف أسير! فربّي المستعان؛ فإنّ عمر أصبح لا يثق بقوّة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده.
ثم خطب فقال: إن الله عز وجل قد ولّاني أمركم، وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم؛ وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به؛ وإنّي امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغيّر الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله؛ إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولنّ أحد منكم: إنّ عمر تغيّرمنذ ولي. أعقل الحق من نفسي وأتقدم؛ وأبيّن لكم أمري؛ فأيّما رجل كانت له حاجة أو ظليم مظلمة، أو عتب علينا في في خلق؛ فليؤذنّي، فإنّما أنا رجل منكم؛ فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم، وحرماتكم وأعراضكم؛ وأعطوا الحقّ من أنفسكم؛ ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي؛ فإنّه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة؛ وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي عتبكم. وأنتم أناس عامّتكم حضر في بلاد الله؛ وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلّا ما جاء الله به إليه.
وإنّ الله عز وجل قد وعدكم كرامة الله كثيرة، وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه؛ ومطّلع على ما بحضرتي بنفسي إن شاء الله؛ لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلّا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامّة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله.
وخطب أيضًا، فقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ: أيها الناس، إنّ بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غني، وإنكم تجمعون مالا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور. كنتم على عهد رسول الله ﷺ تؤخون بالوحي، فمن أسرّ شيئًا أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئًا أخذ بعلانيته؛ فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم؛ والله أعلم بالسرائر؛ فإنه من أظهر شيئًا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدّقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننّا به حسنًا. واعلموا أنّ بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خير لأنفسكم، مومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
أيها الناس، أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم؛ واتقوا الله ربكم، ولا تلبسوا منساءكم القباطي؛ فإنه إن لم يشفّ فإنه يصف.
أيها الناس؛ إني لوددت أن أنجو كفافًا لا لي ولا علي، وإني لأرجو إن عمّرت فيكم يسيرًا أو كثيرًا أن أعمل بالحقّ فيكم إن شاء الله، وألّا يبقى أحد من المسلمين وإن كان قال: يبيتهإلّا أتاه حقه ونصيبه من مال ه، ولا يعمل إليه نفسه؛ ولم ينصب إليه يومًا. وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله؛ ولقليل في رفق خير من كثير في عنف، والقتل حتف من الحتوف، يصيب البرّ والفاجر، والشهيد من احتسب نفسه. وإذا أراد أحدكم بعيرًا فليعمد إلى الطويل العظيم فليضربه بعصاه؛ فإن وجده حديد الفؤاد فليشترّه.
قالوا: وخطب أيضًا فقال: إنّ الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر، واتّخذ عليكم الحجّ فيماآتاكم من كرامة الآخرة والدنيا؛ عن غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه، فخلفكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئًا لنفسه وعبادته، وكان قادرًا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه، فجعل لكم عامّة خلقه، ولم يجعلكم لشيء غيره، وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظماهرة وباطنة، وحملكم في البرّ والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون.
ثم جعل لكم سمعًا وبصرًا. ومن نعم الله عليكم نعم عمّ بها بني آدم؛ ومنها نعم اختصّ بها أهل دينكم؛ ثم صارت تلك النعم خواصّها وعوامّها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم؛ وليس من تكل النعم نعمة وصلت إلى امريء خاصة إلّا لو قسم ما وصل إليه منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها، وفدحهم حقها، إلّا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله؛ فأنتم مستخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم، فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلّا أمّتان؛ أمّة مستعبدة للإسلام وأهله، يجزون لكم، يستصوفن معايشهم وكدائحهم ورشح جباههم؛ عليهم المؤونة ولكم المنفعة، وأمّة تنتظر وقائع الله وسطواته في كلّ يوم وليلة، قد ملأ الله قلوبهم رعبًا؛ فليس لهم معقل يلجئون إليه، ولا مهرب يتّقون به، قد دهمتهم جنود الله عز وجل ونزلت بساتهم، مع رفاغة العيش، واستفاضة المال، وتتابع البعوث، وسدّ الثغور بإذن الله، مع العافية الجليلة العامة التي لم تكن هذه الأمة على أحسن منها مذ كان الإسلام؛ والله المحمود، مع الفتوح العظام في كلّ بلد. فما عسى أن يبلغ معهذا شكر الشاكرين وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين؛ مع هذه النعم التي لا يحصى عددها، ولا يقدر قدرها، ولا يسستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفهّ فنسأل الله الذي لا إله إلا هو الذي أبلانا هذا، أن يرزقنا العمل بطاعته؛ والمسارعة إلى مرضاته.
واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم، واستتمّوا نعمة الله عليكم وفي مجالسكم مثنى وفرادى، فإنّ الله عز وجل قال لموسى: " أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله " فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق، تؤمنون بها، وتستريحون إليها؛ مع المعرفة بالله ودينه، وترجون بها الخير فيما بعد الموت؛ لكان ذلك؛ ولكنكم كنتم أشدّ الناس معيشة، وأثبتهم بالله جهالة. فلو كان هذا الذي استشلاكم به لم يكن معه حظّ في دنياكم؛ غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب؛ وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه أحرياء أن تشحّوا على نصيبكم منه، وأن تظهروه على غيره؛ فبله ما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة، ومن شاء أن يجمع له ذلك منكم؛ فأذكركم الله الحائل بين قلوبكم إلا ما عرفتم حقّ الله فعملتم له، وقسرتم أنفسكم على طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفًا لها ولا نتقالها، ووجلًا منها ومن تحويلها، فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإنّ الشكر أمنٌ للغير، ونماء للنعمة؛ واستيجاب للزيادة، هذا لله علي من أركم ونهيكم واجب.
من ندب عمر ورثاه رضي الله عنه
ذكر بعض ما رثي به
حدثني عمر، قال حدثنا علي، قال: حدثنا ان دأب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة، قال: لما مات عمر رضي الله عنهبكته ابنة أبي حثمة، فقالت: واعمراهّ أقام الأود، وأبرأ العمد، أمات الفتن، وأحيا السنن؛ خرج نقي الثوب، بريئًا من العيب.
قال: وقال المغيرة بن شعبة: ملما دفن عمر أتيت عليًّا وأنا أحبّ أن أسمع منه في عمر شيئًا، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل، وهو ملتحف بثوب، لا يشكّ أنّ الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطابّ! لقد صدقت ابنة أبي حثمة؛ لقد ذهب بخيرها، ونجا من شرّها، أما والله ما قالت، ولكن قولت.
وقالت عاتكة ابنة زيد بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فجعني فيروز لادر دره ** بأبيض تال للكتاب منيب
رءوف على الأدنى غليظ على العدا ** أخي ثقة في النائبات مجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ** سريع إلى الخيرات غير قطوب
وقالت أيضًا:
عين جودي بعبرة ونحيب ** لاتملي على الإمام النجيب
فجعتني المنون بالفارس المع ** لم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الناس والمعين على الده ** ر وغيث المنتاب والمحروب
قل لأهل السراء والبؤس موتوا ** قد سقته المنون كأس شعوب
وقالت امرأة تبكيه:
سيبكيك نساء الحي ** يبكين شجيات
ويخمثن وجوهًا كالد ** نانير نقيات
ويلبسن ثياب الحز ** ن بعد القصبيات
شيء من سيره مما لم يمض ذكره
حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن ابن جعدبة، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن سعيد بن المسيب، قال: حجّ عمر، فلما كان بضجنان قال: لا إليه إلا الله العظيم العلي، المعطى ما شاء من شاءّ كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظًا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصّرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد؛ ثمتمثل:
لا شيء فيما ترى تبقي بشاشته ** يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يومًا خزائنه ** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ** والإنس ولاجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت نوافلها ** من كل أوب إليها راكب يفد
حوضًا هنالك مورودًا بلا كذب ** لا بد من ورده يومًا كما وردوا
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو الوليد المكّي "، قال: بينما عمر جالس إذ أقبل رجل يقود ناقة تظلع؛ حتى وقف عليه، فقال:
إنك مسترعى وإنا رعية ** وإنك مدعو بسيماك يا عمر
إذًا يوم شر شره لشراره ** فقد حملتك اليوم أحسابها مضر
فقال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. وشكا الرجل ظلعناقته، فقبض عمر الناقة وحمله على جمل أحمر وزودّه؛ وانصرف. ثم خرج عمر في عقب ذلك حاجًّا، فبينا هو يسير إذ لحق راكبًا يقول:
ما سلنا مثلك يا بن الخطاب ** أبر بالأقصى ولا بالأصحاب
بعد النبي صاحب الكتاب
فنخسه عمر بمخصرة معه، وقال: فأين أبو بكر!
حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، عن محمد بن صالح، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، قال: استعمل عمر عتبة بن أبي سفيان على كنانة، فقدم معه بمال، فقال: ما هذا يا عتبة؟ قال: مال خرجت به معي وتجرت فيه، قال: ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه! فصيّره في بيت المال. فلما قام عثمان قال لأبي سفيان: إن طلبتَ ما أخذ عمر من عتبة رددته عليه، فقال أبو سفيان: إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأيُ الناس فيك، إيّاك أن ترد على من كان قبلك، فيرد عليك من بعدك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وأبي المجالد جراد بن عمرو وأبي عثمان وأبي حارثة وأبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قالوا: إنّ هند ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف تتّجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب، فاشترت وباعت؛ فبلغها أنّ أبا سفيان وعمرو بن أبي سفيان قد أتيا معاوية، فعدلت إليه من بلاد كلب، فأتت معاوية، وكان أبو سفيان قد طلّقها، قال: ما أقدمك أي أمّه؟ قالت: النظر إليك أي بنّي؛ إنه عمر؛ وإنما يعمل لله، وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء؛ وأهل لك هو؛ فلا يعلم الناس من أين أعطيتنه فيؤنبونك ويؤنبك عمر، فلا يستقيلها أبدًا، فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمائة دينار، وكساهما وحملهما؛ فتعظّمها عمر؛ فقال أبو سفيان: لا تعظّمها، فإنّ هذا عطاء لم تغب عنه هند، ومشورة قد حضرتها هند، ورجعوا جميعًا، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ فقالت: الله أعلم، معي تجارة إلى المدينة. فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين، وهذه مشورة لم يغب عنها أبو سفيان، فبعث إليه فحبسه حتى أوفته، وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية؟ فقال: بمائة دينار.
وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن مسلمة بن محارب، عن خالد الحذّاء، عن عبد الله بن أبي صعصعة عن الأحنف، قال: أتى عبد الله بن عمير عمر؛ وهو يفرض للناس - واستشهد أبوه يوم حنين - فقال: يا أمير المؤمنين، افرض لي؛ فلم يلتفت إليه، فنخسه، فقال عمر: حس! وأقبل عليه فقال: من أنت؟ قال: عبد الله بن عمير، قال: يا يرفأ، أعطه ستمائة، فأعطاه خمسمائة، فلم يقبلها، وقال: أمر لي أمير المؤمنين بستمائة، ورجع إلى عمر فأخبره، فقال عمر: يا يرفأن أعطه ستمائة وحلّة، فأعطاه فلبس الحلّة التي كساه عمر، ورمى بما كان عليه، فقال له عمر: يا بني، خذ ثيابك هذه فتكون لمهنة أهلك، وهذه لزينتك.
حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال حدثنا: أبو الوليد المكّي، عن رجل من ولد طلحة، عن ابن عبّاس، قال: خرجت مع عمر في بعض أسفاره، فإنا لنسير ليلة، وقد دنوت منه، إذ ضرب مقدم رحله بسوطه، وقال:
كذبتم وبيت الله يقتل أحمد ** ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم قال، أستغفر الله، ثم سار فلم يتكلم قليلاُ، ثم قال:
وما حملت من ناقة فوق رحلها ** أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله ** وأعطى لرأس السابق المتجرد
ثم قال: أستغفر الله، يا بن عباس، ما منع عليًّا من الخروج معنا؟ قلت: لا أدري، قال: يا بن عباس، أبوك عمّ رسول الله ﷺ، وأنت ابن عمه، فما منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري، قال: لكني أدري؛ يكرهون ولايتكم لهم! قلت: لم، ونحن لهم كالخير؟ قال: اللهمّ غفرًا، يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة، فيكون بجحًا بجحًا، لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل ذلك، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره، ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم، أنشدني لشاعر الشعراء زهير قوله:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ** من المجد من يسبق إليها يسود
فأنشدته وطلع الفجر، فقال: اقرأ واقعة، فقرأتها، ثم نزل فصلى، وقرأ بالواقعة.
حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق. عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر، فقال بعضهم: فلان أشعر؛ وقال بعضهم: بل فلان أشعر، قال: فأقبلت، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها، فقال عمر: من شاعرالشعراء يا بن عباس؟ قال: فقلت: زهير بن أبي سلمى، فقال عمر: من شاعر الشعراء يا بن عباس؟ قال: فقلت: زهير بن أبي سلمى، فقال عمر: هلمّ من شعره ما نستدل به على ما ذكرت؛ فقلت: امتدح قومًا من بني عبد الله بن غطفان، فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ** قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ** طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا ** مرزءون بها ليل إذا حشدوا
محدون على ما كان من نعم ** لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
فقال عمر: أحسن؛ وما أعلم أحدًا أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم، لفضل رسول الله ﷺ وقرابتهم منه، فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين، ولم تزل موفقاُ، فقال: يا بن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا على قومكم بجحًا بجحًا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام، وتمط عني الغضب تكلمت. فقال: تكلم يا بن عباس، فقلت: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت، فلو أن قريشًا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإنّ الله عز وجل وصف قومًا بالكراهية فقال: " ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم " فقال عمر: هيهات والله يا بن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّك عنها، فتزيل منزلتك مني؛ فقلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقًا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلًا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسدًا وظلمًا! فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: ظلمًا؛ فقد تبيّن للجاهل والحليم، وأما قولك: حسدًا، فإنّ إبليس حسد آدم؛ فنحن ولده المحسودون؛ فقال عمر: هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدًا ما يحول، وضغنا وغشًا ما يزول. فقلت: مهلًا يا أمير المؤمنين؛ لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا بالحسد والغش، فإنّ قلب رسول الله ﷺ من قلوب بني هاشم. فقال عمر: إليك عني يا بن عباس، فقلت: أفعل؛ فلما ذهبت لأقوم استحيا منّي فقال يا بن عباس، مكانك، فو الله إني لراع لحقّك، محبّ لما سرّك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ لي عليك حقًّا وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظّه أصاب، ومن أضاعه فحظَّه أخطأ. ثم قام فمضى.
حدثني أحمد بن عمرو، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: حدثنا عكرمة بن عمّار، عن إياس بن سملة، عن أبيه، قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السوق ومعه الدرّة، فخفقني بها خفقة، فأصاب طرف ثوبي، فقال: امط عن الطريق، فلما كان في العام المقبل لقيني فقال: يا سلمة، تريد الحجّ؟ فقلت: نعم، فأخذ بيدي، فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك؛ قلت: يا أميرالمؤمنين ما ذكرتها! قال: وأنا ما نسيتها.
حدثني عبد الحميد بن بيان، قال أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن سملة بن كهيل، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيها الرعيّة: إن لنا عليكم حقًا. النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير؛ إنه ليس من حلم أحبّ إلى الله ولا أعمّ نفعًا من حلم إمام ورفقه. أيها الرعية؛ إنه ليس من جهل أبغض إلى الله ولا شر أعمّ شرًا من جهل إمام وخرقه. أيها الرعيّة، إنه من يأخذ بالعافية لمن بين ظهرانيه، يؤتي الله العافية من فوقه.
حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا عيسى بن يزيد بن دأب؛ عن عبد الرحمن ابن أبي زيد، عن عمران بن سوادة، قال: صليت الصبح مع عمر، فقرأ: سبحان وسورة معها، ثم انصرف وقمت معه، فقال: أحاجة؟ قلت: حاجة، قال: فالحق، قال: فلحقت؛ فلما دخل أذن لي؛ فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة، فقال: مرحبًا بالناصح غدوًّا وعشيًَا؛ قلت: عابت أمتك منك أربعًا، قال: فوضع رأس درتّه في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه، ثم قال: هات؛ قلت: ذكروا أنك حرّمت العمرة في أشهر الحجّ، ولم يفعل ذلك رسول الله ﷺ ولا أبو بكر رضي الله عنه؛ وهي حلال، قال: هي حلال، لو أنهم اعتمروا في أشهر الحجّ رأوها مجزيةً من حجَّهم؛ فكانت قائبة قوب عامها، فقرع حجُّهم، وهو بهاء من بهاء الله، وقد أصبت. قلت: وذكروا أنك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث. قال: إنّ رسول الله ﷺ أحلّها في زمان ضرورة، ثم رجع الناس إلى السَّعة، ثم لم أعلم أحدًا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق، وقد أصبت. قال: قلت: وأعتقت الأمة أن وضعت ذا بطنها بغير عنقاة سيّدها، قال: ألحقت حرمة بحرمة، وما أردت إلا الخير، وأستغفر الله. قلت: وتشكَّوا منك نهر الرعية وعنف السياق. قال: فشرع لادّرَة، ثم مشحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد - وكان زامله في غزوة قرقرة الكدر - فو الله إني لأرتع فأشبع، وأسقى فأروى، وأنهز للفوت، وأزجر العروض، وأذب قدري، وأسوق خطوى، وأضم العنود، وألحق القطوف، وأكثر الزجر، وأقلّ الضرب، وأشهر العصا؛ وأدفع باليد؛ لولا ذلك لأغدرت.
قال: فبلغ ذلك معاوية، فقال: كان والله عالمًا برعيتهم.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: نبئت أن عثمان قال: إنّ عمر كان يمنع أهله وأقرباءه ابتغاء وجه الله، وإني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله، ولن يلقى مثل عمر ثلاثة.
وحدثني علي بن سهل، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن عبد الله ابن أبي سليمان، عن أبيه، قال: قدمت المدينة، فدخلت دارًا من دورها، فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إزار قطري، يدهن إبل الصدقة بالقطران.
وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين.
وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن زيد، قال: كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم، فيقولون خيرًا، فيقول: هل يعود مرضاكم؟ فيقولون: نعم؛ فيقول: هل يعود العبد؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف صنيعه بالضّعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها: لا، عزله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو، قال: كان عمر بن الخطاب يقول: أربع من أمر الإسلام لست مضيِّعهنّ ولا تاركهنّ لشيء أبدًا: القوّة في ماله وجمعه حتّى إذا جمعنا وضعناه حيث أمر الله، وقعدنا آل عمر ليس في أيدينا ولا عندنا منه شيء. والمهاجرون الذين تحت ظلال السيوف؛ إلّا يحبسوا ولا يجمروا، وأن يوفر فيء الله عليهم وعلى عيالاتهم، وأكون أنا للعيال حتى يقدموا. والأنصار الذين أعطوا الله عز وجل نصيبًا، وقاتلوا الناس كافة؛ أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ أن يشاوروا في الأمر. والأعراب الذين هم أصل العرب ومادة الإسلام؛ أن تؤخذ منهم صدقتهم على وجهها، ولا يؤخذ منهم دينار ولا درهم، وأن يردّ على فقرائهم ومساكينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن جريح، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: قال عمر: إنّي لأعلم أنّ الناس لا يعدلون بهذين الرجلين اللذين كان رسول الله ﷺ يكون نجيًّا بينهما وبين جبريل يتبلَّغ عنه ويملّ عليهما.
قصة الشورى
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم ومحمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب وأبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، عن عباس بن سهل ومبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر ويونس بن أي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي؛ أنّ عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين؛ لو استخلفت! قال: من استخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيًّا استخلفته؛ فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته، فإن سألنى ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالمًا شديد الحبّ لله. فقال له رجل: أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله؛ والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف استخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي؛ إن كان خيرًا فقد أصبنا منه، وإن كان شرًّا مفشرعناآل عمر؛ بحسب آل عمر أن يحاشب منهم رجل واحد؛ ويسأل عن أمر أمة محمد؛ أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي؛ وإن نجوت كفافًا لاوزر ولا أجر إني لسعيد؛ وأنظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير منّي، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيّع الله دينه. فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ لو عهدت عهداّ! فقال قد كنت أجمعت مبعد مقالتي لكم أن أنظر فأولَّى رجلًا أمركم؛ هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ - وأشار إلى علي - ورهقتني غشية، فرأيت رجلًا دخل جنة قد غرسها، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة فيضمّه إليه ويصيّره تحته؛ فعلمت أنّ الله غالب أمره، ومتوفًّ عمر؛ فما أريد أن أتحملّها حيًّا وميتًا؛ عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله ﷺ: إنهم من أهلالجنة؛ سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم؛ ولست مدخله؛ ولكن الستّة: علي وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن وسعد خالا رسول الله ﷺ، والزبير بن العوام حواري رسول الله ﷺ وابن عمته، وطلحة لخير بن عبيد الله؛ فليختاروا منهم رجلًا؛ فإذا ولَّوا واليًا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه، إن ائتمن أحدًا منكم فليؤدّ إليه أمانته. وخرجوا، فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم، قال: أكره الخلاف، قال: إذًا ترى ما تكره! فلما أصبح عمر دعا عليًّا وعثمان وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن الهوام، فقال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم؛ ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم؛ وقد قبض رسول الله ﷺ وهو عنكم راض؛ إنّي لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم؛ ولكنّي أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم، فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها، فتشاوروا واختاروا رجلًا منكم. ثم قال: لا تدخلوا حجرة عائشة؛ ولكن كونوا قريبًا، ووضع رأسه وقد نزفه الدم.
فدخلوا فتناجوا، ثم ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد؛ فأسمعه فانتبه فقال: ألا أعرضوا عن هذا أجمعون؛ فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام، ولصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم؛ ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا، ولا شيء له من الأمر؛ وطلحة شريككم في الأمر؛ فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم؛ وإن مضت الأيَّام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، ومن لي بطلحة؟ فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به؛ ولا يخالف إن شاء الله.
فقال عمر: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله؛ وما أظنّ أن يلي إلّا أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان؛ فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على طريق الحقّ؛ وإن تولوا سعدًا فأهلها هو؛ وإلّا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعفه؛ ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف! مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إنّ الله عز وجل طالما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلًا من الأنصار؛ فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرني فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلًا منهم، وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم؛ وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر؛ وقم على رءوسهم، فإن اجتمع مخمسة ورضوا رجلًا وأبي واحد فاشدخ رأسه - أو اضر رأسه بالسيف - وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلًا منهم وأبي اثنان، فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم، فحكّموا عبد الله ابن عمر؛ فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاُ منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.
فخرجوا، فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم ملم تؤمروا أبدًا. وتلقّاه العباس، فقال: عدلت عنّا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاُ، ورجلان رجلاُ فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؛ فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن؛ وعبد الرحمن صهر عثمان؛ لا يختلفون، فيوليّها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن؛ فلو كان الآخرا معي لم ينفعاني؛ بله إني لا أرجو إلّا أحدهما. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلّا رجعت إلي مستأخرًا بما أكره؛ أشرت عليك عند وفاة رسول الله ﷺ أن تسأله فيمن هذا الأمر؛ فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجلالأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم فأبيت؛ احفظ عنِّي واحدة؛ كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا يناله إلا بشرّ لا ينفع معه خير. فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكَّرنه ما أتي ولئن مات ليتداولنّها بينهم، ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون؛ ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية ** غدون خفاقًا فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر مارئًا ** نجيعًا بنو الشداخ وردًا مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لم ترع أبا الحسن. فلمّا مات عمر وأخرجت جنازته، تصدّى علي وعثمان: أيّهما يصلي عليه، فقال عبد الرحمن: كلا ما يحب الإمرة، لستما من هذا في شيء، هذا إلى صهيب، استخلفه عمر، يصلي بالناس ثلاثًا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة - ويقال في بيت المال، ويقال في حجرة عائشة بإذنها - وهم خمسة، معهم ابنُ عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أنت تقولا: محضرنا وكنّا في أهل الشورى! فتنافس القوم في الأمر؛ وكثر بينهم مالكلام؛ فقال أبو طلحة: أنا كنت لأنْ تدفعوها أخوف منِّي لأن تنافسوها! لا والذي ذهب بنفس عمر؛ لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي؛ فأنظر ما تصنعون! فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلع منها؛ فقال عثمان: أنا أوّل من رضي، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: أمين في الأرض أمين في السما، فقال القوم: قد رضينا - وعلي ساكت - فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقًا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم، ولا تألوا الأمة! فقال: أعطوني مواثيقكم علي أن تكونوا معي علي من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، علي ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقًا وأعطاهم مثله، فقال لعلي، مإنك تقول: إني أحقُّ من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحقّ بالأمر؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان؛ فقال: تقول: شيخمن بني عبد مناف؛ وصهر رسول الله ﷺ وابن عمه، لي سابقة وفضل - لم تبعد - فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحقّ به؟ قال: علي. ثم خلا بالزّبير، فكلمه بمثل ما كلم به عليًًّا وعثمان؛ فقال: عثمان. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال: عثمان. فلقى علي سعدًا، فقال: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباُ "، أسألك برحيم ابني هذامن رسول الله ﷺ، وبرحم عمّي حمزة منك ألّا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرًا علي؛ فإني أدلى بما لا يدلي به عثمان. ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله ﷺ ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس، بشاورهم، ولا يخلوا برجل إلا أمره بعثمان؛ حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل؛ فأيقظه فقال: ألا أراك نائمًا ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض! انطلق فادع الزبير وسعدًا.
فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان، فقال له: خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال: نصيبي لعلي، وقال لسعد: أنا وأنت كلالة، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحبّ إلي؛ أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا، وارفع رءوسنا، قال: يا أبا إسحاق؛ إني قذ خلعت نفسي منها علي أختار، ولو لم أفعل وجعل الخيار إلي لم أردها، إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل فلم مأر فحلا قطّ أكرم منه، فمرّ كأ، ه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه فاتّبع أثره حتى خرج من الروضة، ثم دخل فحل عبقريٌّ يجرّ خطامه، يلتفت يمينًّا وشمالًا ويمضي قصد الأولين حتى خرج، ثمّ دخل بعير رابع فرتع في الروضة؛ ولا والله لا أكون الرابع؛ ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النا س عنه. قال سعد: فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك، فامض لرأيك؛ فد عرفت عهد عمر.
وانصرف الزبير وسعد؛ وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي، فناجاه طويلًا؛ وهو لا بشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض: وأرسل المسور إلى عثمان. فكان في نجيّهما، حتى فرّق بينهما أذان الصبح. فقال عمرو بن ميمون: قال لي عبد الله بن عمر: يا عمرو، من أخبرك أنه يعلم ما كلّم به عبد الرحمن بن عوف عليًّا وعثمان فقد قال بغير علم؛ فوقع قضاء ربّك على عثمان. فلما صلوا الصبح جمع الرهط، وبعث إلى من حضره من المهارجين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التجّ المسجد بأهله، فقال: أيُّها الناس، إنّ الناس قد أحبّوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال سعيد بن زيد: إنّا نراك لها أهلًا، فقال: أشيروا علي بغير هذا، فقال عمّار: إن أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليًّا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار؛ إن بايعت عليًّا قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق؛ إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.
فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم ونبو أمية، فقال عمار: أيّها الناس؛ إنّ الله عز وجل أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّي تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم! فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طولاك يا بن سميّة؛ وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحم، افرغ قبل أن يفتن الناس، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلًا. ودعا عليًّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي؛ ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه، فقال علي: حبوته حبو دهر؛ ليس هذا أوّل ي م تظاهرتم فيه علينا؛ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون؛ والله ما ولّيتَ عثمان إلا ليردّ الأمر إليك؛ والله كلّ يوم هو في شأن؛ فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلًا؛ فإني قد نظرت وشاورت الناس؛ فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون. فقال: يا مقداد؛ والله لقد اجتهدت للمسلمين؛ قال: إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد: ما رأيت ممثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم. إني لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلًا ما أقول إنّ أحدًا أعلم ولا أقضي منه بالعدل؛ أما والله لو أجد عليه أعوانًا! فقال عبد الرحمن: يا مقداد؛ اتّق الله؛ فإني خائف عليك الفتنة، فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت وسن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب، والرجل علي بن أبي طال. فقال علي: إنّ الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم. وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان، فقيل له: بايع عثمان، فقال: أكلّ قريش راضٍ به؟ قال: نعم، فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على أرس أمرك، إن أبيت رددتها، قال: أتردها؟ قال: نعم؛ قال: أكلّ الناس بايعوك؟ قال: نعم، قال: قد رضيت؛ لا أرغب عمًّا قد أجمعوا عليه، وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذ بايعت عثمان! وقال لعثمان: لوب بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا، فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور؛ لو بايعت غيره لبايعته، ولقلت هذه المقالة.
وقال الفرذدق؛
صلَّى صيب ثلاثًا ثمَّ أسلها ** على ابن عفان ملكًا غير مقصور
خلافة من أبي بكر لصاحبه ** كانوا أخلَّاء مهدي ومأمور
وكان المسور بن مخرمة يقول: ما رأيت رجلًا بذّ قومًا فيما دخلوا فيه بأشدّ مما بذّهم عبد الرحمن بن عوف.
قال أبو جعفر: وأما المسور بن مخرمة، فإنّ الرواية عندنا عنه ما حدثني سلم بن جنادة أبو السائب، قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز ابن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن السمور بن مخرمة - وكانت أمه عاتكة ابنة عوف - في الخبر الذي قد مضى ذكري أوله في مقتل عمر بن الخطّاب؛ قال: ونزل في قبيره - يعني في قبر عمر - الخمسة، يعني أهل الشورى. قال: ثم خرجوا بريدون بيوتهم؛ فناداهم عبد الرحمن: إلى أين؟ هلمّوا! فتبعوه، وخرج حتى دخل بيت فاطمة ابنة قيس الفهريّة، أخت الضحّاح بن قيس الفهري - قال بعض أهل العلم: بل كانت زوجته؛ وكانت نجودًا، يريد ذات رأي - قال: فبدأ عبد الرحمن بالكلام فقال: يا هؤلاء؛ إنّ عندي رأيًَّا؛ وإنّ لكم نظرًا؛ فاسمعوا تعلّموا، وأجيبوا تفقهوا؛ فإن حابيًا خير من ذاهق؛ وإن جرعة من شروب بارد أنفع من عذب موب؛ أنتم أئمة يهتدي بكم؛ وعلماء يصدر إليكم؛ فلا تفلّوا المدى بالّاختلاف بينكم، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم؛ فتوتروا ثأركم، وتؤلتوا أعمالكم؛ لكلّ أجل كتاب؛ ولكل بيت إمام بأمره يقومون، وبنهيه يرعون. قلّدوا أمركم واحدًا منكم تمشوا الهويني وتلحقوا الطلب؛ لولا فتنة عمياء، وضلالة حيراء؛ يقول أهلها ما يرون، وتحلّهم الحبو كرى. ما عدت نياتكم معرفتكم، ولا أعمالكم نياتكم. احذروا نصيحة الهوى، ولسان الفرقة؛ فإنّ مالحيلة في المنطق أبلغ من السيوف في الكلم؛ علِّقوا أمركم وحب الذراع فيما حلّ، مأمون الغيب فيما نزل، رضًا منكم وكلكم رضًّا، ومقترعًا منكم وكلّكم منتهى، لا تطيعوا مفسدًا ينتصح؛ ولاتخالفوا مرشدًا ينتصر؛ أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تلكم عثمان بن عفان، فقال: الحمد لله الذي اتّخذ محمّدًا نبيًّا، وبعثه رسولا، صدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبًا، أو قرب رحمًا؛ ﷺ؛ جعلنا الله له تابعين وبأمره مهتدين؛ فهو لنا نور؛ ونحن بأمره نقوم. عند تفرّق الأهواء؛ ومجادلة الأعداء؛ جعلنا الله بفضله أئمة وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه الحقّ؛ ونكل عن القصد، وأحر بها يا بن عوف أن تترك، وأحذر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك ودعاؤك؛ فأنا أوّل ممجيب لك، وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم؛ وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم الزبير بن العوام بعده، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء ولي الأعناق، ولن يقصّر عمّا قلت إلا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقي، لولا حدود لله فرضت؛ وفرائض لله حدث؛ تراح على أهلها؛ وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة؛ ولكن لله علينا إجابة الدعوة، وإظهار السنّة؛ لئلا نموت ميتة عمِّية؛ ولا نعمي عمي جاهليّة؛ فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلّم سعد بن أبي وقاص، فقال: الحمد لله بديئًا كان، وآخرًا يعود، أحمده لما نجّاني من الضلالة، وبصّرني من الغواية، فبهدي الله فاز من نجا، وبرحمته أفلح من زكا، وبمحمد بن عبد الله ﷺ أنارت الطرق، واستقامت السبل، وظهر كلّ حق، ومات كلّ باطل؛ إياكم أيها النفر وقول الزور، وأمنيّة أهل الغرور، فقد سلبت الأمانيُّ قومًا قبلكم ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم؛ فاتّخذهم الله عدوًّا، ولعنهم لعنًا كبيرًا.
قال الله عزّ وجل: " لمن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ". إنّي نكبت قرني فأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي؛ فأنا به كفيل، وبما مأعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يا بن عوف؛ بجهد النفس، وقصد النُّصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم؛ وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فقال: الحمدُ لله الذي بعث محمدًا منّا نبيًّا، وبعثه إلينا رسولًا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة؛ وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حقّ إن نعطه نأخذه؛ وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السري؛ لو عهد إلينا رسول الله ﷺ عهدًا لأنفدنا عهده؛ ولو قال لنا قولًا لجادلنا عليه حتى نموت. لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ وصلة رحم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي، وعوا منطقي؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا المجمع تنتضي فيه السيوف، وتخان فيه العهود؛ حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعةً لأهل الجهالة، ثم أنشأ يقول:
فإن تك جاسم هلكت فإنِّي ** بما فعلت بنوعبد بن ضخم
مطيع في الهوادر كلّ عي ** بصير بالنوى من كلِّ نجم
فقال عبد الرحمن: أيكم بطيب نفسًا أن يخرج نفسه من هذا مالأمر ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه، قال: فإني أخرج نفسي وابن عمتي، فقلده القوم الأمر، وأحلفهم عند المنبر؛ فحلفوا ليبايعنّ من بايع، وإن بايع بإحدى يديه الأخرى. فأقام ثلاثًا في داره التي عند المسجد التي يقال لها اليوم رحبة القضاء - وبذلك سمّيت رحبة القضاء - فأقام ثلاثًا يصلِّي بالناس صهيب.
قال: وبعث عبد الرحمن إلى علي، فقال له: إن لم أبايعك فأشر علي "؛ فقال: عثمان، ثم بعث إلى عثمان، فقال: إن لم أبايعك، فمن تشير علي؟ قال: علي، ثم قال لهما: انصرفا. فدعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك؛ فمن تشير علي، قال: عثمان، ثم دعا سعدًا، فقال: من تشيرعلي فأمّا أنا وأنت فلا نريدها، فمن تشير علي؟ قال: عثمان. فلمَّأ كانت الليلة الثالثة، قال: يا مسور، قلت: لبيّك، قال: إنك لنائم؛ والله ما اكتحلت يغماض منذ ثلاث. اذهب فادع لي عليًّا وعثمان؛ قال: قلت: يا خال، بأيّهما أبدأ؟ قال: بأيّهما شئت، قال: فخرجت فأتيت عليًّا - وكان هواي فيه - فقلت: أجب خالي، فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، قال: إلي من؟ قلت: إلى عثمان، قال: فأيّنا أمرك أن تبدأ به؟ قلت: قثد سألته فقال: بأيّهما شئت، فبدأت بك، وكان هواي فيك. قال: فخرج معي حتى أتينا المقاععد، فجلس معليها علي، ودخلت على عثمان فوجدته يوتر مع الفجر، فقلت: أجب خالي، فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، إلى علي، قال: بأيّنا أمرك أن تبدأ؟ قلت: سألته فقال: بأيّهما شئت؛ وهذا علي على المقاعد، فخرج معي حتى دخلنا جميعًا على خالي وهو في القبلة قائم يصلّي، فانصرف لمَّا رآنا، ثم التفت إلى علي وعثمان، فقال: إنّي قد سألت عنكما وعن غيركما، فلم أجد الناس يعدلون بكما؛ هل أنت علي يا علي مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فالتفت إلى عثمان، فقال: هل أنت مبايعي على كتب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي كبر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم، فأشار بيده إلى كتفيه، وقال: إذا شئتما! فنهضنا حتى دخلنا المسجد، وصاح صائح: الصلاة جامعة - قال عثمان: فتأخّرت والله حياء لما رأيت من إسراعه إلى علي؛ فكنت فيى خر المسجد - قال: وخرج عبد الرحم بن عوف وعليه عمامته التي عمَّمه بها رسول الله ﷺ، متقلّدًا سيفه؛ حتى ركب المنبر، فوقف وقوفًا طويلًا، ثم دعا بما لم يسمعه الناس.
ثم تكلّم، فقال أيّها الناس؛ إني قد سأتلكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم؛ فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إما علي وإما عثمان؛ فقم غلي " يا علي، فقام إلي علي، فوقف تحت المنبر؛ فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا؛ ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي؛ قال: فأرسل يده ثم نادى: قم إلي يا عثمان؛ فأخذ بيده - هو في موقف علي الذي كان فيه - فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة منبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم؛ قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهمّ اسمع واشهد؛ اللهمّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان. قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعدالنبي ﷺ من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية، فجعل الناس يبايعون، وتلكأ علي، فقال عبد الرحمن: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا "؛ فرجع علي يشقّ الناس؛ حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيَّما خدعة! قال عبد العزيز: وإنما سبب قول علي خدعة؛ أن عمرو بن العاص كان قال لقي عليًّا في ليالي الشورى، فقال: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، وإنّه متى أعطيته العزيمة ان أزهد له فيك؛ ولكن الجهد والطاقة؛ فإنه أرغب له فيك. قال: ثم لقى عثمان، فقال: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، وليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل؛ فلذلك قال علي: خدعة.
قال: ثم انصرف بعثمان إلى بيت فاطمة ابنة قيس، فجلس والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبًا، فقال: يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفقك؛ والله ما كان لها غير عثمان - وعلي جالس - فقال عبد الرحمن: يا بن الدباغ؛ ما أنت وذاك! والله ما كنت أبايع أحدًا إلّا قلت فيه هذه المقالة! قال: ثم جلس عثمان في جانب المسجد؛ ودعا بعبيد الله بن عمر - وكان محبوسًا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وبانة أبي لؤلؤة، وكان يوقل: والله لأقتلنّ رجالًا ممن شرك في دم أبي - يعرّض بالمهاجرين والأنصار - فقام إليه سعد، فنزعالسيف من يده؛ وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض، وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه؛ فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله، فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنة اليوم! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله قد أعافك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان؛ إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك؛ قال عثمان: أنا وليّهم، وقد جعلتها ديةً، واحتملتها في مالي.
قال: وكان رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد البيّاضي إذا رأى عبيد الله بن عمر، قال:
ألا يا عبيد الله مالك مهرب ** ولا مجلجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دمًا والله في غير حلّه ** حرامًا وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل ** أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه والحوادث جمَّة نعم اتَّهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته ** يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
قال: فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره، فدعا عثمان زياد بن لبيد، فنهاه. قال: فأنشأ زياد يوقل في عثمان:
أبا عمرو عبيد الله رهن ** فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه ** وأسباب الخطا فرسا رهان
أتعفو إذ عفوت بغير حقّ ** فما لك بالذي تحي يدان!
فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشدّ به.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة طعن عمر: مررت على أبي لؤلؤة عشي أمس؛ ومعه جفينة والهرمزان، وهم نجي، فلما رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان، نصابه في سوطه؛ فانظروا بأي شيء قتل؛ وقد تخلل أهل المسجد، وخرج في طلبه رجل من بني تميم، فرجع إليهم التميمي، وقد كان ألظَّ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر، حتى أخذه فقتله؛ وجاء بالخنجر الذي وصفه عبد الرحمن بن أبي بكر، فسمع بذلك عبيد الله بن عمر؛ فأمسك حتى مات عمر؛ ثمّ اشتمل على السيف؛ فأتى الهرمزان فقتله؛ فلما عضّه السيف قال: لا إله إلا الله. ثمّ مضى حتى أتى جفينة - وكان نصرنيًّا من أهل الحيرة ظئرًا لسعد بن مالك، أقدمه إلى المدينة للصلح الذي بينه وبينهم، وليعلّم بالمدينة الكتابة - فلما علاه بالسيف صلب بين عينيه. وبلغ لك صهيبًا، فبعث إليه عمرو بن العاص، فلم يزل به وعنه، ويقول: السيف بأبي وأمي! حتى ناوله إياه، وثاروه سعيد فأخذ بشعره، وجاءوا إلى صهيب.
عمال عمر رضي الله عنه على الأمصار
وكان عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه - في السنة التي قتل فيها؛ وهي سنة ثلاث وعشرين - على مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعي، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثَّقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية؛ حليف بني نوفل ابن عبد مناف، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة؛ وعلى البصرة أبو موسى الأشعري، وعلى مصر عمرو بن العاص؛ وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان؛ وعلى البحرين وما والاهما عثمان بن أبي العاص الثقفي.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث وعشرين - توفي، فيما زعم الواقدي - قتادة ابن النعمان الظفري وصلى عليه عمر بن الخطّاب.
وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغعمّورية؛ ومعه من أصحاب رسول الله ﷺ معبادة بن الصامت وأبو أيّوب خالد بن زيد وأبو ذرّ وشدّاد بن أوس.
وفيها فتح معاوية عسقلان على صلح.
وقيل: كان على قضاء الكوفة في السنة التي توفي فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه شريح، وعلى البصرة كعب بن سور؛ وأما مصعب بن عبد الله فإنه ذكر أنّ مالك بن أنس روى عن ابن شهاب؛ أن أبا بكر وعمر رضي الله عنه عنهما لم يكن لهما قاض.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة
ففيها بويع لعثمان بن عفان بالخلافة، واختلف في الوقت الذي بويع له فيه؛ فقال بعضهم ما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قالك أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد ابن أبي وقّاص، معن عثمان بن محمّد الأخنسي. قال: وأخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد عن أبيه، قالا: بويع عثمان بن عفّان يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، فاستقبل بخلافته المحرّم سنة أربع وعشرين.
وقال آخرون: ما حدثني به أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: بويع لعثمان عام الرُّعاف سنة أربع وعشرين، قيل: إنما قيل لهذه السنة عام الرعاف؛ لأنه كثر الرُّعاف فيها في الناس.
وقال آخرون - فيما كتب به إلي السَّري، عن شعيب، عن شعيب، عن خليد بن ذفرة مجالد؛ قالا: استخلف عثمان لثلاث مضين من المحرّم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد: ووفّد فاستنّ به.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر، عن الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث مضيْن من المحرّم، وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذّن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس، وزاد الناس مائة، ووفّد أهل الأمصار، وهو أوّل من صنع ذلك.
وقال آخرون - فيما ذكر ابن سعد، عن الواقدي، عن ابن جريج عن ابن مليكة، قال: بويع لعثمان لعشر مضين من المحرّم، بعد مقتل عمر بثلاث ليال.
خطبة عثمان وقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: لما بايع أهل الشورى عثمان، خرج وهو أشدّهم كآبة، فأتى منبر رسول ﷺ، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ، وقال: إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه؛ فلقد أتيتم، صبَّحتم أو مسِّيتم؛ ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا، ولا يغرنَّكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدُّوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدينا وإخوانها الذين آثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلاُ؛ ألم تلفظهم! أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة؛ فإنّ الله قد ضرب لها مثلاُ؛ وللّذي هو خير، فقال عز وجل " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء " - إلى قوله - " أملا "، وأقبل الناس يبايعونه.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي منصور، قال: سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه، قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمرّ فيروز بأبي، ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: آنس به؛ فرآه رجل، فلما أصيب عمر، قال: رأيت هذا مع الهرمزان، دفعه إلى فيروز. فأقبل عبيد الله فقتله؛ فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه، ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك؛ وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله؛ فخرجت به وما في الأرض أحد إلّا معي؛ إلّا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم - وسبّوا عبيد الله - فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبّوه فتركته لله ولهم. فاحتملوني؛ فوالله ما بلغت المنزل إلّا على رؤوس الرجال وأكفّهم.
ولاية سعد بن أبي وقاص الكوفة
وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولّاها سعد بن أبي وقاص - فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، قال: كان عمر قال: أوصي الخليفة من بعدي أن يستعمل سعد بن أبي وقّاص، فإنّي لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك. وكان أوّل عامل بعث به عثمان سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وعزل المغيرة بن شعبة، والمغيرة يومئذ بالمدينة، فعمل عليها سعد سنة وبعض أخرى، وأقرّ أبا موسى سنوات.
وأمّا الواقدي فإنه ذكر أنّ أسامة بن زيد بن أسلم حدثه، عن أبيه؛ أن عمر أوصى أن يقرّ عمّاله سنة؛ فلما ولي عثمان أقرّ المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله، واستعمل سعد بن أبي وقاص ثم عزله، واستعمل الوليد ابن عقبة. فإن كان صحيحًا ما رواه الواقدي من ذلك، فولاية سعد الكوفة من قبل عثمان كانت سنة خمس وعشرين.
كتب عثمان إلى عماله وولاته والعامة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: لما وليَ عثمان بعث عبد الله بن عامر إلى كابل - وهي عمالة سجستان - فبلغ كابل حتى استفرغها، فكانت عمالة سجستان أعظم من خراسان؛ حتى مات معاوية، وامتنع أهل كابل.
قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه عثمان إلى عمّاله: أمّا بعد؛ فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباةً؛ وإنّ صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنّ أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم؛ ثم تثنّوا بالذمّة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم. ثم العدوّ الذي تنتابون؛ فاستفتحوا عليهم بالوفاء.
قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه عثمان إلى عمّاله: أمّا بعد؛ فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباة؛ وإنّ صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنّ أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم؛ ثم تثنّوا بالذمّة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم. ثم العدوّ الذي تنتابون؛ فاستفتحوا عليهم بالوفاء.
قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد في الفروج: أمّا بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم؛ وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملإ منّا، ولا يبلغنّي عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغيّر الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم؛ فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما الزمني الله النظر فيه، والقيام عليه.
قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه إلى عمّال الخراج: أمّا بعد، فإن الله خلق الخلق بالحقّ؛ فلا يقبل إلا الحقّ، خذوا الحقّ وأعطوا الحقّ به. والأمانة الأمانة؛ قوموا عليها، ولا تكونوا أوّل من يسلبها، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم والوفاء الوفاء؛ لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم.
قالوا: وكان كتابه إلى العامّة: أمّا بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتّباع؛ فلا تلفتنّكم الدنيا عن أمركم؛ فإنّ أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن؛ فإنّ رسول الله ﷺ قال: الكفر في العجمة؛ فإذا استعجم عليهم أمر تكلّفوا وابتدعوا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عاصم بن سليمان، عن عامر الشعبي، قال: أوّل خليفة زاد الناس في أعطياتهم مائة عثمان؛ فجرت وكان عمر يجعل لكلّ نفس منفوسة من أهل الفيء في رمضان درهمًا في كلّ يوم، وفرض لأزواج رسول الله ﷺ درهمين درهمين؛ فقيل له: لو صنعت لهم طعامًا فجمعتهم عليه! فقال: أشبع الناس في بيوتهم. فأقرّ عثمان الذي كان صنع عمر؛ وزاد فوضع طعام رمضان، فقال: للمعبد الذي يتخلف في المسجد وابن السبيل والمعترّين بالناس في رمضان.
غزوة أذربيجان وأرمينية
وفي هذه السنة - أعني سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية، لمنع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام أيّام عمر في رواية أبي مخنف؛ وأمّا في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ستّ وعشرين.
ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمر المسلمين وأمرهم في هذه الغزوة
ذكر هشام بن محمد، أنّ أبا مخنف حدثه عن فروة بن لقيط الأزدي، ثمّ الغامدي؛ أنّ مغازي أهل الكوفة كانت الري وأذربيجان، وكان بالثغرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة؛ ستة آلاف بأذربيجان وأربعة آلاف بالرّي، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل؛ وكان يغزو هذين الثغرين منهم عشرة آلاف في كلّ سنة؛ فكان الرجل يصيبه في كلّ أربع سنين غزوة؛ فغزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في سلطان عثمان أذربيجان وأرمينية، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فبعثه أمامه مقدّمة له، وخرج الوليد في جماعة الناس؛ وهو يريد أن يمعن في أرض أرمينية، فمضى في الناس حتى دخل أذربيجان، فبعث عبد الله بن شبيل بن عوف الأحمسي في أربعة آلاف، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان؛ فأصاب من أموالهم وغنم، وتحرّز القوم منه، وسبى منهم سبيًا يسيرًا، فأقبل إلى الوليد بن عقبة.
ثم إن الوليد صالح أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم؛ وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان سنة اثنتين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة. ثم إنهم حبسوها عند وفاة عمر، فلما ولي عثمان وولي الوليد ابن عقبة الكوفة، سار حتى وطئهم بالجيش؛ فلما رأوا ذلك انقادوا له، وطلبوا إليه أن يتمّ لهم على ذلك الصلح، ففعل؛ فقبض منهم المال، وبثّ فيمن حولهم من أعداء المسلمين الغازات؛ فلما رجع إليه عبد الله بن شبيل الأحمسي من غارته تلك - وقد سلم وغنم - بعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أرمينية في اثني عشر ألفًا، سنة أربع وعشرين. فسار في أرض أرمينية فقتل وسبى وغنم. ثم إنه انصرف وقد ملأ يديه حتى أتى الوليد. فانصرف الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته.
إجلاب الروم على المسلمين واستمداد المسلمين من بالكوفة
وفي هذه السنة - في رواية أبي مخنف - جاشت الروم، حتّى استمدّ من بالشأم من جيوش اللمسلمين من عثمان مددًا.
ذكر الخبر عن ذلك
قال هشام: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: لما أصاب الوليد حاجته من أرمينية في الغزوة التي ذكرتها في سنة أربع وعشرين من تاريخه، ودخل الموصل فنزل الحديثة، أتاه كتاب من عثمان رضي الله عنه:
أمّا بعد؛ فإنّ معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أنّ الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة؛ فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلًا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي؛ والسلام.
فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد أيّها الناس؛ فإنّ الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنًا؛ ردّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادًا لم تكن افتتحت، وردّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلي أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى الثمانية الآلاف، تمدّون إخوانكم من أهل الشأم، فإنهم قد جاشت عليهم الروم؛ وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي. قال: فانتدب الناس، فلم يمض ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشأم إلى أرض الروم؛ وعلى جند أهل الشأم حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي؛ فشنّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاءوا من سبي، وملئوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصونًا كثيرة.
وزعم الواقدي أنّ الذي أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة كان سعيد بن العاص، وقال: كان سبب ذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشأم أرمينية، فوجّهه إليها، فبلغ حبيبًا أن الموريان الرومي قد توجّه نحوه في ثمانين ألفًا من الروم والتّرك، فكتب بذلك حبيب إلى معاوية، فكتب معاوية به إلى عثمان، فكتب عثمان إلى سعيد ابن العاص يأمره بإمداد حبيب بن مسلمة، فأمدّه بسلمان بن ربيعة في ستة آلاف، وكان حبيب صاحب كيد، فأجمع على أن يبيّت الموريان، فسمعته امرأته أمّ عبد الله بنت يزيد الكلبيّية يذكر ذلك، فقالت له: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنّة، ثم بيّتهم، فقتل من أشرف له، وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت؛ وكانت أوّل امرأة من العرب ضرب عليها سرادق، ومات عنها حبيب، فخلف عليها الضحّاك بن قيس الفهري، فهي أمّ ولده.
واختلف فيمن حجّ بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حجّ بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان؛ كذلك قال أبو معشر والواقدي.
وقال آخرون: بل حجّ في هذه السنة عثمان بن عفان.
وأما الاختلاف في الفتوح التي نسبها بعض الناس إلى أنها كانت في عهد عمر، وبعضهم إلى أنها كانت في إمارة عثمان، فقد ذكرت قبل فيما مضى من كتابنا هذا ذكر اختلاف المختلفين في تاريخ كلّ فتح كان من ذلك.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين
ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها
فقال أبو معشر، فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازيّن قال: حدثني محدث، عن إسحاق بن عيسى عنه: كان فتح الإسكندريّة سنة خمس وعشرين.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة نقضت الإسكندرية عهدها، فعزاهم عمرو بن العاص فقتلهم؛ وقد ذكرنا خبرها قبل فيما مضى، ومن خالف أبا معشر والواقدي في تأريخ ذلك.
وفيها كان أيضًا - في قول الواقدي - توجيه عبد الله بن سعد بن أبي سرح الخيل إلى المغرب.
قال: وكان عمرو بن العاص قد بعث بعثًا قبل ذلك إلى المغرب، فأصابوا غنائم، فكتب عبد الله يستأذنه في الغزو إلى إفريقية، فأذن له.
قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان، واستخلف على المدينة.
قال: وفيها فتح الحصون وأميرهم معاوية بن أبي سفيان.
قال: وفيها ولد يزيد بن معاوية.
قال: وفيها كانت سابور الأولى فتحت.
ثم دخلت سنة ست وعشرين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة
فكان فيها - في قول أبي معشر والواقدي - فتح سابور؛ وقد مضى
ذكر الخبر عنها في قول من خالفهما في ذلك
وقال الواقدي: فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم.
وقال: فيها زاد عثمان في المسجد الحرام، ووسّعه وابتاع من قوم وأبى آخرون؛ فهدم عليهم؛ ووضع الأثمان في بيت المال؛ فصيّحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرّأكم علي! ما جرّأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيّحوا به. ثم كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا.
قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان.
وفي هذه السنة عزل عثمان سعدًا عن الكوفة، وولّاها الوليد بن عقبة في قول الواقدي؛ وأمّا في قول سيف فإنه عزله عنها في سنة خمس وعشرين.
وفيها ولي الوليد عليها، وذلك أنه زعم أنه عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة حين مات عمر، ووجّه سعدًا إليها عاملًا، فعمل له عليها سنة وأشهرًا.
ذكر سبب عزل عثمان عن الكوفة سعدا واستعماله عليها الوليد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان أوّل ما نزع به بين أهل اعلكوفة - وهو أوّل مصر نزغ الشيطان بينهم في الإسلام - أنّ سعد بن أبي وقاص استقرض من عبد الله بن مسعود من بيت المال مالًا، فأقرضه، فلمّا تقاضاه لم يتيسّر عليه، فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد الله بأناس من الناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس من الناس على استنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضًا، يلوم هؤلاء سعدًا ويلوم هؤلاء عبد الله.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: كنت جالسًا عند سعد، وعنده ابن أخيه هاشم بن عتبة، فأتى ابن مسعود سعدًا، فقال له: أدّ المال الذي قبلك، فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شرًّا! هل أنت إلا ابن مسعود، عبد من هذيل! فقال: أجل؛ والله إني لابن مسعود، وإنك لابن حمينة، فقال هاشم: أجل والله إنّكما لصاحبا رسول الله ﷺ، ينظر إليكما. فطرح سعد عودًا كان في يده - وكان رجلًا فيه جدّة - ورفع يديه، وقال: اللهمّ ربّ السموات والأرض.. فقال عبد الله: ويلك! قل خيرًا، ولا تلعن، فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتّقاء الله لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد الله سريعًا حتى خرج.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن المسيّب بن عبد خير، عن عبد الله بن عكيم، قال: لما وقع بين ابن مسعود وسعد الكلام في قرض أقرضه عبد الله إياه؛ فلم يتيسر على سعد قضاؤه؛ غضب عليهما عثمان، وانتزعها من سعد، وعزله وغضب على عبد الله وأقرّه، واستعمل الوليد بن عقبة - وكان عاملًا لعمر على ربيعة بالجزيرة - فقدم الكوفة فلم يتّخذ لداره بابًا حتى خرج من الكوفة.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما بلغ عثمان الذي كان بين عبد الله وسعد فيما كان، غضب عليهما وهمّ بهما، ثم ترك ذلك، وعزل سعدًا، وأخذ ما عليه، وأقرّ عبد الله، وتقدّم إليه، وأمّر مكان سعد الوليد بن عقبة - وكان على عرب الجزيرة عاملًا لعمر بن الخطاب - فقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان، وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى، فقدم الكوفة، وكان أحبّ الناس في الناس وأرفقهم بهم؛ فكان كذلك خمس سنين وليس على داره باب.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين
ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها
فتح إفريقية
فمما كان فيها من ذلك فتح إفريقية على يد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كذلك حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر؛ وهو قول الواقدي أيضًا.
ذكر الخبر عن فتحها وعن سبب ولاية عبد الله بن سعد ابن أبي سرح مصر وعزل عثمان عمرو بن العاص عنها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: مات عمر وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى قضائها خارجة بن حذافة السهمي، فولى عثمان، فأقرهما سنتين من إمارته ثم عزل عمرًا، واستعمل عبد الله ابن سعد بن أبي سرح.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان؛ قالا: لما ولي عثمان أقرّ عمرو بن العاص على عمله، وكان لا يعزل أحدًا إلّا عن شكاة أو استعفاء من غير شكاة؛ وكان عبد الله بن سعد من جند مصر، فأمّر عبد الله بن سعد على جنده، ورماه بالرّجال، وسرّحه إلى إفريقية وسرحّ معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريّين، وقال لعبد الله بن سعد: إنْ فتح الله عزّ وجل عليك غدًا إفريقية، فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا. وأمّر العبدين على الجند، ورماهما بالرجال، وسرّحهما إلى الأندلس؛ وأمرهما وعبد الله بن سعد بالاجتماع على الأجلّ، ثم يقيم عبد الله بن سعد في عمله ويسيران إلى عملهما.
فخرجوا حتى قطعوا مصر، فلمّا وغلوا في أرض إفريقية فأمعنوا انتهوا إلى الأجلّ، ومعه الأفناء، فاقتتلوا، فقتل الأجلّ، قتله عبد الله بن سعد وفتح إفريقية سهلها وجبلها. ثم اجتمعوا على الإسلام، وحسنت طاعتهم، وقسم عبد الله ما أفاء الله عليهم على الجند؛ وأخذ خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النصري، وضرب فسطاطًا في موضع القيروان، ووفّد وفدًا، فشكوا عبد الله فيما أخذ، فقال لهم: أنا نفّلته - وكذلك كان يصنع - وقد أمرت له بذلك، وذاك إليكم الآن؛ فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو ردّ. قالوا: فإنا نسخطه، قال: فهو ردّ، وكتب إلى عبد الله بردّ ذلك واستصلاحهم، قالوا: فاعزله عنّا، فإنا لا نريد أن يتأمّر علينا، وقد وقع ما وقع؛ فكتب إليه أن استخلف على إفريقية رجلًا ممن ترضى ويرضون واقسم الخمس الذي كنت نفّلتك في سبيل الله؛ فإنهم قد سخطوا النفل. ففعل، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية، وقتل الأجلّ. فما زالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك؛ أحسن أمة سلامًا وطاعةً؛ حتى دبّ إليهم أهل العراق، فلما دبّ إليهم دعاة اهل العراق واستثاروهم، شقّوا عصاهم، وفرّقوا بينهم إلى اليوم. وكان من سبب تفريقهم أنهم ردّوا على أهل الأهواء، فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك، فقالوا لهم: لا نقبل ذلك حتى نبورهم؛ فخرج ميسرة في بضعة عشر إنسانًا حتى يقدم على هشام، فطلبوا الإذن، فصعب عليهم، فأتوا الأبرش، فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أنّ أميرنا يغزو بنا وبجنده، فإذا أصاب نفّلهم دوننا وقال: هم أحقّ به؛ فقلنا: هو أخلص لجهادنا، لأنا لا نأخذ منه شيئًا، إن كان لنا فهم منه في حلّ؛ وإن لم يكن لنا لم نرده. وقالوا: إذا حاصرنا مدينة قال: تقدّموا وأخّر جنده، فقلنا: تقدّموا، فإنه ازدياد في الجهاد، ومثلكم كفى إخوانه، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم. ثمّ إنهم عمدوا إلى ماشيتنا، فجعلوا يبقرونها على السخال يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين، فيقتلون ألف شاة في جلد، فقلنا: ما أيسر هذا لأمير المؤمنين! فاحتملنا ذلك، وخلّيناهم وذلك. ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كلّ جميلة من بناتنا فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنّة، ونحن مسلمون؛ فأحببنا أن نعلم: أعن رأي أمير المؤمنين ذلك أم لا؟ قال: نفعل؛ فلما طال عليهم ونفدت نفقاتهم، كتبوا أسماءهم في رقاع، ورفعوها إلى الوزراء، وقالوا: هذه أسماؤنا وأنسابنا؛ فإن سألكم أمير المؤمنين عنّا فأخبروه، ثم كان وجههم إلى إفريقية؛ فخرجوا على عامل هشام فقتلوه، واستولوا على إفريقية؛ وبلغ هشامًا الخبر، وسأل عن النفر، فرفعت إليه أسماؤهم، فإذا هم الذين جاء الخبر أنهم صنعوا ما صنعوا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فخرجوا ومعهم البربر؛ فأتوها من برّها؛ ففتحها الله على المسلمين وإفرنجة؛ وازدادوا في سلطان المسلمين مثل إفريقية؛ فلما عزل عثمان عبد الله ابن سعد بن أبي سرح صرف إلى عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس؛ وكان عليها، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر؛ ولم يزل أمر الأندلس كأمر إفريقية حتى كان زمان هشام، فمنع البربر أرضهم؛ وبقي من في الأندلس على حاله.
وأما الواقدي فإنه ذكر أنّ ابن أبي سبرة حدثه عن محمد بن أبي حرملة، عن كريب، قال: لما نزع عثمان عمرو بن العاص عن مصر غضب عمرو غضبًا شديدًا، وحقد على عثمان، فوجّه عبد الله بن سعد، وأمره أن يمضي إلى إفريقية؛ وندب عثمان الناس إلى إفريقية؛ فخرج إليها عشرة آلاف من قريش والأنصار والمهاجرين.
قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن ابن كعب، قال: لما وجّه عثمان عبد الله بن سعد إلى إفريقية، كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، فبعث ملك الروم رسولًا، وأمره أن يأخذ منهم ثلثمائة قنطار؛ كما أخذ منهم عبد الله بن سعد؛ فجمع رؤساء إفريقية، فقال: إن الملك قد أمرني أن آخذ منكم ثلثمائة قنطار ذهب مثل ما أخذ منكم عبد الله بن سعد؛ فقالوا: ما عندنا مال نعطيه؛ فأمّا ما كان بأيدينا فقد افتدينا به أنفسنا، وأمّا الملك فإنه سيّدنا فليأخذ ما كان له عندنا من جائزة كما كنا نعطيه كلّ سنة. فلمّا رأى ذلك أمر بحبسهم، فبعثوا إلى قوم من أصحابهم، فقدموا عليه، فكسروا السجن فخرجوا، وكان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلثمائة قنطار ذهب؛ فأمر بها عثمان لآل الحكم. قلت: أو لمروان؟ قال: لا أدري.
قال ابن عمر: وحدثني أسامة بن زيد، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: نزع عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عبد الله بن سعد على الخراج، فتباغيا، فكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان يقول: إنّ عمرًا كسر الخراج. وكتب عمرو: إنّ عبد الله كسر علي حيلة الحرب، فكتب عثمان إلى عمرو: انصرف؛ وولّى عبد الله بن سعد الخراج والجند، فقدم عمرو مغضبًا، فدخل على عثمان وعليه جبّة يمانية محشوّة قطنًا، فقال له عثمان: ما حشو جبّتك؟ قال: عمرو، قال عثمان: قد علمت أن حشوها عمرو ولم أرد هذا، إنما سألت: أقطن هو أم غيره؟ قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: بعث عبد الله بن سعد إلى عثمان بمال من مصر، قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان؛ فقال عثمان: يا عمرو، هل تعلم أنّ تلك اللقاح درّت بعدك! فقال عمرو: إنّ فصالها هلكت.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة كان فتح إصطخر الثاني على يد عثمان ابن أبي العاص.
قال: وفيها غزا معاوية قنّسرين.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة
فتح قبرس
فمما ذكر أنه كان فيها فتح قبرس، على يد معاوية، غزاها بأمر عثمان إيّاه؛ وذلك في قول الواقدي.
فأمّا أبو معشر فإنه قال: كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وقال بعضهم: كانت قُبرس سنة سبع وعشرين، غزاها - فيما ذكر - جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ، فيهم أبو ذرّ وعبادة بن الصامت؛ ومعه زوجته أمّ حرام والمقداد وأبو الدرداء، وشدّاد بن أوس.
ذكر الخبر عن غزوة معاوية إياها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان النصري وأبي المجالد جراد بن عمرو، عن رجاء بن حيوة وأبي حارثة وأبي عثمان، عن رجاء وعبادة وخالد: قالوا: ألحّ معاوية في زمانه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص؛ وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم؛ حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر؛ فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه؛ فإنّ نفسي تنازعني إليه.
وقال عبادة وخالد: لما أخبره ما للمسلمين في ذلك وما على المشركين، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير؛ إن ركن خرّق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول؛ يزداد فيه اليقين قلّة، والشكّ كثرة، هم فيه كدود على عدود؛ إن مال غرق، وإن نجا برق.
فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سعيد، عن عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أميّة الأزدي، قال: كان معاوية كتب إلى عمر كتابًا في غزو البحر يرغّبه فيه، ويقول: يا أمير المؤمنين، إنّ بالشأم قرية يسمع أهلها نباح كلاب الروم وصياح ديوكهم؛ وهم تلقاء ساحل من سواحل حمص؛ فاتّهمه عمر لأنه المشير؛ فكتب إلى عمرو: أن صف لي البحر؛ ثم اكتب إلي بخبره: فكتب إليه: ياأمير المؤمنين، إني رأيت خلقًا عظيماُ، يركبه خلق صغير؛ ليس إلا السماء والماء؛ وإنما هم كدودٍ على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة، عن عبادة، عن جنادة بن أبي أميّة والربيع وأبي المجالد، قالوا: كتب عمر إلى معاوية: إنا سمعنا أن بحر الشأم يشرف على أطول شيء على الأرض؛ يستأذن الله في كلّ يوم وليلة في أن يفيض على الأرض فيغرّقها؛ فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب؛ وتالله لمسلم أحبّ إلي مما حوت الروم؛ فإيّاك أن تعرض لي؛ وقد تقدّمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منّي، ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك.
وقالوا: ترك ملك الروم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، وسأله عن كلمة يجتمع فيها العلم كله، فكتب إليه: أحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، واكره لهم ما تكره لها، تجتمع لك الحكمة كلّها. واعتبر الناس بما يليلك، تجمتع لك المعرفة كلها.
وكتب إليه ملك الروم - وبعث إليه بقارورة: أن املأ لي هذه القارورة من كلّ شيء، فملأها ماء، وكتب إليه: إنّ هذا كلّ شيء من الدنيا.
وكتب إليه ملك الروم: ما بين الحق والباطل؟ فكتب إليه: أربع أصابع الحقّ، فيما يرى عياناُ، والباطل كثيرًا يستمع به فيما لم يعاين.
وكتب إلى ملك الروم يسأله عمّا بين السماء والأرض وبين المشرق والمغرب، فكتب إليه: مسيرة خمسمائة عام للمسافر؛ لو كان طريقًا مبسوطًا.
قال: وبعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحفاش من أحفاش النساء، ودسّته إلى البريد، فأبلغه لها، وأخذ منه. وجاءت امرأة هرقل، وجمعت نساءها، وقالت: هذه هدّية امرأة ملك العرب، وبنت نبيّهم، وكاتبتها وكافأتها، وأهدت لها؛ وفيما أهدت لها عقد فاخر. فلما انتهى به البريد إليه أمره بإمساكه، ودعا: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى بهم ركعتين، وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري؛ قولوا في هديّة أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم؛ فأهدت لها امرأة ملك الروم، فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمّة فتصانع به، ولا تحت يدك فتتّقيك.
وقال آخرون: قد كنّا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتباع، ولنصيب ثمنًا. فقال: ولكنّ الرسول رسول المسلمين، والبريد بريدهم، والمسلمون عظّموها في صدرها. فأمر بردّها إلى بيت المال، وردّ عليها بقدر نفقتها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة، عن خالد بن معدان، قال: أوّل من غزا في البحر معاوية بن أبي سفيان زمان عثمان بن عفان، وقد كان استأذن عمر فيه فلم يأذن له؛ فلما ولي عثمان لم يزل به معاوية؛ حتى عزم عثمان على ذلك بأخرة، وقال: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم؛ خيرهم؛ فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه، ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب؛ وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده، وألّا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده؛ خرج في قارب طليعة، فانتهى إلى المرقى من أرض الروم؛ وعليه سؤّال يعترّون بذلك المكان، فتصدّق عليهم، فرجعت امرأة من السؤّال إلى قريتها، فقال للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟ قالت: في المرقى، قالوا: أي عدوّة الله! ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبّختهم، وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد. فثاروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده؛ وألفت الملّاح حتى أتى أصحابه، فجاءوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد ه: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: الغمرات ثم ينجلينا فترك ما كان يقول، ولزم: الغمرات ثم ينجلينا. وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس الجاسي؛ وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفتيه؟ قالت: بصدقته؛ أعطى كما يعطي الملوك؛ ولم يقبض قبض التجّار.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: قيل لتلك المرأة التي استثارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتاجر، فلمّا سألته أعطاني كالملك؛ فعرفت أنه عبد الله بن قيس.
وكتب إلى معاوية والعمّال: أمّا بعد، فقوموا على ما فارقتم عليه عمر، ولا تبدّلوا، ومهما أشكل عليكم، فردّوه إلينا نجمع عليه الأمة، ثمّ نردّه عليكم؛ وإيّاكم أن تغيِّروا، فإنّي لست قابلًا منكم إلا ما كان عمر يقبل.
وقد كانت تنتقض فيما بين صلح عمر وولاية عثمان تلك الناحية فيبعث إليها الرجل فيفتحها الله على يديه، فيحسب له ذلك؛ وأما الفتوح فلأوّل من وليها.
قال أبو جعفر: ولما غزا معاوية قبرس؛ صالح أهلها - فيما حدثني علي بن سهل، قال: جدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني سليمان بن أبي كريمة والليث بن سعد وغيرهما من مشيخة ساحل دمشق؛ أنّ صلح قبرس وقع على جزية سبعة آلاف دينار يؤدّونها إلى المسلمين في كلّ سنة، ويؤدُّون إلى الروم مثلها، ليس للمسلمين أنيحولوا بينهم وبين ذلك، على ألّا يغزوهم ولا يقاتلوا من وراءهم ممن أرادهم من خلفهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوّهم من الروم إليهم؛ وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم.
وقال الواقدي: غزا معاوية في سنة ثمان وعشرين قبرس، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، حتى لقوا معاوية، فكان على الناس.
قال: وحدثني ثوري بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، قال: لما سبيناهم نظرت إلى أبي الدرداء يبكي، فقلت: ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذل " فيه الكفر وأهله؟ قال: فضرب بيده على منكبي، وقال: ثكلتك أمّك يا جبير! ما أهون الخلق عى الله إذا تركوا أمره! بينا هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك؛ إذ تركوا أمر ه، فصاروا إلى ما ترى، فسلَّط عليهم السبَّاء، وإذا سلِّط السِّباء على قوم فليس الله فيهم حاجة.
قال الواقدي: موحدثني أبو سعيد، أنّ معاوية بن أبي سفيان صالح أهل قبرس في ولاية عثمان؛ وهو أوّل من غزا الروم؛ وفي العهد الذي بينه وبينهم ألّا يتزوّجوا في عدوّنا من الروم إلّا بإذننا.
قال الواقديَ: وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
وفيها تزوّج عثمان نائلة ابنة الفرافصة الكلبية وكانت نصرانية، فتحنَثت قبل أن يدخل بها.
قال: وفيها بني داره بالمدينة، الزوراء، وفرغ منها.
قال: وفيها كان فتح فارس الأول، وإصطخر الآخر وأميرها هشام ابن عامر.
قال: وحجّ بالناس عثمان في هذه السنة.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة
ففيها عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وكان عامله عليها ستّ سنين، وولّاها عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، فقدمها. وقد قيل: إنّ أبا موسى إنما عمل لعثمان على البصرة ثلاث سنين.
وذكر علي بن محمد أن محاربًا أخبره، عن عوف الأعرابي، قال: خرج غيلان بن خرشة الضبي إلى عثمان بن عفان، فقال: أما لكم صغير فتستشبّوه فتولّوه البصرة! حتى متى بلى هذا الشيخ البصرة! يعني أبا موسى؛ وكان وليها بعد موت عمر ستّ سنين.
قال: فعزله عثمان عنها، وبعث عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة ابن حبيب بن عبد شمس، وأمه دجَّاجة ابنة أسماء السُّلمي؛ وهو ابن خال عثمان بن عفان. قال مسلمة: فقدم البصرة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، سنة تسع وعشرين.
ذكر الخبر عن سبب عزل عثمان أبا موسى عن البصرة
كتب إلي السري، يذكر أنّ شعيبًا حدثه، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما ولي عثمان أقرّ أبا موسى على البصرة ثلاث سنين، وعزله في الرابعة، وأمّر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي - وهو من كنانة - فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا أصحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمي، فأثخن فيها حتى بلغ النهر.
وبعث علي كرمان عبد الرحمن بن غبيس؛ وبعث إلى فارس والأهواز نفرًا، وضمّ سواد البصرة إلى الحصين بن أبي الحرَ، ثم عزل عبد الله بن عمير، واستعمل عبد الله بن عامر فأقرّه عليها سنة ثم عزله، واستعمل عاصم بن عمرو، وعزل عبد الرحمن بن غبيس، وأعاد عدي بن سهيل بن عدي.
ولما كان في السنة الثالثة كفر أهل إيذج والأكراد، فنادى أبو موسى في الناس، وحضّهم وندبهم؛ وذكر من فضل الجهاد في الرجلة؛ حتى حمل نفر على دوابّهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجَالًا. وقال آخرون: لا والله لا نعجل بشيء حتى ننظر ما صنيعه؟ فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما فعل أصحابنا.
فلمّا كان يوم خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلًا، فتعلقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب من الرجلة فيما رغبتنا فيه، فقنّع القوم حتى تركوا دابتّه ومضى، فأتوا عثمان، فاستعفوه منه، وقالوا: ما كلّ ما نعلم نحبّ أن نقوله، فأبد لنا به، فقال: من تحبّون؟ فقال غيلان بن خرشة: في كلِّ أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا، وأحيا أمر الجاهلية فينا، فلا ننفك من أشعري كان يعظّم ملكه عن الأشعرين؛ ويستصغر ملك البصرة، وإذا أمرّت علينا صغيرًا كان فيه عوض منه، أو مهترًا كان فيه عوض منه؛ ومن بين ذلك من جميع الناس خير منه.
فدعا عبد الله بن عامر وأمّره على البصرة، وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس، واستعمل على عمله عمير بن عثمان بن سعد. فاستعمل على خراسان في سنة أربع أمين بن أحمج اليشكري، واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفصيل الرجمي، وعلى كرمان عاصم بن عمرو، فما تعالى بها.
فجاشت فارس، وانتقضت بعبيد الله بن معمر، فاجتمعوا له بإصطخر، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وهزم جنده؛ وبلغ الخبر عبد الله ابن عامر، فاستنفر أهل البصرة؛ وخرج معه الناس، وعلى مقدّمته عثمان ابن أبي العاص، فالتقوا هم وهم بإصطخر، وقتل منهم مقتلة عظيمة لم يزالوا منها في ذلّ؛ وكتب بذلك إلى عثمان؛ فكتب إليه بإمرة هرم بن حسان اليشكري، وهرم بن حيان العبدي من عبد القيس، والحرّيت بن راشد من بني سامة، والمنجاب بن راشد، والتّرجمان الهجيمي، على كور فاس، وفرّق خراسان بين نفر ستة: الأحنف على المروين، وحبيب بن قرّة اليربوعي على بلخ - وكانت مما افتتح أهل الكوفة - وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمين بن أحمد اليشكري على طوس، وقيس بن الهيثم السملي على نيسابور - وهو أول من خرج - وعبد الله بن خازم، وهو ابن عمه. ثم إن عثمان جمعها له قبل موته؛ فمات وقيس على خراسان، واستعمل أمين بن أحمر على سجستان، ثم جعل عليها عبد الرحمن بن سمرة - وهو من آل حبيب ابن عبد شمس؛ فمات عثمان وهو عليها؛ ومات وعمران على كرمان - وعمير ابن عثمان مبن سعد على فارس، وابن كندير القشيري على مكران.
وقال علي بن محمد: أخبرنا علي بن مجاهد، عن أشياخه، قال: قال غيلان بن خرشة لعثمان بن عفان: أما منكم خسيس فترفعوه! أما منكم فقير فتجيروه! يا معشر قريش، حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد! فانتبه لها الشيخ؛ فولَاها عبد الله بن عامر.
قال علي بن محمد: أخبرنا أبو بكر الهذلي؛ قال: ولي عثمان ابن عامر البصرة؛ فقال الحسن: قال أبو موسى: يأتيكم غلام خرّاج ولّاج كريم الجدّات والخالات والعمات؛ يجمع له الجندان. قال: قال الحسن: فقدم ابن عامر، فجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي؛ وكان عثمان بن أبي العاص فيمن عبر من عمان والبحرين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وفد قيس بن هثيم عبد الله بن خازم إلى عبد الله بن عامر في زمان عثمان؛ وكان عبد الله بن خازم على عبد الله بن عامر كريمًا، فقال له: اكتب لي على خراسان عهدًا إن خرج منها قيس بن الهيثم. ففعل، فرجع إلى خراسان؛ فلما قتل عثمان وبلغ الناس الخبر، وجاش العدوّ لذلك، قال قيس: ما ترى يا عبد الله؟ قال: أرى أن تخلفني ولا تخلّف عن المضي حتى تنظر فيما تنظر. ففعل واستخلفه، فأخرج عبد الله عهد خلافته، وثبت على خراسان إلى أن قام علي رضي الله تعالى عنه، وكانت أمّ عبد الله عجلي، فقال قيس: أنا كنت أحقّ أنأكون ابن عجلي من عبد الله؛ وغضب مما صنع به الآخر.
أخبار متفرقة
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن عامر فارس في قول الواقدي وفي قول أبي معشر؛ حدثني بقول أبي معشر أحمد بن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق ابن عيسى، عنه. وأما قول سيف فقد ذكرناه قبل.
وفي هذه السنة - أعني سنة تسع وعشرين - زاد عثمان في مسجد رسول الله ﷺ ووسّعه، وابتدأ في بنائه في شهر ربيع الأول؛ وكانت القصّة تحمل إلى عثمان من بطن نخل؛ وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حدجارة فيها رصاص، وسقفه ساجًا، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه مائة وخمسين ذراعًا، وجعل أبوابه على ما كانت عليه على عهد عمر، ستّة أبواب.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان، فضرب بمنى فسطاطًا، فكان أوّل فسطاط ضربه عثمان بمنّى، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة.
فذكر الواقدي، عن عمر بن صالح بن نافع، عن صالح مولى التوءمة، قال: سمعت ابن عباس يقول: إن أوّل ما تكلم الناس في عثمان ظاهرًا أنه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين؛ حتى إذا كانت السنة السادسة أتمّها، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي ﷺ؛ وتكلم في ذلك من يريد أن يكثِّرعليه؛ حتى جاءه علي فيمن جاءه، فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد؛ ولقد عهدت نبيّك ﷺ يصلّي ركعتين. ثمّ أبا بكر، ثمّ عمر، وأنت صدرًا من ولايتك، فما أدري ما ترجع إليه! فقال: رأي رأيته.
قال الواقدي: وحدثني داود بن خالد، عن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن عمّه، قال: صلّى عثمان بالناس بمنى أربعًا، فأتى آت عبد الرحمن بن عوف، فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلّى بالناس أربعًا! فصلىّ عبد الرحمن بن عوف بأصحابه ركعتين؛ ثم خرج حتى دخل على عثمان، فقال له: ألم تصلّ في هذا المكان مع رسول الله ﷺ ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصلّ مع عمر ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصلّ صدرًا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى، قال: فاسمع منّي يا أبا محمد؛ إني أخبرت أنّ بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إنّ الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين، وقد اتّخذت بمكة أهلًا، فرأيت أن أصلّي أربعًا لخوف ما أخاف على الناس؛ وأخرى قد اتّخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال؛ فربمااطّلعته فأقمت فيه بعد الصَّدر. فقال عبد الرحمن ابن عوف: ما من هذا شيء لك فيه عذر؛ أما قولك: اتخذت أهلًا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وتقدم بها إذا شئت؛ إنما تسكن بسكناك.
وأما قولك: ولي مال بالطائف؛ فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف. وأمّا قولك: يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلّى ركعتين وهومقيم؛ فقد كان رسول الله ﷺ ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل؛ ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلّى بهم عمر حتى مات ركعتين، فقال عثمان: مهذا رأي رأيته.
قال: فخرج عبد الرحمن فلقى ابن مسعود، فقال: أبا محمّد، غير ما يعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل أنت بما تعلم؛ فقال ابن مسعود: الخلاف شرّ؛ قد بلغني أنه صلّى أربعًا فصلّيت بأصحابي أربعًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعًا فصليّت بأصحابي أربعًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلّى أربعًا، فصليّت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول - يعني نصلي معه أربعًا.
ثم دخلت سنة ثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة
فممّا كان فيها غزوة سعيد بن العاص طبرستان في قول أبي معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وفي قول الواقدي وقول علي بن محمد المدائني: حدثني بذلك عمر بن شبّة عنه. وأما سيفبن عمر، فإنه ذكر أن إصبهبذها صالح سويد بن مقرّن على ألّا يغزوها؛ على مال بذله له. قد مضى ذكري الخبر عن ذلك قبل في أيام عمر رضي الله عنه.
وأما علي بن محمد المدائني، فإنه قال - فيما حدثني به عنه عمر: لم يغزها أحد حتى قام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فغزاها سعيد بن العاص سنة ثلاثين.
ذكر الخبر عنه عن غزو سعيد بن العاص طبرستان
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثني علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن حنش بن مالك، قال: غزا سعيد بن العاص من الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله ﷺ، ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير؛ وخرج عبد الله ابن عامر من البصرة يريد خراسان، فسبق سعيدًا ونزل أبرشهر، وبلغ نزوله أبر شهر سعيدًا. فنزل سعيد قومس؛ وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند؛ فأتى جرجان، فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان جرجان، وهي مدينة على ساحل البحر، وهي في تخوم جرجان، فقاتله أهلها حتى صلّى صلاة الخوف، فقال لحذيفة: كيف صلّى رسول الله ﷺ؟ فأخبره، فصلّى بها سعيد صلاة الخوف، وهم يقتتلون، وضرب يومئذ سعيد رجلًامن المشركين على حبل عاتقه، فخرج السيف من تحت مرففقه؛ وحاصرهم، فسألوا الأمان؛ فأعطاهم على ألّا يقتل منهم رجلًا واحدًا، ففتحوا الحصن، فقتهلم جميعًا إلا رجلًا واحدًا؛ وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطًا عليه قفل، فظنّ فيه جوهرًا؛ وبلغ سعيدًا، فبعث إلى النهدي، فأتاه بالسَّفط، فكسروا قفلة؛ فوجدوا فيه سفطًا، ففتحوه، فإذا فيه خرقة سوداء مدرجة فنشروها، فوجدوا خرقة حمراء فنشروها، فإذا خرقة صفراء؛ وفيها أيران: كميت وورد، فقال شاعر يهجو بني نهد:
آب الكرام بالسَّبايا غنيمة ** وفاز بنو نهد بأيرين في سفط
كميت وورد وافرين كلاهما ** فظنُّوها غنمًا فناهيك من غلط!
وفتح سعيد بن العاص نامية، وليست بمدينة، هي صحارى وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن نحمد، قال: أخبرني علي بن مجاهد، عن حنش بن مالك التغلبي، قال: غزا سعيد سنة ثلاثين، فأتى جرجان وطبرستان؛ معه عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر وابن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ فحدثني علج كان يخدمهم قال: كنت أتيتهم بالسُّفرة، فإذا أكلوا أمروني فنفضتها وعلّقتها، فإذا أمسوا أعطوني باقيه. قال: وهلك مع سعيد بن العاص محمد بن الحكم ابن أبي عقيل الثقفي، جدّ يوسف بن عمر، فقال يوسف لقحذم: يا قحذم، أتدري أين مات محمد بن الححكم؟ قال: نعم، استشهد معسعيد بن العاص بطبرستان، قال: لا، مات بها وهو مع سعيد، ثم قفل سعيد إلى الكوفة، فمدحه كعب بن جعيل، فقال:
فنعم الفتى إذ جال جيلان دونه ** وإذ هبطوا من دشتي ثمَّ أبهرا
تعلم سعيد الخير أنّ مطيّتي ** إذا هبطت أشفقت من أنتعقَّرا
كأنَّك يوم الشِّعب ليث خفيَّة ** تحرَّد من ليث العرين وأصحرا
تسوس الَّذي ماسماس قبلك واحد ** ثمانين ألفًا دارعين وحسَّرا
وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن كليب بن خلف وغيره؛ أنّ سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق؛ فلم يكن أحد يسلك طريق خراسان من ناحية قومس إلّا على وجل وخوف من أهل جرجان، وكان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة ابن مسلم حين ولي خراسان.
وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن كليب بن خلف العمِّي، عن طفيل بن مرداس العمي وإدريس بن حنظلة العمي؛ أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان؛ وكانوا يجبون أحيانًا مائة ألف ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانًا مائتي ألف، وأحيانًا ثلاثمائة ألف؛ وكانوا ربما أعطوا ذلك وربما منعوه؛ ثم امتنعوا وكفروا، فلم يعطوا خراجًا حتى أتاهم بزيد بن المهلب، فلم يعازّه أحد حين قدمها؛ فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد بن العاص.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وولاها سعيد بن العاص في قول سيف بن عمر.
ذكر السبب في عزل عثمان الوليد عن الكوفة وتوليته سعيدا عليها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما بلغ عثمان الذي كان بين عبد الله وسعد غضب عليهما وهمّ بهما، ثم ترك ذلك وعزل سعدًا، وأخذ ما عليه، وأقرّ عبد الله، وتقدّم إليه، وأمر مكان سعيد الوليد بن عقبة - وكان على عرب الجزيرة عاملًا لعمر بن الخطاب - تقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان؛ وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى؛ فقدم الكوفة، وكان أحبّ الناس في الناس وأرفقهم بهم؛ فكان كذلك خمس سنين، وليس على داره باب. ثمّ إنّ شبابًا من شباب أهل الكوفة.
نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي، وكاثروه، فنذ ربهم، فخرج عليهم بالسيف، فلما رأى كثرتهم استصرخ، فقالوا له: اسكت، فإنما هي ضربة حتى نريحك من روعة هذه الليلة - وأبو شريح الخزاعي مشرف عليهم - فصاح بهم وضربوه فقتلوه، وأحاط مالناس بهم فأخذوهم؛ وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورِّع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي، في عدّة. فشهد عليهم أبو شريح وابنة أنهم دخلوا عليه، فمنع بعضهم بعضًا من الناس، فقتله بعضهم، فكتب فيهم إلى عثمان، فكتب إليه في قتلهم، فقتلهم على باب القصر في الرحبة، وقال في ذلك عمرو بن عاصم التميمي:
لا تأكلوا أبدًا جيرانكم سرفًا ** أهل الزعارة في ملك مابن عفَّان
وقال أيضًا:
إنَّ ابن عفَّان الذي جرَّبتم ** فطم اللصوص بمحكم الفرقان
ما زال يعمل بالكتاب مهيمنًا ** في كلِّ عنق منهم وبنان
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي سعيد، قال: كان أبو شريح الخزاعي من أصحاب رسول الله ﷺ، فتحوّل من المدينة إلى الكوفة ليدنو من الغزو؛ فبينا هو ليلة على السطح، إذ استغاث جاره، فأشرف فإذا هو بشباب من أهل لكوفة قد بيّتوا جاره؛ وجعلوا يقولون له: لا تصح، فإنما هي ضربة حتى نريحك؛ فقتلوه. فارتحل إلى عثمان، ورجع إلى المدينة ونقل أهله، ولهذا الحديث حين كثر أحدثت القامة؛ وأخذ بقول ولي المقتول: ليفطم الناس عن القتل عن ملإ من الناس يومئذ.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عثمان: القامة على المدَّعي عيه وعلى أوليائه؛ يحلف منهم خمسون رجلًا إذا لم تكن بينّة؛ فإن نقصت قسامتهم، أو إ نكل رجل واحد ردّت قسامتهم ووليها المدّعون؛ وأحلفوا، فإن حلف منهم خمسون استحقُّوا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن عون بن عبد الله، قال: كان مما أحدث عثمان بالكوفة إلى ما كان من الخبر أنه بلغه أنّ أبا سمّال الأسدي في نفر من أهل الكوفة، ينادي مناد لهم إذا قدم الميار: من كان هاهنا من كلب أو بني فلان ليس لقومهم بها منزل فمنزله على أبي سمّال. فاتّخذ موضع دار عقيل دار الضيفان ودار ابن هبّار؛ وكان منزل عبد الله بن مسعود في هذيل في هذيل في موضع الرمادة، فنزل موضع داره، وترك داره دار الضيافة، وكان الأضيفاف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عنالمغير بن مقسم، عمّن أدرك من علماء أهل الكوفة، أنّ أبا سمّال كان ينادي مناديه في السوق والكناسة: من كان ها هنا من بني فلان وفلان - لمن ليست له بها خطّة - فمنزله على أبي سمّال؛ فاتّخذ عثمان للأضياف منازل.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مولى لآل طلحة، عن موسى بن طلحة مثله.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان عمر بن الخطاب قد استعمل الوليد بن عقبة على عرب الجزية، فنزل في بني تغلب. وكان أبو زبيد في الجاهليّة والإسلام في بني تغلب حتى أسلم؛ وكانت بنو تغلب أخواله؛ فاضطهده أخواله ديّنًا له؛ فأخذ له الوليد بحقّه، فشكرها له أبو زبيد، وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة؛ فلما ولي الوليد الكوفة أتاه مسلّمًا معظّمًا على مثل ما كان يأتيه بالجزية والمدينة، فنزل دار الضيفان، وآخر قدمة قدمها أبو زبيد على الوليد؛ وقد كان ينتدجعه ويرجع، وكان نصرانيًّا قبل ذلك، فلم يزل الوليد به وعنه حتى أسلم في آخر إمارة الوليد، وحسن إسلامه، فاستدخله الوليد، وكان عربيًّا شاعرًا حين قام على الإسلام؛ فأتى آتٍ أبا زينب وأبا مورِّع وجندبًا، وهم يحقدون له مذ قتل أبناءهم، ويضعون له العيون، فقال لهم: هل لكم في الوليد يشارب أبا زبيد؟ فثاروا في ذلك، فقال أبو زينب وأبو مورّع وجندب لأناس من وجوه أهل الكوفة: هذا أميركم وأبو زبيد خيرته، وهما عاكفان على الخمر، فقالموا معهم - ومننزل الوليد في الرحبة مع عمارة بن عقبة، وليس عليه باب - فاقتحموا عليه من المسجد وبابه إلى المسجد، فلم يفجأ الوليد إلّا بهم، فنحّى شيئًا، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه لا يؤامره؛ فإذا طبق عليه تفاريق عنب - وإنما نحّاه استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلّا تفاريق عنب - فقاموا فخرجوا على الناس، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وسمع الناس بذلك، فأقبل الناس عليهم يسبّونهم ويلعنونهم؛ ويقولون: أقوام غضب الله لعمله، وبعضهم أرغمه الكتاب؛ فدعاهم ذلك إلى التحسُّس والبحث؛ فستر عليهم الوليد ذلك، وطواه عن عثمان، ولم يدخل بين الناس في ذلك بشيء، وكره أن يفسد بينهم، فسكت عن ذلك وصبر.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الفيض بن محمد قال: رأيت الشعبي جلس إلى محمد بن عمرو بن الوليد - يعني ابن عقبة - وهو خليفة محمد بن عبد الملك؛ فذكر محمّد غزو مسلمة، فقال: كيف لو أدركتم الوليد؛ غزوه وإمارته! إن كان ليغزو فينتهى إلى كذا وكذا، ما قصّر ولا انتقض عليه أحدٌ حتى عزل عن عمله؛ وعلى الباب يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي؛ وإن كان مما زاد عثمان بن عفان الناس على يده أن ردّ على كلّ مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة في كلّ شهر، يتّسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم، عن عون بن عبد الله، قال: جاء جندب ورهط معه إلى ابن مسعود، فقالوا: الوليد يعتكف على الخمر؛ وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس، فقال ابن مسعود: من استتر عنّا بشيء لم نتتبع عورته، ولم نهتك ستره؛ فأرسل إلى ابن مسعود فأتاه فعاتبه في ذلك، وقال: أيرضى من مثلك بأن يجيب قومًا موتورين بما أجبت علي! أي شيء أستتر به! إنما يقال هذا للمريب، فتلاحيا وافترقا على تغاضب، لم يكن بينهما أكثر من ذلك.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وأتى الوليد بساحر؛ فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حدّه، فقال: وما يدريك أنه ساحر! قال: زعم هؤلاء النفر - لنفر جاءوا به - أنه ساحر، قال: وما يدريكم أنه ساحر! قالوا: يزعم ذاك، قال: أساحر أنت؟ قال: نعم، قال: وتدري ما السحر؟ قال: نعم، وثار إلى حمار، فجعل يركبه من قبل ذنبه، ويريهم أنه يخرج من فمه واسته. فقال ابن مسعود: فاقتله. فانطلق الوليد، فنادوا في المسجد أنّ رجلًا يلعب بالسحر عند الوليد، فأقبلوا، وأقبل جندب - واغتنمها - يقول: أين هو؟ أين هو؟ حتى أريه! فضربه، فاجتمع عبد الله والوليد على حبسه؛ حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أناستحلفوه بالله والوليد على حبسه؛ حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أن استحلفوه بالله ما علم برأيكم فيه. وإنه لصادق بقوله فيما ظنّ من تعطيل حدّه. وعزّروه، وخلَّوا سبيله. وتقدم إلى الناس في ألّا يعملوا بالظّنون، وألّا يقيموا الحدود دون السلطان، فإنا نقيد المخطىء، ونؤدّب المصيب. ففعل ذلك به، وترك لأنه أصاب حدًّا، وغضب لجندب أصحابه، فخرجوا إلى المدينة، مفيهم أبو خشَّة الغفاري وجشّامة بن الصعب بن جشّامة ومعهم جندب، فاستعفوه من الوليد، فقال لهم عثمان: تعلمون بالظنون، وتخطئون في الإسلام، وتخرجون بغير إذن؛ ارجعوا. فردّهم، فلما رجعوا إلى الكوفة، لم يبق موتور في نفسه إلّا أتاهم، فاجتمعوا على رأي فأصدره، ثم تغفّلوا الوليد - وكان ليس عليه حجاب - فدخل عليه أبو زينب الأزدي وأبو مورِّع الأسدي، فسلَّا خاتمه، ثم خرجا إلى عثمان، فشهدا عليه؛ ومعهما نفر ممن يعرف من أعوانهم، فبعث إليه عثمان، فلما قدم أمر به سعيد ابن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله! فو الله إنهما لخصمان موتوران.
فقال: لا يضرّك ذلك؛ إنما نعمل بما ينتهى إلينا، فمن ظلم فالله ولي انتقامه، ومن ظلم فالله ولي جزائه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي غسّان سكن ابن عبد الرحمن بن حبيش، قال: اجتمع نفر من أهل الكوفة، فعلموا في عزل الوليد، فانتدب أبو زينب بن عوف وأبو مورّع بن فلان الأسدي للشهادة عليه، نغشوا الوليد، وأكبُّوا عليه؛ فبينا هم معه يومًا في البيت وله امرأتان في المخدع؛ بينهما وبين القوم ستر؛ إحداهما بنت ذي الخمار والأخرى بنت أبي عقيل، فنام الوليد، وتفرّق القوم عنه؛ وثبت مأبو زينب وأبو مورّع، فتناول أحدهما خاتمة، ثم خرجا، فاستيقظ الوليد وامرأتاه عند رأسه؛ فلم ير خاتمه، فسألهما عنه فلم يجدعندهما منه علمًا، قال: فأي القوم تخلّف عنهم؟ قالتا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قريب.
قال: حليّاهما، فقالتا: معلى أحدهما خميصة، وعلى الآخر مطرف، وصاحب المطرف أبعدهما منك، فقال: الطُّوال؟ قالتا: نعم؛ وصاحب الخميصة أقربهما إليك، فقال: القصير؟ قالتا: نعم؛ وقد رأينا يده على يدك. قال: ذاك أبو زينب، والآخر أبو مورّع؛ وقد أرادا داهية، فليت شعري ماذا يريدان! فطلهما فلم يقدر عليهما؛ وكان وجههما إلى المدينة، فقدما على عثمان؛ ومعهما نفر ممن يعرف عثمان، ممن قد عزل الوليد عن الأعمال، فقالوا له، فقال: من يشهد؟ قالوا: أبو زينب وأبو موِّع، وكاع اللآخران، فقال: كيف رأيتما؟ قالا: كنّا من غاشيته؛ فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر، فقالك مايقيء الخمر إلّا شاربها. فبعث إليه، فلما دخل على عثمان رآهما، فقال متمثّلًا:
ما إن خشيت على أمر خلوت به ** فلم أخفك على أمثالها حار
فحلف له الوليد وأخبره خبرهم، فقال: نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنّار؛ فاصبر يا أخيَّ! فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين ولديهما حتى اليوم؛ وكانت على الوليد خميصة يوم أمر به أن يجلد، فنزعها عنه علي بن أبي طالب عليه السلام.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الطنافمي، عن أبي عبيدة الإيادي، قال: خرج أبو زينب وأبو مورِّع حتى دخلا على الوليد بيته، وعنده امرأتان: بنت ذي الخمار وبنت أبي عقيل؛ وهو نائم، قالت إحداهما: فأكبّ عليه أحدهما فأخذ خاتمه، فسألهما حين استيقظ، فقالتا: ماأخذناه، قال: من بقي آخر القوم؟ قالتا: رجلان؛ مرجل قصير عليه خميصة، ورجل طويل عليه مطرف، ورأينا صاحب الخميصة أكبّ عليك، قال: ذاك أبو زينب. فخرج يطلبهما، فإذا هو وجههما عن ملإ من أصحاب لهما؛ ولا يدري الوليد ما أرادا من ذلك. فقدما على عثمان، فأخبراه الخبر على رءوس الناس، فأرسل إلى الوليد، فقدم، فإذا هو بهما. ودعا بهما عثمان، فقال: بم تشهدان؟ أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب الخمر؟ فقالا: لا، وخافا، قال: فكيف؟ قالا: اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر، فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن أبي العريف ويزيد الفقعسي، قالا: كان الناس في الوليد فرقتين: العامّة معه والخاصّة عليه؛ فما زال عليهم من ذلك خشوع حتى كانت صفِّين، فولى معاوية، فجعلوا يقولون: عيَّيب عثمان بالباطل، فقال لهم علي عليه السلام: إنكم وما تعيِّرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله عن عمله وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟! وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عثمان رضي الله عنه: إذا جلد الرجل الحدّ ثم ظهرت توبته جازت شهادته.
وكتب إليَّ مالسري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي كبران، عن مولاة لهم - وأثنى عليها خيرًا - قالت: كان الوليد أدخل على الناس خيرًا، حتى جعل يقسِّم للولائد والعبيد، ولقد تفجّع عليه الأحرار والمماليك، كان يسمع الولائد وعليهنّ الحداد يقلن:
يا ويلتا قد عزل الوليد ** وجاءنا مجوِّعًاسعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد ** يجوِّع الإماء والعبيد
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، قال: كان الناس يقولون حين عزل الوليد وأمِّر سعيد:
لا يبعد الملك إذ ولَّت شمائله ** ولا الرياسة لما راس كتَّاب
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: قدم سعيد بن العاص في سنة سبع من إمارة عثمان، وكان سعيد بن العاص بقيّة العاص بن أميّة، وكان أهله كثيرًا تتابعوا، فلما فتح الله الشأم قدمها، فأقام مع معاوية، وكان يتيمًا نشأ في حجر عثمان، فتذكّر عمر قريشًا، وسأل عنه فيما يتفقّد من أمور الناس، فقيل: يا أمير المؤمنين، هو بدمشق، عهد العاهد به وهو مأموم بالموت. فأرسل إلى معاوية: أن ابعث إلي سعيد بن العاص قال: يمنقل، فبعث به إليه وهو دنف، فما بلغ المدينة حتى أفاق، فقال: يا بن أخي؛ قد بلغني عنك بلاء وصلاح، فازدد يزدك الله خيرًا. وقال: هل لك من زوجة؟ قال: لا؛ قال: يا أبا عمرو، ما منعك من هذا الغلام أن تكون زوّدته؟ قال: قد عرضت عليه فأبى، فخرج يسير في البرّ، فانتهى إلى ماء، فلقى عليه أربع نسوة، فقمن له، فقال: مالكنّ؟ ومن أنتن؟ فقلن: بنات سفيان بن عويف - ومعهنّ أمهنّ - فقالت: أمّهنّ: هلك رجالنا، وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهنّ في أكافئهنّ، فزوّج سعيدًا إحداهنّ وعبد الرحمن بن عوف الأخرى والوليد بن عقبة الثالثة؛ وأتاه بنات مسعود بن نعيم النَّهشلي، فقلن: قد هلك رجالنا، وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا، فزوج سعيدًا إحداهنّ، وجبير بن مطعم إحداهن، فشارك سعيد هؤلاء وهؤلاء، وقد كان عمومته ذوي بلاء في الإسلام، وسابقة حسنة، وقدمة مع رسول الله ﷺ؛ فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال الناس.
فقدم سعيد الكوفة في خلافة عثمان أميرًا، وخرج معه من مكة - أو المدينة - الأشتر وأبو خشّة الغفاري وجندب بن عبد الله وأبو مصعب بن جثّامة - وكانوا فيمن شخص معالوليد يعيبونه، فرجعوا مع هذا - فصعد سعيد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره؛ ولكنّي لم أجد بدًّا إذ أمرت أن أتّمر ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها؛ ووالله لأضربنّ وجهها حتى أقمعها أو تعييني؛ وإني لرائد نفسي اليوم. ونزل. وسأل عن أهل الكوفة، فأقيم على حال أهلها.
فكتب إلى عثمان بالذي انتهى إليه: إنّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والقدمة؛ والغالب على تلك البلاد روادف ردفت، وأعراب لحقت؛ حتى ما ينظر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها.
فكتب إلى عثمان: أمّا بعد؛ ففضَّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعًا لهم؛ إلّا أن يكونوا تثاقلوا عن الحقّ، وتركوا القيام به وقام به هؤلاء. واحفظ لكِّ منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحقّ، فإنّ المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
فأرسل سعيد إلى وجوه الناس من أهل الأيّام والقادسيّة، فقا: انتم وجوه من وراءكم، والوجه ينبيء عن الجسد؛ فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلّة ذي الخلّة. وأدخل معهم من يحتمل من ماللواحق والرّوادف؛ وخلص بالقرّاء والمتسمِّتين في سمره، فكأنما كانت الكوفة يبسًا شملته نار؛ فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم، وفشت القالة والإذاعة.
فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فنادى منادي عثمان: الصلاة جامعة! فاجتمعوا، فأخبرهم بالذي كتب به إلى سعيد، وبالذي كتب به إليه فيهم؛ وبالذي جاءه من القالة والإذاعة، فقالوا: أصبت فلا تسعفهم في ذلك؛ ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس لها بأهل لم يحتملها وأفسدها.
فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدّوا واستمسكوا، فقد دبّت إليكم الفتن.
ونزل. فأوى إلى منزله، وتمثّل مثله ومثل هذا الضرب الذين شرعوا في الخلاف:
أبني عبيد قد أتى أشياعكم ** عنكم مقاتلكم وشعر الشاعر
فإذا أتتكم هذه فتلبَّسوا ** إنَّ الرِّماح بصيرة بالحاسر
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، قال: كان عثمان أروى الناس للبيت والبيتين والثلاثة إلى الخمسة.
كتب إليَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن عبد الله الجمحي، عن عبيد الله بن عمر، قال: سمعته وهو يقول لأبي: إنّ عثمان جمع أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة؛ إنّ الناس يتمخّضون بالفتنة، وإني والله لأتخلّصنّ لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم ذلك؛ فهل ترونه حتى يأتي من شهد مع أهل العراق الفتوح فيه، فيقيم معه في بلاده؟ فقام أولئك، وقالوا: كيف تنقل لنا ما أفاء الله علينا من الأرضين يا أمير المؤمنين؟ فقال: نبيعها ممّن شاء بما كان له بالحجاز. ففرحوا وفتح الله عليهم به أمرًا لم يكن في حسابهم؛ فافترقوا وقد فرّجه الله عنهم به. وكان طلحة ابنعبيد الله قد استجمع له عامّة سهمان خيبر إلى ما كان له سوى ذلك، فاشترى طلحة منه من نصيب من شهد القادسيّة والمدائن من أهل المدينة ممن أقام ولم يهاجر إلى العراق النَّشاستج بما كان لهبخيبر وغيرها من تلك الأموال، واشترى منه ببئر أريس شيئًا كان لعثمان بالعراق، واشترى منه مروان بن الحكم بمال كان له أعطاه إيّاه عثمان نهر مروان - وهو يومئذ أجمة - واشترى منه رجال من القبائل بالعراق بأموال كانت لهم في جزيرة العرب من أهل المدينة ومكّة والطائف واليمن وحضرموت؛ فكان ممّا اشترى منه الأشعث بمال كان له في حضرموت ما كان له بطيز ناباذ. وكتب عثمان إلى أهل الآفاق في ذل وبعدّة جربان الفيء، والفيء الذي يتداعاه أهل الأمصار، فهو ما كان للملوك نحو كسرى وقيصر ومن تابعهم من أهل بلادهم. فأجلى عنه، فأتاهم شيء عرفوه. وأخذ بقدر عدّة من شهدها من أهل المدينة، وبقدر نصيبهم، وضمّ ذلك إليهم، فباعوه بما يليهم من الأموال بالحجاز ومكّة واليمن وحضرموت، يرد على أهلها الذين شهدوا الفتوح من بين أهل المدينة.
وكتب إلي السَّري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة مثل ذلك، إلّا أنهما قالا: اشترى هذا الضَّرب رجال من كلّ قبيلة ممن كان له هنالك شيء؛ فأراد مأن يستبدل به فيما يليه، فأخذوا، وجاز لهم عن تراض منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق؛ إلّا أنّ الذين لا سابقة لهم ولا قدمة لا يبلغون مبلغ أهل السابقة والقدمة في المجالس والرياسة والحظوة، ثم كانوا يعيبون التفضيل، ويجعلونه جفوة، وهم في ذلك يختفون به ولا يكادون يظهرونه، لأنه لا حجّة لهم والناس عليهم، فكان إذا لحق بهم لاحق من ناشيء أو أعرابي أو محرَّر استحلى كلامهم؛ فكانوا في زيادة، وكان الناس في نقصان حتى غلّب الشرّ.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مددًا لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان - وكذلك كانوا يصنعون، يجعلون للناس ردءًا - فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - سقط خاتم رسول الله ﷺ من يد عثمان في بئر أريس وهي على ميلين من المدينة، وكانت من أقلّ الآبار ماء، فما أدرك حتى الساعة قعرها.
ذكر الخبر عن سبب سقوط الخاتم من يد عثمان في بئر أريس
حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزّاز. قال: وكان شريك يونس بن عبيد قال: حدثنا داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ رسول الله ﷺ أراد أن يكتب إلى الأعاجم كتبًا يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ إنهم لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا، فأمر رسول الله ﷺ أن يعمل له خاتم من حديد، فجعله في إصبعه، فأتاه جبريل، فقال له؛ انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ﷺ من إصبعه، وأمر بخاتم أخر يعمل له، فعمل له خاتم من نحاس، فجعله في إصبعه، فقال له جبريل عليه السلام: انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ﷺ من إصبعه، وأمر رسول الله ﷺ بخاتم من ورق، فصنع له خاتم من ورق فجعله في إصبعه، فأقرّه جبريل، وأمر أن ينقش عليه: محمد رسول الله، فجعل يتختّم به، ويكتب إلى من أراد أن يكتب إليه من الأعاجم، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر. فكتب كتابًا إلى كسرى بن هرمز فبعثه مع عمر بن الخطاب، فأتى به عمر كسرى فقرىء الكتاب، فلم يلتفت إلى كتابه، فقال عمر: يا رسول الله، جعلني الله فداءك! أنت على سري مرمول باللّيف، وكسى بن هرمز على سرير من ذهب، وعليه الديباج! فقال رسول الله ﷺ: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة!. فقال: جعلني الله فداءك! قد رضيت.
وكتب كتابًا آخر، فبعث به مع دحية بن خليفة الكلبي إلى هرق ملك الروم يدعوه إلى الإسلام، فقرأه وضمّه إليه، ووضعه عنده؛ فكان الخاتم في إصبع رسول الله ﷺ يتختّم به حتى قبضه الله عز وجل، ثم استخلف أبو بكر فتختّم به حتى قبضه الله عز وجل، ثم ولى عمر بن الخطاب بعد فجعل يتختّم به حتى قبضه ه، ثم ولى من بعده عثمان ابن عفان، فتختّم به ستّ سنين، فحفر بئرًا بالمدينة شربًا للمسلمين، فقعد على رأس البئر، فجعل يعبث بالخاتم، ويديره بإصبعه، فانسلّ الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه في البئر، ونزحوا ما فيها من الماء، فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالًا عظيمًا لمن جاء به، واغتم لذلك غمًا شديدًا، فلما يئس من الخاتم أمر فصنع له خاتم أخر مثله، خلقه من فضّة، على مثاله وشبهه، ونقش عليه: محمد رسول الله؛ فجعله في إصبعه حتى هلك؛ فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه.
أخبار أبي ذر رحمه الله تعالى
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية، وإشخاص معاوية إيّاه من الشأم إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمور كثيرة، كرهت ذكر أكثرها.
فأما العاذرون معاوية في ذلك، فإنهم ذكروا في ذلك قصّة كتب إلي بها السري، يذكر أن شعيبًا حدثه عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال: لما ورد ابن السوداء الشأم لقي أبا ذرّ، فقال: يا أبا ذر، ألا تعجب إلى معاوية، يقول: المال مال الله! ألا إنّ كلّ شيء لله كأنه يريد أنيحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذرّ، فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال الله! قال: يرحمك الله يا أبا ذرّ؛ ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره! قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين.
قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرّداء، فقال له: من أنت؟ أظنّك والله يهوديًّا! فأتى عبادة بن الصامت فتعلّق به، فأتى به معاوية، فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذرّ؛ وقام أبو ذرّ بالشأم وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء. بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم. فمازال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس.
فكتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذرّ قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، فلم يبق إلا أن تثب. فلا تنكأ الفرح، وجهّز أبا ذر إلي، وابعث معه دليلًا وزوّده، وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت؛ فإنما تمسك ما استمسكت. فبعث بأبي ذرّ ومعه دليل؛ فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس في أصل سلع، قال: بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار.
ودخل على عثمان فقال: يا أبا ذرّ، ما لأهل الشام يشكون ذربك! فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا. فقال: يا أبا ذرّ؛ علي أن أقضي ما علي، وآخذ ما على الرعيّة، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد.
قال: فتأذن لي في الخروج، فإنّ المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شرًّا منها! قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعًا؛ قال: فانفذ لما أمرك به. قال: فخرج حتى نزل الربذة، فخطّ بها مسجدًا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين، وأرسل إليه: أن تعاهد المدينة حتى لا ترتدّ أعرابيًا؛ ففعل.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو ذرّ يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة، وكان يحبّ الوحدة والخلوة. فدخل على عثمان، وعنده كعب الأحبار، فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف؛ وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألّا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان، ويصل القرابات. فقال كعب: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذرّ محجنه فضربه فشجّه، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذرّ، اتق الله واكفف يدك ولسانك، وقد كان قال له: يا بن اليهوديّة؛ ما أنت وما ها هنا! والله لتسمعنّ مني أو لأدخل عليك.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأشعث بن سوّار، عن محمد بن سيرين، قال: خرج أبو ذرّ إلى الربذة من قِبَل نفسه لما رأى عثمان لا ينزع له، وأخرج معاوية أهله من بعده، فخرجوا إليه ومعهم جراب يثقل يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهّد في الدنيا ما عنده! فقالت امرأته: أما والله ما فيه دينار ولا درهم، ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسًا لحوائجنا.
ولما نزل أبو ذرّ الربذة أقيمت الصلاة، وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدّم يا أبا ذرّ، فقال: لا، تقدّم أنت، فإنّ رسول الله ﷺ قال لي: " اسمع وأطع، وإن كان عليك عبد مجدّع ". فأنت عبد ولست بأجدع - وكان من رقيق الصدقة؛ وكان أسود يقال له مجاشع.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر، قال: أجرى عثمان على أبي ذرّ كلّ يوم عظمًا، وعلى رافع ابن خديج مثله، وكانا قد تنحيّا عن المدينة لشيء سمعاه لم يفسّر لهما، وأبصرا وقد أخطئا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن سلمة بن نباتة، قال: خرجنا معتمرين، فأتينا الربذة، فطلبنا أبا ذرّ في منزله، فلم نجده، وقالوا: ذهب إلى الماء. فتنحبّينا، ونزلنا قريبًا من منزله، فمرّ ومعه عظم جزور يحمله معه غلام، فسلّم ثم مضى حتى أتى منزله، فلم يمكث إلّا قليلا حتى جاء، فجلس إلينا وقال: إنّ رسول الله ﷺ قال لي: " اسمع وأطع وإن كان عليك حبشي مجدّع "، فنزلت هذا الماء وعليه رقيق من رقيق مال الله، وعليهم حبشي - وليس بأجدع، وهو ما علمت، وأثنى عليه - ولهم في كلّ يوم جزور؛ ولي منها عظم آكله أنا وعيالي. قلت: مالك من المال؟ قال: صرمة من الغنم وقطيع من الإبل، في أحدهما غلامي وفي الآخر أمتي، وغلامي حرّ إلى رأس السنة. قال: قلت: إنّ أصحابك قبلنا أكثر الناس مالًا، قال: أما إنهم ليس لهم في مال الله حق إلّا ولي مثله.
وأمّا الآخرون، فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة، وأمورًا شنيعة، كرهت ذكرها.
ذكر هرب يزدجرد إلى خراسان
وفي هذه السنة، هرب يزدجرد بن شهريار في قول بعضهم من فارس إلى خراسان.
ذكر من قال ذلك وما قال فيه
ذكر علي بن محمد أنّ مسلمة أخبره عن داود، قال: قدم ابن عامر البصرة، ثمّ خرج إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جوز - وهي أردشير خرّه - في سنة ثلاثين. فوجّه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود السلمي، فأتبعه إلى كرمان، فنزل مجاشع السيرجان بالعسكر، وهرب يزدجرد إلى خراسان. قال: وعبد القيس تقول: وجّه ابن عامر هرم ابن حيّان العبدي، وبكر بن وائل تقول: وجّه ابن حسان اليشكري. قال: وأصحّه عندنا مجاشع.
قال علي: وأخبرنا سلمة بن عثمان - وكان فاضلًا - عن مجاشع يزدجرد فخرج من السيرجان، فلما كان عند القصر في بيمند - وهو الذي يقال له قصر مجاشع - أصابهم الثلج والدّمق، فوقع الثلج، واشتدّ البرد، وصار الثلج قامة رمح، فهلك الجند، وسلم مجداشع ورجل كانت معه جارية، فشقّ بطن بعير، فأدخلها فيه وهرب؛ فلما كان من الغد، جاء فوجدها حيّة فحملها، فسمّي ذلك القصر قصر مجاشع؛ لأن جيشه هلكوا فيه؛ وهو على خمسة فراسخ أو ستّة من السيرجان.
قال علي: أخبرنا أبو المقدام، عن بعض مشيخته، قال: خرج مجاشع على وفد أهل البصرة من تستر - وفيهم الأحنف - وأخذ في غداة واحدة على لجام واحد خمسين ألفًا، سبق على الصفراء ابنة الغبراء، فأخذها منه عمر حين قاسم عمّاله الأموال.
قال علي: فقلت للنضر بن إسحاق: إنّ أبا المقدام ذكر هذا الحديث! فقال: صدق، سمعته من عدّة من الحي وغيرهم، وفرسه الصفراء ابنة الغرّاء ابنة الغبراء. وهو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن عائذ بن وهب بن ربيعة بن يربوع بن سمّال بن عوف بن امرىء القيس بن بهثة بن سلم. ويكنى أبا سليمان.
قال: وفي هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء، وصلّى بمنىً أربعًا.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة
فممّا كان فيها من ذلك غزوة المسلمين الروم التي يقال لها:
غزوة الصواري
في قول الواقدي. فأمّا أبو معشر فإنه قال فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين؛ وقال: كانت في سنة إحدى وثلاثين الأساودة في البحر ووقاع كسرى.
وقال الواقدي: غزوة الصواري والأساودة كلتاهما كانتا في سنة إحدى وثلاثين.
ذكر الخبر عن هاتين الغزوتين
ذكر الواقدي أن محمد بن صالح حدثه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أنّ أهل الشأم خرجوا؛ عليهم معاوية بن أبي سفيان، وكانت الشأم قد جمع جمعها لمعاوية بن أبي سفيان.
ذكر السبب في جمعها له
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن عبد الملك والربيع وأبي مجالد وأبي عثمان وأبي حارثة، قالوا: لما حضر أبو عبيدة استخلف على عمله عياض بن غنم - وهو خاله وابن عمّه - وقد كان ولي بالجزيرة عملًا، فعزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلحق بأبي عبيدة بالشأم؛ وكان معه؛ وكان جوادًا مشهورًا بالجود، لا يليق شيئًا، ولا يمنع أحدًا. فكلّم عمر في ذلك، فقيل له: عزلت خالدًا وعتبت عليه العطاء، وعياض أجود العرب وأعطاهم؛ لا يمننع شيئًا يسأله؛ فقال عمر: متى سيمه عياض في ماله حتى يخلص إلى ما لنا! وإني مع ذلك لم أكن مغيّرًا أمرًا قضاه أبو عبيدة. ومات عياض بن غنم بعد أبي عبيدة، فأمر عمر على عمله سعيد بن حذيم الجمحي، ومات سعيد بعد؛ فأمّر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري؛ ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردنّ، وعمير بن سعد على حمص وقنّسرين؛ وإنما مصّر قنّسرين معاوية بن أبي سفيان لمن لحق به من أهل العراقين ومات يزيد بن أبي سفيان، فجعل عمر مكانه معاوية ونعاه لأبي سفيان، فقال: من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاوية، فقال: وصلتك رحم؛ فاجتمعت لمعاوية الأردنّ ودمشق؛ ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردنّ وعمير بن سعد على حمص وقنّسرين، وعلقمة ابن مجزّزّ على فلسطين وعمرو بن العاص على مصر.
وكتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: كان أوّل عامل استعمله عثمان بن عفان سعد بن أبي وقّاص عن وصيّة عمر. ثمّ إنّ عمير بن سعد طعن فأضنى منها، فاستعفى عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله؛ فأذن له؛ وضمّ حمص وقنّسرين إلى معاوية.
وكتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، عن خالد بن معدان؛ قال: لمّا ولي عثمان أقرّ عمال عمر على الشام؛ فلما مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني - وكان على فلسطين - ضمّ عمله إلى معاوية، ومرض عمير بن سعد في إمارة عثمان مرضًا طال به، فاستعفاه واستأذنه فأذن له، وضمّ عمله إلى معاوية؛ فاجتمع الشأم على معاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان عمرو بن العاص على مصر زمان عمر، مجتمعة له، فأقرّه عثمان صدرًا من إمارته.
رجع الحديث إلى حديث الواقدي عن خبر الغزوتين اللتين ذكرتهما: إنّ أهل الشام خرجوا، عليهم معاوية بن أبي سفيان؛ وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقال: وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية، فخرجوا في جمع لم يجتمع للرّوم مثله قطّ منذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب؛ فالتقوا هم وعبد الله بن سعد، فأمن بعضهم بعضًا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك بينصواريها.
قال ابن عمر: حدثني عيسى بن علقمة، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كنت معهم، فالنقيا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قطّ؛ وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبًا منا؛ وسكنت الريح عنّا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم قالوا: ذلك لكم ولنا منكم، ثم قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم؛ وإن شئتم فالبحر. قال: فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: الماء؛ فدنونا منهم، فربطنا السفن بعضها إلى عبض حتى كنّا يضرب بعضنا بعضًا على سفننا وسفنهم؛ فقاتلنا أشدّ القتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن، ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركامًا.
قال ابن عمر: فحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عمّن حضر ذلك اليوم، قال: رأيت الساحل حيث تضرب الريح الموج، وإنّ عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال؛ وإنّ الدم لغالب على الماء، ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى، وصبروا يومئذ صبرًا لم يصبروا في موطن قطّ مثله. ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مدبرًا، فما انكشف إلّا لما أصابه من القتل والجراح؛ ولقد أصابه يومئذ جراحات مكث منها حينًا جريحًا.
قال ابن عمر: حدثني سالم مولى أمّ محمد، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، قال: كان أوّل ما سمع من محمد بن أبي حذيفة حين ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين، لمّا صلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالناس العصر، كبر محمد بن أبي حذيفة تكبيرًا ورفع صوته حتى فرغ الإمام عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فلما انصرف سأل: ما هذا؟ فقيل له: هذا محمد بن أبي حذيفة يكبّر، فدعاه عبد الله بن سعد، فقال له: ما هذه البدعة والحدث؟ فقال له: ما هذه بدعة ولا حدث؛ وما بالتّكبير بأس، قال: لا تعودنّ.
قال: فأسكت محمد بن أبي حذيفة، فلمّا صلّى المغرب عبد الله بن سعد كبّر محمد بن أبي حذيفة تكبيرًا أرفع من الأوّل، فأرسل إليه: إنّك غلام أحمق؛ أما والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لقاربت بين خطوك. فقال محمد بن أبي حذيفة: والله مالك إلى ذلك سبيل؛ ولو هممت به ما قدرت عليه. قال: فكفّ خير لك؛ والله لا تركب معنا، قال: فأركب مع المسلمين؟ قال: اركب حيث شئت. قال: فركب في مركب وحده ما معه إلى القبط؛ حتى بلغوا ذات الصواري؛ فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة فيها القسطنطين بن هرقل، فقال: أشيروا علي، قالوا: ننظر الليلة، فباتوا يضربون بالنّواقيس، وبات المسلمون يصلّون ويدعون الله.
ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين أن يقاتل، فقرّبوا سفنهم، وقرّب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض، وصفّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن، ويأمرهم بالصبر، ووثبت الروم في سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها؛ فكانوا يقاتلون على غير صفوف. قال: فاقتتلوا قتالًا شديدًا. ثم إنّ الله نصر المؤمنين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلّا الشريد.
قال: وأقام عبد الله بذات الصواري أيّامًا بعد هزيمة القوم؛ ثم أقبل راجعًا؛ وجعل محمد بن أبي حذيفة يقول للرجل: أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقًا، فيقول الرجل: وأي جهاد؟ فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا، وفعل كذا وكذا حتى أفسد الناس. فقدموا بلدهم وقد أفسدهم، وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به.
قال محمد بن عمر: فحدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: خرج محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر عام خرج عبد الله بن سعد، فأظهرا عيب عثمان وما غيّر وما خالف به أبا بكر وعمر؛ وأنّ دم عثمان حلال. ويقولان: استعمل عبد الله بن سعد؛ رجلًا كان رسول الله ﷺ أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله ﷺ قومًا وأدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله ﷺ واستعمل سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد، فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين، ولقوا العدوّ؛ وكانا أكلّ المسلمين قتالًا، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكّمه! عبد الله بن سعد استعمله عثمان، وعثمان فعل وفعل؛ فأفسدا أهل تلك لاغزاة، وعابا عثمان أشدّ العيب. فأرسل عبد الله بن سعد إليهما ينهاهما أشدّ النهي، وقال: والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما.
قال الواقدي: وفي هذه السنة توفّيَ أبو سفيان بن حرب وهو ابن ثمان وثمانينن سنة.
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين - فتحت في قول الواقدي أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة الفهري.
ذكر الخبر عن مقتل يزدجرد ملك فارس
وفي هذه السنة قتل يزدجرد ملك فارس.
ذكر الخبر عن سبب مقتله
اختلف في سبب مقتله؛ وكيف كان قذ؛ فقال علي بن محمد: أخبرنا غياث بن إبراهيم، عن ابن إسحاق، قال: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل مرزبانها مالًا فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيّتوه، فقتلوا أصحابه، وهرب يزدجرد حتى أتى منزل رجل ينقر الأرجاء على شطّ المرغاب، فأوى إليه ليلًا، فلما نام قتله.
قال علي: وأخبرنا الهذلي، قال: أتى يزدجرد مرو هاربًا من كرمان، فسأل مرزبانها وأهلها مالًا، فمنعوه وخافوه، فبيّتوه ولم يستجيشوا عليه الترك، فقتلوا أصحابه، وخرج هاربًا على رجليه، معه منطقته وسيفه وتاجه؛ حتى انتهى إلى منزل نقّار على شطّ المرغاب، فلما غفل يزدجرد قتله النقار، وأخذ متاعه وألقى جسده في المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتّبعوا أثره، حتى خفي عليهم عند منزل النقّار، فأخذوه، فأقرّ لهم بقتله وأخرج متاعه؛ فقتلوا النقّار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد، وأخرجوه من المرغاب فجعلوه في تابوت من خشب.
قال: فزعم بعضهم أنهم حملوه إلى إصطخر فدفن بها في أول سنة إحدى وثلاثين، وسمّيت مرو " خذاه دشمن "، وقد كان يزدجرد وطىء امرأة بها فولدت له غلامًا ذاهب الشقّ - وذلك بعد ما قتل يزدجرد - فسمى المخدج، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له: إنّهما من ولد المخدج، فبعث بهما - أو بإحداهما - إلى الحجاج بن يوسف، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص.
قال علي: وأخبرنا روح بن عبد الله، عن خرداذبه الرازي؛ أنّ يزدجرد أتى خراسان ومعه خرّزاذمهر، أخو رستم، فقال لماهويه مرزبان مرو: إني قد سلّمت إليك الملك. ثم انصرف إلى العراق وأقام يزدجرد بمرو، وهمّ بعزل ماهويه، فكتب ماهويه إلى الترك يخبرهم بانهزام يزدجرد وبقدومه عليه، وعاهدهم على مؤازرتهم عليه، وخلّى لهم الطريق.
قال: وأقبل الترك إلى مرو، وخرج إليهم يزدجرد فيمن معه من أصحابه، فقاتلهم ومعه ماهويه في أساورة مرو، فأثخن يزدجرد في الترك، فخشي ماهويه أن ينهزم الترك، فتحوّل إليهم في أساورة مرو، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا، وعقر فرس يزدجرد عند المساء، فمضى ماشيًا هاربًا حتى انتهى إلى بيت فيه رحًا على شطّ المرغاب، فمكث فيه ليلتين، فطلبه ماهويه فلم يقدر عليه، فلما أصبح اليوم الثاني دخل صاحب الرحا بيته، فلما رأى هيئة يزدجرد قال: ما أنت؟ إنسي أو جني! قال: إنسي؛ فهل عندك طعام؟ قال: نعم، فأتاه به، فقال: إني مزمزم فأتني بما أزمزم به، فذهب الطحان إلى إسوار من الأساورة، فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟ قال: عندي رجل لم أر مثله قطّ؛ وقد طلب هذا مني. فأدخله على ماهويه، فقال: هذا يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فقال له الموبذ: ليس ذلك لك، قد علمت أنّ الدين والملك مقترنان لا يستقيم أحدهما إلّا بالآخر، ومتى فعلت انتهكت الحرمة التي لا بعدها. وتكلم الناس وأعظموا ذلك، فشتمهم ماهويه، وقال للأساورة: من تكلم فاقتلوه. وأمر عدّة فذهبوا مع الطحان، وأمرهم أن يقتلوا يزدجرد، فانطلقوا فلما رأوه كرهوا قتله، وتدافعوا ذلك وقالوا للطحان: ادخل فاقتله، فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه، ثم احتزّ رأسه، فدفعه إليهم، وألقى جسده في المرغاب. فخرج قوم من أهل مرو، فقتلوا الطحان، وهدموا رحاه، وخرج أسقف مرو، فأخرج جسد يزدجرد من المرغاب، فجعله في تابوت، وحمله إلى إصطخر، فوضعه في ناووس.
وقال آخرون في ذلك ما ذكر هشام بن محمد؛ أنه ذكر له أن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند، وكانت آخر وقعاتهم حتى سقط إلى أرض إصبهان، وبها رجل يقال له مطيار من دهاقينها - وهو المنتدب كان لقتال العرب حين نكلت الأعاجم عنها - فدعاهم إلى نفسه، فقال: إن ولّيت أموركم وسرت بكم إليهم ما تجعلون لي؟ فقالوا: نقرّ لك بفضلك. فسار بهم، فأصاب من العرب شيئًا يسيرًا، فحظي به عندهم، ونال به أفضل الدرجات فيهم. فلما رأى يزدجرد أمر إصبهان ونزلها، أتاه مطيار ذات يوم زائرًا، فحجبه بوابه، وقال له: قف حتى أستأذن لك عليه، فوثب عليه فشجّه أنفةً وحميّة لحجبه إيّاه، ودخل البواب على يزدجرد مدمّىً، فلمّا نظر إليه أفظعه ذلك، وركب من ساعته مرتحلًا عن إصبهان، وأشير عليه أن يأتي أقصى مملكته فيكون بها، لاشتغال العرب عنه بما هم فيه إلى يوم. فسار متوجّهًا إلى ناحية الري، فلما قدمها خرج إليه صاحب طبرستان، وعرض عليه بلاده، وأخبره بحصانتها، وقال له: إن أنت لم تجبني يومك هذا ثم أتيتني بعد ذلك لم أقبلك ولم آوك؛ فأبى عليه يزدجرد، وكتب له بالإصبهبذيّة، وكان له فيما خلا عليه درجة أوضع منها.
وقال بعضهم: إنّ يزدجرد مضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثمّ سار منها إلى مرو في ألف رجل من الأساورة.
وقال بعضهم: إنّ يزدجرد وقع إلى أرض فارس، فأقام بها أربع سنين، ثم أتى أرض كرمان، فأقام بها سنتين أو ثلاث سنين؛ فطلب إليه دهقان كرمان أن يقيم عنده، فلم يفعل؛ وطلب من الدهقان أن يعطيه رهينة، فلم يعطه دهقان كرمان شيئًا، فلم يعطه ما طلب، فأخذ برجله فسحبه وطرده عن بلاده؛ فوقع منها إلى سجستان، فأقام بها نحوًا من خمس سنين. ثمّ أجمع أن ينزل خراسان فيجمع الجموع فيها ويسير بهم إلى من غلبه على مملكته، فسار بمن معه إلى مرو، ومعه الرهن من أولاد الدهاقين، ومعه من رؤسائهم فرّخزاذ؛ فلما قدم مرو استغاث منهم بالملوك، وكتب إليهم يستمدّهم، وإلى صاحب الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر والدّهقان يومئذ بمرو ماهويه بن مافناه بن فيد أبو براز. ووكّل ماهويه ابنه براز مدينة مرو - وكانت إليه - وأراد يزدجرد دخول المدينة لينظر إليها وإلى قهندزها - وكان ماهويه قد تقدّم إلى ابنه ألّا يفتحها له إن رام دخولها تخوّفًا لمكره وغدره - فركب يزدجرد في اليوم الذي أراد دخولها، فأطاف بالمدينة، فلما انتهى إلى باب من أبوابها، وأراد دخولها منه صاح أبو براز ببراز: أن افتح - وهو في ذلك يشدّ منطقته، ويومىء إليه ألّا يفعل - وفطن لذلك رجل من أصحاب يزدجرد، فأعلمه ذلك، واستأذنه في ضرب عنق ماهويه، وقال: إن فعلت صفت لك الأمور بهذه الناحية؛ فأبى عليه.
وقال بعضهم: بل كان يزدجرد ولّى مرو فرّخزاذ، وأمر براز أن يدفع القهندز والمدينة إليه، فأبى أهل المدينة ذلك؛ لأن ماهويه أبا براز تقدّم إليهم بذلك، وقال لهم: ليس هذا لكم بملك، فقد جاءكم مفلولًا مجروحًا، ومرو لا تحتمل ما يحتمل غيرها من الكور، فإذا جئتكم غدًا فلا تفتحوا الباب. فلما أتاهم فعلوا ذلك، وانصرف فرّخزاذ، فجثا بين يدي يزدجرد، وقال: استصعبت عليك مرو؛ وهذه العرب قد أتتك. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نلحق ببلاد الترك ونقيم بها، حتى يتبيّن لنا أمر العرب؛ فإنهم لا يدعون بلدة إلّا دخلوها. قال: لست أفعل؛ ولكني أرجع عودي على بدئي؛ فعصاه ولم يقبل رأيه، وسار يزدجرد، فأتى براز دهقان مرو، وأجمع على صرف الدهقنة إلى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذلك ماهويه أبا براز، فعمل في هلاك يزدجرد وكتب إلى نيزك طرخان يخبره أنّ يزدجرد وقع إليه مفلولا، ودعاه إلى القدوم عليه لتكون أيديهما معًا في أخذه، والاستيثاق منه، فيقتلوه أو يصالحوا عليه العرب، وجعل له إن هو أراحه منه أن يفي له كلّ يوم بألف درهم، وسأله أن يكتب إلى يزدجرد مماكرًا له لينحّيَ عنه عامّة جنده، ويحصل في طائفة من عسكره وخواصّه، فيكون أضعف لركنه، وأهون لشوكته، وقال: تعلمه في كتابك إليه الذي عزمت عليه؛ من مناصحته ومعونته على عدوّه من العرب، حتى يقهرهم، وتطلب إليه أن يشتقّ لك اسمًا من أسماء أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادمًا عليه حتى ينحّيَ عنه فرّخزاذ.
فكتب نيزك بذلك إلى يزدجرد، فلمّا ورد عليه كتابه بعث إلى عظماء مرو فاستشارهم، فقال له سنجان: لست أرى أن تنحّيَ عنك جندك وفرّخزاذ لشيء، وقال أبو براز: بل أرى أن تتألّف نيزك وتجيبه إلى ما سأل. فقبل رأيه، وفرّق عنه جنده، وأمر فرّخزاذ أن يأتي أجمة سرخس، فصاح فرّخزاذ، وشقّ جيبه، وتناول عمودًا بين يديه يريد ضرب أبي براز به، وقال: يا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنكم قاتلي هذا! ولم يبرح فرّخزاذ حتى كتب له يزدجرد بخطّ يده كتابًا: هذا كتاب لفرّخزاذ؛ إنك قد سلّمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما معه إلى ماهويه دهقان مرو. وأشهد عليه بذلك
فأقبل نيزك إلى موضع بين المروين، يقال له حلسدان؛ فلما أجمع يزدجرد على لقائه والمسير إليه، أشار عليه أبو براز ألّا يلقاه في السلاح فيرتاب به، وينفر عنه؛ ولكن يلقاه بالمزامير والملاهي؛ ففعل فسار فيمن أشار عليه ماهويه، وسمّى له، وتقاعس عنه أبو براز، وكردس نيزك أصحابه كراديس. فلمّا تدانيا استقبله نيزك ماشيًا، ويزدجرد على فرس له، فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه فركبها؛ فلمّا توسط عسكره تواقفا، فقال له نيزك فيما يقول: زوّجني إحدى بناتك وأناصحك، وأقاتل معك عدوّك. فقال له يزدجرد: وعلي تجترىء أيّها الكلب! فعلاه نيزك بمخفقته، وصاح يزدجرد: غدر الغادر! وركض منهزمًا، ووضع أصحاب نيزك سيوفهم فيهم، فأكثروا فيهم القتل.
وانتهى يزدجرد من هزيمته إلى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحّان فمكث فيه ثلاثة أيام؛ فقال له الطحّان: أيّها الشقي، اخرج فاطعم شيئًا، فإنك قد جعت منذ ثلاث، قال: لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة وكان رجل من زمازمة مرو أخرج حنطة له ليطحنها، فكلمه الطحان أن يزمزم عند ليأكل، ففعل ذلك؛ فلما انصرف سمع أبا براز يذكر يزدجرد، فسألهم عن حليته؛ فوصفوه له، فأخبرهم أنه رآه في بيت طحّان، وهو رجل جعد مقرون حسن الثنايا، مقرّط مسوّر. فوجّه إليه عند ذلك رجلًا من الأساورة، وأمره إن هو ظفر به أن يخنقه بوتر، ثم يطرحه في نهر مرو؛ فلقوا الطحّان، فضربوه ليدلّ عليه فلم يفعل، وجحدهم أن يكون يعرف أين توجّه. فلما أرادوا الانصراف عنه قال لهم رجل منهم: إنّي أجد ريح المسك؛ ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء، فاجتذبه إليه؛ فإذا هو يزدجرد، فسأله ألّا يقتله ولا يدلّ عليه، ويجعل له خاتمه وسواره ومنطقته؛ قال الآخر: أعطني أربعة دراهم وأخلّي عنك؛ قال يزدجرد: ويحك خاتمي لك، وثمنه لا يحصى! فأبى عليه؛ قال يزدجرد: قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم؛ وأضطر إلى أن يكون أكلي أكل الهرّ، فقد عاينت، وجاءني بحقيقته؛ وانتزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان مكافأة له لكتمانه عليه، ودنا منه كأنه يكلمه بشيء، فوصف له موضعه، وأنذر الرجل أصحابه، فأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألّا يقتلوه وقال: ويحكم! إنّا نجد في كتبنا أنّ من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا؛ مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وآتوني الدهقان أو سرّحوني إلى العرب؛ فإنهم يستحيون مثلي من الملوك؛ فأخذوا ما كان عليه من الحلي، فجعلوه في جراب، وختموا عليه؛ ثم خنقوه بوتر، وطرحوه في نهر مرو، فجرى به الماء حتى انتهى إلى فوّهة الرزيق، فتعلّق بعود، فأتاه أسقفّ مرو، فحمله ولفّه في طيلسان ممسّك، وجعله في تابوت، وحمله إلى بائي بابان أسفل ماجان، فوضعه في عقد كان يكون مجلس الأسقفّ فيه وردمه، وسأل أبو براز عن أحد القرطين حين افتقده، فأخذ الذي دلّ عليه فضربه حتى أتى على نفسه، وبعث بما أصيب له إلى الخليفة يومئذ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود.
وقال آخرون: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إياها، فأخذ على طريق الطبسين وقهستان، حتى شارف مرو في زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خراسان جموعًا، ويكرّ إلى العرب ويقاتلهم، فتلقّاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو؛ يقال لأحدهما براز والآخر سنجان؛ ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخصّ براز فحسده ذلك سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد عليه، وسعى بسنجان حتى عزم على قتله؛ وأفشى ما كان عزم عليه من ذلك إلى امرأة من نسائه كان براز واطأها؛ فأرسلت إلى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا ما كان عزم عليه يزدجرد من ذلك. فنذر سنجان، وأخذ حذره، وجمع جمعًا كنحو أصحاب براز، ومن كان مع يزدجرد من الجند، وتوجّه نحو القصر الذي كان يزدجرد نازله. وبلغ ذلك براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكّرًا، ومضى على وجهه راجلًا لينجو بنفسه، فمشى نحوًا من فرسخين حتى وقع إلى رحًا ما، فدخل بيت الرحا، فجلس فيه كالًّا لغبًا، فرآه صاحب الرحا ذا هيئة وطُرّة وبزّة كريمة، ففرش له، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يومًا وليلة، فسأله صاحب الرحا أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقة مكلّلة بجوهر كانت عليه؛ فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وقال: إنما كان يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بها وأشرب، فأخبره أنه لا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحا؛ حتى إذا غفا قام إليه بفأس له فضرب بها هامته فقتله، واحتزّ رأسه؛ وأخذ ما كان عليه من ثياب ومنطقة، وألقى جيفته في اعلنهر الذي كان تدور بمائه رحاه، وبقر بطنه، وأدخل فيه أصولًا من أصول طرفاء كانت نابته في ذلك النهر لتحبس جثّته في الموضع الذي ألقاه فيه، فلا يسفل فيعرف ويطلب قاتله وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه. وبلغ قتل يزدجرد رجلًا من أهل الأهواز كان مطرانًا على مرو؛ يقال له إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى؛ وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانيّة مع ما نال النصارى في ملك جدّه كسرى من الشرف؛ وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير؛ حتى بنى لهم بعض البيع، وسدّد لهم بعض ملّتهم؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين، كان إلى النصارى؛ وقد رأيت أنّ أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه.
فقال النصارى: أمرنا لأمرك أيّها المطران تبع؛ ونحن لك على رأيك هذا مواطئون. فأمر المطران فبنى في جوف بستان المطارنة بمرو ناووسًا؛ ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد من النهر وكفّنها، وجعلها في تابوت، وحمله من كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي أمر ببنائه له وواروه فيه، وردموا بابه؛ فكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه وغلظتهم عليه.
وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك؛ وصفا الملك بعده للعرب.
شخوص عبد الله بن عامر إلى خراسان وما قام به من فتوح
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين - شخص عبد الله بن عامر إلى خراسان ففتح أبرشهر وطوس وبيورد ونسا حتى بلغ سرخس، وصالح فيها أهل مرو.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه أوس بن حبيب التميمي، فقال: أصلح الله الأمير! إنّ الأرض بين يديك، ولم تفتتح من ذلك إلّا القليل، فسر فإنّ الله ناصرك؛ قال: أولم نأمر بالمسير! وكره أن يظهر أنه قبل رأيه؛ فذكر علي بن محمد أن مسلمة بن محارب أخبره عن السكن بن قتادة العريني، قال: فتح ابن عامر فارس ورجع إلى البصرة، واستعمل على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل على ابن عامر رجل من بني تميم. قال: كنّا نقول: إنه الأحنف - ويقال: أوس بن جابر الجشمي جشم تميم - فقال له: إنّ عدوّك منك هارب؛ وهو لك هائب، والبلاد واسعة؛ فسر فإنّ الله ناصرك، ومعزّ دينه.
فتجهّز ابن عامر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف على البصرة زيادًا، وسار إلى كرمان؛ ثم أخذ إلى خراسان، فقوم يقولون: أخذ طريق إصبهان؛ ثم سار إلى خراسان.
قال علي: أخبرنا المفضّل الكرماني، عن أبيه، قال: كان أشياخ كرمان يذكرون أنّ ابن عامر نزل المعسكر بالسّيرجان، ثمّ سار إلى خراسان، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود السلمي، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر؛ وهي ثمانون فرسخًا، ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر؛ وهي مدينة نيسابور، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس، فأخذ إلى قهستان، وخرج إلى أبرشهر فلقيه الهياطلة؛ وهم أهل هراة؛ فقاتلهم الأحنف فهزمهم؛ ثم أتى ابن عامر نيسابور.
قال علي: وأخبرنا أبو مخنف، عن نمير بن وعلة، عن الشعبي، قال: أخذ ابن عامر على مفازة خبيص؛ ثم على خواست - ويقال: على يزد - ثمّ على قهستان؛ فقدّم الأحنف فلقيه الهياطلة، فقاتلهم فهزمهم؛ ثم أتى أبرشهر، فنزلها ابن عامر؛ وكان سعيد بن العاص في جند أهل الكوفة، فأتى جرجان وهو يريد خراسان؛ فلمّا بلغه نزول ابن عامر أبرشهر، رجع إلى الكوفة.
قال علي: أخبرنا علي بن مجاهد، قال: نزل ابن عامر على أبرشهر فغلب على نصفها عنوة، وكان النصف الآخر في يد كنارى، ونصف نساوطوس؛ فلم يقدر ابن عامر أن يجوز إلى مرو، فصالح كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليمًا رهنًا، ووجّه عبد الله بن خازم إلى هراة وحاتم بن النعمان إلى مرو، فأخذ ابن عامر ابني كنارى، فصارا إلى النعمان ابن الأفقم النصري فأعتقهما.
قال علي: وأخبرنا أبو حفص الأزدي، عن إدريس بن حنظلة العمبّي، قال: فتح ابن عامر مدينة أبرشهر عنوة؛ وفتح ما حولها طوس وبيورد ونسا وحمران، وذلك سنة إحدى وثلاثين.
قال علي: أخبرنا أبو السري المروزي، عن أبيه، قال: سمعت موسى بن عبد الله بن خازم يقول: أبي صالح أهل سرخس، بعثه إليهم عبد الله بن عامر من أبرشهر وصالح ابن عامر أهل أبرشهر صلحًا، فأعطوه جاريتين من آل كسرى بابونج وطهمبج - أو طمهبج - فأقبل بهما معه، وبعث أمين ابن أحمر اليشكري، ففتح ما حول أبرشهر: طوس وبيورد ونسا وحمران، حتى انتهى إلى سرخس.
قال علي: وأخبرنا الصلت بن دينار، عن ابن سيرين، قال: بعث ابن عامر عبد الله بن خازم إلى سرخس؛ ففتحها وأصاب ابن عامر جاريتين من آل كسرى، فأعطى إحداهما النوشجان؛ وماتت بابونج.
قال علي: وأخبرنا أبو الذيال زهير بن هنيد العدوي، عن أشياخ من أهل خراسان، أنّ ابن عامر سرّح الأسود بن كلثوم العدوي - عدي الرباب - إلى بيهق؛ وهو من أبرشهر، بينها وبين مدينة أبرشهر ستة عشر فرسخًا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم. قال: وكان فاضلًا في دينه، كان من أصحاب عامر بن عبد الله العنبري وكان عامر يقول بعد ما اخرج من البصرة: ما آسى من العراق على شيء إلّا على مماء الهواجر، وتجاوب المؤذّنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.
قال علي: وأخبرنا زهير بن هنيد، عن بعض عمومته، قال: غلب ابن عامر على نيسابور، وخرج إلى سرخس، فأرسل إلى أهل مرو يطلب الصلح؛ فبعث إليهم ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو على ألفي ألف ومائتي ألف.
قال: فأخبرنا مصعب بن حيّان عن أخيه مقاتل بن حيّان، قال: صالحهم على ستة آلاف ألف ومائتي ألف.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المذكورة
فمن ذلك غزوة معاوية بن أبي سفيان المضيق، مضيق القسطنطينيّة؛ ومعه زوجته عاتكة ابنة قرطة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
وقيل: فاختة؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق، عن أبي معشر، وهو قول الواقدي.
وفي هذه السنة استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على فرج بلنجر، وأمدّ الجيش الذي كان به مقيمًا مع حذيفة بأهل الشأم؛ عليهم حبيب بن مسلمة الفهري - في قول سيف - فوقع فيها الاختلاف بين سلمان وحبيب في الأمر، وتنازع في ذلك أهل الشأم وأهل الكوفة.
ذكر الخبر بذلك
فممّا كتب به إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة قالا: كتب عثمان إلى سعيد: أن أغز سلمان الباب؛ وكتب إلى عبد الرحمن ابن ربيعة وهو على الباب: إنّ الرعيّة قد أبطر كثيرًا منهم البطنة، فقصّر، ولا تقتحم بالمسلمين؛ فإني خاشٍ أن يبتلوا، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته، وكان لا يقصّر عن بلنجر، فغزا سنة تسع من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر؛ حصروها ونصبوا عليها المجانيق والعرّادات، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه؛ فأسرعوا في الناس؛ وقتل معضد في تلك الأيام.
ثم إنّ الترك اتّعدوا يومًا، فخرج أهل بلنجر؛ وتوافت إليهم الترك فاقتتلوا؛ فأصيب عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النور - وانهزم المسلمون فتفرّقوا، فأمّا من أخذ طريق سلمان بن ربيعة فحماه حتى خرج من الباب، وأمّا من أخذ طريق الخزر وبلادها، فإنه خرج على جيلان وجرجان وفيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وأخذ القوم جسد عبد الرحمن فجعلوه في سفط، فبقي في أيديهم، فهم يستسقون به إلى اليوم ويستنصرون به.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن داود بن يزيد، عن الشعبي، قال: والله لسلمان بن ربيعة كان أبصر بالمضارب من الجازر بمفاصل الجزور.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل من بني كنانة، قال: لما تتابعت الغزوات على الخزر، وتذامروا وتعايروا وقالوا: كنّا أمة لا يقرن لنا أحد حتى جاءت هذه الأملة القليلة، فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم لبعض: إنّ هؤلاء لا يموتون؛ ولو كانوا يموتون لما اقتحموا علينا. وما أصيب في غزواتها أحد إلّا في آخر غزوة عبد الرحمن، فقالوا: أفلا تجرّبون! فكمنوا في الغياض، فمرّ بأولئك الكمين مرّار من الجند، فرموهم منها؛ فقتلوهم، فواعدوا رءوسهم، ثمّ تداعوا إلى حربهم؛ ثم اتّعدوا يومًا؛ فاقتتلوا، فقتل عبد الرحمن، وأسرع في الناس فافترقوا فرقين؛ فرق نحو الباب فحماهم سلمان حتى أخرجهم، وفرق أخذوا نحو الخزر؛ فطلعوا على جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن أخيه قيس، عن أبيه: قال كان يزيد بن معاوية وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفزّر التميمي في خباء، وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن ذرّي والقرثع في خباء، وكانوا متجاورين في عسكر بلنجر؛ وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب! وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء في بياضك! وغزا أهل الكوفة بلنجر سنين من إمارة عثمان لم تئم فيهنّن امرأة، ولم ييتم فيهنّ صبي من قتل، حتى كان سنة تسع؛ فلمّا كان سنة تسع قبل المزاحفة بيومين رأى يزيد بن معاوية أنّ غزالا جىء به إلى خبائه، لم ير غزالًا أحسن منه حتى لفّ في ملحفته، ثم أتيَ به قبر عليه أربعة نفر لم ير قبرًا أشدّ استواء منه ولا أحسن منه، حتى دفن فيه؛ فلمّا تغادى الناس على الترك رمي يزيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زيّن ثوبه بالدماء زينة، وليس يتلطّخ؛ فكان ذلك الغزال الذي رأى، وكان بذلك الدم على ذلك القباء الحسن، فلما كان قبل المزاحفة بيوم تغادوا، فقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصّب به رأسي؛ ففعل، فأتى البرج الذي أصيب فيه يزيد؛ فرماهم فقتل منهم، ورمي بحجر في عرّادة، ففضح هامته، واجترّه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأصاب عمرو بن عتبة جراحة؛ فرأى قباءه كما اشتهى. وقتل؛ فلما كان يوم المزاحفة قاتل القرثع حتى خرّق بالحراب، فكأنما كان قباؤه ثوبًا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، ومازال الناس ثبوتًا حتى أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن داود بن يزيد، قال: كان يزيد بن معاوية النخعي رضي الله عنه وعمرو بن عتبة ومعضد أصيبوا يوم بلنجر؛ فأمّا معضد فإنه اعتجر ببرد لعلقمة، فأتاه شظيّة من حجر منجنيق فأمّه، فاستصغره، ووضع يده عليه فمات فغسل دمه علقمة، فلم يخرج؛ وكان يحضر فيه الجمعة، وقال يحرّضني عليه: إنّ فيه دم معضد. فأما عمرو فلبس قباء أبيض، وقال: ما أحسن الدم على هذا! فأتاه حجر فقتله، وملأه دمًا، وأما يزيد فدلّى عليه شيء فتقله، وقد كانوا حفروا قبرًا فأعدّوه؛ فنظر إليه يزيد، فقال: ما أحسنه! وأريَ فيما يرى النائم أنّ غزالًا لم ير غزالٌ أحسن منه، جيء به حتى دفن فيه؛ فكان هو ذلك الغزال. وكان يزيد رقيقًا جميلًا رحمه الله؛ وبلغ ذلك عثمان، فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون! انتكث أهل الكوفة. اللهمّ تب عليهم وأقبل بهم.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: استعمل سعيد على ذلك الفرج سلمان بن ربيعة، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان؛ وكان على ذلك الفرج قبل ذلك عبد الرحمن ابن ربيعة؛ وأمدّهم عثمان في سنة عشر بأهل الشأم؛ عليهم حبيب بن مسلمة القرشي، فتأمّر عليه سلمان، وأبى عليه حبيب؛ حتى قال أهل الشأم: لقد هممنا بضرب سملان، فقال في ذلك الناس: إذًا والله نضرب حبيبًا ونحبسه؛ وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا.
وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ** وإن ترحلوا نحو ابن عفّان نرحل
وإن تقسطوا فالثّغر ثغر أميرنا ** وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنّا حماته ** ليالي نرمي كلّ ثغر وننكل
فأراد حبيب أن يتأمّر على صاحب الباب كما كان يتأمرّ أمير الجيش إذا جاء من الكوفة؛ فلمّا أحسّ حذيفة أقرّ وأقرّوا؛ فغزاها حذيفة ابن اليمان ثلاث غزوات؛ فقتل عثمان في الثالثة؛ ولقيهم مقتل عثمان، فقال: اللهمّ العن قتلة عثمان وغزاة عثمان وشنأة عثمان. اللهمّ إنا كنّا نعاتبه ويعاتبنا، متى ما كان من قبله يعاتبنا ونعاتبه! فاتّخذوا ذلك سلّمًا إلى الفتنة؛ اللهم لا تمتهم إلّا بالسيوف.
وفي هذه السنة مات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ زعم الواقدي أنّ عبد الله بن جعفر حدثه بذلك عن يعقوب بن عتبة؛ وأنه يوم مات كان ابن خمس وسبعين سنة.
قال: وفيها مات العبّاس بن عبد المطلب؛ وهو يومئذ ابن ثمان وثمانين سنة؛ وكان أسنّ من رسول الله ﷺ بثلاث سنين.
قال: وفهيا مات عبد الله بن زيد بن عبد ربه رحمه الله؛ الذي أري الأذان.
قال: وفيها توفّيَ عبد الله بن مسعود بالمدينة، فدفن بالبقيع رحمه الله فقال قائل: صلّى عليه عمّار، وقال قائل: صلّى عليه عثمان.
وفيها مات أبو طلحة رحمه الله.
ذكر الخبر عن وفاة أبي ذر
قال: وفيها مات أبو ذرّ رضي الله عنه في رواية سيف.
ذكر الخبر عن وفاته
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن عطيّة عن يزيد الفقعسي، قال: لما حضرت أبا ذرّ الوفاة؛ وذلك في سنة ثمان في ذي الحجّة من إمارة عثمان، نزل بأبي ذرّ؛ فلما أشرف قال لابنته: استشرفي يا بنيّة فانظري هل ترين أحدًا! قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتي بعد؛ ثم أمرها فذبحت شاة، ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم: إنّ أبا ذرّ يقسم عليكم ألّا تركبوا حتى تأكلوا؛ فلمّا نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحدًا؟ قالت: نعم؛ هؤلاء ركب مقبلون، قال: استقبلي بي الكعبة. ففعلت، وقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله ﷺ. ثم خرجت ابنته فتلقّتهم وقالت: رحمكم الله! اشهدوا أبا ذرّ - قالوا: وأين هو؟ فأشارت لهم إليه وقد مات - فادفنوه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أركمنا الله بذلك؛ وإذا ركبٌ من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود، فمالوا إليه وابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله ﷺ: " يموت وحده، ويبعث وحده "؛ فغسلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه، فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم: إنّ أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم ألّا تركبوا حتّى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتى أقدموهم مكّة، ونعوه إلى عثمان، فضمّ ابنته إلى عياله، وقال: يرحم الله أبا ذرّ، ويغفر لرافع ابن خديج سكونه.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن القعقاع بن الصلت، عن رجل، عن كليب بن الحلحال، عن الحلحال بن ذرّي، قال: خرجنا مع ابن مسعود سنة إحدى وثلاثين ونحن أربعة عشر راكبًا حتى أتينا على الربذة فإذا امرأة قد تلقّتنا، فقالت: اشهدوا أبا ذرّ - وما شعرنا بأمره ولا بلغنا - فقلنا: وأين أبو ذرّ؟ فأشارت إلى خباء، فقلنا: ماله؟ قالت: فارق المدينة لأمر قد بلغه فيها، ففارقها. قال ابن مسعود: ما دعاه إلى الإعراب؟ فقالت: أما إن أمير المؤمنين قد كره ذلك؛ ولكنه كان يقول: هي بعد، وهي مدينة. فمال ابن مسعود إليه وهو يبكي، فغسلناه وكفنّاه؛ وإذا خباء منضوخ بمسك، فقلنا للمرأة: ما هذا؟ فقالت: كانت مسكة، فلما حضر قال: إن الميّت يحضره شهود يجدون الريح؛ ولا يأكلون، فدوفي تلك المسكة بماء، ثم رشّي بها الخباء فاقريهم ريحها، واطبخخي هذا اللحم؛ فإنه سيشهدني قوم صالحون يلون دفني، فاقريهم، فلما دفنّاه دعتنا إلى الطعام فأكلنا، وأردنا احتمالها، فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين قريب، نستأمره؛ فقدمنا مكة فأخبرناه الخبر، فقال: يرحم الله أبا ذرّ، ويغفر له نزوله الربذة! ولما صدر خرج فأخذ طريق الربذة، فضمّ عياله إلى عياله، وتوجّه نحو المدينة، وتوجّهنا نحو العراق؛ وعدّتنا: ابن مسعود وأبو مفزز التميمي، وبرك بن عبد الله التميمي، والأسود بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس النخعي، والحلحال ابن ذرى الضبي والحارث بن سويد التميمي، وعمرو بن عتبة بن فرقد السلمي، وابن ربيعة السلمي، وأبو رافع المزني، وسويد بن مثعبة التميمي، وزياد بن معاوية النخعي، وأخو القرثع الضبي؛ وأخو معضد الشيباني.
فتح مروروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان
وفي سنة اثنتين وثلاثين فتح ابن عامر مروروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان.
ذكر الخبر عن ذلك
قال علي: أخبرنا سلمة بن عثمان وغيره، عن إسماعيل بن مسلم، عن ابن سيرين، قال: بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مروروذ، فحصر أهلها، فخرجوا إليهم فقاتلوهم، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم، فأشرفوا عليهم، فقالوا: يا معشر العرب، ما كنتم عندنا كما نرى؛ ولو علمنا أنّكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه؛ فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إلى عسكركم. فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وقد أعدّوا له الحرب؛ فخرج رجلٌ من العجم معه كتاب من المدينة، فقال: إنّي رسول فأمّنوني، فأمّنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف، فقرأ الكتاب؛ قال: فإذا هو: إلى أمير الجيش؛ إنا نحمد الله الذي بيده الدول، يغير ما شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة.
إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدّي، وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة؛ فمرحبًا بكم وأبشروا؛ وأنا أدعوكم إلى الصح فيما بينكم وبيننا؛ على أن أؤدّي إليكم خراجًا ستين ألف درهم؛ وأن تقرّوا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جدّ أبي حيث قتل الحيّة التي أكلت الناس، وقطعت السبُّل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئًا من الخراج، ولا تخرج المرزبة من أهل بتي إلى غيركم، فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك؛ وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك بما سألت.
قال: فكتب إله الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرووذ ومن معه من الأساورة والأعاجم. سلام على من اتّبع الهدى، وآمن واتّقى. أما بعد؛ فإن ابن أخيك ماهك قدم علي، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك؛ وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين، وأنا وهم فيما عليك سواء؛ وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدّي عن أكرتك وفلّاحيك والأرضين ستّين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء المسلمين؛ إلّا ما كان من الأرضين التي ذكرت أنّ كسى الظالم لنفسه أقطع جدّ أبيك لما كان من قتله الحيّة التي أفسدت الأرض وقطعت السُّبل. والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده، وإنّ عليك نصرة المسلمين وقتال عدوّهم بمن معك من الأساورة؛ إن أحبَّ المسلمون ذلك وأرادوه، وإنّ لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وارءك من أهل بيتك من ذوي الأرحام؛ وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم؛ ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم. شهد على ما في هذا الكتاب جزء ابن معاوية - أو معاوية بن جزء السعدي - وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيّان، وعياض بن ورقاء الأسيدي. وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر الله المحرّم. وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس. ونقش خاتم الأحنف: نعبد ه.
قال علي: أخبرنا مصعب بن حيّان، عن أخيه مقاتل بن حيّان، قال: صالح ابن عامر أهل مرو، وبعث الأحنف في أربعة آلاف إلى طخارستان فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمه أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب؛ فكانوا ثلاثة زحوف، ثلاثين ألفًا. وأتى الأحنف خيرهم وما جمعوا له، فاستشار الناس فاختلفوا؛ فبين قائل: نرجع إلى مرو، وقائل: نرجع إلى أبر مشهر، وقائل: نقيم نستمدّ، وقائل: نلقاهم فنناجزهم.
قال: فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر، ويستمع حديث الناس، فمرّ بأهل خبار ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن؛ وهم يتحدثون ويذكرون العدوّ؛ فقال بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح؛ حتى يلقي القوم حيث لقيهم - فإنه أرعب لهم - فيناجزهم. فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك مفقد أخطأ وأخطأتم؛ أتأمرونه أن يلقى حدّ العدوّ مصحرًا في بلادهم، فيلقى جمعًا كثيرًا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا! ولكنّ الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوّه وإن كثروا إلا عدد أصحابه. فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال؛ فضرب عسكره، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا متعه؛ فقال: إني أكره أن أستنصر بالمشركين؛ فأقيموا على ما أعطيناكم؛ وجعلنا بيننا وبينكم؛ فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم؛ وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم.
قال: فوافق المسلمين صلاة العصر؛ فعالجلهم المشركون فناهضوهم فقاتلوهم؛ وصبر الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثّل بشعر ابن جؤيّة الأعرجي:
أحقُّ من لم يكره المنيَّه ** حزوّر ليست له ذرَّيه
قال علي: أخبرنا أبو الأشهب العسدي، عن أبيه، قال: لقي الأحنف أهل مرووذ والطالقان والفارياب والجوزجان في المسلمين ليلاُ، فقاتلهم حتى ذهب عامّة الليل، ثم هزمهم ه، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رسكن - وهي على اثني عشر فرسخًا من قصر الأحنف - وكان مرزبان مروروذ، قد تربّص بحمل ما كانوا صالحوه عليه؛ لنظر ما يكون من أمرهم.
قال: فلمّا ظفر الأحنف سرّح رجلين مإلى المرزبان، وأمرهما ألّا يكلّماه حتى يقبضاه. ففعلًا. فعلم أنهم لم يصنعوا ذاك به إلّا وقد ظفروا، فحمل ما كان عليه.
قال علي: وأخبرنا المفضّل الضبي، عن أبيه، قال: سار الأقرع بن حابس إلى الجوزجان؛ بعثه الأحنف في جريدة خيل إلى بقيّة كانت بقيت من الزحوف الذين هزمهم الأحنف، فقاتلهم، فجال المسلمون جولة، مفقتل فرسان من فرسانهم؛ ثم أضفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم، فقال كثير النهشلي:
سقى مزن السحاب إذا اشتهلّت ** مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوط ** أقادهم هناك الأقرعان
وهي طويلة.
ذكر صلح الأحنف مع أهل بلخ
وفي هذه السنة، جرى صلح بين الأحنف وبين أهل بلخ.
ذكر الخبر بذلك
قال علي: أخبرنا زهير بن الهنيد، عن إياس بن المهلّب، قال: سار الأحنف من مروالرّوذ إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضى منهم بذلك، واستعمل ابن عمّه؛ وهو أسيد بن المتشمّس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه، ومضى إلى خارزم، فأقام حتى هجم عليه الشتاء، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قال له حصين: قد قال لك عمرو بن معد يكرب، قال: وما قال؟ قال: قال:
إذا لم تستطع أمرًا فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع
قال: فأمر الأحنف بالرّحيل، ثمّ انصرف إلى بلخ، وقد قبض ابن عمّه ما صالحهم عليه؛ وكان وافق وهو يجبيهم المهرجان، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضّة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فقال ابن عمّ الأحنف: هذا ما صالحناكم عليه؟ قالوا: لا؛ ولكنّ هذا شيء نصنعه في هذا اليوم بمن ولينا نستعطفه به، قال: وما هذا اليوم؟ قالوا: المهرجان، قال: ما أدري ما هذا؟ وإني لأكره أن أردّه؛ ولعله ممن حقّي؛ ولكن أقبضه وأعزله حتى أنظر فيه؛ فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا له مثل ما قالوا لابن عمّه، فقال: آتي به الأمير؛ فحمله إلى ابن عامر، فأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبا بحر؛ فهو لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، فقال ابن عامر: ضمّه إليك يا مسمار، قال: قال الحسن: فضمّه القرشي وكان مضمًّا.
قال علي: وأخبرنا عمرو بن محمد المرّي، عن أشياخ من بني مرّة، أنّ الأحنف استعمل على بلخ بشر بن المتشمّس.
قال علي: وأخبرنا صدقة بن حميد، عن أبيه، قال: بعث ابن عامر - حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ - خليد بن عبد الله الحنفيَّ إلى هراة وباذغيس؛ فافتتحهما، ثم كفروا بعد فكانوا مع قارن.
قال علي: وأخبرنا مسلمة، عن داود، قال: ولما رجع الأحنف إلى ان عامر قال الناس لابن عامر: ما فتح على أحد ما مقد فتح عليك؛ فارس وكرمان وسجستان وعامّة خراسان! قال: لا جرم، لأجعلنّ شكري لله على ذلك أن أخرج محرمًا معمرًا من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور؛ فلما قدم على عثمان لامه على إحرامه من خراسان، وقال: ليتك تضبط ذلك من الوقت الذي يحرم منه الناس! قال علي: أخبرنا مسلمة، عن السكن بن قتادة العريني، قال: استخلف ابن عامر على خراسان قيس بن الهيثم، وخرج ابن عامر منها في سنة اثنتين وثلاثين. قال: فجمع قارن جمعًا كثيرًا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل في أربعين ألفًا، فقال لعبد الله بن خازم: ما ترى؟ قال: أرّى أن تخلّي البلاد فإني أميرها؛ ومعي عهد من ابن عامر؛ إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها - وأخرج كتابًا قد افتعله عمدًا - فكره قيس مشاغبته، وخلّاه والبلاد؛ وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر، وقال: تركت البلاد حربًا وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. فقالت له أمّه: قد نهيتك أن تدعهما في بلد، فإنه يشغبعليه.
قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمر الناس فحملوا الودك؛ فلما قرب من عسكره أمر الناس، فقال: ليدرج كلُّ رجل منكم على زجّ رمحه ما كان معه من خرقة أو قطن أو صوف؛ ثم أوسعوه من الودك ممنسمن أو دهن أو زيت أو إهالة. ثم سار حتى إذا أمسى قدّم مقدّمته ستمائة، ثم اتّبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، وجعل يقتبس بعضهم من بعض. قال: وانتهت مقدّمته إلى عسكر قارن، فأتوهم نصف الليل؛ ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين في أنفسهم من البيات، ودنا ابنخازم منهم، فرأوا النيران بمنة ويسرة، وتتقدّم وتتأخرّ، وتتخفض وترتفع؛ فلا يرون أحدًا. فهالهم ذلك، ومقدّمة ابن خازم يقاتلونهم؛ ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن، وانهزم العدوّ فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيًا كثيرًا؛ فزعم شيخ من بني تميم، قال: كانت أمّ الصلت بن حريث من سبي قارن، وأمّ زياد بن الربيع منهم، وأمّ عون أبي عبد الله بن عون الفقيه منهم.
قال علي: حدثنا مسلمة، قال: أخذ ابن خازم عسرك قارن بما كان فيه، وكتب بالفتح إلى ابن عامر؛ فرضي وأقرّه على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، فأقبل إلى البصرة، فشهد وقعة ابن الحضرمي، وكان معه في دار سبيل.
قال علي: وأخبرنا الحسن بن رشيد، عن سليمان بن كثير العمي الخزاعي، قال: جمعقارن للمسلمين جمعًا كثيرًا، فضاق المسلمون بأمرهم، فقال قيس ابن الهيثم لعبد الله بن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة من قد جمعوا لنا، ونقيم نحن في هذه الحصون ونطاولهم حتى تقدم ويأتينا مددكم.
قال: فخرج قيس بن الهيثم، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدًا، وقال: قد ولّاني ابن عامر خراسان؛ فسار إلى قارن، فظفر به، وكتب بالفتح إلى ابن عامر، فأقرّه ابن عامر على خراسان؛ فلم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا رجعوا خلّفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا على ذلك مكانت الفتنية.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
ففيها كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم من ناحية ملطية في قول الواقدي.
وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها قدّم عبد الله بن عامر الأحنف بن قيس إلى خراسان وقد انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحًا، ومرو الروذ بعد قتال شديد، وتبعه عبد الله بن عامر، فنزل أبر شهر، ففتحها صلحًا في قول الواقدي.
وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي "، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه، قال: كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وقد ذكرنا قول من خالفه في ذلك، والخبر عن قبرس.
وفيها: كان تسيير عثمان بن عفان من سيّر من أهل العراق إلى الشأم.
ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إليها
اختلف أهل السير في ذلك، فأما سيف فإنّه ذكر فيما كتب به إلي السري عن شعيب عنه، عن محمد وطلحة، قالا: كان سعيد بن العاص لا يغشاه إلّا نازلة أهل الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسيّة وقرّاء أهل البصرة والمتسمِّتون، وكان هؤلاء دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كلّ أحد، فجلس للناس يومًا، فدخلوا عليه؛ فبينناهم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد ابن العاص: إنّ من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادًا؛ والله لو أنّ لي مثله لأعاشكم الله عيشًا رغدًا. فقال عبد الرحمن بن خنيس - وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك - يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة - قالوا: فضّ الله فاك! والله لقد هممنا قك، فقال: خنيس غلام فلا تجازوه، فقالوا: يتمنى له من سوادنا! قال: ويتمنّى لكم أضعافه، قالوا: لا تيمنى لنا ولا له، قال: ما هذا بكم! قالوا: أنت والله أمرته بها، فثار إليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضائي؛ فأخذوه فذهب أبوه ليمنع منه فضربوهما حتى غشى عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا وفيهم طليحة فأحاطو بالقصر، وركبت القبائل، فعاذوا بسعيد، وقالوا: أفلتنا وخلَّصنا.
فخرج سعيد إلى الناس، فقال: أيّا الناس، قوم تنازعوا وتهاووا، وقد رزق الله العافية. مثم قعدوا وعادوا في حديثهم، وتراجعوا فساءهم وردّهم، وأفاق الرجلان؛ فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك، مقال: لا يغشوني والله أبدًا، فاحفظ علي ألسنتكما ولاتجرّئا علي النسا. ففعلًا ولما انقطع رجاء أولئك النفر من ذلك قعدوا في بيتوهم، وأقبلوا على الإذاعة حتّى لامه أهلالكوفة في أمرهم؛ فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرّك شيئًا، فمن أراد منكم أن يحرّك شيئًا فليحرّكه.
فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان في إخراجهم، فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه - هم بضعة عشر - فكتبوا بذلك إلى عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية: إنّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم؛ فإن آنست منهم رشدًا فأقبل منهم؛ وإن أعيوك فازددهم عليهم فلما قدموا على معاوية رّحّب بهم وأنزلهم كنيسة تسمّى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدّى ويتعشّى معهم، فقال لهم يومًا: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا؛ وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلّة كما كنتم، إنّ أئمتكم لكم إلى اليوم جنّة فلا تشذّوا عن جنّتكم؛ وإنّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة؛ والله لتنتهنّ أو ليتلينّكم الله بمن يسومكم؛ ثم لا يحمدكم على الصبر، ثمّ تكونون شركاء لهم فيما جررتم على الرعيّة في حياتكم وبعد موتكم.
فقال رجل من القوم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا؛ وأما ما ذكرت من الجنّة فإنّ الجنّة إذا اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أنّ الذي أغراكم على هذا قلّة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلًا، أعظم علكي أمر الإسلام، وأذكرك به، وتذكّرني الجاهلية! موقد وعظتك. وتزعم لما يجنُّك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنّة؛ أخزى الله أقواماُ أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم! افقهوا - ولا أظنكم تفقهون - أنّ قريشًا لم تعزّ في جاهلية ولا إسلام إلّا بالله عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم؛ ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، وأمحضهم أنسابًا، وأعظمهم أخطارًا؛ وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس بأكل بعضهم بعضًا إلّا بالله الذي لا يستذّل من أعزّ، ولا يوضع من رفع، فبوّأهم حرمًا آمنا يتخطّف الناس من حولهم! هل تعرفون عربًا أن عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلّا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة؛ إلّا ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقّذ من أكرم واتّبع دينه من هوان الدنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلفه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم؛ ولا يصلح ذلك إلّا عليهم؛ فكان الله يحوطهم في الجاهليّة وهم على كفرهم بالله؛ أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الموك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك! ول أنّ متكلمًا غيرك تكلّم؛ ولكنك ابتدأت. فأمّا أنت يا صعصعة فإن قريتك شرّ قرى عربيّة؛ انتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشرّ، وألأمها جيرانًا، لم يسكنها شريف قطّ ولا وضيع إلّا سبّ بها؛ وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، والأمه أصهارًا، نزّاع الأمم؛ وأنتم جيران الخطّ وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي ﷺ ونكبتك دعوته؛ وأنت نزيع شطير في عمان، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي ﷺ، فأنتشرّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالناس، وحملك على الأمم التي كانت عليك؛ أقبلت تبغي دين الله عوجًا؛ وتنزع إلى الللآمة والذلّة. ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم؛ إنّ الشيطان عمم غير غافل، قد عرفكم بالشرّ من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس؛ وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يردّ بكم قضاء قضاه الله، ولا أمرًا أراده الله، ولا تدركون بالشرّ أمرًا أبدًا إلا فتح الله عليكم شرًّا منه وأخزى.
ثم قام وتركهم؛ فتذامروا. فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم؛ لا والله لا ينفع الله بكم أحدًا ولا يضرّه؛ ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة؛ ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإن أردتم النجاة فألزموا جماعتكم؛ وليسعكم ما وسع الدَّهماء، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار؛ اذهبوا محيث شئتم، فإني كاتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلمّا خرجوا دعاهم فقال: إني معيد عليكم. إنّ رسول الله ﷺ كان معصومًا فولّاني، وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر رضي الله عنه فولّاني، ثمّ استخلف عمر فولّاني، ثم استخلف عثمان فولّاني.
فلم أل لأحد منهم مولم يولِّني إلا وهو راضٍ عني؛ وإنما طلب رسول الله ﷺ للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء؛ ولم يطلب لها أهل اللاجتهاد والجهل بها والضعف عنها؛ وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون؛ فإنّ الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي لناس سارئركم؛ وقد قال عزّ وجل: " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون ".
وكتب معاوية إلى عثمان: إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثفلهم الإسلام، وأضجرهم العدل؛ لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنما همّهم الفتنة وأموال أهل الذمة؛ والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم؛ وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيدًا ومن قبله عنهم؛ فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير.
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة، فإنهم يسمتون بكم، وميلوا بنا إلى الجزيرة، ودعوا العراق والشام. فأووا إلى الجزيرة، وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان معاوية قد ولّاه حمص وولى عامل الجزيرة حرّان والرّقة - فدعا بهم، فقال: يا آلة الشيطان، لا مرحبًا بكم ولا أهلًا! قد رجع الشيطان محشورًا وأنتم بعد نشاط؛ خسرر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّ بكم حتى يحسركم. يا معش من لا أدري أعرب أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكمتقولون لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الردة، والله لئن بلغني يا صعصعة ابن ذلّ أنّ أحدًا ممن معي دق أنفك ثم أمصّك لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. فأقامهم أشهرًا كلّما ركب أمشاهم، فإذا مرّ به صعصعة قال: يابن الحطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشر! مالك لا تقول كما كان يبلغني أنّك تقول لسعيد ومعاوية! فيقول ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله! فما زالوا به حتى قال تاب الله عليكم.
وسرّح الأشتر إلى عثمان، وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا. وخرج الأشتر، فأتى عثمانب التوبة والندم ولانزوع عنه وعن أصحابه فقال: سلمكم الله. وقدم سعيد بن العاص، فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ وذكر من فضله، ذاك إليكم، فرجعإلى عبد الرحمن.
وأمّا محمد بن عمر؛ فإنه ذكر أنّ أبا بكر بن إسماعيل حدثه عنأبيه، عن عامر بن سعد، أنّ عثمان بعث سعيد بن العاص إلى الكوفة أميرًا عليها، حين شهد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر من شهد عليه، وأمره أن يبعث إليه الوليد بن عقبة. قال: قدم سعيد بن العاص الكوفة، فأرسل إلى الوليد: إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تلحق به. قال: فتضجّع أيامًا، فقال له: انطلق إلى أخيك؛ فإنه قد أمرني أن أبعثك إليه، قال: وما صعد منبر الكوفة حتى أمر به أن يغسل، فناشده رجال من قريش كانوا قد خرجوا معه من بني أميّة، وقالوا: إنّ هاذ قبيح؛ والله لو أراد هذا غيرك لكان حقًّا أن تذبّ عنه؛ يلزمه عار هذا أبدًا. قال: فأبى إلّا أن يفعل، فغسلهوأرسل إلى الوليد أن يتحوّل من دار الإمارة، فتحوّل منها، ونزل دار عمارة بنعقبة، فقدم الوليد على عثمان، فجمع بينه وبين خصمائه، فرأى أن يجلده، فجلده الحدّ.
قال محمّد بن عمر: حدثني شيبان، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم سعيد بن العاص الكوفة، فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده؛ وإنه سمر عنده ليلةً وجوه أهل الكوفة، منهم مالك بن كعب الأرجي، والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيّان، وفيهم مالك الأشتر في رجال، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان لقريش؛ فقال الأشتر: أتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبًا إلا أن يكون كأحدنا، وتكلم معه القوم.
قال: فقال عبد الرحمن الأسدي - وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من ها هنا! لا يفوتنّكم الرجل؛ فوثبوا عليه فوطئوه وطأ شديدًا، حتى غشي عليه ثم جرّ برجله فألقى، فنضح بماء فأفاق، فقال له سعيد: أبك حياة؟ فقا: قتلني من انتخبت - زعمت - للإسلام، فقال: والله لا يسمر منهم عندي أحد أبدًا، فجعلوا يجلسون في مجالسهم وبيوتهم يشتموون عثمان وسعيدًا؛ واجتمع الناس إليهم؛ حتى كثر من يختلف إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان يخبره بذلك، ويقول: إنّ رهطًا من أهل الكوفة - سمّاهم له عشرة - يؤلّبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا؛ فكتب عثمان إلى سعيد: أن سيرّهم إلى معاوية - ومعاوية يومئذ على الشأم - فسيرّهم - وهم تسعة نفر - إلى معاوية؛ فيهم مالك الأشتر، وثايت بن قيس بن منقع، وكميل بن زياد النخعي، وصعصعة بن صوحان.
ثم ذكر نحو حديث السري، عن شعيب؛ إلّا أنه قال: فقال صعصعة: فإن اخترقت الجنَّة أفليس يخلص إلينا؟ فقال معاوية: إنّ الجنة لا تخترق، فضع أمر قريش على أحسن ما يحضرك.
وزاد فيه أيضًا: إنّ معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، قال فيما يقول: وإني والله ماآمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصّتي؛ وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلّا ما جعل الله لنبيّه نبي الرحمة ﷺ؛ فإن الله انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئًا إلا أصفاه الله بأكرمها وأحسنها؛ ولم يخلق من الأخلاق السيّئة شيئًا في أحد إلا أكرمه الله عنها ونزّهه؛ وإني لأظن أنّ أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازمًا. قال صعصعة: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان؛ من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس. فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة، فتحدث عندهم طويلًا، ثم قال: أيُّها القوم، ردّوا علي خيرًا أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين؛ فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله.
فقال: أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته نبيه ﷺ، وأن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرّقوا! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ﷺ. قال: فإني آمركم الآن، إن كنت فعلت فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ﷺ ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقّروا أئمّتكم وتدلُّوهم على كلّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم.
فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ في المسلمين من هو أحقّ به منك، قال: من هو؟ قال: من كان أبوه أحسن قدمًا من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدمًا منك في الإسلام، فقال: والله إنّ لي في الإسلام قدمًا، ولغيري كان أحسن قدمًا مني؛ ولكنه ليس في زماني أحد أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعزل عملي؛ ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إلي بخطّ يده فاعتزلت عمله؛ ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت ألا يعزم له على ذلك إلا وهو خير؛ فمهلًا فإنّ في ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر؛ ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يومًا ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبّرها؛ وهو بالغ أمره؛ فعادودوا الخبر وقولوه.
فقالوا: لست لذلك أهلًا، فقال: أما والله إنّ لله لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعه الشيطان حتى تحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدائم في الآجل.
فوثبوا عليه؛ فأخذوا برأسه ولحيته، فقال: مه؛ إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشأم ما صنعم بي وأنا أمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم. فلعمري إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضًا، ثمّ أقام من عندهم، فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلًا ما بقيت.
ثم كتب إلى عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إلي أقوامًا يتكلّمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا - من قبل القرآن، فيشبّهون على الناس، وليس كلّ الناس يعلم ما يريدون؛ وإنما يريدون فرقة، ويقرّبون فتنة؛ قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكّنت رقي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة؛ ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشأم أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم؛ فارددهم إلى مصرهم؛ فلتكن دارهم في مصرهم الذين نجم فيه نفاقهم؛ والسلام.
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلّا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا.
وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم؛ فكتب عثمان إلى سعيدد أن سيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ وكان أميرًا على حمص.
وكتب إلى الأشتر وأصحابه: أمّا عبد؛ فإني قد سيّرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها؛ فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرًّا. والسلام.
فلما قرأ الأشتر الكتاب، قال: اللهمّ أسوأنا نظرًا للرعيّة وأعملنا فيهم بالمعصية؛ فعجِّل له النقمة.
فكتب بذلك سعيد إلى عثمان، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص؛ فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل، وأجري عليهم رزقًا.
قال محمد بن عمر: حدثني عيسى بن عبد الرحمن، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: اجتمع نفر بالكوفة - يطعنون على عثمان - من أشراف أهل العراق: مالك بن الحارث الأشتر، وثابت بن قيس النَّخعي، وكميل بن زياد النَّخعي، وزيد بن صوحان العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
فكتب سعيد بن العاص إلى عثمان يخبره بأمرهم، فكتب إليهأن سيَّرهم إلى الشأم وألزمهم الدروب.
ذكر الخبر عن تسيير عثمان من سير من أهل البصرة إلى الشام
مما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعمي؛ مقال: لما مضى من إمارة اب عامر ثلاث سنين، بلغه أن في عبد القيس رجلًا نازلًا على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة رجلًا لصًّا، إذا قفل الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذمة، ويتنكّر لهم، ويفسد في الأرض، ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمّة وأهل القبلة إلى عثمان. فكتب إلى عبد الله بن عامر: أن احبسه، ومن كان مثله فلا يخرجنّ من البصرة حتى تأنسوا منه رشدًا؛ فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرّح، فقبلوا منه، واستعظموه، وأرسل إليه ابن عامر، فسأله: ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب، رغب في الإسلام، ورغب في جوارك؛ فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتي الكوفة فأخرج منها فاستقرّ بمصر، وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: إن حمران بن أبان تزوّج امرأة في عدّتها، فنكّل به عثمان، وفرّق بينهما، وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر؛ فتذاكروا يومًا الركوب والمرور بعامر ابن عبد قيس - وكان منقبضًا عن الناس - فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره! فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فقال: الأمير أراد أن يمرّ بك فأحببت أن أخبرك، فلم يقطع قراءته ولم يقبل عليه، فقام من عنده خارجًا.
فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر، فقال: جئتك من عند امرىء لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلًا؛ واستأذن ابن عامر، فدخل عليه، وجلس إليه، فأطبق عامر المصحف، وحدثه ساعة، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي العرجاء يحبّ الشرف، فقال: ألانستعملك؟ فقال: حصين ابن أبي الحرّ يحب العمل، فقال: ألا نزوّجك! فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء، قال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلًا، فتصفّح المصحف؛ فكان أوّلأ ما وقع عليه واففتح منه: " إنَّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين "، فلما ردّ حمران تتبّع ذلك منه، فسعى به، وشهد له أقوام فسيّره إلى الشام، فلما علموا علمه أذنوا له فأبى ولزم الشام.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، أنّ عثمان سيّد حمران بن أبان؛ أن تزوَّج امرأة في عدّتها، وفرق بينهما، وضربه وسيّره إلى البصرة؛ فلما أتي عليه ما شاء الله، وأتاه عنه الذي يحبّ، أذن له. فقدم عليه المدينة، وقدم معه قوم سعوا بعامر بن عبد قيس؛ أنه لا يرى التزويج، ولا يأكل اللحم؛ ولا يشهد الجمعة - وكان مععامر انقباض؛ وكان عمله كله خفية - فكتب إلى عبد الله بن عامر بذلك، فألحقه بمعاوية؛ فلما قدم عله وافقه وعنده ثريدة فأكل أكلًا غريبًا؛ فعرف أنّ الرجل مكذوب عليه، فقال: يا هذا، هل تدري فيم أخرجت؟ قال: لا، قال: أبلغ الخليفة أنك لا تأكل اللحم، ورأيتك وعرفت أن قد كذب عليك، وأنك لا ترى التزويج، ولا تشهد الجمعة، قال: أمّا الجمعة فإني أشهدها في مؤخّر المسجد ثم أرجع في أوائل الناس؛ وأمّا التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي؛ وأما اللحم فقد رأيت، ولكني كنت أمرأ لا آكل ذبائح القصّابين منذ رأيت قصابًا يجرّ شاة إلى مذبحها، ثم وضع السكين على مذبحها، فما زال يقول: النَّفاق النَّفاق، حتى وجبت. قال: فارجع، قال: لا أرجع إلى بدل استحلّ أهله مني ما استحلوا ولكني أقيم بهذا البلد الذي اختاره الله لي. وكان يكون في السواحل؛ وكان يلقى معاوية، فيكثر معاوية أن يقول: حاجتك؟ فيقول: لا حاجة لي؛ فلما أكثر معليه، قال: تردّ علي من حرّ البصرة لعلّ الصوم أن يشتدّ علي شيئًا، فإنه يخفّ علي في بلادكم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما قدم مسيَّرة أهل الكوفة على معاوية، أنزلهم دارًا، ثم خلا بهم، فقال لهم وقالوا له، فلما فرغوا قال: لم تؤتوا إلا الحمق، والله ما أرى منطقًا سديدًا، ولا عذرًا مبينًا، ولا حلمًا ولا قوّة؛ وإنّك يا صعصعة لأحمقهم؛ اصنعوا وقولوا ما شئتم ما لم تدعوا شيئًا من أمر الله؛ فإنّ كلّ شيء يحتمل لكم إلا معصيته، فأما فيما بيننا وبينكم فأنتم أمراء أنفسكم. فرآهم بعد وهم يشهدون الصلاة، ويقفون مع قاصّ الجماعة، فدخل عليهم يومًا وبعضهم يقريء بعضًا، فقال: إنّ في هذا لخلقًا مما قدمتم به علي من النِّزاع إلى أمر الجاهلية؛ اذهبوا حيث شئتم، واعلموا أنكم إن لزمتم جماعتكم سعدتم بذلك دونهم؛ وإن لم تلزموها شقيتم بذلك دونهم؛ ولم تضرُّوا أحدًا، فجزوه خيرًا، وأثنوا عليه، فقال: يا بن الكوّاء، أي رجل أنا؟ قال: بعيد الثرى، كثير المرعى، طيّب البديهة، بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدّت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الإحداث من أهل الأمصار فإنك أعقل أصحابك،؛ قال: كاتبتهم وكاتبوني، وأنكروني وعرفتم؛ فأما أهل الإحداث من أهل الكوفة فإنّهم أنظر الناس في صغير، وأركبه لكبير. وأمّا أهل الإحداث من أهل البصرة، فإنهم يردون جميعًا، ويصدرون شتّى، وأما أهل الإحداث من أهل مصر فهم أوفى الناس بشرّ، وأسرعه ندامة؛ وأما أهل الإحداث من أهل الشأم فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاه لمغويهم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان.
وزعم أبو معشر أنّ فتح قبرس كان في هذه السنة، وقد ذكرت من خالفه في ذلك.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المذكورة
فزعم أبو معشر أن غزوة الصواري كانت فيها؛ حدثني بذلك أحمد، عمّن حدثن، عن إسحاق، عنه. وقد مضى الخبر عن هذه الغزوة وذكر من خالف أبا معشر في وقتها.
وفيها كان ردّ أهل الكوفة سعيد بن العاص عن الكوفة.
ذكر خبر اجتماع المنحرفين على عثمان
وفي هذه السنة تكاتب المنحرفون عن عثمان بن عفان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه.
ذكر الخبر عن صفة اجتماعهم لذلك وخبر الجرعة
مما كتب إلي به السري، عن شعيب، عن سيف، معنالمستنير بن يزيد، عن قيس بن يزيد النَّخعي، قال: لما رجع معاوية المسيَّرين، قالوا: إنّ العراق والشأم ليسا لنا بدار؛ فعليكم بالجزيرة. فأتوها اختيارًا. فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد، فسامهم الشدّة، فضرعوا له وتابعوه. وسرّح الأشتر إلى عثمان، فدععا به، وقال: اذهب حيث شئت، فقال: أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع. ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان. وقبل مخرج سعيد بن العاص من الكوفة بسنة وبعض أخرى بعثالأِعث بن قيس على أذربيجان، وسعيد بن قيس على الري؛ وكان سعيد بن قيس على همذان، فعزل وجعل علها لانَُسير العجلي، وعلى إصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي، وعلى الموصل حكيم بن سلامة الخزامي، وجرير بن عبد الله على قرقيسياء، وسلمان ابن ربيعة على الباب، وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، وعلى حلوان عتيبية ابن النهاش؛ وخلت الكوفة من الرؤساء إلّا منزوعًا أو مفتونًا. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد، فجلس فيه، وثاب إليه الذين كان فيه ابن لاسوداء يكاتبهم؛ فانقضّ عليه القعقاع، فأخذ يزيد بن قيس، فقال: إنما نستعفي من سعيد، قال: هذا ما لا يعرض لكم فيه، لا تجلس لهاذ ولا يجتمعنّ إليك، واطلب حاجتك، فلعمري لتعطينّها. فرجع إلى بيته واستأجر رجلًا، وأعطاه دراهم وبغلًا على أن يأتي المسيَّرين. وكتب إليهم: لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا، فإنّ أهل المصر قد جامعونا. فانطلق الرجل، فأتى عليهم وقد رجع الأشتر؛ فدفع إليهم الكتاب، فقالوا: ما اسمك؟ قال: بغثر؛ قالوا: ممن؟ قال: من كلب، قالوا: سبع ذليل ببغثر النفوس؛ لا حاجة لنا بك. وخالفهم الأشتر، ورجع عاصيًا، فلما خرج قال أصحابه: أخرجنا أخرجه الله؛ لا نجد بدًّا مما صنع؛ إن علم بنا عبد الرحمن لم يصدّقنا ولم يتسقلّها، فاتَّبعوه فلم يلحقوه؛ وبلغ عبد الرحمن أنّهم قد رحلوا فطلبهم في السواد، فسار الأشتر سبعًا والقوم عشرًا، فلم يفجإ الناس في يوم جمعة إلّا والأشتر على باب المسجد يقول: أيّها لاناس؛ إني قد جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيدًا يريده على نقصان نسائكم إلى مائة درهم. وردّ أهل البلاء منكم إلى ألفين، ويقول: ما بال أشراف النساء؛ وهذه العلاوة بين هذين الغدلين! ويزعم أنّ فيئكم بستان قريش؛ وقد سايرته مرحلة، فما زال يرجز بذلك حتى فارقته؛ ميقول:
ويل لأشراف النِّساء منِّي ** صمحمح كأنَّني من جنَِ
فاستخلف الناس، وجعل أهل الحجي بنهونه فلا يسمع منهم، وكانت نفجة، فخرج يزيد، وأمر مناديًا ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد ابن قيس لرد سعيد وطلب أمير غيره فليفعل. وبقي حلماء الناس وأشرافهم ووجوههم في المسجد، وذهب من سواهم، وعمرو بن حريث يومئذ الخليفة، فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه، وقال: اذكروانعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، فلاتعودوا في شرّ قد استنقذكم الله عز وجل منه. أبعد الإسلام وهديه وسنّته لا تعرفون حقًّا، ولا تصيبون بابه! فقال القعقاع بن عمرو: أتردّ السيل عن عبابه! فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات! لا واه لا تسكّن الغوغاء إلا المشرفيّة ويوشك أن تنتضي، ثم يعجّون عجيج العتدان ويتمنّون ما هم فيه فلا يردّه الله عليهم أبدًا. فاصبر؛ فقال: أصبر، وتحوّل إلى منزله، وخرج يزيد ابن قيس حتى نزل الجرعة، ومعه الأشتر، وقد كان سعيد تلبّث في الطريق، فطلع عليهم سعيد وهم مقيمون له معسكرون، فقالوا: لا حاجة لنا بك. فقال: فما اختلفتم الآن؛ إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وتضعوا إلي رجلًا. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل! ثمان صرف عنهم وتحسَّسوا بمولى له على بعير قد حسر، فقال: والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع. فضرب الأشتر عنقه، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان، فأخبره الخبر، فقال: ما يريدون؟ قال: أبا موسى؛ قال: قد أثبتنا أبا موسى عليهم، ووالله لا نجعل لأحد عذرًا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصبرنّ كما أمرنا حتى نبلغ مما يريدون. ورجع من قرب علمه من الكوفة، ورجع جرير من قرقيسياء وعتيبة من حلوان. وقام أبو موسى فتكلّم بالكوفة فقال: أيَّها الناس، لا تنفروا في مثل هاذ، ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة؛ وإيَّاكم والعجلة، اصبروا، فكأنكم بأمير. قالوا: فصلّ بنا، قال لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان؛ قالوا: على السمع والطاعة لعثمان.
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة وعلي بن حسين بن عيسى. قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري، أنّه قال: اجتمع ناس من المسلمين، فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلّمه، ويخبره بإحداثه، فأرسلوا إليه عامر ابن عبد الله التميمي ثم العنبري - وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس - فأتاه، فدخل عليه، فقال له: إنّ ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك. فوجدوك قد ركبت أمورًاعظامًا، فاتّق الله عز وجل وتب إليه، وانزع عنها. قال له عثمان: انظر إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارىء.
ثم هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات، فو الله ما يدري أين الله! قال عامر: أنا لا أدري أين الله! قال: نعم، والله ما تدري أين الله؛ قال عامر: بلى والله إني لأدري أنّ الله بالمرصاد لك.
فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي، وإلى عبد الله بن عامر؛ فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه، وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إنّ لكلّ امرىء وزراء ونصحاء، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمّالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم، وأشيروا علي.
فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك. وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلُّوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته، وقمل فروه. ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رايك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت ترى رأينا فاحسم عنك الداء، واقطع عنك الذي تخاف، واعمل برأيي تصب؛ قال: وما هو؟ قال: إنّ لكل قوم قادةً متى تهلك يتفرّقوا، ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. ثم أقبل معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردذ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك قبلي.
ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون؛ فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال عثمان: مالك قمل فروك؟ أهذا الجدّ منك! فأسكت عنه دهرًا، حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزُّ علي من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا، أو أدفععنك شرًّا.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن عمرو بن أبي المقدام، عن عبد الملك ابن عمير الزُّهري، أنه قال: جمع عثمان أمراء الأجناد: معاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعمرو بن العاص، فقال: أشيروا علي، فإنّ الناس قد تنممّروا لي، فقال له معاوية: أشيرعليك أن تأمر أمراء أجنادك فكيفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أناأهل الشأم؛ فقال لهعبد الله بن عامر: أرى لك أن تجمّرهم في هذه البعوث حتى يهمّ كلّ رجل منهم دبر دابّته، وتشغلهم عن الإرجاف بك، فقال عبد الله بن سعد: أشير عليك أن تنظر ما أسخطهم فترضيهم، ثم تخرج لهم هذا المال فيقسم بينهم.
ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا عثمان؛ إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال له عثمان: مالك قمل فروك! أهذا الجدّ منك! فأسكت عمرو حتى إذا تفرٌّوا قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أكرم عليَّ من ذلك، ولكني قد علمت أنّ بالباب قومًا قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يلغهم قول، فأقود لك خيرًا، أو أدفع عنك شرًّا. فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ويحتاجوا إليه، وردّ سعيد بن العاص أميرًا على الكوفة، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح، فتلقَّوه فردّوه، وقالوا: لا والله لا بلى علينا حكمًا ما حملنا سيوفنا.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي بن حسين، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن أبي يحيى عمير بن سعد النخعي، أنه قال: كأني أنظر إلى الأشتر مالك بن الحارث النَّخعي على وجهه الغبار، وهو متقلد السيف، وهو يقول: والله لا يدخلها عليها ما حملنا سيوفنا - يعني سعيدًا، وذلك يوم الجرعة، والجرعة مكان مشرف قرب القادسيّة - وهناك تلقاه أهل الكوفة.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن عمرو بن مرّة الجملي، عنأبي البختري الطائي، عن أبي ثور الحداثي - وحداء حيٌّ من مراد - أنه قال: دفعت إلى حذيفة بن اليمان وأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري وهما في مسجد الكوفة يوم الجرعة، حيث صنع الناس بسعيد بن العاص ما صنعوا، وأبو مسعود يعظم ذلك، ويقول: ما أرى أن تردّ على عقبيها حتَّى يكون فيها دماء، فقال حذيفة: والله لتردّنّ على عقبيها، ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم منها اليوم شيئًا إلّا وقد علمته ومحمد ﷺ حي؛ وإنّ الرجل ليصبح على الإسلام ثم يمسي وما معه منه شيء، ثم يقاتل أهل القبلة ويقتله الله غدًا، فينكص قلبه، فتعلوه استه. فقلت لأبي ثور: فلعلّه قد كان، قال: لا ولله ما كان. فلما رجع سعيد بن العاص إلى عثمان مطرودًا، أرسل أبا موسى أميرًا على الكوفة، فأقرُّوه عليها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن يحيى بن مسلم، عن واقد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمير الأشجعي، قال: قام في المسجد في الفتنة ففال: أيّها لاناس، اسكتوا، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: من خرج وعلى الناس إمام - والله ما قال: عادل - ليشقّ عصاهم، ويفرّق جماعتهم، فاقتلوه كائنًا من كان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما استعوى يزيد بن قيس الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر لعثمان؛ فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه، فقال: ما تريد؟ ألك علينا في أن نستعفي سبيل؟ قال: لا، فهل إلّا ذلك؟ قال: لا، قال: فاستعف. واستجلب يزيد أصحابه من حيث كانوا، فردّوا سعيدًا، وطلبوا أبا موسى، فكتب إليهم عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنّكم عرضي، ولأبذلنّ لكم صبري، ولأستصلحنّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يعصي الله فيه إلّا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصي الله فيه إلّا استعفيتم منه؛ أنزل فيه عندما أحببتم، حتى لايكون لكم علي حجّة.
وكتب بمثل ذلك في الأمصار، فقدمت إمارة أبي موسى وغزو حذيفة وتأمّر أبو موسى، ورجع العمَّال إلى أعمالهم، ومضى حذيفة إلى الباب.
وأما الواقدي فإنه زعم أن عبد الله بن محمد حدثه، عن أبيه، قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم إلى بعض: أن اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثّر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله ﷺ يرون ويسمعون؛ ليس فيهم أحد ينهي ولا يذبّ إلّا نفير؛ منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت. فاجتمع الناس، وكلّموا علي بن أبي طالب. فدخل علي عثمان، فقال: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه؛ إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بامر دونك، وقد رأيت وسمعت، وصحبت رسول الله ﷺ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بألوى بعمل الحقّ منك، ولا بان الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله ﷺ رحمًا، ولقد نلت من صهر رسول الله ﷺ ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء. فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر منعمي، ولا تعلَّم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، إنّ أعلام الدين لقائمة. تعلَّم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدى وهدى، فأقام سنّةً معلومة، وأمات بدعة متروكة، فو الله إنّ كلًّا لبيِّن، وإن السُّننن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر، ضلّ وضلَّ به، فأمات سنَّة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم، فيدور في جهنم كما تدور الرحا، ثم يرتطم فيغمرة جهنم. وإني أحذّرك الله، وأحذّرك سطوته ونقامته؛ فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إما هذه الأمة المقتول، فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ولبسَّ أمورها عليها، ويتركهم شعيًا، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ بالباطل؛ بموجون فيها موجًا، ويمرجون فيها مرجًا.
فقال عثمان: قد والله علمت، ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني مما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرًا أن وصلت رحمًا، وسددت خلّة، وآويت ضائعًا، وولّيت شبيهًا بمن كان عمر يولِّي. أنشدك الله يا علي، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: نعم؛ قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: سأخبرك، إنّ عمر ابن الخطاب كان كلُّ من ولي فإنما يطأ على صماخه، إنْ بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغابة؛ وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك.
قال عثمان: هم أقرباؤك أيضًا. فقال علي: لعمري إنّ رحمهم منِّي لقريبة، ولكنّ الفضل في غيرهم؛ قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولي معاوية خلافته كلَّها؟ فقد وليّيته. فقال علي: أنشدك الله هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال علي: فإنّ معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك ولا تغيّر على معاوية. ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنر، فقال: أمّا بعد، فإنّ لكلّ شيء آفة، ولكّ أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة، عيّابون طعّانون، يرونكم ما تحبّو ويسرّون ما تكرهون؛ يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتعبون أوّلأ ناقع؛ أحبُّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا نغصا ولا يردون إلّا عكرًا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتتعذّرت عليهم المكاس. ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب مثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنستم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأت لكم كتفي، وكفففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعزّ نفرًا، وأقرب ناصرًا وأكثر عددًا، وأقمن إن قلت هلمّ أتي إلي؛ ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكثرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفّوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم وعيبكم على ولاتك، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل منمال؛ فما لي لا أصنع في الفضل ماأريد! فلم كنت إمامًا! فقام مروان ابن الحكم، فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ** معارسكم تبنون في دمن الثَّرى
فقال عثمان: اسكت لاسكتَّ، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدّم إليك ألَا تنطق! فسكت مروان، ونزل عثمان.
وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبر بالمدينة، وهو بدري. ومات أيضًا مسطح بن أثاثة، وعاقل بن أبي البكير من بني سعد بن ليث، حلف لبني عدي، وهما بدريّان.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك نزول أهل مصر ذا خشب، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بنعيسى، عن أبي معشر، قال: كان ذو خشب سنة خمس وثلاثين، وكذلك قال الواقدي.
ذكر مسير من سار إلى ذي خشب من أهل مصر وسبب مسير من سار إلى ذي المروة من أهل العراق
فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد القعسي، قال: كان عبد الله بن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء، أمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشأم، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشأم، فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمدًا يرجع، وقد قال الله عز وجل: " إنّ الّذي فرض عيك القرآن لرادُّك إلى معاد ".
فمحمد أحقّ بالرجوع من عيسى. قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلموا فيها. ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكلّ نبي وصي، وكان علي وصيَّ محمد؛ ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله ﷺ ووثب على وصي رسول الله ﷺ، وتناول أمر الأمّة! ثم قال لهم بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حقّ، وهذا وصي رسول الله ﷺ، فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر.
فبثّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصر وكاتبوه، ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلّ مصر منهم إلى مصر آخر ما يصنعون؛ فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرّون غير ما يبدون، فيوقل أهل كلّ مصر: إنّا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء، إلّا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا إنا لفي عافية مما فيه الناس، وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان، قالوا: فأتوا عثمان، فقالوا: ميا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلّا السلامة، قالوا: فإنا قد أتانا.. وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم؛ قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي؛ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالًا ممن تثق بهم إلى المصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم. فدعا محمّد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشأم، وفرّق رجالًا سواهم، فرجعوا جميعًا قبل عمّار، فقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئًا، ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامُّهم؛ وقالوا جميعًا: الأمر أمر المسلمين، إلّا أنّ أمراءهم ميقسطون بينهم، ويقومون عليهم. واستبطأ الناس عمّارًا حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله ابن سعد بن أبي سرح يخبرهم أنّ عمارًا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه؛ منهم عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعطيّة، قالوا: كتب عثمان إلى أهل الأمصار، أمّا بعد، فإني آخذ العمال بموافاتي في كلّ موسم، وقد سلّطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلّا أعطيته، وليس لي ولعيالي حقّ قبل الرعيّة إلّا متروك لهم، وقد رفع إلي أهل المدينة أنّ أقوامًا يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضرب سرًّا، وشتم سرًّا، من ادّعى شيئًا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقّه حيث كان؛ منّي أو من عمالي، أو تصدّقوا فإن الله يجزي المتصدّقين. فلما قرىء في الأمصار أبكي الناس، ودعوا لعثمان وقالوا: إنّ المة لتمخَّض بشرّ. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه: عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد؛ وأدخل معهم في المشورة سعيدًا وعمرًا، فقال: ويحكم! ما هذه الشاكية؟ وما هذه الإذعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقًا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بي؛ فقالوا له: أمل تبعث! لم نرجع إليك الخبر عن القوم! ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء! لا والله ما صدقوا ولا برّوا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلًا، وما كنت لتأخذ به أجدًا فيقيمك على شيء؛ وما هي إلا إذاعة لا يحلّ الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها.
قال: فأشيروا علي؛ فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السرّ، فيلقى به غير ذي المعرفة، فيخبر به، فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم؛ فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد ولّيتني فوليت قومًا لا يأتيك عنهم إلا الخبر، والرّجلان أعلم بناحيتيهما؛ قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة مصاحبيك، فتشتدَّ في موضع الشدّة، وتلين في موضع اللين. إن الشدّة تنبغي لمن لا يألوا الناس شرًّا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعًا اللين.
وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كلّ ما أشرتم به علي قد سمعت، ولكلّ أمر باب يؤتي منه؛ إنّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإنّ بابه الذي يغلق عليه فكيفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلّا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدهما، فإن سدّه شيء فرفق، فذاك والله ليفتحنّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقّ، وقد علم الله أنّي لم آل الناس خيرًا، ولا نفسي. ووالله إن رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها.
فلما نفر عثمان أشخص معاوية وعبد الله بن سعد إلى المدينة، ورجع ابن عامر وسعيد معه. ولما استقلّ عثمان رجز الحادي:
قد علمت ضوامر المطيِّ ** وضامرات عوج القيَِ
أنَّ الأمير بعده عليُّ ** وفي الزُّبير خلف رضيُّ
فقال كعب وهو يسير خلف عثمان: الأمير والله بعده صاحب البغلة - وأشار إلى معاوية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن الخليل بن عثمانبن قطبة الأِسدي، عن رجل من بني أسد، قال: ما زال معاوية يطمع فيها بعد مقدمه على عثمان حين جمعهم، فاجتمعوا إليه بالموسم، ثم ارتحل، فحدا به الراجز:
إن الأمير بعده عليُّ ** وفي الزبي رخلف رضُّ
قال كعب: كذبت! صاحب الشَّهباء بعده - يعني معاوية - فأخبر معاوية، فسأله عن الذي بلغه، قال: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنّها والله لا تصل إليك حتى تكذّب بحديثي هذا. فوقعت في نفس معاوية.
وشاركهم في هذا المكان أبو حارثة وأبو عثمان، عن رجاء بن حيوة وغيره. قالوا: فما ورد عثمان المدينة ردّ الأمراء إلى أعمالهم، فمضوا جميعًا، وأقام سعيد بعدهم، فلما ودّع معاوية عثمان خرج من عنده وعليه ثياب السفر متقلدًا سيفه، متنكّبًا قوسه، فإذا هو بنفر من المهاجرين، فيهم طلحة والزبير وعلي، فقام عليهم، فتوكّأ على قوسه بعد ما سلم عليهم، ثم قال: إنّكم قد علمتم أنّ هذا الأمر كان إذ الناس يتغالبون إلى رجال، فلم يكن منكم أحد إلّا وفي فصيلته من يرئسه، ويستبدّ عليه، ويقطع الأمر دونه، ولا يشهده، ولا يؤامره، حتى بعث الله جلّ وعزّ نبيَّه ﷺ، وأكرم به من اتبعه؛ فكانوا يرئِّسون من جاء من بعده، وأمرهم شورى بينهم، يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد؛ فإن أخذوا بذلك وقاموا عليه كان الأمر أمرهم، والناس تبع لهم، وإن أصغوا إلى الدنيا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك، وردّه الله إلى ما كان يرئسهم. وإلّا فليحذروا الغير، فإنّ الله على البدل قادر، وله المشيئة في ملكه وأمره. إنّي قد خلّفت فيكم شيخًا فاستوصوا به خيرًا، وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك. ثم ودّعهم ومضى؛ فقال علي: ما كنت أرى أنّ في هذا خبرًا؛ فقال الزبير: لا والله، ما كان قطّ أعظم في صدرك وصدورنا منه الغداة.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوبه، قال: حدثني أبي، قال: حدّثني عبد الله، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة، قال: أرسل عثمان إلى طلحة يدعوه؛ مفخرجت معه حتى دخل علي عثمان، وإذ عليُّ وسعد والزبير وعثمان ومعاوية، فحمد الله معاوة وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله ﷺ، وخبرته في الرض، وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع في ذلك أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبرت سنُّه، وولّى عمره، ولو انتظرتم به الهرم كان قريبًا؛ مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغ به ذلك، وقد فشت قالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به، ولا تطمعوا الناس في أمركم، فو الله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم فيها أبدًا إلا إدبارًا. قال علي: ومالك وذلك! وما أدراك لا أمَّ لك! قال: دع أمّي مكانها، ليست بشرّ أمّهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبييَّ ﷺ، وأجبني فيما أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخي، إنّي أخبركم عني وعمّا وليت، إنّ صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابًا، وإنّ رسول الله ﷺ كان يعطي قرابته، وأنا في رهط أهل عيلة، وقلّة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال، لمكان ما أقوم به فيه، ورأيت أنّ ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فأمري لأمركم تبع. قالوا: أصبت وأحسنت؛ قالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد ومروان - وكانوا يزعمون أنه أعطى مروان خمسة عشر ألفًا، وابن أسيد خمسين ألفًا - فردّوا منهما ذلك، فرضوا وقبلوا، وخرجوا راضين.
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن شيوخه وكان معاوية قد قال لعثمان غداة ودّعه وخرج: يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشأم قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشأم على الأمر لم يزالوا. فقال: أنا لا أبيع جوار رسول الله ﷺ بشيء؛ وإن كان فيه قطع خيط عنقي. قال: فأبعث إليك جندًا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك. قال: أنا أقتِّر على جيران رسول الله ﷺ الأرزاق بجند تساكنهم، وأضيّق على أهل دار الهجرة والنصرة! قال: والله يا أمير المؤمنين، لتغتالنَّ أو لتغزينّ؛ قال: حسبي الله ونعم الوكيل. وقال معاوية: يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! ثم خرج حتى وقف على النفر، ثم مضى. وقد كان أهل مصر كاتبوا أشياعهم من أهل الكوفة وأهل البصرة وجميع من أجابهم أن يثوروا خلاف أمرائهم. واتّعدوا يومًا حيث شخص أمراؤهم، فلم يستقم ذلك لأحد منهم، ولم ينهض إلا أهل الكوفة، فإنّ يزيد بن قيس الأرحي ثار فيها، واجتمع إليه أصحابه، وعلى الحرب يومئذ القعقاع بن عمر - فأتاه فأحاط النَّاس بهم وناشدوهم؛ فقال يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء! فو الله إني لسامع مطيع، وإني للازم لجماعتي إلا أنّي أستعفي ومن ترى من إمارة سعيد، فقال: استعفي الخاصة من أمر قد رضيته العامة؟ قال: فذاك إلى أمير المؤمني. فتركهم والاستعفاء، ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذلك، فاستقبلوا سعيدًا، فردّوه من الجرعة، واجتمع الناس على أبي موسى، وأقرّه عثمان رضي الله تعالى عنه. ولما رجع الأمراء لم يكن للسّبئيّة سبيل إلى الخروج إلى الأمصار، وكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا بالمدينة لنيظروا فيما يريدون، وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء لتطير في الناس، ولتحقَّق عليه؛ فتوافوا بالمدينة، وأرسل عثمان رجلين: مخزوميًّا وزهريًّا، فقال: انظروا ما يريدون، واعلما علمهم - وكانا ممن قد ناله من عثمان أدبفاصطبرا للحقّ، ولم يضطغنا - فلما رأوهما باثّوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة؟ قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلّا؟ قالوا لا! قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قرّرناه بها، فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجّاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه. وكانت إيّاها، فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال: اللهمّ سلّم هؤلاء، فإنك إن لم تسلّمهم شقوا.
أمّا عمار فحمل على عباس بن عتبة بن أبي لهب وعركه. وأما محمّد ابن أبي بكر فإنه أعجب حتى رأى أنّ الحقوق لا تلزمه، وأمّا ابن سهلة فإنه يتعرّض للبلاء. فأرسل إلى الكوفيين والبصريّين، ونادى: الصلاة جامعة! وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وقام الرجلان، فقالوا جميعًا: اقتلهم، فإنّ رسول الله ﷺ قال: " من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فاقتلوه ". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أحلّ لكم إلّا ما قتلتموه وأنا شريككم.
فقال عثمان: بل نعفو ونقبل ونبصّرهم بجهدنا، ولا نحادّ أحدًا حتى يركب حدًّا، أو يبدي كفرًا. إنّ هؤلاء ذكروا أمورًا قد علموا منها مثل الذي علمتم، إلّا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها علي عند من لا يعلم.
وقالوا: أتمّ الصلاة في السفر، وكانت لا تتمّ، ألا وإنّي قدمت بلدًا فيه أهلي، فأتممت لهذين الأمرين؛ أو كذلك؟ قالوا: اللهمّ نعم.
وقالوا: وحميت حمىً؛ وإني والله ما حميت، حميَ قبلي، والله ما حموا شيئًا لأحد ما حموا إلّا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعية أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحّوا منها أحدًا إلّا من ساق درهمًا؛ ومالي من بعير غير راحلتين، ومالي ثاغية ولا راغية، وإنّي قد ولّيت، وإنّي أكثر العرب بعيرًا وشاءً، فمالي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجّي، أكذلك؟ قالوا: اللهمّ نعم.
وقالوا: كان القرآن كتبًا، فتركتها إلّا واحدًا. ألا وإنّ القرآن واحد، جاء من عند واحد؛ وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء؛ أكذلك؟ قالوا: نعم، وسألوه أن يقيلهم.
وقالوا: إنّي رددت الحكم وقد سيّره رسول الله ﷺ، والحكم مكي، سيّره رسول الله ﷺ من مكة إلى الطائف، ثم ردّه رسول الله ﷺ؛ فرسول الله ﷺ سيّره، ورسول الله ﷺ ردّه؛ أكذلك؟ قالوا: اللهمّ نعم.
وقالوا: استعملت الأحداث. ولم أستعمل إلّا مجتمعًا محتملًا مرضيًّا، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولّى من قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله ﷺ أشدّ مما قيل لي في استعماله أسامة؛ أكذاك؟ قالوا: اللهمّ نعم، يعيبون للناس ما لا يفسّرون.
وقالوا: إنّي أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه. وإني إنما نقلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس، فكان مائة ألف، وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك، فرددته عليهم وليس ذاك لهم، أكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إني أحبّ أهل بيتي وأعطيهم؛ فأما حبّي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأمّا إعطاؤهم فإني ما أعطيهم من مالي، ولا أستحلّ أموال المسلمين لنفسي؛ ولا لأحد من الناس؛ ولقد كنت أعطي العطيّة الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفنيَ عمري، وودّعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا! وإني والله ما حملت على مصرٍ من الأمصار فضلًا فيجوز ذلك لمن قاله؛ ولقد رددته عليهم، وما قدم علي إلا الأخماس، ولا يحلّ لي منها شيء؛ فولي المسلمون وضعها في أهلها دوني؛ ولا يتلفّت من مال الله بفلس فما فوقه؛ وما أتبلّغ منه ما آكل إلّا مالي.
وقالوا: أعطيت الأرض رجالًا؛ وإنّ هذه الأرضين شاركهم فيها المهاجرون والأنصار أيام افتُتحت؛ فمن أقام بمكان من هذه الفتوح فهو أسوة أهله، ومن رجع إلى أهله لم يذهب ذلك ما حوى الله له؛ فنظرت في الذي يصيبهم مما أفاء الله عليهم فبعته لهم بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت إليهم نصيبهم، فهو في أيديهم دوني.
وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أميّة، وجعل لوده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، ولانت حاشية عثمان لأولئك الطوائف، وأبى المسلمون إلّا قتلهم، وأبى إلَا تركهم؛ فذهبوا ورجعوا إلى بلادهم على أن يغزوه مع الحجّاج كالحجّاج؛ فتكاتبوا وقالوا: موعدكم ضواحي المدينة في شوّال؛ حتى إذا دخل شوّال من سنة اثنتي عشرة، ضربوا كالحجّاج فنزلوا قرب المدينة.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء؛ المقلّل يقول: ستمائة، والمكثّر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وعروة بن شيبم الليثي، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعي، وسودان ابن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعًا الغافقي بن حرب العكّي، ولم يتجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب؛ وإنما أخرجوا كالحجّاج، ومعهم ابن السوداء. وخرج أهل الكفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصمّ، أحد بني عامر بن صعصعة؛ وعددهم كعدد أهل مصر؛ وعليهم جميعًا عمرو بن الأصمّ. وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح ابن عبّاد العبدي، وبشر بن شريح الحجطم بن ضبيعة القيسي وابن المحرّش ابن عبد بن عمرو الحنفي وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعًا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس. فأمّا أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليًّا، وأمّا أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير.
فخرجوا وهم على الخروج جميع. وفي الناس شتى؛ لا تشكّ كلّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، وأنّ أمرها سيتمّ دون الأخريين؛ فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدّم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامّتهم بذي المروة. ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصمّ، وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد؛ فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا؛ فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلّوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشدّ؛ وإنّ أمرنا هذا لباطل؛ وإن لم يستحلّوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلًا لنرجعنّ إليكم بالخبر.
قالوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا أزواج النبي ﷺ وعليًّا وطلحة والزبير، وقالا: إنما نأتمّ هذا البيت، ونستعفي هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك، واستأذناهم للناس بالدخول، فكلّهم أبى، ونهى وقال: بيض ما يفرخنّ، فرجعا إليهم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليًّا ومن أهل البصرة نفرٌ فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير؛ وقال كلّ فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرّقنا جماعتهم؛ ثم كررنا حتى نبغتهم؛ فأتى المصريون عليًّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت؛ عليه حلّة أفواف معتمّ بشقيقة حمراء يمانية، متقلّد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرّح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه. فالحسن جالس عند عثمان، وعلي عند أحجار الزيت، فسلم عليه المصريون وعرّضوا له؛ فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد ﷺ، فارجعوا لا صحبكم الله! قالوا: نعم، فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي؛ وقد أرسل ابنيه إلى عثمان، فسلّم البصريّون عليه وعرَضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمّد ﷺ.
وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى؛ وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلموا عليه وعرّضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ﷺ، فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون؛ فانفشّوا عن ذي خشب والأعوص، حتى انتهوا إلى عساكركم؛ وهي ثلاث مراحل؛ كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرُّوا مراجعين. فافترق أهل المدينة لخروجهم.
فلما بلغ القوم عساكرهم كرُّوا بهم، فبغتوهم، مفلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وقالوا: من كفّ يده فهو آمن.
وصلَّى عثمان بالناس أيامًا؛ ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدًا من كلام، فأتاهم الناس فكلّموهم، وفيهم علي، فقال: ما مردّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا؛ وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا؛ كأ، ما كانوا على ميعاد.
فقال لهم علي: كيف علمتم يا مأهل الكوفة ويا أهل البصرة بما ملقي أهل مصر؛ وقد سرتم مراحل؛ ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة! نقالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا. وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدقّ من التراب؛ وكانوا لا يمنعون أحدًا من الكلام، وكانوا زمرًا بالمدينة، يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدّهم: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد؛ فإنّ الله عز وجل بعث محمدًا بالحق بشيرًا ونذيرًا، فبلّغ عن الله ما أمره به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه؛ وخلَّف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيان الأمور التي قدّر، فأمضاها على ما أحبّ العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه، مثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملإ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملإ منهم ومن الناس علي، على غير طلب مني ولا محبة؛ فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعًا غير مستتبع، متّبعًا غير مبتدع، مقتديًا غير متكلف.
فلما انتهت الأمور، وانتكث الشرُّ بأهله؛ بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلّا إمضاء الكتاب؛ فطلبوا أمرًا وأعلنوا غيره بغير حجّة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملإ من أهل المدينة لا يصلح غيرها؛ فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنين وأنا أرى وأسمع؛ فازدادوا على الله عز وجل جرأة، حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله ﷺ وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب؛ فهم كالأحزاب أيّام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلّا ما يظهرون؛ فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا على الصعبة والذّلول؛ فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعيد معاوية بن حديج السَّكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان المحضّضين بالكوفة على إعانة أهل المدينة عقبة بن عمرو وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، في أمثالهم من أصحاب النبي ﷺ. وكان المحضّضين بالكوفة من التابعين أصحاب عبد الله سرق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وشريح بن الحارث، وعبد الله بن عكيم؛ في أمثالهم؛ يسيرون فيها، ويطوفون على مجالسها؛ يقولون: يأيها الناس؛ إنّ الكلام اليوم وليس به غدًا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدًا، وإنّ القتال يحلّ اليوم ويحرم غدًا، انهضوا إلى خليفتكم، وعصمة أمركم.
وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك، وهشام بن عامر في أمثالهم من أصحاب النبي ﷺ يقولون مثل ذلك، ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيّان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذلك! وقام بالشأم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة في أمثالهم من أصحاب النبي ﷺ يقولون مثل ذلك؛ ومن التابعين شريك بن خباشة النُّميري، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم بمثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له؛ وقد كان بعض المحضّضين قد شهد قدومهم، فلمَّا رأوا حالهم انصرفوا إلى أمصارهم بذلك وقاموا فيهم.
ولما جاءت الجمعة لاتي على أثر نزول المصريين مسجد رسول الله ﷺ خرج عثمان فصلَّى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء العدي، الله الله! فو الله؛ إنّ أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ﷺ؛ فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيّء إلّا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة، فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعهد، فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده؛ وقال فأفضع؛ وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيًّا عليه، فاحتمل فأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم إلّا في ثلاثة نفر؛ فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعمَّار بن ياسر؛ وشمّر أناس من الناس فاستقتلوا؛ منهم سعد بن مالك، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي؛ فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل عليٌّ عليه السلام حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل عليه؛ يعودونه من صرعته؛ ويشكون بثّهم، ثم رجعوا إلى منازلهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، قال: قلت له: هل شهدت حصر عثمان؟ قال: نعم؛ وأنا يومئذ مغلام في أتراب لي في المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت على ركبتي أو قمت؛ فأقبل القوم حين أقبلوا حتى نزلوا المسجد وما حوله؛ فاجتمع إليهم أناس من أهل المدينة، يعظمون ما صنعوا. وأقبلوا على أهل المدينة يتوعّدونهم؛ فبينا هم كذلك في لغطهم حول الباب، فطلع عثمان؛ فكأنما كانت نار طفئت، فعمد إلى المنبر فصعده فحمد الله وأثنى عليه، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر فأقعده آخر، ثم ثار القوم فحصبوا عثمان حتى صرع، فاحتمل فأدخل، فصلى بهم عشرين يومًا، ثم منعوه من الصلاة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: صّلي عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يومًا، ثم إنهم منعوه الصلاة، فصلّى بالناس أميرهم الغافقي، دان لها المصريون والكوفيّون والبصريون، وتفرّق أهل المدينة في حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يخرج أحد ولا يجلس إلّا وعليه سيفه يمتنع به من رهق القوم وكان الحصار أربعين يومًا، وفيهنّ كان القتل، ومن تعرَض لهم وضعوا فيه السلاح، وكانوا قبل ذلك ثلاثين يومًا يكفّون.
وأما غير سيف فإنّ منهم من قال: كانت مناظرة القوم عثمان وسبب حصارهم إيّاه ما حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معمر بن سليمان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، عنأبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري. قال: سمع عثمان أنّ وفد أهل مصر قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم، وكان في قرية له خارجة من المدينة - أو كما قال - فلمّا سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه - قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة أو نحوًا من ذلك - قال: فأتوه، فقالوا له: ادع بالمصحف، قال: فدعا بالمصحف، قال: فقالوا له: افتح التاسعة - قال: وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة - قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ". قال: قالوا له: قف، فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك أم على الله تفتري! قال: فقال: امضه؛ نزلت في كذا وكذا. قال: وأما الحمى فإنّ عمر حمى الحمى قبل لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة، امضهه. قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه، نزلت في كذا وكذا - قال: والذي يتولى كلام عثمان يومئذ في سنّك، قال: يقول أبو نضرة، يقول ذاك لي أبو سعيد، قال أبو نضرة: وأنا في سنك يومئذ، قال: ولم يخرج وجهي يومئذ، لا أدري، ولعله قد قال مرة أخرى: وأنا يومئذ ابن ثلاثين سنة - ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج. قال: فعرفها، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه. قال: فقال لهم: ما تريدون؟ قال: فأخذوا ميثاقه - قال: وأحسبه قال: وكتبوا عليه شرطًا - قال: وأخذ عليهم ألَّا يشقوا عصًا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم - أو كما أخذوا عليه - قال: فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنما هذا لامال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله ﷺ. قال: فرضوا بذلك، وأقبلوا معه إلى المدينة راضين.
قال: فقام فخطب، فقال: إني ما رأيت والله وفدًا في الأرض هم خير لحوباتي من هذا الوفد الذين قدموا علي. وقد قال مرّة أخرى: خشيت من هذا الوفد من أهل مصر، ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلب؛ ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله ﷺ. قال: فغضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أميّة.
قال: ثم رجع الوفد المصريون راضين؛ فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم، ثمّ يفارقهم ويتبيَّنهم. قال: قالوا له: مالك؟ إن لك لأمرًا! ما شأنك؟ قالك فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر؛ ففتَّشوه؛ فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلّبهم أو يقتلهم مأو يقطّع أيديهم وأرجلهم من خرف.
قال: فأقبلوا حتى قدموا المديمة، قال: فأتوا عليًّا، فقالوا: ألم تر إلى عدوّ ه! إنه كتب فينا بكذا وكذا؛ وإنّ الله قد أجلّ دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم؛ إلى أن قالوا: فلم كتبت إلينا؟ فقال: والله ما كتبت إليكم كتابًا قطّ؛ قال: فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون، أو لهذا تغضبون! قال: فانطلق علي، فخرج من المدينة إلى قرية. قال: فانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا! قال: فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إليه إلّا هو ما كتبت ولا أمللت ولا علمت. قال: وقد تعلمون أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم. قال: فقالوا: فقد والله أحلّ الله دمك، ونقضت العهد والميثاق. قال: فحاصروه.
وأمّا الواقدي فإنه ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أمورًا كثيرة، منها ما قد تقدّم ذكريه؛ ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته. ومنا ما ذكر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أبي عون مولى المسور، قال: كان عمرو بن العاص على مصر عاملًا لعثمان؛ فعزله عن الخراج، واستعمله على الصلاة، واستعمل عبد مه بن سعيد على الخراج؛ ثم جمعهما لعبد الله بن سعد، فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان، فأرسل إليه يومًا عثمان خاليًا به، فقال: يابن النابغة، ما أسرع ما قمل جربّان جبّتك! إنما عهدك بالعمل عامًا أوّل.
أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر! والله لولا أكلة ما فعلت ذلك. قال: فقال عمرو: إنّ كثيرًا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل؛ فاتّق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك! فقال عثمان: والله لقد استعملتك على طلعك، وكثرة القالة فيك. فقال عمرو: قد كنت عاملًا لعمر بن الخطاب، ففارقني وهو عني راض. قال: فقال عثمان: وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت؛ ولكني لنت عليك فاجترأت علي، أما والله لأنا أعزُّ منك نفرًا في الجاهليّة؛ وقبل أن ألى هذا السلطان. فقال عمرو: دع عنك هذا، فالحمد الله الذي أكرمنا بمحمد ﷺ وهدانا به؛ قد رأيت العاصي بن وائل ورأيت أبا عفان، فو الله للعاص كان أشرف من أبيك. قال: فانكسر عثمان، وقال: ما لنا ولذكر الجاهليّة! قال وخرج عمرو ودخل مروان، فقال: يا أمير المؤمنين؛ وقد بلغت مبلغًا يذكر عمرو بن العاص أباك! فقال عثمان: دع هذا عنك، من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه.
قال: فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه، يأتي عليًّا مر! ة فيؤلِّبه على عثمان، ويأتي الزبير مرة فيؤلِّبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيؤلِّبه على عثمان، ويعترض الحاجّ فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلمَّا كان حصر عثمان الأوّل؛ خرج من المدينة، حتى أنتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع؛ فنزل في قصر له يقال له العجلان؛ وهو يقول: العجب ما يأتينا عن ابن عفان! قال: فبينا هو جالس في عصره ذلك، ومعه ابناه محمد وعبد الله؛ وسلامة ابن روح الجذامي، إذ مرّ بهم راكب، فناداه عمرو: من أين قدم الرجل؟ فقال: من المدينة، قال: ما فعل الرجل؟ يعني عثمان، قال: تركته محصورًا شديد الحصار. قال عمرو: أنا أبو عبد الله؛ قد يضرط العير والمكواة في النار. فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مرّب الله راكب آخر، فناداه عمرو: ما فعلالرجل؟ يعني عثمان، قال: قتل، قال: أنا أبو عبد الله؛ إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لأحرّض عليه؛ حتى إني لأحرّض عليه الراعي قال: في غنمه في رأس الجبل. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش؛ إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق مفكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحقّ من حافرة الباطل، وأن يكون الناس في الحقّ شرعًا سواء. وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمِّه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، ففارقها حين عزله.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: كان محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بمصر يحرّضان على عثمان، فقدم محمد بن أبي بكر وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما خرج المصريون خرج عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وأظهروا أنهم يريدون العمرة، وخرجوا في رجلب، وبعث عبد الله بن سعيد رسولًا سار إحدى عشرة ليلة يخبر عثمان أنّ ابن عيديس وأصحابه قد وجّهوا نحوه، وأنّ محمد بن أبي حذيفة شيَّعهم إلى عجرود، ثم رجع وأظهر محمّد أن قال: خرج القوم عمّارًا، وقال في السر: خرج القوم إلى إمامهم فإن نزع وإلّا قتلوه؛ وسار القوم المنازل لم يعدوها حتى نزلوا ذا خشب. وقال عثمان قبل قدومهم حين جاءه رسول عبد الله بن سعد: هؤلاء قوم من أهل مصر يريدون - بزعمهم - العمرة، والله ما أراهم يريدونها؛ ولكن الناس قد دخل بهم؛ وأسرعوا إلى الفتنة، وطال عليهم عمري؛ أما والله لئن فارقتهم ليتمنّون أنّ عمري كان طال عليهم مكان كلّ يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة، والإحن والأثرة الظاهرة، والأحكام المغيرة.
قال: فلما نزل القوم ذا خشب جاء الخير أنّ القوم يريدون قتل عثمان إن لم ينزع، وأتى رسولهم إلى علي ليلًا، وإلى طلحة، وإلى عمّار بن ياسر. وكتب محمد بن أبي حذيفة معهم إلى علي كتابًا، فجاءوا بالكتاب إلى علي، فلم يظهر على ما فيه، فلما رأى عثمان ما رأى جاء عليًّا فدخل عليه بيته، فقال: يابن عمّ، إنه ليس لي متَّرك؛ وإن قرابتي قريبة؛ ولي حقٌّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبِّحيَّ؛ وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرًا، وأنهم يسمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم فتردّهم عني، فإني لا أحبّ أن يدخلوا علي؛ فإن ذلك جرأة منهم علي، وليسمع بذلك غرهم. فقال عليَّ: علام أردّهم؟ قال: على أن أصير إلى ما أشرت به علي ورأيته لي؛ ولست أخرج من يديك؛ فقال علي: إني قد كنت كلمتك مرّة بعد مرّة، فكلّ ذلك نخرج فتكلَّم، ونقول وتقول؛ وذلك كله مفعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية؛ أطعتهم وعصيتني.
قال عثمان: فإني أعصيهم وأطيعك.
قال: فأمر الناس، فركبوا معه: المهاجرون والأنصار. قال: وأرسل عثمان إلى عمّار بن ياسر، يكلمه أن يركب مع علي فأبى، فأرسل عثمان إلى سعد بن أبي وقاص، فكلّمه أن يأتي عمارًا فيكلمه أن يركب مع علي؛ قال: فخرج سعد حتى دخل على عمّار، فقال: يا أبا اليقظان، ألا تخرج فيمن يخرج! وهذا علي يخرج فاخرج معه، واردد هؤلاء القوم عن إمامك، فإني لأحسب أنك لم تركب مركبًا هو خير لك منه.
قال: وأرسل عثمان إلى كثير بن الصَّلت الكندي - وكان من أعوان عثمان - فقال: انطلق في إثر سعد فاسمع ما يقول سعد لعمّار، وما يردّ عمّار على سعد، ثم أئتني سريعًا.
قال: فخرج كثير حتى يجد سعدًا عند عمّار مخليًا به، فألقم عينه جحر الباب، فقام إليه عمَّار ولا يعرفه، وفي يده قضيب، فأدخل القضيب الجحر الذي ألقمه كثير عينه، فأخرح كثير عينه من الجحر، وولى مدبرًا متقنّعًا. فخرج عمار فعرف أثره، ونادى: يا قليل ابن أمّ قليلّ مأعلىَّ تطّلع وتستمع حديثي! والله لو دريت أنّك هو لفقأت عينك بالقضيب؛ فإنّ رسول الله ﷺ قد أحلّ ذلك. ثم رجع عمار إلى سعد، فكلمه سعد وجعل يقتله يفتله بكلّ وجه؛ فكان آخر ذلك أن قال عمَّار: والله لا أردّهم عنه أبدًا. فرجع سعد إلى عثمان، فأخبره بقول عمار، فاتّهم عثمان سعدًا أن يكون لم يناصحه، فأقسم له سعد بالله؛ لقد حرّض. فقبل منه عثمان.
قال: وركب علي عليه السلام إلى أهل مصر، فرّدهم عنه، فانصرفوا راجعين.
قال محمد بن عمرك حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: لما نزلوا ذا خشب، كلم عثمان عليًّا وأصحاب رسول الله ﷺ أن يردّوهم عنه، فركب علي وركب معه نفر من المهاجرين، فيهم سعيد بن زيد، وأبو جهم الدوي، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن عتَّاب بن أسيد؛ وخرج من الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد الساعدي، وزيد بن ثابت، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومعهم من العرب نيار بن مكرم وغيرهم ثلاثون رجلًا؛ وكلّهم علي ومحمد بن مسلمة - وهما اللذان قدما - فسمعوا مقالتهما، ورجعوا. قال محمود: فأخبرني محمد بن مسملة، قال: ما برحنا من ذي خشب حتى رحلوا راجعين إلى مصر، وجعلوا يسلّمون علي، فما أنسى عبد الرحمن بن عديس: أتوصينا يا أبا عبد الرحمن بحاجة؟ قال: قلت: تتّقي الله وحده لا شريك له، وتردّ من قبلك عن إمامه، فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال ابن عديس: أفعل إن شاء الله. قال: فرجع القوم إلى المدينة.
قال محمَّد بن عمر: فحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: لما رجع علي عليه االسلام إلى عثمان رضي الله عنه، أخبره أنهم قد رجعوا، وكلّمه علي كلاما في نفسه، قال له: اعلم أني قائل فيك أكثر مما قلت.
قال: ثمّ خرج إلى بيته، قال: فمكث عثمان ذلك اليوم؛ حتى إذا كان الغد جاءه مروان، فقال له: تكلّم وأعلم الناس أنّ أهل مصر قد رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلًا، فإنّ خطبتك تسير في لابلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم؛ فيأتيك من لا تستطيع دفعه. قال: فأبى عثمان أن يخرج. قال: فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بعد، فإن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم كان باطلًا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد مقبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم؛ فيأتيك من لا تستطيع دفعه. قال: فأبى عثمان أن يخرج. قال: فلم يزل بن خروان حتى خرج فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر؛ فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم. قال: فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: اتّق الله يا عثمان؛ فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك؛ فتب إلى الله نتب. قال: فناداه عثمان؛ وإنك هناك يا بن النابغة! فملت والله جبّتك منذ تركتك من العمل. قال: فنودي من ناحية أخرى: تب إلى الله وأظهر التوبة كيف الناس عنك. قال: فرفع عثمان يديه مدًّا واستقبل القبلة، فقال: اللهمّ إني أوّل تائب تاب إليك. ورجع إلى منزله، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين، فكان يقول: والله إن كنت لألقى الراعي فأحرّضه عليه.
قال محمد بن عمر: فحدثني علي بن عمر، عنأبيه، قال: ثمّ إن عليًَّا جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: تكلم كلامًا يسمعه الناس منك ويشهدون عليه، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة؛ فإن البلاد قد تمخّضت عليك؛ فلا آمن ركبًا آخرين يقدمون من الكوفة، فتقول: يا علي، اركب إليهم؛ ولا أقدر أن أركب إليهم؛ ولا أسمع عذرًا. ويقدم ركب آخرون من البصرة، فتقول: يا علي اركب إليهم؛ فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك، واستخففت بحقك.
قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعطي الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد ه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس؛ فو الله ما عاب من عاب منكم شيئًا أجهل، وما جئت شيئًا إلّا وأنا أعرفه؛ ولكنّي منّتني نفسي وكذبتني، وضل عني رشدي؛ ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: من زلّ فليبت، ومن أخطأ فليتب؛ ولا يتماد في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق، فأنا أوّل من اتَّعظ؛ أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم؛ فو الله لئن ردّني الحق عبدًا لأستنّ بسنّة العبد، ولأذلّننّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق؛ إن ملك صبر، وإن عتق شكر؛ وما عن الله مذهب إلّا إليه، فلا يعجزنّ عنكم خياركم أن يدنوا إلي، لئن أبت يميني لتتابعنِّي شمالي.
قال: فرقَّ الناس له يومئذ، وبكى من بكى منهم، وقام إليه سعيد ابن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بواصل لك من ليس معك؛ الله الله في نفسك! فأتمم على ما قتل. فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدًا ونفرًا من بني أميَّة؛ ولم يكونوا شهدوا الخطبة؛ فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة، امرأة عثمان الكلبيّة: لا بل اصمت، فإنهم والله قاتلوه ومؤثّموه؛ إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزععنها. فأقبل عليها مروان، فقال: ما أنت وذاك! فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت له: مهلًا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه! وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه؛ أما واللهلولا أنه عمّه، وأنه يناله غمّه، أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه.
قال: فأعرض عنها مروان، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أمأصمت؟ قال: بل تكلَّم، فقال مروان: بأبي أنت وأمي! وه لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أوّل من رضي بها، وأعان عليها؛ ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطُّبيين، وخلف السيل الزُّبي، وحين أعطي الخطّة الذليلة الذليل؛ والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف عليها؛ وإنك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة؛ وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلّمهم، فإني أستحيي أن أكلمهم. قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضًا، فقال: ما شأنكم قداجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب! شاهت الوجوه! كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه. ألا من أريد! جئتم تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنها، أما والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منَّا أمر لا يسرّكم؛ ولا تحمدوا غبّ رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم؛ فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا.
قال: فرجع الناس موخرج بعضهم حتى أتى عليًّا فأخبره الخبر، فجاء علي عليه السلام مغضبًا، حتى دخل على عثمان، فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؛ والله ما مروان بذي رأى في دينه ولا نفسه؛ وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك؛ وما أنا بعائد بعد ماقمي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك. فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته، فقالت: أتكلّم أو أسكت؟ فقال: تكلمي؛ فقالت: قد سمعت قول علي لك؛ وإنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟ قالت: تتَّقي الله وحده لا شريك له، وتتّبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك؛ ومروان ليس له عند لاناس قدر ولا هيبة ولا محبّة؛ وإنما تكك الناس لمكان مروان؛ فأرسل إلي علي فاستصلحه، فإن له قرابة منك، وهو لا يعصي. قال: فأرسل عثمان إلى علي، فأبى أن يأتيه، وقال: قد أعلمته أنِّي لست بعائد.
قال: فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، قال: فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه، فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم، فقال: إن بنت الفرافصة.. فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف فأسوّىء لك وجهك، فهي والله أنصح لي منك.
قال: فكفّ مروان.
قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث يذكر مروان بن الحكم، قال: قبّح الله مروان! مخرج عثمان إلى النسا فأعطاهم الرضا، وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلّة من الدموع، وهو يقول: اللهمّ إنِّي أتوب إليك؛ اللهم إني أتوب إليك، اللهم إني أتوب إليك! والله لئن ردّني الحق إلى أن أكن عبدًا قنًّا لأرضينّ به؛ إذا دخلت منزلي فادخلوا علي؛ فو الله لا أحتجب منكم، ولأعطينّكم الرضا، ولأزيدنّكم على الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه. قال: فلما دخل أبمر بالباب ففتح، ودخل بيته، ودخل عليه ممروان، فلم يزل يفتله في الذِّروة والغارب حتى فتله عن رأيه؛ وأزاله عمّا كان يريد؛ فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خجر استحياء من الناس؛ وخرج مروان إلى الناس، فقال: شاهت الوجوه! ألا من أريد! ارجعوا إلى منازلكم؛ فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه، وإلّا قرّ في بيته. قال عبد الرحمن: فجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر، وأجد عنده عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان: صنع مروان بالناس وصنع. قال: فأقبل علي عليٌّ، فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قلت: نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قلت: نعم، قال علي: عياذ الله، ياللمسلمين! إنّي إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي؛ وإني إن تكلمت فجاء ما يريد بلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث شاء بعد كبرالسنّ وصحبة رسول الله ﷺ. قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم يزل حتى جاء رسول عثمان: ائتني، فقال علي بصوت مرتفع عال مغضب: قل له: ما أنا بداخل عليك ولا عائد.
قال: فانصرف الرسول. قال: فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين خائبًا، فسألت ناتلًا غلامه: من أي جاء أمير المؤمنين؟ فقال: كان عند علي، فقال عبد الرحمن بن الأسود: فغدوت فجلست مع علي عليه السلام، فقال لي: جاءني عثمان البارحة، فجعل يقول: إني غير عائد؛ وإني فاعل؛ قال: فقلت له: بعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله ﷺ، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم! قال: فرجع وهو يقول: قطعت رحمي وخذلتني، وجرّأت الناس علي.
فقلت: والله إني لأذبّ الناس عنك؛ ولكني كلّسًا جئتك بهنة أظنّها لك رضًا جاء بأخرى؛ فسمعت قول مروان علي، واستدخلت مروان.
قال: ثمّ انصرف إلى بيته. قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم أزل أرى عليًّا منكّبًا عنه لا يفعل ما كان يفعل؛ إلّا أني أعلم أنه قد كلم طلحة حين حصر في أن يدخل عليه الرَّوايا، وغضب في ذلك غضبًا في ذلك غضبًا شديدًا، حتى دخلت الروايا على عثمان.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، أنّ عثمان صعد يوم الجمعة المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقام رجل، فقال: أقم كتاب الله، فقال عثمان: اجلس، فجلس حتى قام ثلاثًا، فأمر به عثمان فجلس، فتحاثوا بالحصباء حتى ما ترى السماء؛ وسقط عن المنبر، وحمل فأدخل داره مغشيًّا عليه، فخرج رجل من حجّاب عثمان، ومعه مصحف في يده وهو ينادي " إنَّ الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شعيًا لست منهم في شيء إنَّما أمرهم إلى الله " ودخل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما وهو مغشيٌّ عليه، وبنو أميّة حوله، فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟ فأقبلت بنو أميَّة بمنطق واحد، فقالوا: يا عليُّ أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين! أما والله لئن بلغت الذي تريد لتمرَّنَّ عليك الدنيا. فقام علي مغضبًا.
ذكر الخبر عن قتل عثمان رضي الله عنه
وفي هذه السنة قتل عثمان رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل
قال أبو جعفر رحمه الله: قد ذكرنا كثيرًا من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها؛ ونذكر الآن كيف قتل، وما كان بدء ذلك وافتتاحه، ومن كان المتبدىء به والمففتح للجرأة عليه قبل قتله.
ذكر محمد بن عمر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة، عن أبيها، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأرسل إلى المسور ابن مخرمة وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فأخذاها، فقسمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار.
قال محمد بن عمر: وحدثني محمد بن صالح، نمعن عبيد الله بن رافع ابن نقاخة، عن عثمان بن الشَّريد، قال: مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقالل: يا نعثل؛ والله لأقتلنّك؛ ولأحملنّك على قولص جرباء، ولأخرجنّك إلى حرّة النار. ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.
حدثني محمد، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، قال: كان أوّل من اجترأ على عثمان بالمنطق السيِّء جبلة ابن عمرو الساعدي، مرّ به عثمان وهو جالس في ندي قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مرَّ عثمان سلَّم، فردّ القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة! فو الله إني لأتخيّر الناس؛ فقال: مروان تخيَّرته! ومعاوية تخيّرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرّته! وعبد الله بن سعد تخيَّرته! منهم من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله ﷺ دمه.
قال: فانصرف عثمان، فلما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.
قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب نتب. فاستقبل عثمان القبلة وشهر يديه - قال أبو حبيبة: فلم أر يومًا أكثر باكيًا ولا باكية من يومئذ - ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس، فقالم إليه جهجاه الغفاري؛ فصلح: يا عثمان، ألا إن هذه شارف قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة؛ فانزل فلندرّعك العباءة، ولنطرحك في الجامعة؛ ولنحملك على الشارف؛ ثم نطرحك في جبل الدخان. فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به! قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك منه إلّا عن ملإ ممن الناس؛ وقام إلى عثمان خيرته وشعيته من بني أميّة فحملوها فأدخلوه الدار.
قال أبو حبيبة: فكان آخر ما رأيته فيه.
قال محمد: وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن يحيى بن عبد الرحمن بان حاطب، عن أبيه، قال: أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي ﷺ التي كان يخطب معليها وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال له جهجاه: قم يا نعثل؛ فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شطيَّة منها فيها؛ فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلّا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل.
حدثني أحمد بن إبراهيم؛ قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أنّ جهجاهًا الغفاري، أخذ عصًا كانت في يد عثمان، فكسرها على ركبته، فرمى في ذلك المكان بأكله.
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو، عن محمد ابن إسحاق بن يسار المدني، عن عمّه عبد الرحمن بن يسار، أنه قال: لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي ﷺ إلى من صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي ﷺ إلى من بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرّقوا في الثغور: إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل، تطلبون دين محمد ﷺ؛ فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك، فهلمّوا فأقيموا دين محمد ﷺ. فأقبلوا من كلّ أفق حتى قتلوه. وكتب عثمان إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامله على مصر - حين تراجع الناس عنه، وزعم أنه تائب - بكتاب في الذين شخصوا من مصر، وكانوا أشدّ أهل الأمصار عليه: أمَّا بعد؛ فانظر فلانًا وفلانًا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عليك؛ فانظر فلانًا وفلانًا فعاقبهم بكذا وكذا - منهم نفر من أصحاب رسول الله ﷺ، ومنهم قوم من التابعين - فكان روله في ذلك أبو الأعور بن سفيان السُّلمي، حمله عثمان على جمل له، ثم أمره أن يقبل حتى يجخل مصر قبل أن يدخلها القوم، فلحقهم أبو الأعور ببعض الطريق، فسألوه: أين ميريد؟ قال: أريد مصر؛ ومعه رجل من أهل الشأم من خولان؛ فلما رأوه على جمل عثمان، قالوا له: هل معك كتاب؟ قال: لا، قالوا: فيم أرسلت؟ قال: لا علم لي، قالوا: ليس معك كتاب ولا علم لك بما أرسلت! إن أمرك لمريب! ففتَّشوه، فوجدوا معه كتابًا في إداوة يابسة، فنظروا في الكتاب، فإذا فيه قتل بعضهم وعقوبة بعضهم في أنفسهم وأموالهم. فلما رأوا ذلك رجعوا إلى المدينة، فبلغ الناس رجوعهم، والذي كان من أمرهم فتراجعوا من الآفاق كلها، وثار أهل المدينة.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بن السائب الكلبي، قال: إنما ردّ أهل مصر إلى عثمان بعد أنصرافهم عنه أنه أدركهم غلام ملعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم، وأن يصلب بعضهم. فلما أتوا عثمان، قالوا: هذا غلامك، قال غلامي انطلق بغير علمي، قالوا: جملك، قال: أخذه من الدار بغير أمير، قالوا: خاتمك، قال: نقش عليه، فقال عبد الرحمن ابن عديس مالتجيبي حين أقبل أهل مصر:
أقبلن من بلييس والصَّعيد ** خوضًا كأمثال القسيِّ قود
مستحقبات حلق الحديد ** يطلبن حقَّ الله في الوليد
وعند عثمان وفي سعيد ** يا ربِّ فارجعنا بما نريد
فلما رأى عثمان ما قد نزل به، وما قد انبعث عليه من الناس، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشأم: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد؛ فإنّ أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة، ونكثوا البيعة، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشأم على كلّ صعب وذلول.
فلما جاء معاوية الكتاب تربّص به، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله ﷺ؛ وقد علم اجتماعهم؛ فلما أبطأ أمره على عثمان كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز، وإلى أهل الشأم يستنفرهم ويعظّم حقَّه عليهم، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عز وجل به من طاعتهم ومناصحتهم، ووعدهم أن ينجدهم جند أو بطانة دون الناس، وذكرهم بلاءه عندهم، وصنيعه إليهم، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل؛ فإن القوم معا جليَّ.
فلما قرىء كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر عثمان، فعظّم حقه، وحضّهم على نصره، وأمرهم بالمسير إليه. فتابعه ناس كثير، وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى، بلغهم مقتل عثمان رضي الله عنه، فرجعوا.
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر؛ أن اندب إلي أهل البصرة؛ نسخة كتابه إلى أهل اشأم.
فجمع عبد الله بن عامر الناس؛ فقرأ كتابه عليهم؛ فقامت خطباء من أهل البصرة يحضّونه على نصر عثمان والمسير إليه؛ فيهم مجاشع بن مسعود السُّلمي؛ وكان أوّل من تكلّم؛ وهو يومئذ سيّد قيس بالبصرة. وقام أيضًا قيس ابن الهيثم السُّلمي، فخطب وحضّ الناس على نصر عثمان؛ فسارع الناس إلى ذلك؛ فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود فسار بهم؛ حتى إذا نزل الناس الرَّبذة، ونزلت مقدّمته عند صرار - ناحية من المدينة - أتاهم قتل عثمان.
حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: كتب أهل مصر بالسُّقيا - أو بذي خشب - إلى عثمان بكتاب؛ فجاء به رجل منهم حتى دخل به عليه، فلم يردّ عليه شيئًا، فأمر به فأخرج من الدار؛ وكان أهل مصر الذين ساروا إلى عثمان ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رءوس أربعة، مع كلّ رجل منهم لواء؛ وكان جماع أمرهم جيمعًا إلى عرمو بن بديل بن ورقاء الخزاعي - وكان من أصحاب النبي ﷺ - وإلى عبد الرحمن بن عديس التُّجيبي؛ فكان فيما كتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ فالله الله! ثم الله الله! فإنك على دنيا فاستتمَّ إليها معها آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة؛ فلا تسوغ لك الدنيا. واعلم أنّا والله لله نغضب، وفي الله نرضى؛ وإنا لن نضعسيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرّحة، أو ضلالة مجلّحة مبلجة؛ فهذه مقالتنا لك، وقضيّتنا إليك، والله عذيرنا منك. والسلام.
وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبدًا حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله.
فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم، فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردّهم عنه، ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداد؛ فقال: إنّ القوم لن يقبولوا التعليل، وهم محمِّلي عهدًا؛ وقد كان منّي في قدمتهم الأولى ما كان؛ فمنتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به! فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين، مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب، فأعطهم ماسألوك، وطاولهم ما طاولوك؛ فإنما هم بغوا عليك، فلا عهد لهم.
فأرسل إلى علي فدعاه، فلما جاءه قال: يا أبا حسن؛ إنه قد كان من الناس ما قد رأيت، وكان مني ما قد علمت؛ ولست آمنهم على قتلي، فارددهم عني؛ فإن لهم الله عز وجل أن أعتبهم من كل ما يكرهن؛ وأن أعطيهم الحقّ من نفسي ومن غير؛ وإن كان في ذلك سفك دمي. فقال له عليٌّ: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك؛ وإي لأرى قومًا لا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهدًا من الله: لترجعنّ عن جميع ما نقم؛ فرددتهم عنك، ثم لم تف هلم بشيء من ذلك، لاتغرّني هذه المرة من شيء فإني معطيهم عيك الحقّ. قال: نعم، فأعطهم، فو الله لأفينّ لهم. فخرج عليٌّ إلى الناس، فقال: أيّها لاناس؛ إنكم إنما طلبتم الحقّ فقد أعطيتموه؛ إنّ عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره؛ وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه ووكدِّوا عليه. قال الناس: قد قبلنا فاستوثق منه لنا، فإنا والله لا نرضى بقول دون فعل. فقال هلم علي: ذلك لكم. ثم دخل عليه فأخبره الخبر، فقالعثمان: اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون لي فيه ملهة، فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد قال له علي: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصلو أمرك، قال: نعم؛ ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. قال عليٌّ: نعم، فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابًا أجله فيه ثلاثًا، على أن يردَّ كلّ مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهوه؛ ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عليه ناسًا من وجوه المهاجرين والأنصار، فكفّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أني في لهم بما أعطاهم من نفسه؛ فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسلاح - وقد كان اتَّخذ جندًا عظمًا من رقيق الخمس - فلما مضت الأيام الثلاثة - وهو على حاله لم يغيّر شيئًا مما كرهوه، ولم يعزل عاملًا - ثار به الناس. وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريين وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حتى قدموا المدينة، فأرسلوا إلى عثمان: ألم نفارقك على أنك زعمت أنك نائب من إحداثك، وراجع عما كرهنا منك؛ وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه! قال: بلى؛ أنا على ذلك، قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك؛ وكتبت به إلى عاملك؟ قال: ما فعلت ولا لي علم بما قولون. قالوا: بريدك على جملك، وكتاب كاتبك عليه خاتمك؛ قال: أمّا الجمل فمسروق، وقد يشبه الخطّ الخطّ، موأما الخاتم فانتقش عليه، قالوا: فإنا لا نعجّل عليك؛ إن كنا قد اتّهمناك، اعزل عنّا عمّالك الفسّاق، واستعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا وأموالنا، واردد عليها مظالمنا. قال عثمان: ما أراني إذًا في شيء إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم، الأمر إذًا أمركم! قالوا: والله لتفعلنّ أو لتعزلنّ أو لتقتلنّ، فانظر لنفسك أودع. فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالًا سربلنيه الله، فحصروه أربعين ليلة، وطلحة يصلِّي بالناس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أن عون، قال: حدثنا الحسن، قال: أنبأني وثّاب - قال: وكان فيمن أدركه عتق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، قال: ورأيت بحلقة أثر طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يومئذ يوم الدار - قال: بعثني عثمان، فدعوت له الأشتر، فجاء - قال ابن عون: فأظنّه قال: فطرحت لأمير المؤمنين وسادة وله وسادة - فقال: يا أشتر؛ ما يريد الناس مني؟ قال: ثلاثًا ليس من إحداهن بدٌّ؛ قال: ما هنَّ؟ قال: يخبرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا له من شئتم، وبين أن تقصَّ من نفسك؛ فإن أبيت هاتين فإنّ القوم قاتلوك. فقال: أما من إحداهن بدٌّ! قال: ما من إحداهنّ بدٌّ، فقال: أمّا أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالًا سربلنيه الله عز وجل - قال: وقال غيره: والله لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبُّ إلي من أن أخلع قميصًاَ قمّصنيه الله وأترك أمّة محمد ﷺ يعد وبعضها على بعض. قال ابن عون: وهذا أشبه بكلامه - وأمّا أن أقصّ من نفسي؛ فو الله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قد كانا يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وأما أن تقتلوني، فو الله لئن قتلتموني لا تتحابّون بعدي أبدًا، ولا تصلّون جميعًا بعدي أبدًا، ولا تقاتلون بعدي عدوًّا جميعًا أبدًا. قال: فقام الأشتر فانطلق؛ فمكثنا أيامًا. قال: مثم جاء رويجل كأنه ذئب، فاطّلع من باب، ثم رجع وجاء محمد بن أبي بكر وثلاثة عشر حتى انتهى إلى عثمان، فأخذ بلحيته، فقال بها حتى سمعت وقع أضراسه، وقال: ما أغني عنك معاوية، ما إغني عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتب! قال: أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي. قال: وأنا رأيته استعدي رجلًا من القوم بعينه، فقام إليه بمشقص حتى وجأ به في رأسه. قلت: ثم مه؛ قال: تغاووا عليه حتى قتلوه.
وذكر الواقدي أنّ يحيى بن عبد العزيز حدثه عن جعفر بن محمود، عن محمد بن مسلمة، قال: خرجت في نفر من قومي إلى المصريين وكان رؤساؤهم أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وعمرو بن الحمق الخزاعي - وقد كان هذا الاسم غلب حتى كان يقال: حبيس بن الحمق - وابن النِّباع. قال: فدخلت عليهم وهم في خباء لهم أربعتهم، ورأيت الناس لهم تبعًا، قال: فعظّمت حقّ عثمان وما في رقابهم من البيعة، وخوّفتهم بالفتنة، وأعلمتهم أنّ في قتله اختلافًا وأمرًا عظيمًا؛ فلا تكونوا أوّلأ من فتحه، وأنه ينزع عن هذه الخصال التي نقمتم منها عليه، وأنا ضامن لذلك. قال القوم: فإن لم ينزع؟ قال: قلت: فأمركم إليكم. قال: فانصرف القوم وهو راضون، فرجعت إلى عثمان، فقلت: أخلني فأخلاني، فقلت: الله الله يا عثمان في نفسك! إنّ هؤلاء القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أصحابك لك؛ لا بل هم يقوّون عدوّك عليك. قال: فأعطاني الرضا، وجزاني خيرًا. قال: ثمّ خرجت من عنده، فأقمت ما شاء الله أن أقيم.
قال: وقد تكلّم عثمان برجوع المصريين، وذكر أنهم جاءوا لأمر، فبلغهم غيره فانصرفوا، فأردت أن آتيه فأعنِّفه بهما، ثم سكتّ فإذا قائل يقول: قد قدم المصريون وهم بالسُّويداء، قال: قلت: أحقُّ ما تقول؟ قال: نعم، قال: فأرسل إلي عثمان.
قال: وإذا الخير قد جاءه، وقد نزل القوم من ساعتهم ذا خشب، فقال: يا أباعبد الرحمن، هؤلاء القوم قد رجعوا، فما الرأي فيهم؟ قال: قلت: والله ما أردي؛ إلّا أني أظن أنهم لم يرجعوا لخير. قال: فارجع إليهم فارددهم، قال: قلت: لا والله ما أنا بفاعل، قال: ولم؟ قال: لأنّي ضمنت لهم أمورًا تزع عنها فلم تنزع عن حرف واحد منها. قال: فقال: الله المستعان.
قال: وخرجت وقدم القوم وحلوا بالأسواف، وحصروا عثمان.
قال: وجاءني عبد الرحمن بن عبديس ومع سودان بن حمران وصاحباه، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ألم تعلم أنّك مكلّمتنا وراتنا وعمت أنّ صاحبنا نازعٌ عمّا نكره؟ فقلت بلى، قال: فإذا هم يخرجون إلي صحيفة صغيرة.
قال: وإذا قصبة من رصاص؛ فإذا هم يقولون: وجدنا جملًا من إبلالصدقة عليه غلام عثمان، فأخذنا متاعه ففتّشناه، فوجدنا فيه هذا الكتاب؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فإذا قدم عليك عبد الرحمن ابن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حتى يأتيك أمري؛ وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك، وسودان بن حمران مثل ذلك؛ وعروة بن النباع الليثي مثل ذلك. قال: فقلت: وما يدريكم أنّ عثمان كتب بهذا؟ قالوا: فيفتات مروان على عثمان بهذا! فهذا شرّ؛ فيخرج نفسه من هذا الأمر. ثم قالوا: انطلق معنا إليه، فقد كلمنا عليًّا، ووعدنا أن يكلّمه إذا صلى الظهر. وجئنا سعد بن أبي وقّاص، فقال: لا أدخل في أمركم. وجئنا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال مثل هذا؛ فقال محمد: فأين وعدكم علي؟ قالوا: وعدنا إذا صلى الظهر أن يدخل عليه.
قال محمد: فصليت مع علي، قال: ثم دخلت أنا وعلي عليه، فقلنا: إن هؤلاء المصريين بالبا، فأذن لهم - قال: ومروان عنده جالس - قال: فقال مروان: دعني جعلت فداك أكلّمهم! قال: فقال عثمان: فضّ الله فاك! اخرج عني؛ وما كلامك في هذا الأمر! قال: فخرج مروان، قال: وأقبل علي عليه - قالب: وقد أنهى المصريُّون إليه مثل الذي أنهوا إلي - قال: فجعل علي يخبره ما وجدوا في كتابهم. قال: فجعل يقسم بالله ما كتب ولا علم ولا شوور فيه. قال: فقال محمد بن مسلمة: والله إنه لصادق؛ ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: فأدخلهم عليك؛ فليسمعوا عذرك، قال: ثم أقبل عثمان على علي، فقال: إنّ لي قرابة ورحمًا؛ والله إنه لصادق؛ ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: فأدخلهم عليك؛ فليسمعوا عذرك، قال: ثم أقبل عثمان على علي، فقال: إنّ لي قرابة ورحمًا؛ والله لو كنت في هذه الحلقة لحللتها عنك؛ فاخرج إليهم، فكلِّمهم؛ فإنهم يسمعون منك. قال علي: والله ما أنا بفاعل؛ ولكن أدخلهم حتى تعتذر إليهم؛ قال: فادخلوا.
قال محمد بن مسلمة: فدخلوا يومئذ، فما سلّموا عليه بالخلافة، فعرفت أنه الشرّ بعينه؛ قالوا: سلام عليكم، فقلنا: وعليكم السلام، قال: فتكلَّم القوم وقد قدّموا في كلامهم ابن عديس، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر، وذكر تحاملًا منه على المسلمين وأهل الذمّة، وذكر استئثارًا منه في غنائم المسلمين؛ فإذا قيل له في ذلك، قال: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي، ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدنية، وما خالف به صاحبيه. قال: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع؛ مفردّنا علي ومحمد مبن مسلمة، وضمن لنا محمد النزوع عن كلّ ما تكلمنا فيه - ثم أقبلوا على محمد بن مسلمة، فقالوا: هل قلت ذاك لنا؟ قال محمد: فقلت: نعم - ثم رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عز وجل عليك ويكونن حجة لنا بعد حجّة حتى إذا كنا بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد، تأمره فيه بجلد ظهورنا، والمثل بنا في أشعارنا وطول الحبس لنا؛ وهذا كتابك.
قال: فحمد الله عثمان وأنثى عليه، ثم قال: والله ما كتبت ولا أمرت، ولا شوورت ولا علمت. قال: فقلت وعلي جميعًا: قد صدق. قال: فاستراح إليها عثمان، فقال المصريون: فمن كتبه؟ قال: لا أدري، قال: أفيجترأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات لامسلمين، وينقش على خاتمك، ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم! قال: نعم، قالوا: فليس مثلك يلي، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه قال: لا أنزع قميصًا مألبسنيه الله عز وجل. مقال: وكثرت الأصوات واللغط، فما كنت أظنّ أنهم يخرجون حتى يواثبوه. قال: وقام علي فخرج، قال: فلمّا قام علي قمت، قال: وقال للمصريين: اخرجوا، فخرجوا. قال: ورجعت إلى منزلي ورجع علي إلى منزله، فما برحوا محاصريه حتى قتلوه.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن سفيان بن أبي العوجاء، قال: قدم المصريّون القدمة الأولى، فكلتم عثمان محمد بن مسلمة، فخرج في خمسين راكبًا من الأنصار، فأتوهم بذي خشب فردّهم، ورجع القوم حتى إذا كانوا بالبويب، وجدوا غلامًا لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد، فكرّوا، فانتهوا إلى المدينة، وقد تخلّف بها من الناس الأشتر موحيم بن جمبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عثمان أن يكون كتبه، وقال: هذا مفتعل، قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك! قال: أجل؛ ولكنّه كتبه بغيرأمري، قالوا: فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؛ قال: أجل؛ ولكنه خرج بغير إذني، قالوا: فالجمل جملك، قال: أجل؛ ولكنه أخذ بغير علمي، قالوا: ما أنت إلّا صادق أو كاذب؛ فإن كنت كاذبًا فد استحققت مالخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقًا فقد استحققت أنتخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته. وقالوا له: إنّك ضربت رجالًا من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك؛ فأقدمن نفسك من ضربته وأنت له ظالم، فقال: الإمام يخطىء ويصيب؛ فلا أقيد من نفسي؛ لأني لو أقدت كلّ من أصبته بخطإ آتي على نفسي؛ قالوا: إنك قد أحدثت أحداثًا عظامًا فاستحققت بها الخلع؛ فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثم عدت إليها وإلى مثلها، ثم تدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق؛ ولامنا فيك محمد ابن مسلمة، وضمن لنا ما حدث من أمر، فأخفرته فتبرّأ منك، وقال: لا أدخل في أمره؛ فرجعنا أوّلأ مرة لنقطع محجّتك ونبلغ أقصى الإعذار إليك؛ نستظهر بالله عز وجل عليك؛ فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب. وزعمت أنه متب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عليك بذلك التُّهمة القبيحة، مع ما بلونا منك قبل ذلك ممن الجور في الحكم والأثرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس، والإظهار للتوبة، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة، ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من أصحاب رسول الله ﷺ من لم يحدث مثل مما جرّبنا منك، ولم يقع عليه من التُّهمة ما وقع عليك؛ فازدد خلافتنا؛ واعتزل أمرنا، فإنّ ذلك أسلم لنا منك، وأسلم لك منا.
فقال عثمان: فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسلوه؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. أمّا بعد، فإنكم لم تعدلوا في المنطق، ولم تنصفوا في القضاء؛ أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصًا قمَّصنيه الله عز وجل وأكرمني به، وخصّني به على غيري؛ ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون؛ فإني والله الفقير إلى الله الخائف منه. قالوا: إنّ هذا لو كان أوّلأ حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تقم عليه؛ لكان علينا أن نقبل منك، وأن ننصرف عنك؛ ولكنه قد كان منك من الإحداث قبل هذا ما قد علمت، ولقد انصرفنا عنك في المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا، ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك. وكيف نقبل توبتك وقد بلونا منك أنك لا تعطى من نفسك التوبة من ذنب إلّا عدت إليه؛ فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك من قومك وذوي مرحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم؛ حتى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله. مفقال عثمان: أمَّا أن أتبرَأ من الإمارة؛ فإن تصلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من أمر الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني؛ فإنّي لا آمر أحدًا بقتالكم، لقد كنت كتبت إلى الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق؛ فالله الله في أنفسكم فأبقوا عليها إن لم تبقوا علي؛ فإنكم مجتلبون بهذا الأمر - إن قتلتموني - دمًا. قال: ثمّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب، وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلّمه أن يردّهم، فقال: والله لا أكذب الله في سنة مرتين.
قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن مسلم، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: نظرت إلى سعد بن أبي وقاص يوم قتل عثمان؛ دخل عليه ثم خرج من عنده وهو يسترجع مما يرى على الباب؛ فقال له مروان: الآن تندم! أنت أشعرته. فأسمع سعدًا يقول: أستغفر الله، لم أكن أظنّ الناس يجترئون هذه الجرأة، ولا يطلبون دمه، وقد دخلت عليه الآن فتكلم بكلام لم تحضره أنت ولا أصحابك، فنزع عن كلّ ما كره منه، وأعطى التوبة، وقال: لا أتمادى في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق؛ فأنا أتوب وأنزع. فقال مروان: إن كنت تريد أن تذبّ عنه؛ فعليك بابن أبي طالب، فإنه متستّر، وهو لا يجبه؛ فخرج سعد حتى أتى عليًّا وهو بين القبر والمنبر، فقال: يا أبا حسن؛ قم فداك أبي وأمّي! جئتك والله بخير ما جاء به أحد قطّ إلى أحد، تصل رحم ابن عمّك، وتأخذ بالفضل عليه، وتحقن دمه، ويرجع الأمر على ما نحبّ، قد أعطى خليفتك من نفسه الرضا. فقال علي: تقبّل الله منه يا أبا إسحاق! والله ما زلت أذبّ عنه حتى إني لأستحي؛ ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد ابن العاص هم صنعوا به ما ترى؛ فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّني حتى جاء ما ترى. قال: فبينا هم كذلك جاء محمد بن أبي بكر. فسارّ عليًّا؛ فأخذ علي بيدي، ونهض علي وهو يقول: وأي خير توبته هذه! فوالله ما بلغت داري حتى سمعت الهائعة؛ أن عثمان قد قتل؛ فلم نزل والله في شرّ إلى يومنا هذا.
قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، قال: لما خرج المصريّون إلى عثمان رضي الله عنه، بعث عبد الله بن سعد رسولًا أسرع السير يعلم عثمان بمخرجهم، ويخبره أنهم يظهرون أنهم يريدون العمرة. فقدم الرسول على عثمان بن عفان، يخبرهم فتكلم عثمان، وبعث إلى أهل مكة يحذّر من هناك هؤلاء المصريين، ويخبّرهم أنهم قد طعنوا على إمامهم. ثمّ إن عبد الله بن سعد خرج إلى عثمان في آثار المصريين - وقد كان كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له - فقدم ابن سعد؛ حتى إذا كان بأيلة بلغه أنّ المصريين قد رجعوا إلى عثمان، وأنهم قد حصروه، ومحمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما بلغ محمدًا حصر عثمان وخروج عبد الله بن سعد عنه غلب على مصر، فاستجابوا له، فأقبل عبد الله بن سعد يريد مصر، فمنعه ابن أبي حذيفة، فوجّه إلى فلسطين، فأقام بها حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وأقبل المصريون حتى نزلوا بالأسواف، فحصروا عثمان، وقدم حكيم بن جبلة من البصرة في ركب، وقدم الأشتر في أهل الكوفة، فتوافوا بالمدينة، فاعتزل الأشتر؛ فاعتزل حكيم بن جبلة، وكان ابن عديس وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا على حصاره تسعة وأربعين يومًا، حتى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين.
قال محمد: وحدثني إبراهيم بن سالم، عن أبيه، عن بسر بن سعيد، قال: وحدثني عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة، قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه، فتحدثت عنده ساعة، فقال: يا بن عياش، تعال. فأخذ بيدي، فأسمعني كلام من على باب عثمان، فسمعنا كلامًا؛ منهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا علسى أن يراجع، فبينا أنا وهو واقفان إذ مرّ طلحة بن عبيد الله؛ فوقف فقال: أين ابن عديس؟ فقيل: ها هو ذا، قال: فجاءه ابن عديس، فناجاه بشيء، ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحدًا يدخل على هذا الرجل؛ ولا يخرج من عنده. قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله. ثم قال عثمان: اللهمّ اكفني طلحة بن عبيد الله، فإنه حمل علي هؤلاء وألّبهم؛ والله إني لأرجو أن يكون منها صفرًا، وأن يسفك دمه، إنه انتهك مني ما لا يحلّ له، سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فيقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم، أو رجل قتل نفسًا بغير نفس "، ففيم أقتل! قال: ثم رجع عثمان. قال ابن عياش: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى مرّ بي محمد بن أبي بكر فقال: خلّوه، فخلّوني.
قال محمد: حدثني يعقوب بن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: رأيت اليوم الذي دخل فيه على عثمان، فدخلوا من دار عمرو بن حزم خوخة هناك حتى دخلوا الدار، فناوشوهم شيئًا من مناوشة ودخلوا، فوالله ما نسينا أن خرج سودان بن حمران، فأسمعه يقول: أين طلحة بن عبيد الله؟ قد قتلنا ابن عفان! قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، عن أبي حفصة اليماني، قال: كنت لرجل من أهل البادية من العرب، فأعجبته - يعني مروان - فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا جميعًا؛ وكنت أكون معه، فلما حصر عثمان رضي الله عنه، شمّرت معه بنو أمية، ودخل معه مروان الدار. قال: فكنت معه في الدار، قال: فأنا والله أنشبت القتال بين الناس؛ رميت من فوق الدار رجلًا من أسلم فقتلته؛ وهو نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثم نزلت، فاقتتل الناس على الباب، وقاتل مروان حتى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز، وأغلقت عليه، وألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان، فاحترق بعضها، فقال عثمان: ما احترق الباب إلّا لما هو أعظم منه، لا يحرّكنّ رجل منكم يده؛ فوالله لو كنت أقصاكم لتخطّوكم حتى يقتلوني، ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول الله ﷺ، لأصرعنّ مصرعي الذي كتب الله عز وجل. فقال مروان: والله لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثم خرج بالسيف على الباب يتمثّل بهذا الشعر:
قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول
أنّي أروع أوّل الرعيل ** بفارةٍ مثل قطا الشليل
قال محمد: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن أبي حفصة، قال: لما كان يوم الخميس دلّيت حجرًا من فوق الدار، فقتلت رجلًا من أسلم يقال له نيار، فأرسلوا إلى عثمان: أن أمكنّا من قاتله. قال: والله ما أعرف له قاتلًا، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأوّل من طلع علينا كنانة بن عتّاب، في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا، قد فتح له من دار آل حزم، ثم دخلت الشعل على أثره تنضح بالنّفط؛ فقاتلناهم ساعة على الخشب، وقد اضطرم الخسب، فأسمع عثمان يقول لأصحابه: ما بعد الحريق شيء! قد احترق الخشب، واحترقت الأبواب، ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره؛ فإنما يريدني القوم، وسيندمون على قتلي؛ والله لو تركوني لظننت أني لا أحبّ الحياة؛ ولقد تغيّرت حالي، وسقط أسناني، ورقّ عظمي.
قال: ثم قال لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مروان، فقال: والله لا تقتل، ولا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثم خرج إلى الناس. فقلت: ما لمولاي متّرك! فخرجت معه أذبّ عنه، ونحن قليل، فأسمع مروان يتمثّل:
قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول
ثم صاح: من يبارز؟ وقد رفع أسفل درعه؛ فجعله في منطقته. قال: فيثب إليه ابن النباع فضربه ضربة على رقبته من خلفه فأثبته؛ حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم بن العدي. قال: فكان عبد الملك وبنو أميّة يعرفون ذلك لآل العدي.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن ابن الحراث بن أبي بكر، عن أبيه أبي بكر بن الحارث بن هشام، قال: كأني أنظر إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو مسند ظهره إلى مسجد نبي الله ﷺ وعثمان بن عفان رضي الله عنه محصور، فخرج مروان بن الحكم، فقال من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان ابن عروة: قم إلى هذا الرجل، فقام إليه غلام شابّ طوال؛ فأخذ رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فأعور له عن ساقه، فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه، فكأني أنظر إليه حين استدار. وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرفي ليدفّف عليه، قال: فوثبت عليه فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم ابن عدي - قال: وكانت أرضعت مروان وأرضعت له - فقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل؛ وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. قال: فكفّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها، فاستعلموا ابنها إبراهيم بعد.
وقال ابن إسحاق: قال عبد الرحمن بن عديس البلوي حين سار إلى المدينة من مصر:
أقبلن من بلبيس والصّعيد ** مستحقبات حلق الحديد
يطلبن حقّ الله في سعيد ** حتى رجعن بالذي نريد
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، قال: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عثمان رضي الله عنه، وأبى إلّا الإقامة على أمره، وأرسل إلى حشمه وخاصّته فجمعهم، فقام رجل من أصحاب النبي ﷺ يقال له نيار بن عياض - وكان شيخًا كبيرًا - فنادى: يا عثمان؛ فأشرف عليه من أعلى داره؛ فناشده الله، وذكّره الله لمّا اعتزلهم! فبينا هو يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أنّ الذي رماه كثير بن الصلت الكندي؛ فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي؛ فلمّا رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه؛ وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة في عصابة؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مددًا من أهل البصرة قد نزلوا صرارًا - وهي من المدينة على ليلة - وأن أهل الشام قد توجّهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا على باب الدار، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزًا:
قد علمت جارية عطبول ** لها وشاح ولها حجول
أتى بنصل السيف خنشليل
فحمل عليه عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وهو يقول:
إن تك بالسّيف كما تقول ** فاثبت لقرن ماجد يصول
بمشرفي حدّه مصقول
فضربه عبد الله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي على مروان بن الحكم، فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى أنه قتله؛ وجرح عبد الله بن الزبير جراحات، وانهزم القوم حتى لجئوا إلى القصر، فاعتصموا ببابه، فاقتتلوا عليه قتالًا شديدًا، فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو ابن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفان، ثمّ نادى الناس فأقبلوا عليه من داره، فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا، وخلّى لهم عن باب الدار؛ فخرجوا هرّابًا في طرق المدينة؛ وبقي عثمان في أناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه؛ وقتل عثمان رضي الله عنه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري، قال: أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه ذات يوم، فقال: السلام عليكم، قال: فما سمع أحدًا من الناس ردّ عليه إلّا أن يردّ رجل في نفسه، فقال: أنشدكم بالله هل علمتم أني اشتريت رومة من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين! قال: قيل: نعم. قال: فما يمنعني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر! قال: أنشدكم الله هل علمتم أنّي اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أحدًا من الناس منع أن يصلّي فيه قبلي! قال: أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله ﷺ يذكر كذا وكذا؛ أشياء في شأنه، وذكر الله إياه أيضًا في كتابه المفصّل. قال: ففشا النهى.
قال: فجعل الناس يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين، قال: وفشا النهي. قال: وقام الأشتر - قال: ولا أدري يومئذ أو في يوم آخر - فقال: لعله قد مكر به وبكم! قال: فوطئه الناس، حتى لقي كذا وكذا، قال: فرأيته أشرف عليهم مرّة أخرى، فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ فيهم الموعظة. وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة أوّل ما يسمعونها؛ فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم. قال: ثم إنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه. قال: وذاك أنه رأى من الليل أنّ نبي الله ﷺ يقول: " أفطر عندنا الليلة ".
قال أبو المعتمر: فحدثنا الحسن: أنّ محمد بن أبي بكر دخل عليه فأخذ بلحيته. قال: فقال له: قد أخذت منّا مأخذًا، وقعدت مني مقعدًا ما كان أبو بكر ليقعده أو ليأخذه. قال: فخرج وتركه. قال: ودخل عليه رجل يقال له الموت الأسود. قال: فخنقه تم خفقه. قال: ثم خرج فقال: والله ما رأيت شيئًا قطّ ألين من حلقه؛ والله لقد خنقته حتى رأيت نفسه يتردّد في جسده كنفس الجانّ. قال: فخرج.
قال في حديث أبي سعيد: دخل على عثمان رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله - قال: والمصحف بين يديه - قال: فيهوي له بالسيف، فاتّقاه بيده، فقطعها، فقال: لا أدري أبانها أم قطعها ولم يبنها. قال: فقال: أما والله إنها لأوّل كفّ خطّت المفصّل. وقال في غير حديث أبي سعيد: فدخل عليه التجيبي، فأشعره مشقصًا فانتضح الدم على هذه الآية: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ". قال: فإنها في المصحف ما حكّت.
قال: وأخذت ابنة الفرافصة - في حديث أبي سعيد - حليها فوضعته في حجرها، وذلك قبل أن يقتل، قال: فلما أشعر - أو قال: قتل - ناحت عليه. قال: فقال بعضهم: قاتلها الله! ما أعظم عجيزتها! قال: فعلمت أن عدوّ الله لم يرد إلّا الدنيا.
وأما سيف، فإنه قال - فيما كتب إلى السري، عن شعيب، عنه: ذُكر عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إنّ الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إنّ الدنيا تفنى، والآخرة تبقى؛ فلا تبطرنّكم الفانية، ولا تشغلنّكم عن الباقية؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى؛ فإن الدنيا منقطعة؛ وإنّ المصير إلى الله. اتقوا الله جلّ وعزّ، فإنّ تقواه جنّة من بأسه، ووسيلة عنده؛ واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم، لا تصيروا أحزابًا، " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ".
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما قضى عثمان في ذلك المجلس حاجاته وعزم وعزم له المسلمون على الصبر والامتناع عليهم بسلطان الله، قال: اخرجوا رحمكم الله فكونوا بالباب، وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني. وأرسل إلى طلحة والزبير وعلي وعدّة: أن ادنوا. فاجتمعوا فأشرف عليهم، فقال: يأيّها الناس؛ اجلسوا، فجلسوا جميعًا؛ المحارب الطارىء، والمسالم المقيم، فقال: يا أهل المدينة؛ إنّي أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي؛ وإنّي والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاءهه؛ ولأدعنّ هؤلاء وما وراء بابي غير معطيهم شيئًا يتّخذونه عليكم دخلا في دين الله أو دنيا حتى يكون الله عز وجل الصانع في ذلك ما أحبّ. وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلّا الحسن ومحمدًا وابن الزبير وأشباهًا لهم؛ فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم؛ وثاب إليهم ناس كثير، ولزم عثمان الدار.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة، قالوا: كان الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة، قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قد تهيّأ إليهم من الآفاق: حبيب من الشأم، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الكوفة، ومجاشع من البصرة؛ فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان؛ ومنعوه كلّ شيء حتى الماء؛ وقد كان يدخل علي بالشيء مما يريد. وطلبوا العلل فلم تطلع عليهم علّة، فعثروا في داره بالحجارة ليرموا؛ فيقولوا: قوتلنا - وذلك ليلًا - فناداهم: ألا تتّقون الله! ألا تعلمون أنّ في الدار غيري! قالوا: لا والله ما رميناك. قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله، قال: كذبتم؛ إنّ الله عز وجل لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئوننا. وأشرف عثمان على آل حزم وهم جيرانه؛ فسرّح ابنًا لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئًا من الماء فافعلوا. وإلى طلحة وإلى الزبير، وإلى عائشة رضي الله عنها وأزواج النبي ﷺ؛ فكان أوّلهم إنجادًا له علي وأمّ حبيبة؛ جاء علي في الغلس، فقال: يأيّها الناس؛ إنّ الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين؛ لا تقطعوا عن هذا الرجل المادّة؛ فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي؛ وما تعرّض لكم هذا الرجل؛ فبم تستحلّون حصره وقتله! قالوا: لا والله ولا نعمة عين؛ لا نتركه يأكل ولا يشرب؛ فرمى بعمامته في الدار بأنّي قد نهضت فيما أنهضتني؛ فرجع. وجءات أم حبيبة على بغلة لها برحالة مشتملةً على إداوة، فقيل: أم المؤمنين أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إنّ وصايا بني أميّة إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل. قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فندّت بأمّ حبيبة، فتلقّاها الناس، وقد مالت رحالتها، فتعلّقوا بها وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها. وتجهزّت عائشة خارجة إلى الحجّ هاربة، واستتبعت أخاها، فأبى؛ فقالت: أما والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلنّ.
وجاء حنظلة الكاتب حتى قام على محمد بن أبي بكر، فقال: يا محمد، تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحلّ فتتبعهم! فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمّية! فقال: يا بن الخثعميّة؛ إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف، وانصرف وهو يقول:
عجبت لما يخوض الناس فيه ** يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ** ولاقوا بعدها ذلًّا ذليلا
وكانوا كاليهود أو النصارى ** سواء كلّهم ضلّوا السبيلا
ولحق بالكوفة. وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظًا على أهل مصر، وجاءها مروان بن الحكم فقال: يا أمّ المؤمنين؛ لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأمّ حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني! لا والله ولا أعيّر ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء! وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات، عليهم الرقباء، فأشرف عثمان على الناس، فقال: يا عبد الله بن عباس - فدعى له - فقال: اذهب فأنت على الموسم - وكان ممّن لزم الباب - فقال: والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحبّ إلي من الحج؛ فأقسم عليه لينطلقنّ. فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة؛ ورمى عثمان إلى الزبير بوصيّته، فانصرف بها - وفي الزبير اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله - وقال عثمان: " يا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح.. " الآية، اللهم حل بين الأحزاب وبين ما يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، قال: بعثت ليلى ابنة عميس إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فقالت: إنّ المصباح يأكل نفسه، ويضيء للناس؛ فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما؛ فإنّ هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدًا، فاتّقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم؛ فلجّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان؛ وتقول: ما صنع بكما! ألّا ألزمكما الله! فلقيهما سعيد بن العاص، وقد كان بين محمد بن أبي بكر وبينه شيء، فأنكره حين لقيه خارجًا من عند ليلى، فتمثل له في تلك الحال بيتًا:
استبق ودّك للصّديق ولا تكن ** فيئًا يعضّ بخاذل ملجاجا
فأجابه سعيد متمثلًا:
ترون إذًا ضربًا صميمًا من الذي ** له جانب ناءٍ عن الجرم معور
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: فلمّا بويع الناس جاء السابق فقدم بالسلامة، فأخبرهم من الموسم أنهم يريدون جميعًا المصريين وأشياعهم، وأنهم يريدون أن يجمعوا ذلك إلى حجّهم؛ فلمّا أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار، أعلقهم الشيطان، وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلّا قتل هذا الرجل؛ فيشتغل بذلك الناس عنّا، ولم يبق خصلة يرجون بها النجداة إلا قتله. فراموا الباب؛ فمنعهم من ذلك الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، واجتلدوا، فناداهم عثمان: الله الله! أنتم في حلٍّ من نصرتي فأبوا، ففتح الباب، وخرج ومعه الترس والسيف لينهنههم؛ فلما رأوه أدبر المصريون، وركبهم هؤلاء، ونهنههم فتراجعوا وعظم على الفريقين، وأقسم على الصحابة ليدخلنّ، فأبوا أن ينصرفوا، فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين - وقد كان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حجّ، ثم تعجّل في نفر حجّوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل وشهد المناوشة، ودخل الدار فيمن دخل وجلس على الباب من داخل؛ وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألّا ندعهم حتى نموت! فاتّخذ عثمان تلك الأيام القرآن نحبًا، يصلّى وعنده المصحف؛ فإذا أعيا جلس فقرأ فيه - وكانوا يرون القراءة في المصحف من العبادة - وكان القوم الذين كفكفهم بينه وبين الباب؛ فلما بقي المصريون لا يمنعهم أحد من الباب ولا يقدرون على الدخول جاءوا بنار، فأحرقوا الباب والسقيفة، فتأجّج الباب والسقيفة؛ حتى إذا احترق الخشب خرّت السقيفة على الباب، فثار أهل الدار وعثمان يصلّي؛ حتى منعوهم الدخول؛ وكان أول من برز لهم المغيرة بن الأخنس، وهو يرتجز:
قد علمت جارية عطبول ** ذات وشاح ولها جديل
أنّي بنصل السيف خنشليل ** لأمنعنّ منكم خليلي
بصارم ليس بذي فلول
وخرج الحسن بن علي وهو يقول:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ** حتى أسير إلى طمار شمام
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ** وردّ أحزابًا على رغم معدّ
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
صبرنا غداة الدار والموت واقب ** بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنّا غداة الروع في الدار نصرة ** نشافههم بالضّرب والموت ثاقب
فكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير؛ وأمره عثمان أن يصير إلى أبيه في وصيّة بما أراد، وأمره أن يأتي أهل الدار فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم؛ فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم؛ فما زال يدّعي بها، ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة، وقد افتتح " طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " - وكان سريع القراءة، فما كرثه ما سمع، وما يخطىء وما يتتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه - ثم عاد فجلس إلى عند المصحف وقرأ: " الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه:
قد علمت ذات القرون الميل ** والحلي والأنامل الطفول
لتصدقنّ بيعتي خليلي ** بصارم ذي رونق مصقول
لا أستقيل إن أقلت قيلي
وأقبل أبو هريرة، والناس محجمون عن الدار إلا أولئك العصبة، فدسروا فاستقتلوا، فقام معهم، وقال: أنا إسوتكم؛ وقال هذا يوم طاب امضرب - يعني أنه حلّ القتال، وطاب وهذه لغة حمير - ونادى: يا قوم، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار! وبادر مروان يومئذ ونادى: رجل رجل، فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع؛ فاختلفا، فضربه مروان أسفل رجليه، وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه، فانكبّ مروان، واستلقى، فاجترّ هذا أصحابه، واجترّ الآخر أصحابه؛ فقال المصريون: أما والله لولا أن تكونوا حجة علينا في الأمة لقد قتلناكم بعد تحذير، فقال المغيرة: من يبارز؟ فبرز له رجل فاجتلد، وهو يقول:
أضربهم باليابس ** ضرب غلام بائس
من الحياة آيس
فأجابه صاحبه** وقال الناس: قتل المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: إنا لله! فقال له عبد الرحمن بن عديس: مالك؟ قال: إني أتيت فيما يرى النائم، فقيل لي: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار؛ فابتُليت به، وقتل فباث الكناني نيار بن عبد الله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملئوها ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القباس على أبنائهم؛ فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم، وندبوا رجلًا لقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت، فقال: اخلعها وندعك، فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهليّة ولا إسلام، ولا تغنّيت ولا تمنّيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله ﷺ؛ ولست خالعًا قميصًا كسانيه الله عز وجل، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشقاء.
فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: علقنا والله؛ والله ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحلّ لنا قتله؛ فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث، فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي؛ فقال: لستَ بصاحبي، قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي ﷺ في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فلن تضيع؛ فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلًا من قريش، فقال: يا عثمان؛ إني قاتلك، قال: كلّا يا فلان، لا تقتلني، قال: وكيف؟ قال: إنّ رسول الله ﷺ استغفر لك يوم كذا وكذا؛ فلن تقارف دمًا حرامًا. فاستغفر ورجع، وفارق أصحابه فأقبل عبد الله بن سلام حتى قام على باب الدار ينهاهم عن قتله، وقال: يا قوم لا تسلّوا سيف الله عليكم؛ فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إنّ سلطانكم اليوم يقوم بالدّرّة؛ فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إنّ مدينتكم محفوفة بملائكة الله؛ والله لئن قتلتموه لتتركنّها؛ فقالوا: يا بن اليهودية؛ وما أنت وهذا! فرجع عنهم.
قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب! هل لي إليك جرم إلّا حقّه أخذته منك! فنكل ورجع.
قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان ابن حمران السكونيّان والغافقي؛ فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف، فاستقرّ بين يديه؛ وسالت عليه الدماء؛ وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبّت عليه نائلة ابنة الفرافصة، واتّقت السيف بيدها، فتعمّدها، ونفح أصابعها، فأطنّ أصابع يدها وولّت؛ فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه - وقد كان عثمان أعتق من كفّ منهم - فلمّا رأوا سودان قد ضربه، أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت؛ وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى. فلما خرجوا إلى الدار، وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا؛ حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة - والرجل يدعى كلثوم بن تجيب - فتنحّت نائلة، فقال: ويح أمّك من عجيزة ما أتمّك! وبصر به غلام لعثمان فقتله وقتل، وتنادى القوم: أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه؛ وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم؛ وليس فيه إلّا غرارتان، فقالوا: النجاء؛ فإن القوم إنّما يحاولون الدنيا، فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتّانىء يسترجع ويبكي، والطارىء يفرح. ندم القوم، وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلّا يشهد مقتله، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحم الله عثمان. وانتصر له؛ وقيل: إنّ القوم نادمون؛ فقال: دبّروا دبّروا، " وحيل بينهم وبين ما يشتهون.. " الآية. وأتى الخبر طلحة، فقال: رحم الله عثمان! وانتصر له وللإسلام؛ وقيل له: إن القوم نادمون، فقال تبًّا لهم! وقرأ: " فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون ". وأتى عليٌّ فقيل: قتل عثمان، فقال رحم الله عثمان، وخلف علينا بخير! وقيل: ندم القوم، فقرأ: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.. "، الآية. وطلب سعد، فإذا هو في حائطه، وقد قال: لا أشهد قتله، فلما جاءه قتله قال: فررنا إلى المدنية تدنينا؛ وقرأ: " الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا ". اللهمّ أندمهم ثم خذهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن لامجالد، عن الشعبي، عن المغيرة بن شعبة، قال: قلت لعلي: إنّ هذا الرجل مقتول؛ وإنّه إن قتل وأنت بالمدينة اتّخذوا فيك، فاخرج فكن بمكان كذا وكذا؛ فإنك إن فعلت وكنت في غار باليمن طلبك الناس؛ فأبى وحصر عثمان اثنين وعشرين يومًا؛ ثم أحرقوا الباب؛ وفي الدار أناس كثير؛ فيهم عبد الله بن الزبير ومروان، فقالوا: ائذن لنا؛ فقال: إنّ رسول الله ﷺ عهد إلي عهدًا، فأنا صابر عليه؛ وإنّ القوم لم يحرقوا باب الدار إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه؛ فأحرّج على رجل يستقتل ويقاتل؛ وخرج الناس كلهم؛ ودعا بالمصحف يقرأ فيه والحسن عنده، فقال: إنّ أباك الآن لفي أمر عظيم، فأقسمت عليك لما خرجت! وأمر عثمان أبا كرب - رجلًا من همدان - وآخر من الأنصار أن يقوما على باب بيت المال؛ وليس فيه إلا غرارتان من ورق؛ فلما أطفئت النار بعد ما ناوشهم ابن الزبير ومروان، وتوعّد محمد بن أبي بكر ابن الزبير ومروان؛ فلما دخل على عثمان هربا. ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان؛ فأخذ بلحيته، فقال: أرسل لحيتي؛ فلم يكن أبوك ليتناولها. فأرسلها؛ ودخلوا عليه؛ فمنهم من يجؤه بنعل سيفه، وآخر يلكزه؛ وجاءه رجل بمشاقص معه، فوجأه في ترقوته، فسال الدم على المصحف وهم في ذلك يهابون في قتله؛ وكان كبيرًا؛ وغشي عليه. ودخل آخرون فلما رأوه مغشيًّا عليه جرّوا برجله؛ فصاحت نائلة وبناته؛ وجءا التجيبي مخترطًا سيفه ليضعه في بطنه، فوقته نائلة، فقطع يدها، واتّكأ بالسيف عليه في صدره. وقتل عثمان رضي الله عنه قبل غروب الشمس، ونادى مناد: ما يحلّ دمه ويحرج ماله؛ فانتهبوا كلّ شيء، ثم تبادروا بيت المال، فألقى الرجلان المفاتيح ونجوا، وقالوا: الهرب الهرب! هذا ما طلب القوم.
وذكر محمد بن عمر، أنّ عبد الرحمن بن عبد العزيز حدثه عن عبد الرحمن ابن محمد، أنّ محمد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حمران، وعمرو بن الحمق؛ فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة، فتقدّمهم محمد بن أبي بكر؛ فأخذ بلحية عثمان، فقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال عثمان: لست بنعثل؛ ولكني عبد الله وأمير المؤمنين. قال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان! فقال عثمان: يا بن أخي، دع عنك لحيتي؛ فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك؛ وما أريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك؛ قال عثمان: أستنصر الله عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمشقص في يده. ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده، فوجأ بها في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثمّ علاه بالسيف حتى قتله؛ فقال عبد الرحمن: سمعت أبا عون يقول: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدّم رأسه بعمود حديد، فخرّ لجبينه، فضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه فقتله.
قال محمد بن عمر: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزنّاد، عن عبد الرحمن ابن الحراث، قال: الذي قتله كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي. وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحجّ؛ وما علمنا لعثمان بقتل؛ حتى إذا كنّا بالعرج سمعنا رجلًا يتغنّى تحت الليل:
ألا إنّ خير الناس بعد ثلاثة ** قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
قال: وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات. قال عمرو: فأما ثلاث منهنّ فإني طعنتهنّ إيّاه لله؛ وأما ستّ فإني طعنتهن إيّاه لما كان في صدري عليه.
قال محمد: وحدثني إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة، قال: رأيت عروة بن شيَيْم ضرب مروان يوم الدار بالسيف على رقبته، فقطع إحدى علباويه، فعاش مروان أوقص؛ ومروان الذي يقول:
ما قلت يوم الدار للقوم حاجزوا ** رويدًا ولا استبقوا الحياة على القتل
ولكنّي قد قلت للقوم ماصعوا ** بأسيافكم كيما يصلن إلى الكهل
قال محمد الواقدي: وحدثني يوسف بن يعقوب، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال: كان حصر عثمان قبل قدوم أهل مصر، فقدم أهل مصر يوم الجمعة، وقتلوه في الجمعة الأخرى.
وحدثني عبد الله بن أحمد المروزوي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن حرملة بن عمران، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، قال: وليَ قتلَ عثمان نهران الأصبحي، وكان قاتل عبد الله بن بسرة؛ وهو رجل من بني عبد الدار.
قال محمد بن عمر: وحدثني الحكم بن القاسم، عن أبي عون مولى المسور بن مخرمة، قال: مازال المصرّيون كافّين عن دمه وعن القتال؛ حتى قدمت أمداد العراق من البصرة ومن الكوفة ومن الشأم؛ فلما جاءوا شجعوا القوم؛ وبلغهم أنّ البعوث قد فصلت من العراق ومن مصر من عند ابن سعد؛ ولم يكن ابن سعد بمصر قبل ذلك؛ كان هاربًا قد خرج إلى الشأم، فقالوا: نعاجله قبل أن تقدم الأمداد.
قال محمد: وحدثني الزبير بن عبد الله، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: أشرف عثمان عليهم وهو محصور؛ وقد أحاطوا بالدّار من كلّ ناحية، فقال: أنشدكم بالله جلّ وعزّ؛ هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يخير لكم، وأن يجمعكم على خيركم! فما ظنّكم بالله! أتقولونه: لم يستجب لكم، وهنتم على الله سبحانه، وأنتم يومئذ أهل حقّه من خلقه، وجميع أموركم لم تتفرق! أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولّاه، والدّين يومئذ يعبد به الله ولم يتفرّق أهله؛ فتوكّلوا أو تخذلوا، وتعاقبوا! أم تقولون: لم يدر الله ما عاقبة أمري؛ فكنت في بعض أمري محسنًا، ولأهل الدين رضًا، فما أحدثت بعد في أمري ما يسخط الله، وتسخطون مما لم يعلم الله سبحانه يوم اختارني وسربلني سربال كرامته! وأنشدكم بالله، هل تعلمون لي من سابقة خير وسلف خير قدّمه الله لي، وأشهدنيه من حقه! وجهاد عدوّه حقّ على كلّ من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها. فمهلًا، لا تقتلوني؛ فإنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إسلامه، أو تقل نفسًا بغير نفس فيقتل بها؛ فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم؛ ثم لم يرفعه الله عز وجل عنكم إلى يوم القيامة. ولا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني لم تصلّوا من بعدي جميعًا أبدًا، ولم تقتسموا بعدي فيئًا جميعًا أبدًا، ولن يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا.
قالوا له: أمّا ما ذكرت من استخارةِ الله عز وجل الناس بعد عمر رضي الله عنه فيمن يولّون عليهم، ثم ولّوك بعد استخارة الله؛ فإنّ كلّ ما صنع الله الخيرة؛ ولكن الله سبحانه جعل أمرك بليّةً ابتلى بها عباده. وأما ما ذكرت من قدمك وسبقك مع رسول الله ﷺ، فإنك قد كنت ذا قدمٍ وسلفٍ، وكنت أهلًا للولاية؛ ولكن بدّلت بعد ذلك، وأحدثت ما قد علمت. وأما ما ذكرت مما يصيبنا إن نحن قتلناك من البلاء؛ فإنه لا ينبغي ترك إقامة الحقّ عليك مخافة الفتنة عامًا قابلًا. وأما قولك: إنه لا يحلّ إلّا قتل ثلاثة؛ فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت؛ قتل من سعى في الأرض فسادًا، وقتل من بغى ثم قاتل لعى بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه؛ وقد بغيت، ومنعت الحقّ، وحلت دونه؛ وكابرت عليه؛ تأبى أن تقيد من نفسك من ظلمت عمدًا، وتمسّكت بالإمارة علينا وقد جرت في حكمك وقسمك! فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه، وأنّ الذين قاموا دونك ومنعوك منّا إنما يقاتلون بغير أمرك؛ فإنما يقاتلون لتمسّكك بالإمارة؛ فلو أنّك خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال دونك.
ذكر بعض سير عثمان بن عفان رضي الله عنه
حدثني زياد بن أيّوب، قال: حدثنا هشيم، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد؛ فإذا أنا بعثمان بن عفان متّكئًا على ردائه، فأتاه سقّاءان يختصمان، فقضى بينهما.
وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمارة بن القعقاع، عن الحسن البصري، قال: كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلّا بإذن وأجلٍ، فشكوه فبلغه، فقام فقال: ألا إنّي قد سننت الإسلام سنّ البعير؛ يبدأ فيكون جذعًا، ثم ثنيًّا، ثم رباعيًّا، ثم سديسًا، ثم بازلا، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان! ألا فإنّ الإسلام قد بزل. ألا وإنّ قريشًا يريدون أن يتّخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا؛ إني قائم دون شعب الحرّة، آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا، ورآهم الناس، انقطع إليهم من لم يكن له طول ولا مزيّة في الإسلام؛ فكان مغمومًا في الناس، وصاروا أوزاعًا إليهم وأمّلوهم، وقتدّموا في ذلك فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أوّل وهنٍ دخل على الإسلام؛ وأوّل فتنة كانت في العامّة، ليس إلا ذلك.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملّته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة، فامتنع عليهم، وقال: إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد؛ فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو - وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين؛ ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة - فيقول: قد كان في غزوك مع رسول الله ﷺ ما يبلّغك؛ وخير لك من الغزو اليوم ألّا ترى الدنيا ولا تراك، فلما ولي عثمان خلّى عنهم، فاضطربوا في البلاد، وانقطع إليهم الناس، فكان أحبّ إليهم من عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما ولي عثمان حجّ سنواته كلها إلا آخر حجّة، وحجّ بأزواج رسول الله ﷺ كما كان يصنع عمر؛ فكان عبد الرحمن بن عوف في موضعه؛ وجعل في موضع نفسه سعيد بن زيد؛ هذا في مؤخّر القطار، وهذا في مقدّمه، وأمن الناس؛ وكتب في الأمصار أن يوافيه العمّال في كلّ موسم ومن يشكونهم. وكتب إلى الناس إلى الأمصار؛ أن ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، ولا يذلّ المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلومًا إن شاء الله. فكان الناس بذلك، فجرى ذلك إلى أن اتّخذه أقوامٌ وسيلةً إلى تفريق الأمة.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لم تمض سنة من إمارة عثمان حتى اتّخذ رجال من قريش أموالًا في الأمصار، وانقطع إليهم الناس، وثبتوا سبع سنين، كلّ قوم يحبّون أن يليَ صاحبهم. ثم إنّ ابن السوداء أسلم، وتكلّم وقد فاضت الدنيا، وطلعت الأحداث على يديه، فاستطالوا عمر عثمان رضي الله عنه.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عثمان بن حكيم ابن عبّاد بن حنيف، عن أبيه، قال: أوّل منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا، وانتهى وسع الناس طيران الحمام والرّمي على الجلاهقات، فاستعمل عليها عثمان رجلًا من بني ليث سنة ثمان، فقصّها وكسر الجلاهقات.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عمرو بن شعيب، قال: أوّل من منع الحمام الطيّارة والجلاهقات عثمان؛ ظهرت بالمدينة فأمرّ عليها رجلًا، فمنعهم منها.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، عن أبيه نحوًا منه؛ وزاد: وحدث بين الناس النشو. قال: فأرسل عثمان طائفًا يطوف عليهم بالعصا، فمنعهم من ذلك، ثم اشتدّ ذلك فأفشى الحدود، ونبّأ ذلك عثمان، وشكاه إلى الناس، فاجتمعوا على أن يجلدوا في النبيذ، فأخذ نفر منهم فجلدوا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما حدثت الأحداث بالمدينة خرج منها رجال إلى الأمصار مجاهدين، وليدنوا من العرب؛ فمنهم من أتى البصرة، ومنهم من أتى الكوفة، ومنهم من أتى الشام، فهجموا جميعًا من أبناء المهاجرين بالأمصار على مثل ما حدث في أبناء المدينة إلّا ما كان من أبناء الشام، فرجعوا جميعًا إلى المدينة إلّا من كان بالشام، فأخبروا عثمان بخبرهم؛ فقام عثمان في الناس خطيبًا، فقال: يا أهل المدينة؛ أنتم أصل الإسلام؛ وإنّما يفسد الناس بفسادكم، ويصلحون بصلاحكم؛ والله والله والله لا يبلغني عن أحد منكم حدث أحدثه إلّا سيّرته؛ ألا فلا أعرفنّ أحدًا عرض دون أولئك بكلام ولا طلب، فإنّ من كان قبلكم كانت تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد منهم بما عليه ولا له. وجعل عثمان لا يأخذ أحدًا منهم على شرّ أو شهر سلاح: عصًا فما فوقها إلّا سيّره؛ فضجّ آباؤهم من ذلك حتى بلغه أنهم يقولون: ما أحدث التسيير إلّا أنّ رسول الله ﷺ سيّر الحكم بن أبي العاص، فقال: إنّ الحكم كان مكيًّا، فسيّره رسول الله ﷺ منها إلى الطائف، ثم ردّه إلى بلده؛ فرسول الله ﷺ سيّره بذنبه، ورسول الله ﷺ ردّه بعفوه. وقد سيّر الخليفة من بعده؛ وعمر رضي الله عنه من بعد الخليفة، وايمُ الله لآخذنّ العفو من أخلاقكم، ولأبذلنّه لكم من خلقي؛ وقد دنت أمور، ولا أحبّ أن تحلّ بنا وبكم؛ وأنا على وجلٍ وحذر، فاحذروا واعتبروا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ويحيى بن سعيد، قالا: سأل سائل سعيد بن المسيّب عن محمد بن أبي حذيفة: ما دعاه إلى الخروج على عثمان؟ فقال: كان يتيمًا في حجر عثمان، فكان عثمان والي أيتام أهل بيته؛ ومحتمل كلّهم؛ فسأل عثمان العمل حين وُلّيَ، فقال: يا بني، لو كنت رضًا ثم سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هناك! قال: فأذن لي فلأخرج فلأطلب ما يقوتني، قال: اذهب حيث شئت؛ وجهّزه من عنده، وحمله وأعطاه، فلما وقع إلى مصر كان فيمن تغيّر عليه أن منعه الولاية. قيل: فعمّار بن ياسر؟ قال: كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عثمان، فأورث ذاك بين آل عمّار وآل عتبة شرًا حتى اليوم، وكنى عمّا ضربا عليه وفيه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت، قال: فسألت ابن سليمان بن أبي حثمة، فأخبرني أنه تقاذف.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، قال: سألت سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر: ما دعاه إلى ركوب عثمان؟ فقال: الغضب والطمع، قلت: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من الإسلام بالمكان الذي هو به، وغرّه أقوام فطمع. وكانت له دالّة فلزمه حقّ، فأخذه عثمان من ظهره، ولم يدهن؛ فاجتمع هذا إلى هذا، فصار مذمّما بعد أن كان محمّدا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، عن سالم بن عبد الله، قال: لما ولّيَ عثمان لان لهم، فانتزع الحقوق انتزاعًا، ولم يعطّل حقًّا، فأحبّوه على لينه، فأسلمهم ذلك إلى أمر الله عز وجل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم، قال: كان مما أحدث عثمان فرضي به منه أنه ضرب رجلًا في منازعة استخفّ فيها بالعباس بن عبد المطلب، فقيل له، فقال: نعم، أيفخّم رسول الله ﷺ عمّه، وأرخّص في الاستخفاف به! لقد خالف رسول الله ﷺ من فعل ذلك، ومن رضي به منه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن رزيق بن عبد الله الرازي، عن علقمة بن مرثد، عن حمران بن أبان؛ قال: أرسلني عثمان إلى العباس بعد ما بويع، فدعوته إليه، فقال: مالك تعبّدتني! قال: لم أكن قطّ أحوج إليك مني اليوم، قال: الزم خمسًا؛ لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها، قال: وما هنّ؟ قال: الصبر عن القتل، والتحبّب، والصفح، والمداراة، وكتمان السرّ.
وذكر محمد بن عمر، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن أميّة الضمري، قال: إن قريشًا كان من أسنّ منهم مولعًا بأكل الخزيرة؛ وإني كنت أتعشّى مع عثمان خزيرًا من طبخ من أجود ما رأيت قطّ، فيها بطون الغنم، وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟ فقلت: هذا أطيب ما أكلت قطّ، فقال: يرحم الله ابن الخطّاب! أكلت معه هذه الخزيرة قطّ؟ قلت: نعم؛ فكادت اللقمة تفرث في يدي حين أهوي بها إلى فمي؛ وليس فيها لحم؛ وكان أدمها السمن ولا لبن فيها. فقال عثمان: صدقت، إنّ عمر رضي الله عنه أتعب والله من تبع أثره؛ وإنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظلفًا. أما والله ما آكله من مال المسلمين؛ ولكني آكله من مالي؛ أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالًا، وأجدّهم في التجارة؛ ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه؛ وقد بلغت سنًّا فأحبّ الطعام إلي ألينه؛ ولا أعلم لأحد علي في ذلك تبعةً.
قال محمد: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر، قال: كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان؛ فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدرمك الجيّد وصغار الضأن كلّ ليلة؛ وما رأيت عمر قطّ أكل من الدقيق منخولا، ولا أكل من الغنم إلّا مسانّها، فقلت لعثمان في ذلك، فقال: يرحم الله عمر! ومن يطيق ما كان عمر يطيق! قال محمد: وحدثني عبد الملك بن يزيد بن السائب، عن عبد الله بن السائب، قال: أخبرني أبي، قال: أوّل فسطاط رأيته بمنىً فسطاط لعثمان، وآخر لعبد الله بن عامر بن كريز، وأوّل من زاد النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء عثمان، وأوّل من نخل له الدقيق من الولاة عثمان رضي الله عنه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بلغ عثمان أنّ ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيرنجًا - قال محمد بن سلمة: إنما هو نيرج - فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك؛ فإن أقرّ به فأوجعه، فدعا به فسأله، فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه؛ فأمر به فعزّر، وأخبر الناس خبره، وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنه قد جدّ بكم، فعليكم بالجدّ؛ وإياكم والهزّال؛ فكان الناس عليه؛ وتعجّبوا من وقوف عثمان على مثل خبره، فغضب، فنفر في الذين نفروا، فضرب معهم، فكتب إلى عثمان فيه، فلما سيّر إلى الشأم من سيّر، سيّر كعب بن ذي الحبكة ومالك ابن عبد الله - وكان دينه كدينه - إلى دنباوند؛ لأنها أرض سحرة، فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد:
لعرمي لئن طردتني ما إلى التي ** طمعت بها من سقطتي لسبيل
رجوت رجوعي يا بن أروى ورجعتي ** إلى الحقّ دهرًا غال ذلك غول
وإنّ اغترابي في البلاد وجفوتي ** وشتمي في ذات الإله قليل
وإنّ دعائي كلّ يوم وليلة ** عليك بدنباوندكم لطويل
فلما ولي سعيد أقله، وأحسن إليه واستصلحه، فكفره، فلم يزدد إلا فسادًا. واستعار ضابىء بن الحارث البرجمي في زمان الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبًا يدعى قرحان، يصيد الظباء، فحبسه عنهم، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عليه بقومه فكاثروه، فانتزعوه منه وردّوه على الأنصار، فهجاهم وقال في ذلك:
تحشّم دوني وفد قرحان خطةً ** تضلّ لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعًا ناعمين كأنما ** حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمّكم ** فإنّ عقوق الأمّهات كبير
فاستعدوا عليه عثمان، فأرسل إليه، فعزّره وحبسه كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك، فما زال في الحبس حتى مات فيه. وقال في الفتك يعتذر إلى أصحابه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** فعلت وولّيت البكاء حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابىء ** ألا من لخصم لم يجد من يجادله!
وقائلة لا يبعد الله ضابئًا ** فنعم الفتى تخلو به وتحاوله
فلذلك صار عمير بن ضابىء سبئيًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير، عن أخيه، قال: والله ما علمت ولا سمعت بأحد غزا عثمان رضي الله عنه، ولا ركب إليه إلّا قتل؛ لقد اجتمع بالكوفة نفر، فيهم الأشتر وزيد بن صوحان وكعب ابن ذي الحبكة وأبو زينب وأبو مورّع وكميل بن زياد وعمير بن ضابىء، فقالوا: لا والله لا يرفع رأس مادام عثمان على الناس؛ فقال عمير بن ضابىء وكميل بن زياد: نحن نقتله. فركبا إلى المدينة؛ فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل بن زياد فإنه جسر وثاوره؛ وكان جالسًا يرصده حتى أتى عليه عثمان، فوجأ عثمان وجهه، فوقع على استه، وقال: أوجعتني يا أمير المؤمنين! قال: أولست بفاتك! قال: لا والله الذي لا إله إلّا هو؛ فحلف وقد اجتمع عليه الناس، فقالوا: نفتّشه يا أمير المؤمنين، فقال: لا، قد زرق الله العافية، ولا أشتهي أن أطّلع منه على غير ما قال. وقال: إن كان كما قلت يا كميل فاقتدْ منّي - وجثا - فوالله ما حسبتك إلّا تريدني، وقال: إن كنت صادقًا فأجزل الله، وإن كنت كاذبًا فأذلّ الله. وقعد له على قدميه وقال: دونك! قال: قد تركت. فبقيا حتى أكثر الناس في نجائهما، فلمّا قدم الحجّاج قال: من كان من بعث المهلّب فليواف مكتبه؛ ولا يجعل على نفسه سبيلا. فقام إليه عمير، وقال: إني شيخ ضعيف، ولي ابنان قويّان؛ فأخرج أحدهما مكاني أو كليهما، فقال: من أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابىء، فقال: والله لقد عصيت الله عز وجل منذ أربعين سنة؛ ووالله لأنكلّنّ بك المسلمين، غضبت لسارق الكلب ظالمًا، إنّ اباك إذ غل لهمّ؛ وإنّك هممت ونكلت، وإني أهمّ ثم لا أنكل. فضربت عنقه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، قال: حدثنا رجل من بني أسد، قال: كان من حديثه أنه كان قد غزا عثمان رضي الله عنه فيمن غزاه؛ فلما قدم الحجّاج ونادى بما نادى به، عرض رجل عليه ما عوض نفسه، فقبل منه، فلما ولّى قال أسماء بن خارجة: لقد كان شأن عمير مما يهمّني، قال: ومن عمير؟ قال: هذا الشيخ، قال:
ذكّرتني الطعن وكنت ناسيًا
أليس فيمن خرج إلى عثمان؟ قال: بلى، قال: فهل بالكوفة أحد غيره؟ قال: نعم، كميل، قال: علي بعمير، فضرب عنقه، ودعا بكميل فهرب؛ فأخذ النخع به، فقال له الأسود بن الهيثم: ما تريد من شيخ قد كفاكه الكبر! فقال: أما والله لتحبسنّ عني لسانك أو لأحسّنّ رأسك بالسيف. قال: أفعل. فلما رأى كميل ما لقي قومه من الخوف وهما ألفا مقاتل، قال: الموت خير من الخوف إذا أخيف ألفان من سبي وحرموا. فخرج حتى أتى الحجّاج، فقال له الحجّاج: أنت الذي أردت ثم لم يكشفك أمير المؤمنين، ولم ترض حتى أقعدته للقصاص إذ دفعك عن نفسه؟ فقال: على أي ذلك تقتلني! تقتلني على عفوه أو على عافيتي؟ قال: يا أدهم بن المحرز، اقتله؛ قال: والأجر بيني وبينك؟ قال: نعم، قال أدهم: بل الأجر لك؛ وما كان من إثم فعلي. وقال مالك بن عبد الله - وكان من المسيّرين:
مضت لابن أروى في كميل ظلامة ** عفاها له والمستقيد يلام
وقال له لا أقبح اليوم مثلةً ** عليك أبا عمرو وأنت إمام
رويدك رأسي والذي نسكت له ** قريش بنا على الكبير حرام
وللعفو أمن يعرف الناس فضله ** وليس علينا في القصاص أثام
ولو علم الفاروق ما أنت صانع ** نهى عنك نهيًا ليس فيه كلام
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن سحيم بن حفص، قال: كان ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب شريك عثمان في الجاهليّة، فقال العباس بن ربيعة لعثمان: اكتب لي إلى ابن عامر يسلفني مائة ألف؛ فكتب، فأعطاه مائة ألف وصله بها، وأقطعه داره؛ دار العباس ابن ربيعة اليوم.
وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى ابن طلحة، قال: كان لعثمان على طلحة خمسون ألفًا فخرج عثمان يومًا إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيّأ مالك فاقبضه، قال: هو لك يا أبا محمد معونةً لك على مروءتك..
وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن عبد ربّه، عن نافع، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال علي لطلحة: أنشدك الله إلّا رددت الناس عن عثمان! قال: لا والله حتى تعطي بنو أمية الحقّ من أنفسها.
وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو بكر البكري، عن هشام بن حسان، عن الحسن؛ أنّ طلحة بن عبيد الله باع أرضًا له من عثمان بسبعمائة ألف، فحملها إليه، فقال طلحة: إنّ رجلا تتّسق هذه عنده وفي بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله عز وجل لغرير بالله سبحانه! فبات ورسوله يختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح، فأصبح وما عنده منها درهم. قال الحسن: وجاء هاهنا يطلب الدينار والدرهم - أو قال: الصفراء والبيضاء.
وحجّ بالناس في هذه السنة - أعني سنة خمس وثلاثين - عبد الله بن عباس بأمر عثمان إياه بذلك؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله أمر عثمان ابن عباس أن يحج بالناس في هذه السنة
ذكر محمد بن عمر الواقدي أنّ أسامة بن زيد حدثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما حصر عثمان الحصر الآخر قال عكرمة: فقلت لابن عبّاس: أوكانا حصرين؟ فقال ابن عباس: نعم، الحصر الأوّل، حصر اثنتي عشرة - وقدم المصريون فلقيهم علي بذي خشب؛ فردّهم عنه؛ وقد كان والله علي له صاحب صدق، حتى أوغر نفس علي عليه؛ جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على علي فيتحمّل؛ ويقولون: لو شاء ما كلّمك أحد؛ وذلك أن عليًّا كان يكلمه وينصحه ويغلظ عليه في المنطق في مروان وذويه، فيقولون لعثمان: هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمّه وابن عمته؛ فما ظنّك بما غاب عنك منه! فلم يزالوا بعلي حتى أجمع ألّا يقوم دونه؛ فدخلت عليه اليوم الذي خرجت فيه إلى مكة، فذكرت له أنّ عثمان دعاني إلى الخروج فقال لي: ما يريد عثمان أن ينصحه أحدٌ؛ اتّخذ بطانة أهل غشّ ليس منهم أحد إلّا قد تسبّب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذلّ أهلها؛ فقلت له: إنّ له رحمًا وحقًّا؛ فإن رأيت أن تقوم دونه فعلت؛ فإنك لا تعذر إلا بذلك.
قال ابن عباس: فالله يعلم أنّي رأيت فيه الانكسار والرّقة لعثمان؛ ثم إني لأراه يؤتى إليه عظيم. ثم قال عكرمة: وسمعت ابن عباس يقول: قال لي عثمان: يا بن عباس، اذهب إلى خالد بن العاص وهو بمكة، فقل له: يقرأ عليك أمير المؤمنين السلام، ويقول لك: إني محصور منذك كذا وكذا يومًا، لا أشرب إلّا من الأجاج من داري، وقد منعت بئرًا اشتريتها من صلب مالي، رومة؛ فإنما يشربها الناس ولا اشرب منها شيئًا، ولا آكل إلّا مما في بيتي، منعت أن آكل مما في السوق شيئًا وأنا محصور كما ترى؛ فأمره وقل له: فليحجّ بالناس؛ وليس بفاعل؛ فإن أبي فاحجج أنت بالناس.
فقدمت الحجّ في العشر، فجئت خالد بن العاص، فقلت له ما قال لي عثمان، فقال لي: هل طاقة بعداوة من ترى؟ فأبى أن يحجّ وقال: فحجّ أنت بالناس: فأنت ابن عمّ الرجل؛ وهذا الأمر لا يفضي إلّا إليه - يعني عليًّا - وأنت أحقّ أن تحمل له ذلك، فحججت بالناس، ثم قفلت في آخر الشهر، فقدمت المدينة وإذا عثمان قد قتل؛ وإذا الناس يتواثبون على رقبة علي بن أبي طالب. فلما رآني علي ترك الناس، وأقبل علي فانتجاني، فقال: ما ترى فيما وقع؟ فإنه قد وقع أمر عظيم كما ترى لا طاقة لأحد به؛ فقلت: أرى أنه لا بدّ للناس منك اليوم؛ فأرى أنه لا يبايع اليوم أحدٌ إلّا اتّهم بدم هذا الرجل، فأبى إلّا أن يبايع فاتّهم بدمه.
قال محمد: فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال لي عثمان رضي الله عنه: إني قد استعملت خالد بن العاص بن هشام على مكة؛ وقد بلغ أهل مكة ما صنع الناس؛ فأنا خائف أن يمنعوه الموقف فيأبى، فيقاتلهم في حرم الله جلّ وعزّ وأمنه. وإن قومًا جاءوا من كلّ فجّعميق، ليشهدوا منافع لهم؛ فرأيت أن أولّيك أمر الموسم. وكتب معه إلى أهل الموسم بكتاب يسألهم أن يأخذوا له بالحقّ ممن حصره. فخرج ابن عباس، فمرّ بعائشة في الصلصل؛ فقالت: يا بن عباس؛ أنشدك الله - فإنك قد أعطيت لسانًا إزعيلا - أن تخذّل عن هذا الرجل، وأن تشكّك فيه الناس؛ فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت، ورفعت لهم المنار، وتحلّبوا من البلدان لأمر قد حمّ؛ وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتّخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر، قال: قلت يا أمّه لو حدث بالرّجل حدث ما فزع الناس إلّا إلى صاحبنا. فقالت: إيهًا عنك! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.
قال ابن أبي سبرة: فأخبرني عبد المجيد بن سهيل؛ أنه انتسخ رسالة عثمان التي كتب بها من عكرمة، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين؛ سلام عليكم، فإنّي أذكّركم بالله جلّ وعزّ الذي أنعم عليكم وعلّمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البيّنات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم نعمتع؛ فإنّ الله عز وجل يقول وقوله الحق: " وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار ".
وقال عز وجل: " يأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون واعتصمموا بحبل الله جميعًا " إلى قوله: " لهم عذاب عظيم ". وقال وقوله الحقّ: " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الَّذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ". وقال وقوله الحقّ: " يأيُّها الَّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " إلى قوله: " فضلًا من الله ونعمة والله عليم حكيم ". وقوله عز وجل: " إنَّ الَّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا " إلى " ولهم عذاب أليم ". وقال وقوله الحق: " فاتٌّقوا الله ما استطعم " إلى " فأولئك هم المفلحون ". وقال وقوله الحق ": " ولاتنقضوا الإيمان بعد توكيدها " إلى قوله: " ولنجزينَّ الَّذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". وقال وقوله الحق: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " إلى " وأحسن تأويلًا ". وقال وقوله الحق: م " وعد الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصَّالحات " إلى قوله: " ومن مكفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ". وقال وقوله الحق: " إنَّ الَّذين يبايعونك إنَّما يبايعون الله " إلى " فسيؤتيه أجرًا عظيمًا ".
أما بعد، فإنّ الله عز وجل رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذّركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبّأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدّم إليكم فيه ليكون له الحجّة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله عز وجل واحذروا عذابه؛ فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلّا من بعد أن تختلف؛ إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعًا، وسلِّط عليكم عدوّكم، ويستحلّ بعضكم حرم بعض؛ ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا مشيعًا، وقد قال الله جلّ وعزّ لرسوله ﷺ: " إنَّ الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شعيًا لست منهم في شيء إنَّما أمرهم إلى الله ثمَّ ينبِّئهم بما كانوا يفعلون ". وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذّركم عذابه؛ فإن شعيبًا ﷺ قال لقومه: " ويا قوم لا يجر منَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح " إلى قوله: " رحيم ودود ".
أما بعد؛ فإنّ أقوامًا ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس أنَّما يدعون إلى كتاب الله عز وجل والحقّ، ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها؛ فلما عرض عليهم الحقّ إذا الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحقّ، ونازع عنه حين يعطاه؛ ومنهم تارك للحقّ ونازل عنه في الأمر، يريد أن يبتزّه بغير الحقّ؛ طال عليهم عمري، وراث عليهم. أملهم الإمرة؛ فاستعجلوا القدر؛ وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم؛ ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئًا؛ كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعدّاها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد. قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب. وقالوا: المحروم يرزق، والمال يوفَّى ليستنّ فيه السنّة الحسنة، ولا يعتدي في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمَّر ذو القوّة والأمانة، وتردُّ مظالم مالناس إلى أهلها؛ فرضيت بذلك واصطبرت له؛ وجئت نسوة مالنبي ﷺ محتى كلّمتهنّ، فقلت: ما تأمرنني؟ فقلن: تؤمِّر عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس وتدع معاوية؛ فإنما أمّره أمير قبلك؛ فإنه مصلح لأرضه، راض به جنده؛ واردد عمرًا؛ فإنّ جنده راضون به، وامّره فليصلح أرضه؛ فكلّ ذلك فعلت. وإنه اعتدى علي بعد ذلك، وعدي على الحقّ.
كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر؛ استعجلوا القدر، ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزُّوا ما قدروا عليه بالمدينة.
كتبت إليكم كتابي هذا؛ موهم يخيّرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكلّ رجل أصبتهه خطأ أو صوابًا، غير متروك منه شيء؛ وإمّا أعتزل الأمر فيؤمِّرون آخر غيري، وإمّا يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرّءون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة. فقلت لهم: إمّا إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطيء وتصيب؛ فلم يستقد من أحد منهم؛ وقد علمت أنما يريدون نفسي؛ وأمّا أن أتبرأ من الإمارة فأن يكلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من عمل الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرءون من طاعتي؛ فلست عليكم بوكيل؛ ولم أكن استكرهتهم من مقبل على السمع والطاعة؛ ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله عز وجل وإصلاح ذات البين؛ ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضات الله عز وجل والسنّة الحسنة التي استنّ بها رسول الله ﷺ والخليفتان من بعده رضي الله عنهما؛ فإنما يجزي بذلكم الله؛ وليس بدي جزاؤكم؛ ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثم لدينكم، ولم يغن معنكم شيئًا، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده؛ فمن يرض بالنَّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضي الله سبحانه أن تنكثوا عهده. وأما الذي يخيّرونني فإنما كله النزع والتأمير. فملكت نفسي ومن معي؛ ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنَّة السوء وشقاق الأمّة وسفك الدماء؛ فإني أنشدكم بالله والإسلام ألّا تأخذوا إلّا الحق وتعطوه مني وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والموازرة في أمر الله؛ فإنّ الله سبحانه قال وقوله الحق: " وأفووا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولًا "، فإنّ هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكّرون.
أما بعد، فإني لا أبرىء نفسي، " إنّ النَّفس لأمَّارة بالسُّوء إلَّا ما رحم ربِّ إنَّ ربِّي غفور رحيم "، وإن عاقبت أقوامًا فما ابتغي بذلك إلّا الخير، وإني أتوب إلى الله عز وجل من كلّ عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلّا هو، إنّ رحمة ربي وسعت كلّ شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلّا القوم الضَّالون، وإنه يقبل التَّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. أنا أسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلّف قلوب هذه الأمة على الخير، ويكرّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها المؤمنون والمسلمون.
قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التَّروية بمكة بيوم.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن معبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان، فاستعملني على الحجّ. قال: فخرجت إلى مكة، فأقمت للنّاس الحجّ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم؛ ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي.
ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه عثمان رضي الله عنه ومن صلي عليه وولى أمره بعد ما قتل إلى فرغ من أمره ودفنه
حدثني جعفر بن عبد الله المحمّدي، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي ابن حسين، قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابدي، قال: نبذ عثمان رضي الله عنه ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي ثم أحد بني أسد بن عبد العزّي، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كلّما عليًّا في دفنه، وطلبًا إليه أن يأذن لأهله في ذلك، ففعل، وأذن لهم علي، فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله؛ وهم يريدون به حائطًا بالمدينة، ياقل له: حشّ كوكب. كانت اليهود تدفن فيه موتاهم؛ فلما خرج به على الناس رجموا سريره، وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك عييًّا، فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفّنّ عنه، ففعلوا، فانطلق حتى دفن رضي الله عنه في حشّ كوكب؛ فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع؛ فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتّصل ذلك بماقبرالمسلمين.
وحدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن المجالد بن سعيد الهمداني، عن يسار بن أبي كرب، عن أبيه.
وكان أبو كرب عاملًا على بيت مال عثمان، قال: دفن عثمان رضي الله عنه بين المغرب والعتمة؛ ولم يشهد جنازته إلّا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل! وكادت ترجم؛ فقالوا: الحائط الحائط؛ فدفن في حائط خارجًا.
وأما الواقدي فإنه ذكر أنّ سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان، أنه قال: لم قتل عثمان رضي الله عنه قال رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود، فقال حيكم بن حزام: والله لا يكون هذا أبدًا وأحد من ولد قصي حيُّ؛ حتى كاد الشرّ يلتحم، فقال ابن عديس البلوي: أيّها الشيخ، وما يضرّك أين يدفن! فقال حكيم بن حزام: لا يدفن إلا ببقيع الغرقد حيث دفن سلفه وفرطه؛ فخرج به حكيم بن حزام في أثني عشر رجلًا، وفيهم الزبير، فصلّى عليه حكيم بن حزام. قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلّى عليه جبير بن مطعم.
قال محمد بن عمر: وحدثني الضحّاك بن عثمان، عن مخرمة عن سليمان الوالبي، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة ضحوة، فلميقدروا على دفنه، وأرسلت نائلة ابنة الفارفصة إلى حويطب بن عبد العزَّي وجبير بن مطعم وأبي جهم بن حذيفة وحكيم بن حزام ونيار الأسلمي، فقالوا: إنّا لا نقدر أن نخرج به نهارًا، وهؤلاء المصريّون على الباب، فأمهلوا محتى كان بين المغرب والعشاء، فدخل القوم، فحيل بينهم وبينه، فقال أبو جهم: والله لا يحول بيني وبينه أحد إلامتّ دونه؛ احملوه، فحمل إلى البقيع؛ قال: وتبعتهم نائلة بسراج الستسرجته بالبقيع وغلام لعثمان، حتى انتهوا إلى نخلات عليها حائط؛ فدقّوا الجدار، ثم قبروه في تلك النَّخلات، وصلّى عليه جبير ابن مطعم، فذهبت نائلة تريد أن تتكلم، فزبرها القوم، وقالو: إنا نخاف عليه من هؤلاء الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة إلى منزلها.
قال محمد: وحدثني معبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة، قال: لبث عثمان بعد ما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حمله أربعة: حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حذيفة؛ فلما وضع ليصلَّي عيه، جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه، فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حيّة المازني، في عدّة؛ ومنعوهم أن يدفن بالبقيع؛ فقال أبو جهم: ادفنوه، فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا لا والله، لا يدفن في مقابر المسلمين أبدًا، فدفنوه في حشّ كوكب. فلما ملكت بنو أميّة أدخلوا ذلك الحشّ في البقيع؛ فهو اليوم مقبرة بني أميّة.
قال محمد: وحدثني عبد الله بن موسى المخزومي، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أرادوا حزَّ رأسه، فوقعت عليه نائلة وأمّ النين، فمنعنهم، وصحن وضربن الوجوه، وخرقن ثيابهنّ، فقال ابن عديس: اتركوه؛ فأخرج عثمان ولم يغسل إلى البقيع، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنائز؛ فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابيء وعثمان موضوع على باب، فنزا عليه، فكسر ضلعًا من أضلاعه، وقال: سجنت ضابئًا حتى مات في السجن.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا أبو بكر ابن عبد الله بن أبي أويس، قال: حدثني عمّ جدّي الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه، قال: كنت أحد حملة عثمان رضي الله عنه حين قتل: حملناه على باب، وإن رأسهع لتقرع الباب لإسراعنا به؛ وإنّ بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا حتى واريناه في قبره في حشّ كوكب.
وأما سيف، فإنه روى فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عنه، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة؛ أنّ عثمان لما قتل أرسلت نائلة إلى عبد الرحمن ابن عديس، فقالت له: إنك أمسّ القوم رحمًا، وأولاهم بأن تقوم بأمري؛ أغرب عنِّي هؤلاء الأموات. قال فشتمها وزجرها؛ حتى إذا كان في جوف الليل خرج مروان حتى أتي دار عثمان، فأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيد الله وعلي والحسن وكعب بن مالك وعامّة من ثمَّ من صحابه، فتوا في إلى موضع الجنائز صبيان ونساء؛ فأخرجوا عثمان فصلّى عليه مروان، ثمّ خرجوا به حتى انتهوا إلى البقيع، فدفنوه فيه مما يلي حشّ كوكب؛ حتى إذا أصبحوا أتوا أعبد عثمان الذين قتلوا معه فأخرجوهم فرأوهم فمنعوهم من أن يدفنوا، فأدخلوهم حشّ كوكب؛ فلما أمسوا خرجوا بعبدين منهم فدفنوهما إلى جنب عثمان، ومع كلّ واحد منهما خمسة نفر وامرأة؛ فاطمة أم إبراهيم بن عدي. ثم رجعوا فأتوا كنانة بن بشر، فقالوا: إنك أمسّ القوم بنا رحمًا، فأمر بهاتين الحيفيتين اللتين في الدار أن تخرجا، فكلّمهم في ذلك، فأبوا، فقال: أنا جار لآل عثمان من أهل مصر ومن لفّ لفهم، فأخرجوهما فارموا بهما؛ فجرّا بأرجلهما فرمى بهما على البلاط، فأكلتهما الكلاب؛ وكان لاعبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال لهما نجيع وصبيح؛ فكان أسماهما الغالب على الرقيق لفضلهما وبلائهما؛ ولم يحفظ الناس اسم الثالث، ولم يغسل عثمان، وكفِّن في ثيابه ودمائه ولا غسل غلاماه.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي قال: دفن عثمان رضي الله عنه من الليل، وصلّى عليه مروان بن الحكم، وخرجت ابنته تبكي في أثره، ونائلة ابنة الفرافصة، رحمهم الله.
ذكر الخبر عن الوقت الذي قتل فيه عثمان رضي الله عنه
اختلف في ذلك بعد إجماع جميعهم على أنه قتل في ذي الحجّة، فقال بعضهم: قتل لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة، فقال الجمهور منهم: قتل لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين.
ذكر الرواية بذلك عن بعض من قال إنه قتل في سنة ست وثلاثين: حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال الحارث: وحدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يومًا؛ وهو ابن اثنتين وثمانين سنة.
وقال أبو بكر: أخبرنا مصعب بن عبد الله، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر.
وقال آخرون: قتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين لثماني عشرة ليلة خلت منه.
ذكر من قال ذلك
حدثني جعفر بن عبد الله، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلي، قالا: حدثنا حسن، عن أبيه، عن المجالد بن سعيد الهمداني، عن عامر الشعبي، أنه قال: حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار اثنتين وعشرين ليلة، وقتل صبحة ثماني عشر ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وعشرين من وفاة رسول الله ﷺ.
وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلّا اثني عشر يومًا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا من مقتل عمر رضي الله عنه.
وحدثّت عن زكرياء بن عدي، قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل، قال: قتل عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة، قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة يوم الجمعة في آخر ساعة.
وقال آخرون: قتل يوم الجمعة ضحوة.
ذكر من قال ذلك
ذكر عن هشام بن الكلبي، أنه قال: قتل عثمان رضي الله عنه صبيحة الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا ثمانية أيام.
حدثنا الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني الضحاك بن عثمان؛ عن مخرمة بن سلمان الوالبي، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة ضحوة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين.
وقال آخرون: قتل في أيام التشريق.
ذكر من قال ذلك
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن زيد الأيلي، عن الزُّهري، قال: قتل عثمان رضي الله عنه، فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق.
وقال بعضهم: قتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة.
ذكر الخبر عن قدر مدة حياته
اختلف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم كانت مدّة ذلك اثنتين وثمانين سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر؛ أنّ عثمان رضي الله عنه قتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة.
قال محمد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، قال: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن اثنتين وثمانين سنة.
قال محمد: وحدثني سعد بن راشد عن صالح بن كيسان، قال: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر.
وقال آخرون: قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثماني.
ذكر من قال ذلك
حدثت عن الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا أبو هلال؛ عن قتادة: أنّ عثمان رضي الله عنه قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين سنة.
وقال آخرون: قتل وهو ابن خمس وسبعين سنة؛ وذلك قول ذكر عن هشام بن محمد.
وقال بعضهم: قتل وهو ابن ثلاث وستين، وهذا قول نسبه سيف بن عمر إلى جماعة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، أن أبا حارثة وأبا عثمان ومحمدًا وطلحة، مقالوا: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وقال آخرون: قتل وهو ابن ستّ وثمانين.
ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، قال: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن ستّ وثمانين.
ذكر الخبر عن صفة عثمان
حدثني زياد بن أيُّوب، قال: حدثنا هشيم، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد؛ فإذا أنا بعثمان رضي الله عنه متكئًا على ردائه، فنظرت إليه؛ فإذا رجل حسن الوجه؛ وإذا بوجهه نكتات من جدري؛ وإذا شعره قد كسا ذراعيه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: سألت عمرو بن عبد الله بن عنبسة وعروة بن خالد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان وعبد الرحمن بن أبي الزناد عن صفة عثمان، فلم أر بينهم اختلافًا، قالوا: كان رجلًا ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثّ اللحية عظيمها؛ أسمر اللون، عظيم الكراديس؛ عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفّر لحيته.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي يقول: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزُّهري، قال: كان عثمان رجلًا مربوعًا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع أروح الرجلين.
ذكر الخبر عن وقت إسلامه وهجرته
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: كان إسلام عثمان قديمًا قبل دخول رسول الله ﷺ دار الأرقم. قال: وكان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية، ومعه فيهما جميعًا امرأته رقيّة بنت رسول الله ﷺ.
ذكر الخبر عما كان يكنى به عثمان بن عفان رضي الله عنه
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما كان في الإسلام ولد له من رقيّة بنت رسول الله ﷺ غلام فسّماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله؛ فبلغ عبد الله ستة سنين، فنقره ديك على عينه، فمرض فمات في جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة، فصلّى عليه رسول الله ﷺ، ونزل في حفرته عثمان رضي الله عنه.
وقال هشام بن محمد: كان يكنى أبا عمرو.
ذكر نسبه
هو عثمان بن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وأمه أروى ابنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمّها أم حكيم بنت عبد المطلب.
ذكر أولاده وأزواجه
رقيّة وأم كلثوم ابنتا رسول الله ﷺ؛ ولدت له رقيّة عبد الله.
وفاختة ابنة غزوان بن جابر بن نسيب بن وهيب بن زيد بن مالك ابن عبد بن عوف بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولدت له ابنًا فسماه عبد الله؛ وهو عبد الله الأصغر، هلك.
وأمّ عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة بن الحارث بن رفاعة بن سعد بن ثعلبة بن لؤي بن عامر بن غنم بن دهمان بن منهب بن دوس، من الأزد؛ ولدت له عمرًا وخالدًا وأبانًا وعمر ومريم.
وفاطمة ابنة الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له الوليد وسعيدًا وأمَّ سعيد، بني عثمان.
وأمّ البنين بنتعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري؛ ولدت له عبد الملك بن عثمان، هلك.
ورملة ابنة شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي؛ ولدت له عائشة وأمّ أبان وأمّ عمرو، بنات عثمان.
ونائلة ابنة الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن كلب؛ ولدت له مريم ابنة عثمان.
وقال هشام بن الكلبي: ولدت أمّ البنين بنت عيينة بن حصن لعثمان عبد الملك وعتبة. وقال أيضًا: ولدت نائلة عنبسة.
وزعم الواقدي أن لعثمان ابنة تدعى أمّ البنين بنت عثمان من نائلة، قال: وهي التي كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان.
وقتل عثمان رضي الله عنه وعنده رملة ابنة شيبة ونائلة وأمّ البنين بنت عيينة وفاختة ابنة غزوان؛ غير أنه - فيما زعم علي بن محمد - طلَق أمّ البنين وهو محصور.
فهؤلاء أزواجه اللواتي كنّ له في الجاهليّة والإسلام وأولاده: رجالهم ونساؤهم.
ذكر أسماء عمال عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على البلدان
قال محمد بن عمر: قتل عثمان رضي الله عنه وعمّاله على الأمصار - فيما حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد - على مكة عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثَّقفي، وعلى صنعاء يعلي بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز - خرج منها فلم يولِّ عليها عثمان أحدًا - وعلى الكوفة سعيد بن العاص - أخرج منها فلم يترك يدخلها - وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح - قدم على عثمان، وغلب محمد بنأبي حذيفة عليها. وكان عبد الله بن سعد استخلف على مصر السائب ابن هشام بن عمرو العامري، فأخرجه محمد بن أبي حذيفة - وعلى الشأم معاوية ابن أبي سفيان.
وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: مات عثمان رضي الله عنه وعلى الشأم معاوية، وعامل معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنَّسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الأردنّ أبو الأعور بن سفيان، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني، وعلى البحر عبد الله بن قيس الفزاري. وعلى القضاء أبو الدرداء.
وتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، قال: مات عثمان رضي الله عنه وعلى الكوفة رضي الله عنه وعلى الكوفة، على صلاتها أبو موسى، وعلى خراج السَّواد جابر بن عمرو المزني - وهو صاحب المسنَاة إلى جانب الكوفة - وسماك الأنصاري.
وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسياء جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة بن النَّهَاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النُّسير، وعلى الري سعيد بن قيس، وعلى إصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ما سبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبة ابن عمرو. وكان على قضاء عثمان يومئذ زيد بن ثابت.
ذكر بعض خطب عثمان رضي الله عنه
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن محمد، عن عون بن عبد الله بن عتبة، قال: خطب عثمان الناس بعدما بويع، فقال:
أمَّا مبعد؛ فإني قد حمِّلت وقد قبلت؛ ألا وإني متّبع ولست بمتبتدع؛ ألا وإنّ لكم علي بعد كتاب الله عز وجل وسنَّة نبيه ﷺ ثلاثًا: اتّباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنُّوا عن ملإ، والكفّ عنكم إلّا فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خضرة قد شهّيت إلى الناس، ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها؛ إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنَّكم عن الباقية، فآثروا ما يبقى على ما يفنى؛ فإنّ الدنيا منقطعة؛ وإنّ المصير إلى الله. اتّقوا الله جلّ وعزّ؛ فإن تقواه جنّة من بأسه، ووسيلة عنده؛ واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا، " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ".
إلى آخر القصّة.
ذكر الخبر عمن كان يصلي بالناس في مسجد رسول الله ﷺ حين حصر عثمان
قال محمد بن عمر: حدثني ربيعة بن عثمان: جاء المؤذن، سعد القرظ إلى علي بن أبي طالب في ذلك اليوم، فقال: من يصلّي بالناس؟ فقال علي: ناد خالد بن زيد، فنادى خالد بن زيد، فصلّى بالناس - فإنه لأوّل يوم عرف أن أبا أيُّوب خالد بن زيد - فكان يصلّي بهم أيامًا، ثم صلى علي بعد ذلك بالناس.
قال محمد: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: جاء المؤذّن إلى عثمان فآذنه بالصّلاة، فقال: لا أنزل أصلّي؛ اذهب إلى من يصلي. فجاء المؤذن إلى علي، فأمر سهل بن حنيف، فصلّى اليوم الذي حصر فيه عثمان الحصر الآخر؛ وهو ليلة رثى هلال ذي الحجّة، فصلى بهم؛ حتى إذا كان يوم العيد صلى علي العيد، ثم صلى بهم حتى قتل رضي الله عنه.
قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لما حصر عثمان صلى بالناس أبو أيُّوب أيامًا، ثم صلى بهم علي الجمعة والعيد، حتى قتل رضي الله عنه.
ذكر ما رثي به من الأشعار
وتقاول الشعراء بعد مقتله فيه؛ فمن مادح وهاج، فمن مادح وهاج، ومن نائح باك، ومن سار فرح؛ فكان ممّن يمدحه حسّان بن ثابت وكعب بن مالك الأنصاريّان وتميم بن أبي بن مقبل في آخرين غيرهم. مما مدحه به وبكاه حسان وهجا به قاتله:
أتركتم غزو الدُّروب وراءكم ** وغزوتمونا عند قبر محمَّد!
فلبئس هدى المسلمين هديتم ** ولبئس أمر الفاجر المتعمِّد!
إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم ** حول المدينة كلَّ لين مذود
أو تدبروا فلبئس مما سافرتم ** ولمثل أمر أميركم لم يرشد
وكأن أصحاب النبِّي عشيَّة ** بدن تذبَّح عند باب المسجد
أبكى أبا عمرو لحسن بلائه ** أمسى مقيمًا في بقيع الغرقد
وقال أيضًا:
إن تمس دار ابن أروى منه خاوية ** باب صريع وباب محرق خرب
فقد يصادف باغي الخير حاجته ** فيها ويهوى إليها الذِّكر والحسب
يأيُّها الناس أبدوا ذات أنفسكم ** لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحقِّ مليك الناس تعترفوا ** بغارة عصب من خلفها عصب
فيهم حبيب شهاب الموت يقدمهم ** مستلئمًا قال بدا في وجهه الغضب
وله فيه أشعار كثيرة. وقال كعب بن مالك الأنصاري:
يا للرِّجال للبِّك المخطوف ** ولدمعك المترقرق المنزوف
ويح لأمر قد أتاني رائع ** هدَّ الجبال فانقضت برجوف
قتل الخليفة كان أمرًا مفظعًا ** قامت لذاك بليَّة التخويف
قتل الإمام له النجوم خواضع ** والشمس بازغة له بكسوف
يا لهف نفسي إذ تولَّوا غدوة ** بالنعش فوق عواتق وكتوف!
ولَّوا ودلَّوا في الضَّريح أخاهم ** ماذا أجنَّ ضريحه المسقوف!
من نائل أو سودد وحمالة ** سبقت له في الناس أو معروف
كم من يتيم كان جبر عظمه ** أمسى بمنزله الضَّياع يطوف
مازال يقبلهم ويرأب ظلمهم ** حتى سمعت برنَّة التَّلهيف
أمسى مقيمًا بالبقيع وأصبحوا ** متفرِّقين قد أجمعوا بخفوف
النار موعدهم بقتل إمامهم ** عثمان ظهرا في البلاد عفيف
النار موعدهم بقتل إمامهم ** عثمان ظهرًا في البلاد، عفيف
جمع الحمالة بعد حلم راجح ** والخير فيه مبيَّن معروف
يا كعب لا تنفك تبكي مالكًا ** ما دمت حيًّا في البلاد تطوف
فأبكى أبا عمرو عتيقًا واصلًا ** ولواءهم إذ كان غير سخيف
وليبكه عند الحفاظ لمعظم ** والخيل بين مقانب وصفوف
قتلوك يا عثمان غير مدنَّس ** قتلًا لعمرك واقفًا بسقيف
وقال حسَّان:
من سرَّه الموت صرفًا لا مزاج له ** فليأت مأسدة في دار عثمانا
مستشعري حلق الماذي قد شفعت ** قبل المخاطيم بيض زان أبدانا
صبرًا فدىً لكم أمي وما ولدت ** قد ينفع الصَّبر في المكروه أحيانًا
فقد رضينا أهل الشأم نافرة ** وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إنِّي لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ** ما دمت حيًّا وما مّيت حسَّانا
لتسمعنَّ وشيكًا في ديارهم ** الله أكبر يا ثارات عثمانا
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ** ما كان شأن علي وابن عفانا!
وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط يحرّض عمارة بن عقبة:
ألا إنَّ خير الناس بعد ثلاثة ** قتيل التُّجيبي الذي جاء من مصر
فإن يك ظنِّي بابن أمِّي صادقًا ** عمارة لا يطلب بذحل ولا وتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده ** مخيمة بين الخورنق والقصر
فأجابه الفضل بن عباس:
أتطلب ثأرًا لست منه ولا له ** وأين ابن ذكوان الصَّفوري من عمرو!
كما اتَّصلت بنت الحمار بأمِّها ** وتنسى أباها إذ تسامى أولى الفخر
ألا إنَّ خير الناس بعد محمَّد ** وصلىّ النَّبي المصطفى عند ذي الذِّكر
وأوَّل من صلّى وصنو نبيّه ** وأوَّل من أردى الغواة لدى بدر
فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمِّكم ** لكانوا له من ظلمه حاضري النَّصر
كفى ذاك عيبًا أن يشيروا بقتله ** وأن يسلموه للأحابيش من مصر
وقال الحباب بن يزيد المجاشعي، عمّ الفرزدق:
لعمر أبيك فلا تجز عن ** لقد ذهب الخير إلّا قليلًا
لقد سفه الناس في دينهم ** وخلى ابن عفان شرًّا طويلًا
أعاذل كلُّ امرىء هالك ** فسيرى إلى الله سيرًا جميلًا
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وفي هذه السنة بويع لعلي بن أبي طالب بالمدينة بالخلافة
ذكر الخبر عن بيعة من بايعه والوقت الذي بويع فيه
اختلف السلف من أهل السِّير في ذلك، فقال بعضهم: سأل عليًّا أصحاب رسول الله ﷺ أن يتقلّد لهم وللمسلمين، فأبى عليهم؛ فلما أبوا عليه، وطلبوا إليه، تقلد ذلك لهم.
ذكر الرواية بذلك عمن رواه
حدثني جعفر بن عبد الله ما لمحمّدي، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي ابن حسين، قالا: حدثنا حسين عن أبيه، عن عبد الملك بن أبي سليمان الفزاري، عن سالم بن أبي الجعد الأشجعي، عن محمّد الحنفيّة، قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولا بدّ الناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدًا أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله ﷺ. فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا؛ فقالوا: لا، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك؛ قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون حفيًّا، ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين. قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه؛ وأبى هو إلا المسجد، فلمّا دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعوه الناس.
وحدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابدي، قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان رضي الله عنه، واجتمع المهاجرون والأنصار، فيهم طلحة والزُّبير، فأتوا عليًّا فقالوا: يا أبا حسن؛ هلمّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا والله فقالوا: ما نختار غيرك؛ قال: فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مرارًا، ثمّ أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلّا بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم: إنكم قد اختلفتم إلي وأتيتم، وإنّي قائل لكم قولًا إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلّا فلا حاجة لي فيه. قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: إني قد كنت كارهًا لأمركم، فأبيتم إلّا أن أكون عليكم؛ ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، إلّا أن مفاتيح ما لكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهمًا دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد عليهم، ثمّ بايعهم على ذلك.
قال أبو بشير: وأنا يومئذ عند منبر رسول الله ﷺ قائم أسمع ما يقول.
وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر الهذلي، عن أبي المليح، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه، خرج علي إلى السوق، وذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فاتّبعه الناس وبهشوا في وجهه، فدخل حائط بني عمرو بن مبذول، وقال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن: أغلق الباب، فجاء الناس فقرعوا الباب، فدخلوا، فيهم طلحة والزّبير، فقالا: يا علي ابسط يدك. فبايعه طلحة والزّبير، فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع، فقال: أوّل من بدأ بالبيعة يد شلّاء؛ لا يتمّ هذا الأمر! وخرج عليٌّ إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وطاق وعمامة خزّ، ونعلاه في يده، متوكئًا على قوس؛ فبايعه الناس. وجاءوا بسعد، فقال علي: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس؛ قال: خلّوا سبيله. وجاءوا بابن عمر، فقال: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، قال: ائتني بحميل، قال: لا أرى حميلًا، قال الأشتر: خلِّ عنّي أضرب عنقه، قال علي: دعوه، أنا حميله، إنك - ما علمت - لسيِّيء الخلق صغيرًا وكبيرًا.
وحدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد، عن الحسن، قال: رأيت الزبير ابن العوّام بايع عليًا في حشّ من حشّان المدينة.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قال: سمعت أبي، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزُّهري، قال: بايع الناس علي بن أبي طالب، فأرسل إلى الزبير وطلحة فدعاهم إلى البيعة، فتلكّأ طلحة، فقام مالك الأشتر وسلّ سيفه وقال: والله لتبايعنّ أو لأربنّ به ما بين عينيك، فقال طلحة: وأين المهرب عنه! فبايعه، وبايعه الزبير والناس. وسأل طلحة والزّبير أن يؤمّرهما على الكوفة والبصرة، فقال: تكونان عندي فأتحمَّل بكما، فإني وحش لفراقكما. قال الزهري: وقد بلغنا أنه قال لهما: إن أحببتما أن تبايعا لي وإن أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك؛ وقالا بعد ذلك: إنما صنعنا ذلك خشية على أنفسنا، وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا. فظهرا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر.
وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن الحنفيَّة، قال: كنت أمسي مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه حتى دخل بيته، فأتاه ناس من أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: إنّ هذاالرجل قد قتل، ولا بدّ من إمام للناس، قال: أو تكون شورى؟ قالوا: أنت لنا رضًا، قال: فالمسجد إذًا يكون عن رضًا من الناس. فخرج إلى المسجد فبايعه من بايعه؛ وبايعت الأنصار عليًّا إلّا نفيرًا يسيرًا، فقال طلحة: ما لنا من هذا الأمر إلا كحسَّة أنف الكلب.
وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: أخبرنا شيخ من بني هاشم، عن عبد الله بن الحسن، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه بايعت الأنصار عليًّا إلّا نفيرًا يسيرًا، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا عثمانيّة. فقال رجل لعبد الله بن حسن: كيف أبي هؤلاء بيعة علي! وكانوا عثمانية. قال: أما حسّان فكان شاعرًا لا يبالي ما يصنع؛ وأما زيد ابن ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حصر عثمان؛ قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصارًا لله.. مرّتين، فقال أبو أيُّوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان. فأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك ما أخذ منهم له.
قال: وحدثني من سمع الزهري يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا عليًّا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة. وقال آخرون: إنما بايع طلحة والزبير عليًّا كرهًا.
وقال بعضهم: لم يبايعه الزبير.
ذكر من قال ذلك
حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان؛ قال: حدثني عبد ه، عن جرير بن حازم، قال: حدثني هشام ابن أبي هشام مولى عثمان بن عفان، عن شيخ من أهل الكوفة، يحدثه عن شيخ آخر، قال: حصر عثمان وعلي بخيبر، فلما قدم أرسل إليه عثمان يدعوه، فانطلق، فقلت: لأنطلقنّ معه ولأسمعنّ مقالتهما، فلما دخل عليه كلّمه عثمان، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ لي عليك حقوقًا؛ محقّ الإسلام، وحقّ الإخاء - وقد علمت أن رسول الله ﷺ حين آخى بين الصحابة آخى بيني وبينك - وحقّ القرابة والصِّهر، وما جعلت لي في عنقك من العهد والميثاق، فوالله لو لم يكن من هذا شيء ثم كنّا إنما نحن في جاهليّة، لكان مبطَّأ على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم.
فتكلم عليٌّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فكلّ ما ذكرت من حقّك عليَّ على ما ذكرت، أمّا قولك: لو كنا في جاهليّة لكان مبطَّأ على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم فصدقت، وسيأتيك الخبر. ثمّ خرج فدخل المسجد فرأى أسامة جالسًا، فدعاه، فاعتمد على يده، فخرج يمشي إلى طلحة وتبعته، فدخلنا دار طلحة بن عبيد الله وهي دحاس من الناس، فقام إليه، فقال: يا طلحة، ما هذا الأمر الّذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا حسن، بعد ما مسّ الحزام الطبيين! فانصرف علي ولم يحر إليه شيئًا حتى أتى بيت المال، فقال: افتحوا هذا الباب، فلم يقدر على المفاتيح، فقال: اكسروه؛ فكسر باب بيت المال، فقال: أخرجوا المال، فجعل بعطي الناس فبلغ الذين في دار طلحة الذي صنع علي، فجعلوا يتسلّلون إليه حتى ترك طلحة وحده. وبلغ الخبر عثمان، فسرّ بذلك، ثمّ أقبل طلحة يمشي عائدًا إلى دار عثمان، فقلت: والله لأنظرنّ ما يقول هذا؛ فتبعته، فاستأذن على عثمان، فلمّا دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، أستغفر الله وأتوب إليه، أردت أمرًا فحال الله بيني وبينه، فقال عثمان: إنك والله ما جئت تائبًا، ولكنك جئت مغلوبًا، الله حسيبك يا طلحة! وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، عن سعد، قال: قال طلحة: بايعت والسيف فوق رأسي - فقال سعد: لا أدري والسيف على رأسه أم لا، إلّا أني أعلم أنه بايع كارهًا - قال وبايع الناس عليًّا بالمدينة، وتربّص سبعة نفر فلم يبايعوه؛ منهم: سعد بن أبي وقّاص، ومنهم ابن عمر، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد ماب مسلمة، وسلمة بن وقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلَّف أحد من الأنصار إلّا بايع فيما نعلم.
وحدثنا الزبير بن بكّار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: حدثني أبي عبد الله بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، قال: لما قتل الناس عثمان رضي الله عنه وبايعوا عليًّا، جاء عليٌّ إلى الزبير فاستأذن عليه، فأعلمته به، فسلّ السيف ووضعهتحت فراشه، ثم قال: ائذن له، فأذنت له، فدحل فسلّم على الزبير وهو واقف بنحره، ثمّ خرج. فقال الزبير، لقد دخل المرء ما أقصاه، قم في مقامه فانظر هل ترى من السيف شيئًا؟ فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف، فأخبرته فقال: ذاك أعجل الرجل. فلما خرج علي سأله الناس، فقال: وجدت أبرّ ابن أخت وأوصله. فظنّ الناس خيرًا، فقال علي: إنه بايعه.
ومما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف بن عمر، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة، وطلحة بن الأعلم، وأبو حارثة، وأبو عثمان، قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريّون عليًّا فيختبىء منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدههم وتبرّأ منهم ومن مقالتهم مرّة بعد مرّة؛ ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلًا، فباعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ ويطلب البصريّون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ مرّة بعد مرّة؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئًا ولا مجيبًا جمعهم الشرّ على أولّ من أجابهم، وقالوا: لا نولّى أحدًا من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقّاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثّل:
لا تخلطنَّ خبيثات بطيِّبة ** واخلع ثيابك منها وانج عريانا
ثمّ إنهم أتوا ابن عمر عبد الله، فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إنّ لهذا الأمر انتقامًا والله لا أتعرّض له، فالتمسوا غيري. فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كانوا إذا لقوا طلحة أبى وقال:
ومن عجب الأيام والدّهر أنني ** بقيت وحيدًا لا أمرّ ولا أحلي
فيقولون: إنّك لتوعدنا. فيقومون فيتركونه، فإذا لقوا الزبير وأرادوه أبى وقال:
متى أنت عن دار بفيحان راحل ** وباحتها تخنو عليك الكتائب
فيقولون: إنك لتوعدنا! فإذا لقوا عليًّا وأرادوه أبى، وقال:
لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرًا يديخ الأعاديا
فيقولون: إنك لتوعدنا! فيقومون ويتركونه.
وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: أخبرنا مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أتى الناس عليًّا وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا فإنّ عمر كان رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون. فارتدّ الناس عن علي؛ ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة، فعادوا إلى علي، فأخذ الأشتر بيده فقبضها علي، فقال: أبعد ثلاثة! أما والله لئن تركتها لتقصرنّ عنيتك عليها حينًا، فبايعته العامّة. وأهل الكوفة يقولون: إنّ أوّل من بايعه الأشتر.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعدًا والزّبير خارجين، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا بني أميّة قد هربوا إلّا من لم يطق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أوّل من خرج، وتبعهم مروان، وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلًا تنصّبونه، ونحن لكم تبع. فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون.
وأخبرنا علي بن مسلم، قال: حدثنا حبّان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إنّ عليًّا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك، قال: فبسط علي يده فبايعه.
وكتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فقالوا لهم: دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غدًا عليًّا وطلحة والزّبير وأناسًا كثيرًا. فغشى الناس عليًّا فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام؛ وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله! فقال: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلّا أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. ثمّ افترقوا على ذلك واتّعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت. فبعث البصريّون إلى الزبير بصريًّا، وقالوا: احذر لاتحادّه - وكان رسولهم حكيم بن جبلة العبدي في نفر - فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وإلى طلحة كوفيًا وقالوا له: احذر لاتحادّه، فبعثوا الأشتر في نفر فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشّع أهل الكوفة وأهل البصرة أن صاروا أتباعًا لأهل مصر وحشوة فيهم، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير. غيظًا، فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء علي حتى صعد المنبر، فقال: يأيّها الناس - عن ملإ وإذن - إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. وجاء القوم بطلحة فقالوا: بايع، فقال: إني إنّما أبايع كرهًا، فبايع - وكان به شلل - أوّل الناس، وفي الناس رجل يعتاف، فنظر من بعيد، فلما رأى طلحة أوّل من بايع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أوّل يدٍ بايعت أمير المؤمنين يدٌ شلّاء، لا يتمّ هذا الأمر! ثم جىء بالزّبير فقال مثل ذلك وبايع - وفي الزبير اختلاف - ثمّ جىء بقوم كانوا قد تخلّفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد، والعزيز والذّليل، فبايعهم؛ ثمّ قام العامّة فبايعوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي زهير الأزدي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع الناس على علي، ذهب الأشتر فجاء بطلحة، فقال له: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه وجاء به يتلّه تلًّا عنيفًا، وصعد المنبر فبايع.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن الحارث الوالبي، قال: جاء حكيم بن جبلة بالزّبير حتى بايع؛ فكان الزبير يقول: جاءني لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت واللّجّ على عنقي.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبايع الناس كلهم.
قال أبو جعفر: وسمح بعد هؤلاء الذين اشترطوا الذين جىء بهم، وصار لأمر أمر أهل المدينة، وكانوا كما كانوا فيه، وتفرّقوا إلى منازلهم لولا مكان النزّاع والغوغاء فيهم.
اتساق الأمر في البيعة لعلي بن أبي طالب عليه السلام
وبويع علي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجّة - والناس يحسبون من يوم قتل عثمان رضي الله عنه - فأوّل خطبة خطبها علي حين استخلف - فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن علي بن الحسين - حمد الله وأثنى عليه، فقال: إنّ الله عز وجل أنزل كتابًا هاديًا بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا بالخير ودعوا الشرّ. الفرائض أدّوها إلى الله سبحانه يؤدكم إلى الجنّة. إنّ الله حرّم حرمًا غير مجهولة، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين. والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحقّ، لا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصّة أحدكم الموت، فإنّ الناس أمامكم، وإنّ ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتّقوا الله عباده في عباده وبلاده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشرّ فدعوه، " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ".
ولما فرغ علي من خطبته وهو على المنبر قال المصريون:
خذها.. واحذرًا أبا حسن ** إنّا نمرّ الأمر إمرار الرسن
وإنما الشعر:
خذها إليك واحذرًا أبا حسن
فقال علي مجيبًا:
إني عجزت عجزة ما أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما أراد علي الذهاب إلى بيته قالت السبئيّة:
خذها إليك واحذرًا أبا حسن ** إنّا نمرّ الأمر إمرار الرسن
صولة أقوام كأسداد السفن ** بمشرفيّات كغدران اللبن
ونطعن الملك بلين كالشّطن ** حتى يمرّنّ على غير عنن
فقال علي وذكر تركهم العسكر والكينونة على عدة ما منّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى..
إنّي عجزت عجزةً لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر
أرفع من ذيلي ما كنت أجرّ ** وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر ** أو يتركوني والسّلاح يبتدر
واجتمع إلى علي بعد ما دخل طلحة والزّبير في عدّة من الصحابة، فقالوا: يا علي، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم. فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلّا رأيًا ترونه إن شاء الله؛ إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة؛ وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قطّ فيبرح الأرض من أخذ بها أبدًا. إنّ الناس من هذا الأمر إن حرّك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم، ثمّ عودوا.
واشتدّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حال، وإنما هيّجه على ذلك هرب بني أميّة. وتفرّق القوم؛ وبعضهم يقول: والله لئن ازداد الأمر لا قدرنا على انتصار من هؤلاء الأشرار؛ لترك هذا إلى ما قال علي أمثل. وبعضهم يقول: نقضي الّذي علينا ولا نؤخّره، ووالله إنّ لعيّا لمستغنٍ برأيه وأمره عنا، ولا نراه إلّا سيكون على قريش أشدّ من غيره. فذكر ذلك لعلي فقام فحمد الله وأثنى عليه وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم، وأنه ليس له من سلطانهم إلّا ذلك، والأجر من الله عز وجل عليه، ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه. فتذامرت السبئيّة والأعراب، وقالوا: لنا غدًا مثلها، ولا نستطيع نحتجّ فيهم بشيء.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: خرج علي في اليوم الثالث على الناس، فقال: يأيّها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب. وقال: يا معشر الأعراب، الحقوا بمياهكم. فأبت السبئيّة وأطاعهم الأعراب. ودخل علي بيته ودخل عليه طلحة والزّبير وعدّة من أصحاب النبي ﷺ، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه؛ فقالوا: عشوا عن ذلك، قال: هم والله بعد اليوم أعشى وآبى. وقال:
لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرًا يديخ الأعاديا
وقال طلحة: دعني فلآت البصرة فلا يفجؤك إلّا وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك. وقال الزبير: دعني آت الكوفة فلا يفجؤك إلّا وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك؛ وسمع المغيرة بذلك المجلس فجاء حتى دخل عليه، فقال: إنّ لك حقّ الطاعة والنصيحة، وإنّ الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإنّ الضياع اليوم تضيّع به ما في غد؛ أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، وأقرر العمّال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت. قال: حتى أنظر.
فخرج من عنده وعاد إليه من الغد، فقال: إني أشرت عليك بالأمس برأي، وإنّ الرأي أن تعاجلهم بالنزوع، فيعرف السامع من غيره ويستقبل أمرك؛ ثمّ خرج وتلقّاه ابن عباس خارجًا وهو داخل، فلما انتهى إلى علي قال: رأيت المغيرة خرج من عندك ففيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بذيّة وذيّة، وجاءني اليوم بذيّة وذيّة، فقال: أمّا أمس فقد نصحك، وأما اليوم فقد غشّك. قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج حين قتل الرجل أو قبل ذلك، فتأتي مكة فتدخل دارك وتغلق عليك بابك، فإن كانت العرب جائلة مضطربة في أثرك لا تجد غيرك؛ فأمّا اليوم فإنّ في بني أميّة من يستحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر، ويشبّهون على الناس، ويطلبون مثل ما طلب أهل المدينة، ولا تقدر على ما يريدون ولا يقدرون عليه، ولو صارت الأمور إليهم حتى يصيروا في ذلك أموت لحقوقهم؛ وأترك لها إلا ما يعجّلون من الشبهة. وقال المغيرة: نصحته والله، فلما لم يقبل غششته. وخرج المغيرة حتى لحق بمكة.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، عن الواقدي، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحجّ، فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحجّ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثمّ قدمت المدينة وقد بويع لعلي؛ فأتيته في داره فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليًا به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمّال عثمان بعهودهم تقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنّهم يهدّئون البلاد ويسكّنون الناس؛ فأبيت ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يولّى.
قال: ثمّ انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطىء؛ ثمّ عاد إلي الآن فقال: إنّي أشرت عليك أوّل مرّة بالذي اشرت عليك وخالفتني فيه، ثمّ رأيت بعد ذلك رأيًا، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنتزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرّة الأولى فقد نصحك، وأما المرّة الآخرة فقد غشّك؛ قال له علي: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنّك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا؛ ويؤلّبون عليك فينتقض عليك أهل الشأم وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزّبير أن يكرّا عليك. فقال علي: أمّا ما ذكرت من إقرارهم فوالله ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان فوالله لا أولّي منهم أحدًا أبدًا؛ فإن أقبلوا فذلك خير لهم: وإن أدبروا بذلت لهم السيف. قال ابن عباس: فأطعني وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإنّ العرب تجلو جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غدًا. فأبى علي، فقال لابن عباس: سر إلى الشأم فقد ولّيتكها؛ فقال ابن عباس: ما هذا برأي؛ معاوية رجلٌ من بني أميّة وهو ابن عمّ عثمان وعامله على الشأم، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرارة ما بيني وبينك، وإنّ كلّ ما حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده. فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبدًا.
قال محمّد: وحدثني هشام بن سعد، عن أبي هلا، قال: قال ابن عبّاس: قدمت المدينة من مكة بعد قتل عثمان رضي الله عنه بخمسة أيام، فجئت عليًّا أدخل عليه، فقيل لي: عنده المغيرة بن شعبة؛ فجلست بالباب ساعة، فخرج المغيرة فسلّم علي فقال: متى قدمت؟ فقلت: الساعة. فدخلت على علي فسلّمت عليه، فقال لي: لقيت الزبير وطلحة؟ قال: قلت: لقيتهما بالنّواصف. قال: من معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحارث بن هشام في فئة من قريش. فقال علي: أما إنهم لن يدعوا أن يخرجوا يقولون: نطلب بدم عثمان؛ والله نعلم أنهم قتلة عثمان. قال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن شأن المغيرة، ولم خلا بك؟ قال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين، فقال لي: أخلني، ففعلت؛ فقال: إنّ النصح رخيص وأنت بقيّة الناس، وإني لك ناصح، وإني أشير عليك بردّ عمال عثمان عامك هذا؛ فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت. فقلت: والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدني في أمري. قال: فإن كنت قد أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإنّ لمعاوية جرأة، وهو في أهل الشأم يسمع منه، ولك حجّة في إثباته؛ كان عمر بن الخطاب قد ولّاه الشأم كلها، فقلت: لا والله، لا أستعمل معاوية يومين أبدًا. فخرج من عندي على ما أشار به، ثمّ عاد فقال لي: إنّي أشرت عليك بما أششرت به فأبيت علي، ثمّ نظرت في الأمر فإذا أنت مصيب، لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون في أمرك دلسة. قال: فقال ابن عباس: فقلت لعلي: أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك، وأما الآخر فغشّك؛ وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله. قال علي: لا والله، لا أعطيه إلّا السيف. قال: ثم تمثّل بهذا البيت:
ما ميتة إن متّها غير عاجز ** بعار إذا ما غالت النفس غولها
فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع لست بأرب بالحرب، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: " الحرب خدعة "! فقال علي: بلى، فقال ابن عباس: أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورد، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا بن عباس، لست من هنيئاتك وهنيات معاوية في شيء، تشير علي وأرى، فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: أفعل، إنّ أيسر مالك عندي الطاعة.
مسير قسطنطين ملك الروم يريد المسلمين
وفي هذه السنة - أعني سنة خمس وثلاثين - سار قسطنطين بن هرقل - فيما ذكر محمد بن عمر الواقدي عن هشام بن الغاز، عن عبادة بن نسي - في ألف مركب يريد أرض المسلمين، فسلّط الله عليهم قاصفًا من الريح فغرّقهم، ونجا قسطنطين بن هرقل، فأتى صقلّيّة، فصنعوا له حمّامًا فدخله فقتلوه فيه؛ وقالوا: قتلت رجالنا.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين
تفريق علي عماله على الأمصار
ولمّا دخلت سنة ستّ وثلاثين فرّق علي عمّاله؛ فممّا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بعث علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة؛ وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشأم؛ فأمّا سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشأم، قالوا: إن كان عثمان بعثك فحيّهلًا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع! قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى؛ فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعيد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: من فالّة عثمان، فأنا أطلب من آوى إليه وأنتصر به، قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد، قالوا: امض؛ فمضى حتى دخل مصر، فافترق أهل مصر فرقًا؛ فرقة دخلت في الجماعة وكانوا معه، وفرقة وقفت واعتزلت إلى خربتا وقالوا: إن قتل قتلة ععثمان فنحن معكم، وإلّا فنحن على جديلتنا حتى نحرّك أو نصيب حاجتنا؛ وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة؛ وكتب قيس إلى أمير المؤمنين بذلك. وأمّا عثمان بن حنيف فسار فلم يردّه أحد عن دخول البصرة ولم يوجد في ذلك لابن عامر رأي ولا حزم ولا استقلال بحرب. وافترق الناس بها، فاتّبعت فرقة القوم، ودخلت فرقة في الجماعة، وفرقة قالت: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا. وأما عمارة فأقبل حتى إذا كان بزبالة لقيه طليحة بن خويلد؛ وقد كان حين بلغهم خبر عثمان خرج يدعو إلى الطلب بدمه ويقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه!
يا ليتني فيها جذع ** أكر فيها وأضع
فخرج حين رجع القعقاع من إغاثة عثمان فيمن أجابه حتى دخل الكوفة، فطلع عليه عمارة قادمًا على الكوفة، فقال له: ارجع فإنّ القوم لا يريدون بأميرهم بدلًا، وإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة وهو يقول: احذر الخطر ما يماسّك، الشر خير من شرّ منه.
فرجع إلى علي بالخبر. وغلب على عمارة بن شهاب هذا المثل من لدن اعتاصت عليه الأمور إلى أن مات. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن أميّة كلّ شيء من الجباية وتركه وخرج بذلك وهو سائر على حاميته إلى مكة فقدمها بالمال. ولما رجع سهل بن حنيف من طريق الشأم وأتته الأخبار ورجع من رجع، دعا علي طلحة والزّبير، فقال: إنّ الذي كنت أحذّركم قد وقع يا قوم، وإنّ الأمر الذي وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار؛ كلّما سعّرت ازدادت واستنارت. فقالا له: فأذن لنا أن نخرج من المدينة، فإمّا أن نكابر وإما أن تدعنا، فقال: سأمسك الأمر ما استمسك؛ فإذا لم أجد بدًّا فآخر الدواء الكي.
وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. وكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبيّن الكاره منهم للّذي كان، والرّاضي بالذي قد كان، ومن بين ذلك حتى كأن عليًّا على المواجهة من أمر أهل الكوفة. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبد الأسلمي؛ وكان رسول أمير المؤمنين إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه فلم يكتب معاوية بشيء ولم يجبه وردّ رسوله، وجعل كلما تنجّز جوابه لم يزد على قوله:
أدم إدامة حصن أو خدًا بيدي ** حربًا ضروسًا تشبّ عالجزل والضّرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ** شنعاء شيّبت الأصداغ واللّمما
أعيا المسود بها والسّيّدون فلم ** يوجد لها غيرنا مولىً ولا حكما
وجعل الجهني كلما تنجّز الكتاب لم يزده على هذه الأبيات؛ حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طومارًا مختومًا، عنوانه: من معاوية إلى علي. فقال: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثمّ أوصاه بما يقول وسرّح رسول علي. وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأوّل لغرّته، فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار، ففضّ خاتمه فلم يجد في جوفه كتابةً، فقال للرّسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إنّ الرسل آمنة لا تقتل؛ قال: ورائي أني تركت قومًا لا يرضون إلا بالقود، قال: ممن؟ قال: من خيط نفسك، وتركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق. فقال: منّي يطلبون دم عثمان! ألست موتورًا كترة عثمان! اللهمّ إني أبرأ إليك من دم عثمان؛ نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله، فإنّه إذا أراد أمرًا أصابه؛ اخرج؛ قال: وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئيّة قالوا: هذا الكلب، هذا وافد الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر، يا آل قيس، الخيل والنّبل، إني أحلف بالله جلّ اسمه ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحولة والرّكاب! وتعاووا عليه ومنعنه مضر، وجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله، لا يفلح هؤلاء أبدًا، فلقد أتاهم ما يوعدون. فيقولون له: اسكت، فيقول: لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم، وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذلّ فيهم.
استئذان طلحة والزبير عليا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: استأذن طلحة والزّبير عليًّا في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ وأحبّ أهل المدينة أن يعلموا ما رأى علي في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة؛ أيجسر عليه أو ينكل عنه! وقد بلغهم أنّ الحسن بن علي دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس، فدسّوا إليه زياد بن حنظلة التميمي - وكان منقطعًا إلى علي - فدخل عليه فجلس إليه ساعةً ثمّ قال له علي: يا زياد، تيسّر؛ فقال: لأي شيء؟ فقال: تغزو الشأم، فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، فقال:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ** يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
فتمثّل علي وكأنه لا يريده:
متى تجممع القلب الذكي وصارمًا ** وأنفًا حميًّا تجتنبك المظالم
فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل. ودعا عليٌّ محمد بن الحنفيّة فدفع إليه اللواء، وولّى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة - أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولّاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح؛ ابن أخي أبي عبيدة بن الجرّاح، فجعله على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن عبّاس، ولم يولّ ممن خرج على عثمان أحدًا، وكتب إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشأم، وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى مثل ذلك، وأقبل على التهيّؤ والتجهّز، وخطب أهل المدينة فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة، وقال: إنّ الله عز وجل بعث رسولًا هاديًا مهديًّا بكتاب ناطق وأمر قائم واضح؛ لا يهلك عنه إلا هالك، وإنّ المبتدعات والشبهات هنّ المهلكات إلّا من حفظ الله، وإنّ في سلطان الله عصمة أمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملويّة ولا مستكره بها، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ثمّ لا ينقله إليكم أبدًا حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون يفرّقون جماعتكم، لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق، وتقضون الذي عليكم. فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكة بنحو آخر وتمام على خلاف، فقام فيهم بذلك؛ فقال: إنّ الله عز وجل جعل لظالم هذه الأمة العفو والمغفرة، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنّجاة، فمن لم يسعه الحقّ أخذ بالباطل. ألا وإنّ طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين قد تمالئوا على سخط إمارتي، ودعوا الناس إلى الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكفّ إن كفّوا، وأقتصر على ما بلغني عنهم.
ثمّ أتاه أنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح، فتعبّى للخروج إليهم، وقال: إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين وما كان عليهم في المقام فينا مؤونة ولا إكراه. فاشتدّ على أهل المدينة الأمر، فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلا النخعي، فجاء به فقال: انهض معي، فقال: أنا مع أهل المدينة، إنما أنا رجل منهم وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم لا أفارقهم، فإن يخرجوا أخرج وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني زعيمًا بألّا تخرج، قال: ولا أعطيك زعيمًا، قال: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرًا وكبيرًا لأنكرتني، دعوه فأنا به زعيم. فرجع عبد الله بن عمر إلى المدينة وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإنّ هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أمّ كلثوم بنت علي بالذي سمع من أهل المدينة، وأنه يخرج معتمرًا مقيمًا على طاعة علي ما خلا النهوض؛ وكان صدوقًا فاستقرّ عندها؛ وأصبح علي فقيل له: حدث البارحة حدث هو أشدّ عليك من طلحة والزبير وأمّ المؤمنين ومعاوية. قال: وما ذلك؟ قال: خرج ابن عمر إلى الشأم؛ فأتى علي السوق ودعا بالظّهر فحمل الرجال وأعدّ لكل طريق طلّابًا. وماج أهل المدينة، وسمعت أمّ كلثوم بالذي هو فيه، فدعت ببغلتها فركبتها في رحل ثمّ أتت عليًا وهو واقف في السوف يفرّق الرجال في طلبه، فقالت: مالك لا تزنّد من هذا الرجل؟ إنّ الأمر على خلاف ما بلّغته وحدثته. قالت: أنا ضامنة له، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، لا والله ما كذبت ولا كذب، وإنه عندي ثقة فانصرفوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رأى علي من أهل المدينة ما رأى لم يرض طاعتهم حتى يكون معها نصرته، قام فيهم وجمع إليه وجوه أهل المدينة، وقال: إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح أوّله، فقد رأيتم عواقب قضاء الله عز وجل على من مضى منكم، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فأجابه رجلان من أعلام الأنصار؛ أبو الهيثم بن التيّهان - وهو بدري - وخزيمة بن ثابت؛ وليس بذي الشهادتين؛ مات ذو الشهادتين في زمن عثمان رضي الله عنه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن الحكم، قال: قيل له: أشهد خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين الجمل؟ فقال: ليس به، ولكنّه غيره من الأنصار؛ مات ذو الشهادتين في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: بالله الذي لا إله إلّا هو؛ ما نهض في تلك الفتنة إلّا ستّة بدريّين ما لهم سابع، أو سبعة ما لهم ثامن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: بالله الذي لا إله إلّا هو ما نهض في ذلك الأمر إلّا ستة بدرّيين ما لهم سابع. فقلت: اختلفتما. قال: لم نختلف، إنّ الشعبي شكّ في أبي أيوب: أخرج حيث أرسلته أمّ سلمة إلى علي بعد صفين، أم لم يخرجّ إلّا أنه قدم عليه فمضى إليه، وعلي يومئذ بالنّهروان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن رجل، عن سعيد بن زيد، قال: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي ﷺ ففازوا على الناس بخير يحوزونه إلّا وعلي بن أبي طالب أحدهم.
ثم إنّ زياد بن حنظلة لما رأى تثاقل الناس عن علي ابتدر إليه وقال: من تثاقل عنك فإنا نخفّ معك ونقاتل دونك. وبينما عليٌّ يمشي في المدينة إذ سمع زينب ابنة أبي سفيان وهي تقول: ظلامتنا عند مدمّم وعند مكحلة، فقال: إنها لتعلم ما همّا لها بثأر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة؛ أن عثمان قتل في ذي الحجة لثمان عشرة خلت منه، وكان على مكة عبد الله بن عامر الحضرمي. وعلى الموسم يومئذ عبد الله بن عباس، بعثه عثمان وهو محصور، فتعجّل أناس في يومين فأدركوا مع ابن عباس، فقدموا لامدينة بعد ما قتل وقبل أن يبايع علي، وهرب بنو أميّة فلحقوا بمكة، وبويع علي لخمس بقين من ذي الحجّة يوم الجمعة؛ وتساقط الهرّاب استخبرتهم فأخبروها أن قد قتل عثمان رضي الله عنه ولم يجبهم إلى التأمير أحد؛ فقالت عائشة رضي الله عنها: ولكن أكياس، هذا غبّ ما كان يدور بينكم من عتاب الاستصلاح؛ حتى إذا قضت عمرتها وخرجت فانتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث - وكانت واصلة لهم، رفيقة عليهم - يقال له عبيد بن أبي سلمة يعرف بأمّه أمّ كلاب، فقالت: مهيم! فأصمّ ودمدم، فقالت: ويحك! علينا أو لنا؟ فقال: لا تدري، قتل عثمان وبقوا ثمانيًا، قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ فقال: أخذوا أهل المدينة بالاجتماع على علي، والقوم الغالبون على المدينة. فرجعت إلى مكة وهي لاتقول شيئًا ولا يخرج منها شيء، حتى نزلت على باب المسجد وقصدت للحجر فستّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: يأيّها الناس، إنّ الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب واستعمال من حدثت سنّه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من مواضع الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحًا لهم، فلما لم يجدوا حجّةً ولا عذرًا خلجوا وبادوا بالعدوان ونبا فعلهم عن قولهم؛ فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام، واستحلّوا الشهر الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم. فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرّد من بعدهم، ووالله لو أن الّذي اعتدّوا به عليه كان ذنبًا لخلّص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء. فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: هأنذا لها أوّل طالب - وكان أوّل مجيب ومنتدب.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: حدثنا سحيم مولى وبرة التميمي، عن عبيد بن عمرو القرشي، قال: خرجت عائشة رضي الله عنها وعثمان محصور، فقدم عليها مكّة رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟: فقال: قتل عثمان المصريين، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! أيقتل قومًا جاءوا يطلبون الحقّ وينكرون الظلم! والله لا نرضى بهذا. ثمّ قدم آخر فقالت: ما صنع الناس؟ قال: قتل المصرّيون عثمان، قالت: العجب لأخضر، زعم أنّ المقتول هو القاتل!. فكان يضرب به المثل: " أكذب من أخضر ".
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: خرجت عائشة رضي الله عنها نحو المدينة من مكّة بعد مقتل عثمان، فلقيها رجل من أخوالها، فقالت: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي، والأمر أمر الغوغاء. فقالت: ما أظنّ ذلك تامًّا ردّوني. فانصرفت راجعة إلى مكة، حتى إذ دخلتها أتاها عبد الله ابن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال: ما ردّك يا أمّ المؤمنين؟ قالت: ردّني أنّ عثمان قتل مظلومًا، وأنّ الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزّوا الإسلام. فكان أوّل من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي، وذلك أوّل ما تكلمت بنو أميّة بالحجاز ورفعوا رءوسهم، وقام معهم سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وسائر بني أميّة. وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة؛ ويعلى بن أميّة من اليمن، وطلحة والزّبير من المدينة، واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمرهم على البصرة، وقالت: أيّها الناس، إنّ هذا حدث عظيم وأمر منكر، فانهضوا فيه إلى إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه، فقد كفاكم أهل الشأم ما عندهم، لعلّ الله عز وجل يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان أوّل من أجاب إلى ذلك عبد الله بن عامر وبنو أميّة؛ وقد كانوا سقطوا إليها بعد مقتل عثمان، ثم قدم عبد الله بن عامر، ثمّ قدم يعلى بن أميّة، فاتّفقا بمكة، ومع يعلى ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح معسكرًا؛ وقدم معهما طلحة والزّبير، فلقيا عائشة رضي الله عنها، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: وراءنا أنا تحملنا بقلّيّتنا هرّابًا من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قومًا حيارى لا يعرفون حقًّا ولا ينكرون باطلًا ولا يمنعون أنفسهم. قالت: فائتمروا أمرًا؛ ثمّ انضهوا إلى هذه الغوغاء. وتمثّلت:
ولو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** لأنقذتهم من الحبال أو الخبل
وقال القوم فيما ائتمروا به: الشأم. فقال عبد الله بن عامر: قد كفاكم الشأم من يستمرّ في حوزته، فقال له طلحة والزّبير: فأين؟ قال: البصرة، فإنّ لي بها صنائع ولهم في طلحة هولًا، قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلّا أقمت كما أقام معاوية فنكتفي بك، ونأتي الكوفة فنسدّ على هؤلاء القوم المذاهب! فلم يجدوا عنده جوابًا مقبولًا، حتى إذا استقام لهم الرأي على البصرة قالوا: يا أمّ المؤمنين، دعي المدينة فإنّ من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها، واشخصي معنا إلى البصرة، فإنّا نأتي بلدًا مضيّعًا، وسيحتجون علينا فيه ببيعة علي بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكّة ثم تقعدين، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تريدين، وإلّا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد.
فلما قالوا ذلك لها - ولم يكن ذلك مستقيمًا إلّا بها - قالت: نعم؛ وقد كان أزواج النبي ﷺ معها على قصد المدينة، فلمّا تحوّل رأيها إلى البصرة تركن ذلك؛ وانطلق القوم بعدها إلى حفصة، فقالت: رأيي تبعٌ لرأي عائشة؛ حتى إذا لم يبق إلّا الخروج قالوا: كيف نستقلّ وليس معنا مال نجهّز به الناس! فقال يعلى بن أميّة: معي ستمائة ألف وستمائة بعير فاركبوها؛ وقال ابن عامر: معي كذا وكذا فتجهّزوا به. فنادى المنادي: إنّ أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال المحلّين والطلب بثأر عثمان ومن لم يكن عنده مركب ولم يكن له جهاز فهذا جهاز وهذه نفقة، فحملوا ستمائة رجل على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب - وكانوا جميعًا ألفا - وتجهّزوا بالمال، ونادوا بالرّحيل واستقلّوا ذاهبين. وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبد الله بن عمر فطلب إليها أن تقعد، فقعدت وبعثت إلى عائشة: أن عبد الله حال بيني وبين الخروج، فقالت: يغفر الله لعبد الله! وبعثت أمّ الفضل بنت الحارث رجلًا من جهينة يدعى ظفرًا، فاستأجرته على أن يطوي ويأتي عليًّا بكتابها، فقدم على علي بكتاب أمّ الفضل بالخبر. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي، عن أبي مخنف، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبيه، قال: قال أبو قتادة لعلي: يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله ﷺ قلّدني هذا السيف وقد شمته فطال شيمه، وقد أنَى تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لم يألوا الأمّة غشًّا، فإن أحببت أن تقدّمني، فقدّمني. وقامت أمّ سلمة فقال: يا أمير المؤمنين، لولا أن أعصي الله عز وجل وأنك لا تقبله منّي لخرجت معك؛ وهذا ابني عمر - والله لهو أعزّ علي من نفسي - يخرج معك فيشهد مشاهدك. فخرج لم يزل معه، واستعمله على البحرين ثم عزله، واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا مسلمة، عن عوف، قال: أعان يعلى بن أميّة الزبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين رجلًا من قريش، وحمل عائشة رضي الله عنها على جمل يقال له عسكر، أخذه بثمانين دينارًا، وخرجوا. فنظر عبد الله بن الزبير إلى البيت؛ فقال: ما رأيت مثلك بركة طالب خير، ولا هارب من شرّ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمّد وطلحة، قالا: خرج المغيرة وسعيد بن العاص معهم مرحلةً من مكّة، فقال سعيد للمغيرة: ما الرأي؟ قال: الرأي والله الاعتزال، فإنّهم ما يفلح أمرهم، فإن أظفره الله أتيناه، فقلنا: كان هوانا وصغونا معك؛ فاعتزلا فجلسا، فجاء سعيد مكة فأقام بها، ورجع معهما عبد الله بن خالد بن أسيد.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، قال: ثمّ ظهرا - يعني طلحة والزّبير - إلى مكة بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأربعة أشهر وابن عامر بها يجرّ الدنيا، وقدم يعلى بن أميّة معه بمال كثير، وزيادة على أربعمائة بعير، فاجتمعوا في بيت عائشة رضي الله عنها فأرادوا الرأي، فقالوا: نسير إلى علي فنقاتله، فقال بعضهم: ليس لكم طاقة بأهل المدينة، ولكنّا نسير حتى ندخل البصرة والكوفة، ولطلحة بالكوفة شيعةٌ وهوىً، وللزّبير بالبصرة هوىً ومعونة. فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى ابصرة وإلى الكوفة، فأعطاهم عبد الله بن عامر مالًا كثيرًا وإبلا، فخرجوا في سبعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل، فبلغ عليًّا مسيرهم، فأمّر على المدينة سهل ابن حنيف الأنصاري، وخرج فسار حتى نزل ذاقار، وكان مسيره إليها ثمان ليال، ومعه جماعة من أهل المدينة.
حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف قاضي صنعاء، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن موسى بن عقبة، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزّبير وعائشة رضي الله عنههم عرضوا الناس بذات عرق، واستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فردّوهما.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: أخبرنا أبو عمرو، عن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، قال: لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بذات عرق، فقال: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل! اقتلوهم ثمّ ارجعوا إلى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم؛ قالوا: بل نسير فلعلّنا نقتل قتلة عثمان جميعًا. فخلا سعيد بطلحة والزّبير، فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ أصدقاني؛ قالا: لأحدنا أيّنا اختاره الناس. قال: بل اجعلوه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه، قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: أفلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما رأى سعيد، من كان ها هنا من ثقيف فليرجع؛ فرجع ومضى القوم، معهم أبان بن عثمان والوليد بن عثمان، فاختلفوا في الطريق فقالوا: من ندعو لهذا الأمر؟ فخلا الزبير بابنه عبد الله، وخلا طلحة بعلقمة بن وقّاص الليثي - وكان يؤثره على ولده - فقال أحدهما: ائت الشأم، وقال الآخر: ائت العراق، وحاور كلّ واحد منهما صاحبه ثم اتّفقا على البصرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن الأغرّ، قال: لما اجتمع إلى مكّة بنو أميّة ويعلى بن منية وطلحة والزّبير، ائتمروا أمرهم، وأجمع ملؤهم على الطلب بدم عثمان وقتال السبئيّة حتى يثأروا وينتقموا؛ فأمّرتهم عائشة رضي الله عنها بالخروج إلى المدينة، واجتمع القوم على البصرة وردّوها عن رأيها، وقال لها طلحة والزّبير: إنا نأتي أرضًا قد أضيعت وصارت إلى علي، وقد أجبرنا علي على بيعته، وهم محتجّون علينا بذلك وتاركو أمرنا إلّا أن تخرجي فتأمري بمثل ما أمرت بمكة، ثمّ ترجعي. فنادى المنادي: إن عائشة تريد البصرة وليس في ستمائة بعير ما تغنون به غوغاء وجلبة الأعراب وعبيدًا قد انتشروا وافترشوا أذرعهم مسعدين لأوّل واعية. وبعثت إلى حفصة، فأرادت الخروج، فعزم عليها ابن عمر فأقامت؛ فخرجت عائشة ومعها طلحة والزّبير، وأمّرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، فكان يصلّي بهم في الطريق وبالبصرة حتى قتل، وخرج معها مروان وسائر بني أميّة إلّا من خشع، وتيامنت عن أوطاس؛ وهم ستمائة راكب سوى من كانت له مطيّة، فتركت الطريق ليلةً وتيامنت عنها كأنهم سيّارة ونجعة، مساحلين لم يدن من المنكدر ولا واسط ولا فلج منهم أحد، حتّى أتوا البصرة في عام خصيب. وتمثّلت:
دعي بلاد جموع الظلم إذ صلحت ** فيها المياه وسيري سير مذعور
تخيّري النبت فارعي ثمّ ظاهرة ** وبطن واد من الضمّار ممطور
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عمر بن راشد اليمامي، عن أبي كثير السحيمي، عن ابن عباس، قال: خرجد أصحاب الجمل في ستمائة، معهم عبد الرحمن بن أبي بكرة وعبد الله بن صفوان الجمحي، فلما جاوزا بئر ميمون إذا هم بجزور قد نحرت ونحرها ينثعب، فتطيّروا. وأذّن مروان حين فصل من مكة ثمّ جاء حتى وقف عليهما، فقال: أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذّن بالصّلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد. فأرسلت عائشة رضي الله عنها إلى مروان فقالت: مالك؟ أتريد أن تفرّق أمرنا! ليصلّ ابن أختي، فكان يصلّي بهم عبد الله بن الزبير حتى قدم البصرة، فكان معاذ بن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لافتتنّا ما خلّى الزبير بين طلحة والأمر، ولا خلّى طلحة بين الزبير والأمر.
خروج علي إلى الربذة يريد البصرة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: جاء عليًّا الخبر عن طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين، فأمّر على المدينة تمّام بن العباس، وبعث إلى مكّة قثم بن العباس، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق وأراد أن يعترضهم، فاستبان له بالرّبذة أن قد فاتوه، وجاءه بالخبر عطاء بن رئاب مولى الحارث بن حزن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بلغ عليًّا الخبر - وهو بالمدينة - باجتماعهم على الخروج إلى البصرة وبالّذي اجتمع عليه ملؤهم؛ طلحة والزّبير وعائشة ومن تبعهم، وبلغه قول عائشة، وخرج علي يبادرهم في تعبيته التي كان تعبّى بها إلى الشام، وخرج معه من نشط من الكوفيّين والبصريّين متخفّفين في سبعمائة رجل، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها؛ فوالله لئن خرجت منها لا ترجع إليها ولا يعود إليها سلطان المسلمين أبدًا. فسبّوه، فقال: دعو الرجل؛ فنعم الرجل من أصحاب محمد ﷺ! وسار حتى انتهى إلى الربذة فبلغه ممرّهم، فأقام حين فاتوه يأتمر بالرّبذة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن خالد بن مهران البجلي، عن مروان بن عبد الرحمن الخميسي، عن طارق بن شهاب، قال: خرجنا من الكوفة معتمرين حين أتانا قتل عثمان رضي الله عنه، فلما انتهينا إلى الربذة - وذلك في وجه الصبح - إذا الرفاق وإذا بعضهم يحدو بعضًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين، فقلت: ما له؟ قالوا: غلبة طلحة والزّبير، فخرج يعترض لهم ليردّهما، فبلغه أنهما قد فاتاه، فهو يريد أن يخرج في آثارهما، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! آتي عليًّا فأقاتل معه هذين الرجلين وأمّ المؤمنين أو أخالفه! إنّ هذا لشديد. فخرجت فأتيته، فأقيمت الصلاة بغلس، فتقدّم فصلّى، فلما انصرف أتاه ابنه الحسن فجلس فقال: قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخنّ خنين الجارية! وما الّذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثمّ أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمممصار والعرب وبيعة كلّ مصر، ثمّ أمرتك حين فعل هذان الرجلان مما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك؛ فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أمّا قولك: لو خرجت من الممدينة حين أحيط بعثمان؛ فولله لقد أحيط بنا كما أحيط به. وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإنّ الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر. وأما قولك حين خرج طلحة والزّبير، فإنّ ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، ووالله ما زلت مقهورًا مذ وليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي. وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني! أو من تريدني؟ أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاطب ها ويقال: دباب دباب! ليست ها هنا حتى يحلّ عرقوباها ثم تخرج؛ وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه! فكفّ عنك أي بني.
شراء الجمل لعائشة رضي الله عنها وخبر كلاب الحوءب
حدثني إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا علي بن عابس الأزرق، قال: حدثنا أبو الخطّاب الهجري، عن صفوان بن قبيضة الأحمسي، قال: حدثني العرني صاحب الجمل، قال: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: يا صاحب الجمل، تبيع جملك؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بألف درهم، قال: مجنون أنت! جملٌ يباع بألف درهم! قال: قلت: نعم، جملي هذا، قال: وممّ ذلك؟ قلت: ما طلبت عليه أحدًا قطّ إلّا أدركته، ولا طلبني وأنا عليه أحد إلا فتّه. قال: لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا، قال: قلت: ولمن تريده؟ قال: لأمّك، قلت: لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحا، قال: إنما أريده لأمّ المؤمنين عائشة، قلت: فهو لك، فخذه بغير ثمن، قال: لا، ولكن ارجع معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهريّة ونزيدك دراهم، قال: فرجعت فأعطوني ناقةً لها مهرّية، وزادوني أربعمائة أو ستمائة درهم، فقال لي: يا أخا عرينة، هل لك دلالة بالطريق؟ قال: قلت: نعم، أنا من أدرك الناس، قال: فسر معنا، فسرت معهم فلا أمرّ على واد ولا ماء إلّا سألوني عنه؛ حتى طرقنا ماء الحوءب فنبحتنا كلابها، قالوا: أي ماء هذا؟ قلت: ماء الحوءب، قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوءب طروقًا، ردّوني! تقول ذلك ثلاثًا. فأناخت وأناخوا حولها وهم على ذلك، وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد. قال: فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب! قال: فارتحلوا وشتموني، فانصرفت، فما سرت إلّا قليلًا وإذا أنا بعلي وركب معه نحو من ثلثمائة، فقال لي علي: يأيّها الراكب! فأتيته فقال: أين أتيت الظعينة؟ قلت: في مكان كذا وكذا، وهذه ناقتها، وبعتهم جملي، قال: وقد ركبته؟ قلت: نعم؛ وسرت معهم حتى أتينا ماء الحوءب فنبحت عليها كلابها، فقالت كذا وكذا، فلما رأيت اختلاط أمرهم انفتلت وارتحلوا؛ فقال علي: هل لك دلالة بذي قار؟ قلت: لعلي أدلّ الناس، قال: فسر معنا؛ فسرنا حتى نزلنا ذا قار، فأمر علي بن أبي طالب بجوالقين فضمّ أحدهما إلى صاحبه، ثم جىء برحل فوضع عليهما، ثم جاء يمشي حتى صعد عليه، وسدل رجليه من جانب واحد، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على محمّد ﷺ، ثم قال: قد رأيتم ما صنع هؤلاء القوم وهذه المرأة. فقام إليه الحسن فبكى، فقال له علي: قد جئت تخنّ خنين الجارية! فقال: أجل، أمرتك فعصيتني، فأنت اليوم تقتل بمضيعة لا ناصر لك، قال: حدث القوم بما أمرتني به، قال: أمرتك حين سار الناس إلى عثمان ألّا تبسط يدك ببيعة حتى تجول جائلة العرب، فإنهم لن يقطعوا أمرًا دونك، فأبيت علي، وأمرتك حين سارت هذه المرأة وصنع هؤلاء القوم ما صنعوا أن تلزم المدينة وترسل إلى من استجاب لك من شيعتك، قال علي: صدق والله، ولكن والله يا بني ما كنتُ لأكون كالضّبع تستمع للّدم، إنّ النبي ﷺ قبض وما أرى أحدًا أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر، فبايعت كما بايعوا، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه هلك وما أرى أحدًا أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر بن الخطاب، فبايعت كما بايعوا، ثمّ إنّ عمر رضي الله عنه عنه هلك وما أرى أحدًا أحقّ بهذا الأمر منّي، فجعلني سهمًا من ستّة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا، ثم سار الناس إلى عثمان رضي الله عنه فقتلوه، ثم أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مقاتل من خالفني بمن اتّبعني حتى يحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين.
قول عائشة والله لأطلبن بدم عثمان وخروجها وطلحة والزبير فيمن تبعهم إلى البصرة
كتب إلي علي بن أحمد بن الحسن العجلي أن الحسين بن نصر العطار، قال: حدثنا أبي نصر بن مزاحم العطار، قال: حدثنا سيف بن عمر، عن محمد بن نويرة وطلحة بن الأعلى الحنفي. قال: وحدثنا عمر بن سعد، عن أسد بن عبد الله، عمّن أدرك من أهل العلم؛ أنّ عائشة رضي الله عنها لما انتهت إلى سرف راجعة في طريقها إلى مكة، لقيها عبد بن أمّ كلاب - وهو عبد بن أبي سلمة، ينسب إلى أمه - فقالت له: مهيم؟ قال: قتلوا عثمان رضي الله عنه، فمكثوا ثمانيًا؛ قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز؛ اجتمعوا على علي بن أبي طالب. فقالت: والله ليت أنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك! ردّوني ردّوني، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلومًا، والله لأطلبنّ بدمه، فقال لها ابن أمّ كلاب: ولم؟ فوالله إنّ أول من أمال حرفه لأنت! ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلًا فقد كفر؛ قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل؛ فقال لها ابن أمّ كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير ** ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام ** وقلت لنا إنّه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله ** وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا ** ولم تنكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرإ ** يزيل الشبا ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها ** وما من وفى مثل من قد غدر
فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر، فستّرت واجتمع إليها الناس، فقالت: يأيّها الناس، إنّ عثمان قتل مظلومًا، ووالله لأطلبنّ بدمه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان علي في همّ من توجه القوم لا يدري إلى أين يأخذون! وكان أن يأتوا البصرة أحبّ إليه. فلما تيقّن أنّ القوم يعارضون طريق البصرة سرّ بذلك، وقال: الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم، فقال له ابن عباس: إنّ الذي يسرّك من ذلك ليسوؤني، إنّ الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام العرب، ولا يحملهم عدّة القوم، ولا يزال فيهم من يسمو إلى أمر لا يناله؛ فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال حتى يفشأه فيفسد بعضهم على بعض. فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، ولكنّ الأثرة لأهل الطاعة وألحق بأحسنهم سابقة وقدمة، فإن استووا أعفيناهم واجتبرناهم، فإن أقنعهم ذلك كان خيرًا لهم، وإن لم يقنعهم كلّفونا إقامتهم وكان شرًّا على من هو شرّ له. فقال ابن عباس: إن ذلك لأمر لا يدرك إلّا بالقنوع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لمّا اجتمع الرأي من طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين ومن بمكة من المسلمين على السير إلى البصرة والانتصار من قتلة عثمان رضي الله عنه، خرج الزبير وطلحة حتى لقيا ابن عمر ودعواه إلى الخفوف، فقال: إني امرؤ من أهل المدينة، فإن يجتمعوا على النهوض أنهض، وإن يجتمعوا على القعود أقعد، فتركاه ورجعا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، قال: جمع الزبير بنيه حين أراد الرحيل، فودّع بعضهم وأخرج بعضهم، وأخرج ابني أسماء جميعًا، فقال: يا فلان أقم، يا عمرو أقم. فلما رأى ذلك عبد الله بن الزبير، قال: يا عروة أقم، ويا منذر أقم، فقال الزبير: ويحك! أستصحب ابني وأستمتع منهما، فقال: إن خرجت بهم جميعًا فاخرج، وإن خلّفت منهم أحدًا فخلّفهما ولا تعرّض أسماء للثّكل من بين نسائك. فبكى وتركهما، فخرجوا حتى إذا انتهوا إلى جبال أوطاس تيامنوا وسلكوا طريقًا نحو البصرة، وتركوا طريقها يسارًا، حتى إذا دنوا منها فدخلوها ركبوا المنكدر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن الشهيد، عن ابن أبي مليكة، قال: خرج الزبير وطلحة ففصلا، ثمّ خرجت عائشة فتبعها أمّهات المؤمنين إلى ذات عرق، فلم ير يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام أو باكيًا له من ذلك اليوم، كان يسمّى يوم النحيب. وأمّرت عبد الرحمن بن عتّاب، فكان يصلّي بالناس، وكان عدلًا بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن يزيد بن معن السلمي، قال: لما تيامن عسكرها عن أوطاس أتوا على مليح بن عوف السلمي، وهو مطلع ما له، فسلّم على الزبير، وقال: يا أبا عبد الله، ما هذا؟ قال: عدي على أمير المؤمنين رضي الله عنه فقتل بلا ترة ولا عذر، قال: ومن؟ قال: الغوغاء من الأمصار ونزّاع القبائل، وظاهرهم الأعراب والعبيد، قال: فتريدون ماذا؟ قال: ننهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلّا يبطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا؛ إذا لم يفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلّا قتله هذا الضرب، قال: والله إنّ ترك هذا لشديد، ولا تدرون إلى أين ذلك يسير! فودّع كلّ واحد منهما صاحبه، وافترقا ومضى الناس.
دخولهم البصرة والحرب بينهم وبين عثمان بن حنيف
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ومضى الناس حتى إذا عاجوا عن الطريق وكانوا بفناء البصرة، لقيهم عمير ابن عبد الله التميمي، فقال: يا أمّ المؤمنين، أنشدك بالله أن تقدمي اليوم على قوم تراسلي منهم أحدًا فيكفيكهم! فقالت: جئتني بالرأي، امرؤ صالح، قال: فعجّلي ابن عامر فليدخل، فإنّ له صنائع فليذهب إلى صنائعه فليلقوا الناس حتى تقدمي ويسمعوا ما جئتم فيه. فأرسلته فاندسّ إلى البصرة، فأتى القوم. وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى رجال من أهل البصرة، وكتبت إلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم من الوجوه، ومضت حتى إذا كانت بالحفير انتظرت الجواب بالخبر؛ ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين - وكان رجل عامّة - وألزّه بأبي الأسود الدؤلي - وكان رجل خاصّة - فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها، فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير، فاستأذنا فأذنت لهما، فسلّما وقالا: إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطّى لبنيه الخبر. إنّ الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله ﷺ وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلّوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلّوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين، غير نافعين ولا متّقين؛ لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا. وقرأت: " لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ". ننهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله ﷺ؛ الصغير والكبير والذّكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به، ونحضّكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه، ونحثّكم على تغييره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فخرج أبو الأسود وعمران من عندها فأتيا طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليًّا؟ قال: بلى، واللّجّ على عنقي، وما أستقيل عليًّا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان، ثمّ أتيا الزبير فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليًّا؟ قال: بلى، واللجّ على عنقي، وما أستقيل عليًّا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. فرجعا إلى أمّ المؤمنين فودّعاها فودّعت عمران، وقالت: يا أبا الأسود إيّاك أن يقودك الهوى إلى النار، " كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط.. " الآية. فسرّحتهما؛ ونادى مناديها بالرّحيل، ومضى الرجلان حتى دخلا على عثمان بن حنيف، فبدر أبو الأسود عمران فقال:
يا بن حنيف قد أتيت فانفر ** وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئمًا وشمّر
فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحا الإسلام وربّ الكعبة؛ فانظروا بأي زيفان تزيف! فقال عمران: إي والله لتعركنّكم عركًا طويلًا ثم لا يساوي ما بقي منكم كثير شيء؛ قال: فأشر علي يا عمران، قال: إني قاعد فاقعد، فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين علي، قال عمران: بل يحكم الله ما يريد، فانصرف إلى بيته، وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: يا عثمان، إنّ هذا الأمر الذي تروم يسلم إلى شرٍّ مما تكره، إنّ هذا فتق لا يرتق، وصدع لا يجبر، فسامحهم حتى يأتي أمر علي ولا تحادّهم، فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتّهيّؤ، ولبسوا السلاح، واجتمعوا إلى المسجد الجامع، وأقبل عثمان على الكيد فكاد الناس لينظر ما عندهم، وأمرهم بالتهيّؤ، وأمر رجلًا ودسّه إلى الناس خدعًا كوفيًّا قيسيًّا، فقام فقال: يأيّها الناس، أنا قيس بن العقدّية الحميسي، إنّ هؤلاء القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوكم خائفين فقد جاءوا من المكان الذي يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان رضي الله عنه فما نحن بقتلة عثمان. أطيعوني في هؤلاء القوم فردّوهم من حيث جاءوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي، فقال: أو زعموا أنّا قتلة عثمان رضي الله عنه! فإنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فإن كان القوم أخرجوا من ديارهم كما زعمت، فمن يمنعهم من إخراجهم الرجال أو البلدان! فحصبه الناس، فعرف عثمان أنّ لهم بالبصرة ناصرًا ممن يقوم معهم، فكسره ذلك. وأقبلت عائشة رضي الله عنها فيمن معها، حتى إذا انتهوا إلى المربد ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها ويكون معها، فاجتمعوا بالمربد وجعلوا يثوبون حتى غصّ بالناس.
فتكلّم طلحة وهو في ميمنة المربد ومعه الزبير وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عثمان رضي الله عنه وفضله والبلد وما استحلّ منه، وعظّم ما أتي إليه، ودعا إلى الطلب بدمه، وقال: إنّ في ذلك إعزاز دين الله عز وجل وسلطانه، وأما الطلب بدم الخليفة المظلوم فإنه حدّ من حدود الله، وإنّكم إن فعلتم أصبتم وعاد أمركم إليكم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام.
فتكلم الزبير بمثل ذلك. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرًا، وقالا الحق، وأمرا بالحقّ. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا، وقالا الباطل، وأمرا به، قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان! وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. فتكلّمت عائشة - وكانت جهوريّة يعلو صوتها كثرة كأنّه صوت امرأة جليلة - فحمدت الله جلّ وعزّ وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله عنه ويزرون على عمّاله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنًا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريًّا تقيًّا وفيًّا ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون. فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والمال الحرام، بلا ترة ولا عذر، ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه وإقامة كتاب الله عز وجل: " ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ".
فافترق أصحاب عثمان ابن حنيف فرقتين، فقالت فرقة: صدقت والله وبرت؛ وجاءت والله بالمعروف؛ وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون، فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا، فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع الدبّاغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة. وأتى عثمان ابن حنيف فيمن معه، حتى إذا كانوا على فم السكة، سكة المسجد عن يمين الدباغين استقبلوا الناس فأخذوا عليهم بفمها.
وفيما ذكر نصر بن مزاحم، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم ابن محمد، قال: وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: يا أمّ المؤمنين؛ والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك، وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهةً فاستعيني بالناس. قال: فخرج غلام شاب من بنس سعد إلى طلحة والزّبير، فقال: أمّا أنت يا زبير فحواري رسول الله ﷺ، وأمّا أنت يا طلحة فوقيت رسول الله ﷺ بيدك، وأرى أمّكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيء، واعتزل. وقال السعدي في ذلك:
صنتم حلائلكم وقدتم أمّكم ** هذا لعمرك قّلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها ** فهوت تشقّ البيد بالإيجاف
غرضًا يقاتل دونها أبناؤها ** بالنّبل والخطّي والأسياف
هتكت بطلحة والزُّبير ستورها ** هذا مالمخبر عنهم والكافي
وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة - وكان محمد رجلًا عابدًا - فقال أخبرني عن قتلة عثمان! فقال: نعم، دم عثمان ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهودج - يعني عائشة - وثلث على صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة، وثلث على علي بن أبي طالب؛ وضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! من ولحق بعلي، وقال في ذلك مشعرًا:
سألت ابن طلحة عن هالك ** بجوف المدينة لم يقبر
فقال ثلاثة رهط هم ** أماتوا ابن عفّان واستعبر
فثلث على تلك في خدرها ** وثلث على راكب الأحمر
وثلث على ابن أبي طالب ** ونحن بدوّيّة قرقر
فقلت صدقت على الأوّلين ** وأخطأت في الثالث الأزهر
رجع الحديث إلى حديث سيف عن محمد وطلحة. قال: فخرج أبو الأسود وعميان وأقبل حكيم بن جبلة؛ وقد خرج وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رضي الله عنها رماحهم وأمسكوا ليمسكوا فلم ينته ولم يثن، فقاتلهم وأصحاب عائشة كافّون إلّا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، ويقول: إنها قريش ليردينّها جبنها والطيّش، واقتتلوا على فم السكة، وأشرف أهل الدور ممن كان له في واحد من الفريقين هوى، فرموا باقي الآخرين بالحجارة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها مليًّا، وثار إليهم الناس، فحجز الليل بينهم. فرجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم، وجاء أبو الجرباء؛ أحد بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم إلى عائشة وطلحة والزّبير، فأشار عليهم بأمثل من مكانهم فاستنصحوه وتابعوا رأيه، فساروا من مقبرة بني مازن فأخذوا على مسنّاة البصرة من قبل الجبَّانة حتى انتهوا إلى الزابوقة، ثم أتوا مقبرة بني حصن وهي متنحيّة إلى دار الرزق، فباتوا يتأهّبون، وبات الناس يسيرون إليهم، وأصبحوا وهم على رجل في ساحة دار الرق، وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم، وغدا حكيم بن جبلة وهو يبربر وفي يده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبّ وتقول له ما أسمع؟ قال: عائشة، قال: يا بن الخبيثة، ألأمّ المؤمنين تقول هذا! فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله. ثمّ مرّ بامرأة وهو يسبّها - يعني عائشة - فقالت: من هذا الذي ألجأك إلى هذا؟ قال: عائشة، قالت: يابن الخبيثة، ألأمّ المؤمنين تقول هذا! فطعنها بين ثدييها فقتلها. ثمّ سار، فلما اجتمعوا واقفوهم، فاقتتلوا بدار الرزق قتالًا شديدًا من حين بزغت الشمس إلى أن زال النهار وقد كثر القتلى في أصحاب ابن حنيف وفشت الجراحة في الفريقين، ومنادى عائشة يناشدهم ويدعوههم إلى الكفّ فيأبون، حتى إذا مسّهم الشرّ وعضَهم نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح والمتات. فأجابوهم وتواعدوا، وكتبوا بينهم كتابًا على أن يبعثوا رسولًا إلى المدينة؛ وحتى يرجع الرسول من المدينة، فإن كانا أكرها خرج عثمان عنهما وأخلى لهما البصرة، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزّبير:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اصطلح عليه طلحة والزّبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين.
إنّ عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما في يده، وإنّ طلحة والزّبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما في أيديهما، حتى يرجع أمين الفريقين ورسولهم كعب بن مسور من المدينة. ولا يضارّ واحدٌ من الفريقين الآخر في مسجد ولا سوق ولا طيريق ولا فرضة، بينهم عيبة مفتوحة حتى يرجع كعب بالخبر؛ فإن رجع بأنّ القوم أكرهوا طلحة والزّبير فالأمر أمرهما، وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيّته، وإن شاء دخل معهما؛ وإن رجع بأنّهما لم يكرها فالأمر أمر عثمان، فإن شاء طلحة والزّبير أقاما على طاعة علي وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيّتهما؛ والمؤمنون أعوان الفالح منهما.
فخرج كعب حتى يقدم المدينة، فاجتمع الناس لقدومه، وكان قدومه يوم جمعة، فقام كعب فقال: يا أهل المدينة، إني رسول أهل البصرة إليكم؛ أأكره هؤلاء القوم هذيه الرجلين على بيعة علي، أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد من القوم إلّا ما كان من أسامة بن زيد، فإنه قام فقال: اللهم إنهما لم يبايعا إلّا وهما كارهان. فأمر به تمّام، فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب بن سنان وأبو أيّوب بن زيد، في عدّة من أصحاب رسول الله ﷺ، فيهم محمد بن مسلمة، حين خافوا أن يقتل أسامة، فقال: اللهم نعم؛ فانفرجوا عن الرجل؛ فانفرجوا عنه، وأخذ صهيب بيده حتى أخرجه فأدخله منزله، وقال: قد علمت أن أمّ عامر حامقة، أما وسعك ما وسعنا من السكوت! قال: لا والله، ما كنت أرى أن الأمر يترامى إلى ما رأيت وقد أبسلنا لعظيم. فرجع كعب وقد اعتدّ طلحة والزّبير فيما بين ذلك بأشياء كلها كانت مما يعتدّ به، منها أنّ محمد بن طلحة - وكان صاحب صلاة - قام مقامًا قريبًا من عثمان بن حنيف، فخشى بعض الزطّ والسيابجة أن يكون جاء لغير ما جاء له، فنحيّاه، فبعثا إلى عثمان، هذه واحدة.
وبلغ عليّا الخبر الذي كان بالمدينة من ذلك، فبادر بالكتاب إلى عثمان يعجّزه ويقول: والله ما أكرها إلا كرهًا على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا. فقدم الكتاب على عثمان بن حنيف، وقدم كعب فأرسلوا إلى عثمان أن اخرج عنا، فاحتجّ عثمان بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه؛ فجمع طلحة والزّبير الرجال في ليلة مظلمة باردة ذات رياح ونجى. ثمّ قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء - وكانوا يؤخّرونها - فأبطأ عثمان بن حنيف فقدّ ما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزطّ والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم. فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد وصبروا لهم، فأناموهم وهم أربعون، وأدخلوا الرجال على عثمان ليخرجوه إليهما، فلما وصل إليهما توطّؤوه وما بقيت في وجههه شعرة، فاسعظما ذلك، وأرسلا إلى عائشة بالذي كان، واستطلعا رأيها. فأرسلت إليهما أن خلّوا سبيله فليذهب حيث شاء ولا تحبسوه، فأخرجوا الحرس الذين كانوا مع عثمان في القصر ودخلوه، وقد كانوا يعتقبون حرس عثمان في كلّ يوم وفي كلّ ليلة أربعون، فصلّى عبد الرحمن بن عتاب بالناس العشاء والفجر، وكان الرسول مفيما بين عائشة وطلحة والزّبير هو، أتاها بالخبر، وهو رجع إليهما بالجواب، فكان رسول القوم.
حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، عن سهل بن سعد، قال: لماأخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه، فقالت لها امرأة: نشدتك بالله يا أمّ المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله ﷺ! قالت: ردّوا أبانًا، فردّوه، فقالت: احبسوه ولا تقتلوه، فقال: لو علمت أنّك تدعينني لهذا لم أرجع، فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أرعين سوطًا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثناأبي، قال: حدثني وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهرّي، قال بلغني أنه لما بلغ طلحة والزّبير منزل علي بذي قار انصرفوا إلى البصرة، فأخذوا على المنكدر، فسمعت عائشة رضي الله عنه نباح الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: الحوءب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعوه! إني لهيه، قد سمعت رسول صه ﷺ يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوءب!. فأرادت الرجوع، فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال: كذب من قال إنّ هذا الحوءب. ولم يزل حتى مضت، فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف، فقال لهم عثمان: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منّا، وقد صنع ما صنع، قال: فإنّ الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم له، على أن أصلّي بالناس حتى يأتينا كتابه، فوقفوا عليه وكتب، فلم يلبث إلّا يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه بالزّابوقة عند مدينة الرزق، فظهروا، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله، ثم خشوا غضب الأنصار، فنالوه في شعره وجسده. فقام طلحة والزّبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة، توبة بحوبة، إنما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ولم نرد قتله، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه. فقال الناس لطقحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا، فقال الزبير: فهل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثمّ ذكر قتل عثمان رضي الله عنه وما أتي إليه، وأظهر عيب علي. فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيّها الرجل، أنصب حتى نتكلّم، فقال عبد الله بن الزبير: ومالك وللكلام! فقال العبدي: يا معشر المهاجرين، أنتم أوّل من أجاب رسول الله ﷺ، فكان لكم بذلك فضل، ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله ﷺ بايعتم رجلًا منكم، والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك فرضينا واتّبعناكم، فجعل الله عز وجل للمسلمين في إمارته بركة، ثمّ مات رضي الله عنه واستخلف عليكم رجلًا منكم، فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلّمنا، فلمّا توفي الأمير جعل الأمر إلى ستّة نفر، فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غيرمشورة منا، ثمّ أنكرتم من ذلك الرجل شيئًا، فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثمّ باعيتم عليًّا عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استاثر بفيء، أو علم بغير الحقّ؟ أو عمل شيئًا تنكرونه فنكون معكم عليه! وإلّا فما هذا! فهمّوا بقتل ذلك الرجل، فقال من دونه عشيرته؛ فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه، فقتلوا سبعين رجلًا.
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة. قالا: فأصبح طلحة والزّبير وبيت مالمال والحرس في أيديهما، والناس مععنما، ومن لم يكن معهما مغمور مستسرّ، وبعثا حين أصبحا بأن حكيمًا في الجمع، فبعثت: لا تحبسا عثمان ودعاه. ففعلا، فخرج عثمان فمضى لطلبته، وأصبح حكيم بن جبلة في خيله على رجل فيمن تبعه من عبد القيس ومن نزع إليهم من أفناء ربيعة، ثمّ وجّهوا نحو دار الرزق وهو يقول: لست بأخيه إن لم أنصره، وجعل يشتم عائشة رضي الله عنه، فسمعته امرأة من قومه فقالت: يابن الخبيثة. أنت أولى بذلك! فطعنها فتقلها، فغضبت عبد القيس إلّا من كان اغتمر منهم، فقالوا: فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم! والله لندعنّك حتى يقيدك الله. فرجعوا وتركوه، ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان وحصره من نزّاع القبائل كلها، وعرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه، فانتهى بهم إلى الزابوقة عند دار الرزق، وقالت عائشة: لا تقتلوا إلّا من قاتلكم، ونادوا من لم يكن من قتلة عثمان رضي الله عنه فليكفف عنا، فإنا لا نريد إلا قتله معثمان ولا نبدأ أحدًا، فأنشب حكيم القتال ولم يرع للمنادى، فقال طلحة والزّبير: الحمد الله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهمّ لا تبق منهم أحدًا، وأقد منهم اليوم فاقتلهم. فجادّ وهم القتال فاقتتلوا أشدّ قتال ومعه أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريج بحيال الزبير، وابن المحرّش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فزحف طلحة لحكم وهو في ثلثمائة رجل، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
أضربهم باليابس ** ضرب غلام عابس
من الحياة آيس ** في الغرفات نافس
فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه، فأصاب جسده فصرعه، فأتاه حتى قتله، ثم أتّكأ عليه وقال:
يا فخذ لن تراعى ** إنّ معي ذراعي
أحمى بها كراعي وقال وهو يرتجز:
ليس علي أن أوت عار ** والعار في الناس هو الفرار
والمجد لا يفضحه الدمار
فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على الآخر، فقال: مالك يا حكيم؟ قال: قتلت، قال من قتلك؟ قال: وسادتي؛ فاحتمله فضمّه في سعين من أصحابه، فتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل، وإن السيوف لتأخذهم فما يتعتع، مويقول: إنا خلّفنا هذين وقد بايعا عليًّا وأعطياه الطاعة، ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان بن عفان، فففرّقا بيننا، ونحن أهل دار وجوار. اللهمّ إنهما لم يريدا عثمان. فنادى مناد: يا خبيث، جزعت حين عضّك نكال الله عز وجل إلى كلام من نصّبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم، وفرّقتم من الجماعة، وأصبتم من الدماء، ونلتم من الدنيا! فدق وبال الله عز وجل وانتقامه، وأقيموا فيمن أنتم.
وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فلجئوا إلى قومهم، ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة: ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم. فجيء بهم كما يجاء بالكلاب، فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعًا إلّا حرقوص بن زهير؛ فإنّ بني سعد منعوه، وكان من بني سعد، فمسّهم في ذلك أمر شديد، وضربوا لهم فيه أجلًا وخشنّوا صدور بني سعد وإنّهم لعثمانية حتى قالوا: نعتزل؛ وغضبت عبد القسيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم طاعة علي، فأمرا للنّاس بأعطياتهم وأرزاقهم وحقوقهم، وفضّلا بالفضل أهل السمع والطاعة. فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين زووا عنهم الفضلو، فبادروا إلى بيت المال، وأكبّ عليهم الناس فأصابوا منهم، وخرج القوم حتى نزلوا على طريق علي، وأقام طلحة والزّبير ليس معهما بالبصرة ثأر إلّا حرقوص، وكتبوا إلى أهل الشأم بما صنعوا وصاروا إليه: إنا خرجنا لوضع مالحرب، وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع والكثير والقليل، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يردّنا عن ذلك، فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم؛ وخالفنا شرارهم ونزّاعهم، فردّونا بالسلاح وقالوا فيما قالوا: نأخذ أمّ المؤمنين رهينة؛ أن أمرتهم بالحقّ وحثّتهم عليه. فأعطاهم الله عز وجل سنّة المسلمين مرّة بعد مرّة، حتى إذا لم يبق حجّة ولا عذر استبسل قتلة أمير المؤمنين فخرجوا إلى مضاجعهم فلم يفلت منهم مخبر إلّا حرقوص بن زهير، والله سبحانه مقيده إن شاء الله. وكانوا كما وصف الله عز وجل؛ وإنا نناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به؛ فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا.
وبعثوا به مع سيّار العجلي، وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله مع رجل من بني عمرو بن أسد يدعى مظفّر بنم معرَض. وكتبوا إلى أهل المدينة معابن قدامة القشيري، فدسّه إلى أهل المدينة.
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى أهل الكوفة مع رسولهم: أمّا بعد فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام، أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه، اتقوا الله واعتصموا بحبله، وكونوا مع كتابه، فإنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده، فأجابنا الصالحون إلى ذلك؛ واسقبلنا من لا خير فيه بالسلاح، وقالوا: لنتبعنّكم عثمان، ليزيدوا الحدود تعطيلًا، فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا لامنكر، فقرأنا عليهم: " ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ". فأذعن لي بعضهم، واختلفوا بينهم، فتركناهم وذلك، فلم يمنع ذلك من كان ممنهم على رأيه الأوّل من وضع مالسلاح في أصحابي، وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلّا قاتلوني حتى منعني الله عز وجل بالصّالحين، فردّ كيدهم في نحورهم، فمكثنا ستّا وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده - وهو حقن الدماء أن تهراق دون من قد حلّ دمه - فأبوا واحتجوا بأشياء، فاصطلحنا عليها، فخافوا وغدروا وخانوا، فجمع عز وجل لعثمان رضي الله عنه ثأرهم، فأقادهم فلم يفلت منهم إلّا رجل، وأرد أنا ه، ومنعنا منهم بعمير ابن مرثد ومرثد بن قيس، ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد.
فالزموا الرضا إلّا عن قتلة عثمان بن عفان حتى يأخذ الله حقّه، ولا تخاصموا الخائنين ولا تمنعوهم، ولا ترضوا بذوي حدود الله فتكونوا من الظالمين.
فكتبت إلى رجال بأسمائهم. فثبّطوا الناس عن منع هؤلاء القوم ونصرتهم واجلسوا في بيتوتكم؛ فإنّ هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وفرّقوا بين جماعة الأمة، وخالفوا الكتاب والسنّة، حتى شهدوا علينا فيما أمرناهم به، وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة حدوده بالكفر، وقالوا لنا المنكر، فأنكر ذلك الصالحون وعظّموا ما قالوا، وقالوا لنا المنكر، فأنكر ذلك الصالحون وعظّموا ما قالوا، وقالوا: ما رضيتم أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم ﷺ وأئمة المسلمين! فعزموا وعثمان بن حني مععم على من أطاعهم من جهّال الناس وغوغائهم على زطّهم وسيابجهم، فلذنا منهم بطائفة من الفسطاط؛ فكان ذلك الدأب ستة وعشرين يومًا ندعوهم إلى الحقّ وألّا يحولوا بيننا وبين الحقّ فغدروا وخانوا فلم نقايسهم، واحتجّوا ببيعة طلحة والزّبير؛ فأبردوا بريدًا فجاءهم بالحجّة فلم يعرفوا الحقّ، ولم يصبروا عليه؛ فغادوني في الغلس ليقتلوني؛ والذي يحاربهم غيري، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدّة بيتي ومعهم هاد يهديهم إلي، فوجدوا نفرًا على باب بيتي؛ منهمعمير بن مرثد، ومرثد بن قيس، ويزيد بن عبد الله بن مرثد؛ ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد، فدارت عليهم الرحا، فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم، وجمع الله عز وجل كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة؛ فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا العذر. وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلايين. وكتب عبيد بن كعب في جمادى.
حدثنا معمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عامر بن حفص، عن أشياخه، قال: ضرب عن حكيم بن جبلة رجل من الحدّان يقال له صخيم، فمال رأسه، فتعلّق بجلده، فصار وجههه في قفاه. قال ابن المثني الحدّاني: الذي قتل حكيمًا يزيد بن الأسحم الحداني، وجد حكيم قتيلًا بين يزيد بن الأسحم وكعب بن الأسحم، وهما مقتولان.
حدثني عمر، قال: حدثني أبو الحسن، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن أبي المليح، قال: لما قتل حكيم بن جبلة أرادوا أن يقتلوا عثمان بن حنيف، فقال: ما شئتم، أما إن سهل بن حنيف وال على المدينة، وإن قتلتموني انتصر. فخلّوا سبيله. واختلفوا في الصلاة، فأمّرت عائشة رضي الله عنها عبد الله ابن الزبير فصلّى بالناس، وأراد الزبير أن يعطي الناس أرزاقهم ويقسم ما في بيت المال، فقال عبد الله ابنه: إن ارتزق الناس تفرّقوا. واصطلحوا على عبد الرحمن بن أبي بكر، فصيّروه على بيت المال.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن علي، عن أبي بكر الهذلي، عن الجارود بن أبي سبرة، قال: لمّا كانت الليلة التي أخذ فيها عثمان بن حنيف، وفي رحبة مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس، فأراد عبد الله أن يرزقه أصحابه وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان، فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره، فجاء في جماعة من عبد القيس وبكر بن وائل وأكثرهم عبد القيس، فأتي ابن الزبير مدينة الرزق، فقال: مالك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تخلّوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، والله لو أجد أعوانًا عليكم أخبطكم بهم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم، ولقد أصبحتم وإنّ دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم من إخواننا، أما تخافون الله عز وجل! بم تستحلون سفك الدماء! قال: بدم عثمان ابن عفان، قال: فالّذين قتلتموهم قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله بن الزبير: لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلي سبيل عثمان ابن حنيف حتى يخلع عليًّا، قال حكيم: اللهمّ إنك حكم عدل فاشهد. وقال لأصحابه: إنّي لست في شكّ من قتال هؤلاء، فمن كان في شكّ فلينصرف. وقاتلهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وضرب رجل ساق حكيم فأخذ حكيم ساقه فرماه بها، فأصاب عنقه فصرعه ووقذه ثم حبا إليه فقتله واتّكأ عليه، فمرّ به رجل فقال: من قتلك؟ قال: وسادتي، وقتل سبعون رجلًا من عبد القيس. قال الهذلي: قال حكيم حين قطعت رجله:
أقول لما جدّ بي زماعي ** للرّجل يا رجلي لن تراعي
إنّ معي من نجدة ذراعي
قال عامر ومسلمة: قتل مع حكيم ابنة الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا المثنّى بن عبد الله، عن عوف الأعرابي، مقال: جاء رجل إلى طلحة والزّبير وهما في المسجد بالبصرة، فقال: نشدتكما مبالله في مسيركما! أعهد إليكما فيه رسول الله ﷺ شيئًا! فقام طلحة ولم يجبه، فناشد الزبير فقال: لا، ولكن بلغنا أنّ عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا سليمان بن أرقم، عن قتادة، عن أبي عمرة ملوى الزبير، قال: لما بايع أهل البصرة الزبير وطلحة، قال الزبير: إلا ألف فارس أسير بهم إلى علي، فإما بيّتّه وإما صبّحته، لعلّي أقتله قبل أن يصل إليها! فلم يجبه أحد، فقال: إنّ هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها؛ فقال له مولاه: أتسميّها فتنة وتقاتل فيها! قال: ويحك! إنا نبصّر ولا نبصر، ما كان أمر قطّ إلّا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف، قاضي صنعاء، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت ابن عبد الله بن الزبير، عن موسى بن عقبة، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزّبير وعائشة رضي الله عنه رأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زورك؛ إن كرهت شيئًا فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بن وقّاص، بينا نحن يد واحدة على من سوانا، إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضًا، إنه كان منّي مفي عثمان شيء ليس توبتي إلّا أن يسفك دمي في طلب دمه. قال: قلت: فردّ محمد ابن طلحة فإنّ لك ضيعة وعيالًا؛ فإن يك شيء يخلفك؛ فقال: ما أحبّ أن مأرى أحدًا يخفّ في هذا الأمر فأمنعه. قال: فأتيت محمد بن طلحة فقلت له: لو أقمت، فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته، قال: ما أحبّ أن أسأل الرجال عن أمره.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن مجالد بن سعيد، قال: لما قدمت عائشة رضي الله عنه البصرة كتبت إلى زيد بن صوحان: من عائشة ابنة أبي بكر أمّ المؤمنين حبيبة رسول الله ﷺ إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان أمّا بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم؛ فانصرنا على أمرنا هذا، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن علي.
فكتب إليها: من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر الصدّيق حبيبة رسول الله ﷺ، أمّا بعد: فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك، وإلّا فأنا أوّل من نابذك. قال زيد ابن صوحان: رحم الله أمّ المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا ونهتنا عنه!
ذكر الخبر عن مسير علي بن أبي طالب نحو البصرة
مما كتب به إلي السري، أن شعيبًا حدثه، قال: حدثنا سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن يزيد الضخم، قال: لما أتي عليًّا الخبر وهو بالمدينة بأمر عائشة وطلحة والزّبير أنهم قد توجّهوا نحن العراق، خرج يبادر وهو يرجو أن يدركهم ويردّهم، فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالرّبذة أيامًا، وأتاه عن القوم أنهم يريدون البصرة، فسرّي بذلك عنه، وقال: إنّ أهل الكوفة أشدّ إلي حبًّا، وفيهم رءوس العرب وأعلامهم. فكتب إليهم: إنّي قد اخترتكم على الأمصار وإنّي بالأثرة.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: كتب علي إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودّتكم وحبكم لله عز وجل ولرسوله ﷺ، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحقّ وقضى الذي عليه.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن. قال: حدثنا حبّان بن موسى، عن طلحة بن الأعلم موبشر بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه قال: بعث محمد بن أبي بكر إلى الكوفة ومحمّد بن عون، فجاء الناس إلى أبي موسى يستشيرونه في الخروج، فقال أبو موسى: أمّا سبيل الآخر فأن تقيموا، وأمّا سبيل الدنيا فأن تخرجوا، وأنتم أعلم. وبلغ المحمّدين قول أبي موسى، فبايناه وأغلظا له، فقال: أما والله إنّ بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما الذي أرسلكما، إن أردنا أن نقاتل لا نقاتل حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان. وخر ج علي من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد العزّى ابن عبد شمس:
لاهم مفاعقر بعلي جمله ** ولا تبارك في بعير حمله
ألا علي بن عدي ليس له
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن نمير ابن وعلة، عن الشعبي؛ قال: لمّا نزل عليٌّ بالرّبذة أتته جماعة من طيّىء، فقيل لعلي: هذه جماعة من طيّء قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك؛ قال: جزى الله كلّا خيرًا وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا. ثمّ دخلوا عليه فقال علي: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكلّ ما تحبّ، قال: جزاكم الله خيرًا! فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من الناس من يعبّر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما كلّ ما أجد في قلبي يعبّر عنه لساني وسأجهد وبالله التوفيق، أمّا أنا فسأنصح لك في السرّ والعلانية وأقاتل عدوّك في كلّ موطن وأرى لك من الحقّ ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. قال: رحمك الله! قد أدّى لسانك عما يجنّ ضميرك. فقتل معه بصفّين رحمه الله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما قدم علي الربذة أقام بها وسرّح منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر؛ وكتب إليهم: إني اخترتكم معلى الأمصار وفزعتت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانًا وأنصارًا، وأيّدونا وانهضوا إلينا فالإصلاح ما نريد، لتعود الأمة إخوانًا، ومن أحبّ ذلك وآثره فقد أحبّ الحقّ وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحقّ وغمصه.
فمضى الرجلان وبقى علي بالرّبذة يتهيّأ، وأرسل إلى المدينة فلحقه ما أراد ما دابّة وسلاح، وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم؛ وقال: إنّ الله عز وجل أعزّنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخوانًا بعد ذلّة وقلّة وتباغض وتباعد؛ فجرى الناس على ذلك ما شاء الله؛ الإسلام دينهم والحقّ فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا إنّ هذه الأمّة لا بدّ مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم، فنعوذ بالله من شرّ ما هو كائن. ثمّ عاد ثانية، فقال: إنه لا بدّ مما هو كائن أن يكون، ألا وأنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ شرّها فرقة تنتحلى ولا تعمل بعملي، فقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم واهدوا بهدى نبيّكم ﷺ، وأتّبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردّوه، وارضوا بالله جلّ وعزّ ربّا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًّا، وبالقرآن حكمًا وإمامًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما أردا علي الخروج من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أمّا الذي نريد وننوي فالإصلاح؛ إن قبلوا منّا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحقّ ونصبر؛ قال: فإن لم يرضوا؟ قال ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتعنا منهم، قال: فنعم إذًا. وقام الحجّاج بن غزّية الأنصاري فقال: لأرضينّك بالفعل كما أرضيتني بالقول. وقال:
دراكها دراكها قبل الفوت ** وانفر بنا واسم بنا نحو الصوت
لا وألت نفسي إن هبت الموت والله لأنصرنّ الله عز وجلّ كما سمّانًا أنصارًا. فخرج أمير المؤمنين وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجرّاح، والرّاية مع محمّد بن الحنفيّة، وعلى الميمنة عبد الله بن عباس، وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وخرج علي وهو في سبعمائة وستين؛ وراجز علي يرجز به:
سيروا أبابيل وحثّوا السيرا ** إذ عزم السير وقولوا خيرا
حتّى يلاقوا وتلاقوا خيرا ** نغزو بها طلحة والزّبيرا
وهو أمام أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين علي على ناقة له حمراء يقود فرسًا كميتًا. فتلقّاهم بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة بن عامر يدعى مرّة، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أمير المؤمنين، فقال: سفرة فانية فيها دماء من نفوس فانية، فسمعها علي فدعاه، فقال: ما اسمك؟ قال: مرّة، قال: أمرّ الله عيشك، كاهن سائر اليوم؟ قال: بل عائف؛ فلما نزل بفيد أتته أسد وطيّيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وقدم رجل من أهل الكوفة فيد قبل خروج علي فقال: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر، قال: الليثي؟ قال الشيباني: قال: أخبرني عما وراءك، قال: فأخبره حتى سأله عن أبي موسى، مفقال: إن أردت الصلح مفأبو موسى صاحب ذلك، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس بصاحب ذلك، قال: والله ما أريد إلا الإصلاح حتى يردّ علينا، قال: قد أخبرتك لخبر، وسكت وسكت علي.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي محمد، عن عبد الله بن عمير، معن محمد بن الحنفيّة. قال: قدم عثمان بن حنيف على علي بالرّبذة وقد نتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال: يا أمير المؤمنين، يعثتني ذا لحية وجئتك أمرد، قال: أصبت أجرًا وخيرًا، إنّ الناس وليهم قبلي رجلان، فعملا بالكتاب، ثمّ وليهم ثالث، فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني، وبايعني طلحة والزّبير، ثمّ نكثًا بيعتي وألبّا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما علي، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن قد مضى، اللهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولمّا نزل علي الثعلبيّة أتاه الّذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فقام وأخبر القوم الخبر، وقال: اللهمّ عافني مما ابتليت به طلحة والزّبير من قتل المسلمين، وسلّمنا منهم أجمعين. ولما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: الله أكبر، ما ينجيني من طلحة والزّبير إذ أصابا ثأرهما أو ينجيهما! وقرأ: " ما أصاب من مصيبة في الأرض مولا في أنفسكم إلّا في كتاب من قبل أن نبرأها ". وقال:
دعا حكيم دعوة الزماع ** حلّ بها منزلة النزاع
ولما اتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف، وليس في وجهه شعر، فلما رآه علي نظر إلى أصحابه فقال: انطلق هذا من عندنا وهو شيخ، فرجع إلينا وهو شابّ. فلم يزل قار يتلوّم محمدًا ومحمدًا، وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزلوهم بالطريق، فقال: عبد القيس خير ربيعة، في كلّ ربيعة خير. وقال:
يا لهف نفس على ربيعة ** ربيعة السامعة المطيعة
قد سبقتني فيهم الوقيعة ** دعا علي دعوة سميعة
حلّوا بها المنزلة الرفيعة
قال: وعرضت عليه بكر بن وائل، فقال لهم مثل ما قال لطيّء وأسد.
ولما قدم محمد ومحمد على الكوفة وأتيا أبا موسى بكتاب أمير المؤمنين، وقاما في الناس بأمره، لم يجابا إلى شيء، مفلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجي على أبي موسى، فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس ليس باليوم، إنّ الّذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جرّ عليكم ما ترون؛ وما بقي إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب الرجلان وأغلظا لأبي موسى، فقال أبو موسى: والله إنّ بيعة عثمان رضي الله عنه لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بدّ من قتال لا نقاتل أحدًا حتى يفرغمن قتلة عثان حيث كانوا فانطلقا إلى علي قوافياه بذي قار وأخبراه الخبر، وقد خرج مع الأشتر وقد كان يعجل إلى الكوفة، فقال علي: يا أشتر، أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كلّ شيء، اذهب أنت وعبد الله بن عبّاس فأصلح ما أفسدت.
فخرج عبد الله بن عباس ومعه الأشتر، فقدما الكوفة وكلّما أبا موسى واستعانا عليه بأناس من الكوفة، فقال الكوفيين: أنا صاحبكم يوم الجرعة وأنا صاحبكم ماليوم؛ فجمع الناس فخطبهم وقال: يأيّها الناس، إنّ أصحاب النبي ﷺ الّذين صحبوه في المواطن أعلم بالله جلّ وعزّ وبرسوله ﷺ ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم علينا حقًّا فأنا مؤدّيه إليكم.
كان الرأي ألّا تستخفّوا بسلطان الله عز وجل ولا تجترثوا على الله عز وجل، وكان لارّأي الثاني أن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردّوهم إليها حتى يجتمعوا، وهم أعلم بمن تصلح له الإمامة منكم، ولا تكلّفوا الدخول في هذا، فأمّا إذ كان ما كان فإنها فتنة صمّاء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وأنصلوا الأسنّة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رجع ابن عباس إلى علي بالخبر دعا الحسن بن علي فأرسله، فأرسل معه عمّار بن ياسر، فقال له: انطلق فأصلح ما أفسدت؛ فأقبلا حتى دخلا المسجد، فكان أوّل من أتاهما مسروق بن الأجدع، فسلّم عليهما، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان، علام قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا؟ فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيرًا للصّابرين. فخرج أبو موسى، فلقى الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين، فأحللت نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل، ولم تسوؤني؟ وقطع عليهما الحسن، فأقبل علي أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، لم تثبّط الناس عنا؟ فو الله ما أردنا إلّا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت بأبي أنت وأمي؟ ولكنّ المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إ، ها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب؛ قد جعلنا الله عز وجل إخوانًا، وحرّم عليها أموالنا مودماءنا، وقال: " يأيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "، " ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما ". وقال جلّ وعزّ: " ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم ". فغذب عمار وساءه وقام وقال: يأيّها الناس، إنما قال له خاصّة، أنت فيها قاعدًا خير منك قائمًا. وقام رجل من بني تمين، فقال لعمّار: اسكت أيّها العبد، أنت أمس معمالغوغاء واليوم تسافه أميرنا؛ وثار زيد بن صوحان وطبقثه وثار الناس، وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ثمّ انطلق حتى أتي المنبر، وسكن الناس، وأقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه الكتابان من عائشة رضي الله عنه إليه وإلى أهل الكوفة، وقد كان طلب كتاب العامّة فضمّه إلى كتابه، فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامّة: أمّا بعد، فثبّطوا أيّها الناس اجلسوا في بيوتكم إلّا عن قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فلما فرغ من الكتاب قال: أمرت بأمر وأمرنا بأمر؛ أمرت أن تقرّ في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما مرت به وركبت ما أمرنا به. فقام إليه شبث بن ربعي فقال: يا عماني - وزيد من عبد القيس عمان وليس من أهل البحرين - سرقت بجلولاء فقطعك الله، وعصيت أم المؤمنين فقتلك الله! ما أمرت إلا بما أمر الله عز وجل به بالإصلاح بين الناس؛ فقلت: وربّ الكعبة؛ وتهاوى الناس. وقام أبو موسى فقال: يا أيّها الناس، أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلم ويأمن فيكم الخائف، إنّا أصحاب محمد ﷺ أعلم بما سمعنا، إن الفتنة إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت بيّنت، وإنّ هذه الفتنة باقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصّبا والدّبور، فتسكن أحيانًا فلا يدري من أين تؤتي، تذر الحليم كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصّدوا رماحكم، وأرسلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم، والزموا بيوتكم. خلّوا قريشًا - إذ أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالإمرة - ترتق فتقها، وتشعب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها سعت، وإن أبت فعلى أنفسها منبت سمنها تهريق في أديمها؛ استنصحوني ولا تستغشّوني، وأطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم، ويشقى بحرّ هذه الفتنة من جناها.
فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس؛ ردّ الفرات عن دراجده، اردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه. ثمّ قرأ: " الم أحسب الناس مأن يتركوا " إلى آخر الآيتين؛ سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ.
فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحبّ أن ترشدوا، ولأقولنّ لكم قولًا هو الحقّ، أمّا ما قال الأمير فهو الأمر لو أنّ إليه سبيلًا، وأمّا ما قال زيد فزيد في الأمر فلا تستنصحوه فإنّه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها وجرى إليها؛ والقول الذي هو القول إنه لا بدّ من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم ويعزّ المظلوم، وهذا علي يلي بما ولي، وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأيى ومسمع.
وقال سيحان: أيّها الناس، إنه لا بدّ لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويعزّ المظلوم ويجمع الناس، وهذا وإليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمّة، الفقيه في الدين، فمن نهض إليه فإنا سائرون ممعه. ولان عمّار بعد نزوته الأولى. فلما فرغ سيحان من خطبته، تكلم عمار فقال: هذا ابن عمّ رسول الله ﷺ يستنفركم إلى زوجة رسول الله ﷺ وإلى طلحة والزّبير، وإني أشهد أنّها زوجته في الدينا والآخرة، فانظروا ثمّ انظروا في الحق فقاتلوا معه؛ فقال رجل: يا أبا اليقظان، لهو مع من شهدت له بالجنّة على من لم تشهد له. فقال الحسسن: اكفف عنّا يا عمار، فإنّ للإصلاح أهلًا.
وقام الحسن بن علي، فقال: يأيّها الناس؛ أجيبوا دعوة أميركم؛ وسيروا إلى أخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أول النهى أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. فسامح الناس وأجابوا ورضوا به. وأتى قوم من طيّء عديًّا فقالوا: ماذا ترى وماذا تأمر؟ فقال: ننتظر ما يصنع الناس، فأخبر بقيام الحسن وكلام من تكلم، فقال: قد بايعنا هذا الرجل، وقد دعانا إلى جميل، وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون.
وقام هند بن عمرو، فقال: إنّ أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله، وانتهوا إلى أمره، وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.
وقام حجر بن عدي، فقال: أيّها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافًا وثقا لامروا، أنا أولكم. وقام الأشتر فذكروا الجاهليّة وشدّتها، والإسلام ورخاءه، وذكر عثمان رضي الله عنه. فقام إليه المقطّع بن الهيثم بن فجيع العامري ثم البكائي، فقال: اسكت قبحك الله! كلب خلّى والنّباح، فثار الناس فأجلسوه.
وقام المقطّع، فقال: إنا والله لا نحتمل بعدها أن يبوء أححد بذكر أحد من أئمّتنا، وأنّ عليّا عندنا لمقنع، والله لئن يكن هذا الضرب لا يرضى بعلي. فعضّ امرؤ على لسانه في مشاهدنا؛ فأقبلوا على أحثّاكم.
فقال الحسن: صدق الشيخ، وقال الحسن: أيّها الناس، إنّي غاد فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء فنفر معه تسعة آلاف، فأخذ بعضهم البرّ، وأخذ بعضهم الماء وعلى كل سبع رجل؛ أخذ البرّ ستة آلاف ومائتان، وأخذ الماء ألفان وثمانمائة.
وفيما ذكر نصر بن مزاحم العطار، عن عمر بن سعيد، عن أسد بن عبد الله، عمّن أدرك من أهل العلم: أن عبد خير الخيواني قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى، هل كان هذا الرجلان - يعني طلحة والزبير - ممن بايع عليّا؟ قال: نعم، قال: هل أحدث حدثًا يحلّ به نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دربت، فإنا تاركوك حتى تدري! يا أبا موسى هل تعلم أحدًا خارجًّا من هذه الفتنة التي تزعم أنها هي فتنة؟ إنما بقي أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشأم، وفرقة أخرى بالحجاز، لا يجبي بها فيء، ولا يقاتل بها عدوّ؛ فقال له أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة؛ فقال له عبد خير: يا أبا موسى، غلب عليك غشّك.
قال: وقد كان الأشتر قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد بعثت إلى أهل الكوفة رجلًا قبل هذين فلم أره أحكم شيئًا ولا قدر عليه، وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمر على ما تحبّ، ولست أدري ما يكون، فإن رأيت - أكرمك الله - يا أمير المؤمنين أن تبعثي في أثرهم، فإنّ أهل المصر أحسن شيء لي طاعة، وإن قدمت عليهم رجوت ألّا يخالفني منهم أحجد. فقال له علي: الحق بهم؛ فأقبل الأشتر حتى جخل الكوفة وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمرّ بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلّا دعاهم ويقول: اتّبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ويثبّطهم، يقول: أيّها الناس، إنّ هذه فتنة عمياء صماء تطأ خطامها النائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من لاماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الراكب؛ إنها فتنة باقرة كداء البطن، أتتكم من قبل مأمنكم، تدع الحليم فيها حيران كابن أمس. إنا معاشر أصحاب محمد ﷺ أعلم بالفتنة، إنها إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت أسفرت. وعمّار يخاطبه والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك! وتنحّ عن منبرنا. وقال له عمار: أنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ؟ فقال أبو موسى: هذه يدي بما قلت، فقال له عمّار: إنما قال لك رسول الله ﷺ هذا خاصة، فقال: أنت فيها قاعدًا خير منك قائمًا، ثمّ قال عمّار: غلب الله من غلالبه وجاحده.
قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمر بن سعيد، قال: حدثني رجل، عن نعيم، عن أبي مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ وعمّار يخاطب أبا موسى ويقول له ذلك القول، إذ خرج علينا غلمان لأبي موسى يشتدّون ينادون: يا أبا موسى، هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا؛ فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أمّ لكّ أخرج الله نفسك، فو الله إنك لمن المنافقين قديمًا، قال: أجّلني هذه العشيّة، فقال: هي لك، ولا تبينّ في القصر الليلة. ودخل الناس ينتهبون متاع مأبي موسى؛ فمنعهم الأشتر وأخرجهم من القصر، وقال: إني قد أخرجته، فكفّ الناس عنه.
نزول أمير المؤمنين ذا قار
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما التقوا بذي قار تلقّاهم علي في أناس، فيهم ابن عباس فرحّب بهم، وقال: يا أهل الكوفة، أنتم ولّيتم شوكة العجم وملوكهم، وفضضتم جموعهم؛ حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم، وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة؛ فإن يرجعوا فذاك ما نيريد وإن يلجّوا داويناهم بالرفق، وباينّاهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله.
فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرون مرور علي بهم، وهم آلاف - وفي الماء ألفان وأربعمائة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادها قالا: لما نزل علي ذا قار أرسل ابن عباس والأشتر بعد محمد بن أبي بكر ومحمد ابن جعفر، وأرسل الحسن بن علي وعمرًا بعد ابن عباس والأشتر، فخفّ في ذلك الأمر جميع من كان نفر فيه، ولم يقدم فيه الوجوه أتباعهم فكانوا خمسة آلاف أخذ نصفهم في البرّ ونصفهم في البحر، وخفّ من لم ينفر فيها ولم يعمل لها. وكان على طاعته ملازمًا للجماعة فكانوا أربعة آلاف، فكان رؤساء الجماعة: القعقاع بن عمرو وسعر بن مالك وهند بن عمرو والهيثم ابن شهاب؛ وكان رؤساء النفّار: زيد بن صوحان، والأشتر مالك بن الحارث، وعدي بن حاتم، والمسيّب بن نجبة، ويزيد بن قيس ومعهم أتباعهم وأمثال هلم لسوا دونهم إلّا أنهم لم يؤمّروا؛ منهم حجر بن عدي وابن محدوج البكري؛ وأشباه لهما لم يكن في أهل الكوفة أحد على ذلك الرأي غيرهم. فبادروا في الوقعة إلا قليلًا، فلما نزلوا على ذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذيه الرجلين يا بن الحنظليّة - وكان القعقاع من أصحاب النبي ﷺ - فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة، وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما مما ليس عندك فيه وصاة منّي؟ فقال: نلقاهم بالّذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا الرأي وكلّمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة رضي الله عنه فسلّم عليها، وقال: أي أمّه؛ ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزّبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا، فقال: إني سألت أمّ المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لئن عرفنا لنصلحنّ، ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه، فإن هذا إن ترك كان تركًا للقرآن؛ وإن علم به كان إحياء للقرآن. فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلًا، فغضب لهم ستة آلاف. واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الّذي أفلت - يعني حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولان؛ وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكن فالّذي حذرتم وقربتم به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكروهون؛ وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. فقالت أمّ المؤمنين: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلّا مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزاهزها، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرّضوا له فيصرعنا وإياكم. وأيم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف إلّا يتمّ حتى يأخذ الله عز وجل حاجته من هذه الأمة مالت قلّ متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذي حدث أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل.
فقالوا: نعم، إذًا قد أحسنت وأصبت المقالة؛ فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح؛ كثره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه.
وأقبلت وفود البصرة نحو علي حين نزل بذي قار، فجاءت وفود تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لنظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أي حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتال على بال. فلمّا لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على علي فأخبروه خبرهم؛ سأل علي بن شرس عن طلحة والزّبير، فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله حتى تمثل له:
ألا أبلغ بني بكر رسولا ** فليس إلي بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول
وتمثل علي عندها:
ألم تعلم أبا سمعنا أنّا ** نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع!
ويذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم فيستجيب ليغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ** وما بك يا سراقة من دفاع
قال أبو جعفر: أخرج إلي زياد بن أيوب كتابًا فيه أحاديث عن شيوخ ذكر أنه سمعها منهم؛ قرأ علي بعضها ولم يقرأ علي بعضها، فممّا لم يقرأ علي من ذلك فكتبته منه؛ قال: حدثنا مصعب بن سلام التميمي، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، قال: رأيت فيما يرى النائم في زمان عثمان بن عفان أنّ رجلًا يلي أمور الناس مريًا على فراشه وعند رأسه امرأة؛ والناس يريدونه ويبهشون إليه، فلو نهتهم المرأة لانتهوا؛ ولكنها لم تفعل، فأخذوه فقتلوه. فكنت أقصّ رؤياي على الناس في الحضر ولاسفر، فيعجبون ولا يدرون ما تأوليها! فلما قتل عثمان رضي الله عنه أتانا الخبر ونحن راجعون من غزاتنا؛ فقال أصحابنا: رؤياك يا كليب. فانتهينا إلى البصرة فلم نلبث إلّا قليلًا حتى قيل: هذا طلحة والزّبير معهما أمّ المؤمنين؛ فراع ذلك الناس وتعجّبوا، فإذا هم يزعمون للناس أنهم إنما خرجوا غضبًا لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإنّ أمّ المؤمنين تقول: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث: إمارة الفتي، وموقع الغمامة، وضربة السوط والعصا، فما أنصفنا إن لم نغضب له عليكم في ثلاث جررتموها إليه: حرمة الشهر، والبلد، والدم. فقال الناس: أفلم تبايعوا عليًّا وتدخلوا في أمره! فقالوا: دخلنا واللّجّ على أعناقنا. وقيل هبذا علي قد أظلّكم، فقال قومنا لي ولرجلين معي: انطلقوا حتى تأتوا عليًّا وأصحابه فسلوهم عن هذا الأمر الّذي قد اختلط علينا؛ فخرجنا حتى إذا دنونا من العسكر طلع علينا رجل جميل على بغلة، فقلت لصاحبي: أرأيتم المرأة التي كنت أحدثكم عنها أنها كانت عند رأس الوالي؟ فإنها أشبه الناس بهذا، ففطن أنّا نخوص فيه، فلما انتهى إليها قال: قفوا، ما الّذي قلتم حين رأيتموني؟ فأبينا عليه، فصاح بنا وقال: والله لا تبرحون حتى تخبروني، فدخلتنا منه هيبة، فأخبرناه فجاوزنا وهو يقول: والله لقد رأيت عجبًا، فقلنا لأدنى أهل العسكر إلينا: من هذا؟ فقال: محمّد بن أبي بكر، فعرفنا أن تلك المرأة عائشة رضي الله عنه، فازددنا لأمرها كراهية، وانتهينا إلى علي فسلمنا عليه، ثم سألناه عن هذا الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل فقتلوه، ثمّ ولّوني وأنا كاره ولولا خشية على الدين لم أجبهم، ثمّ طفق هذان في النكث فأخذت عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك، وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمّها حليلة رسول الله ﷺ فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرّضاها لما لا يحلّ لهما ولا يصلح؛ فاتّبعتهما لكيلا يفتقوا في الإسلام فتقًا، ولا يخرقوا جماعة.
ثم قال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلّا أن يقاتلوا وما خرجنا إلّا لإصلاح0. فصاح بنا أصحاب علي: بايعوا بايعوا، فبايع صاحبي، وأمّا أنا فأمسكت وقلبت: بعثني قومي لأمر، فلا أحدث شيئًا حتى أرجع إليهم. فقال علي: فإن لم يفعلوا؟ فقلت: لم أفعل، فقال: أرأيت لو أنهم بعثوك رائدًا فرجعت إليهم، فأخبرتهم عن الكلإ والماء فحالوا إلى المعاطش والجدوبة ما كنت صانعًا؟ قال: قلت: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء، قال: فمدّ يدك، فو الله ما استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي فبايعته. وكان يقول: علي من أدهى العرب. وقال: ما سمعت من طلحة والزّبير؟ فقلت: أما الزبير فإنه يقول: بايعنا كرهًا، وأمّا طلحة فمقبل على أن يتمثّل الأشعار، ويقول:
ألا أبلغ بني بكر رسولًا ** فليس إلى بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول
فقال: ليس كذلك، ولكن:
ألم تعلم أبا سمعان أنّا ** نصمّ الشيخ مثلك ذا الصداع
ويذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم فيستجيب لغير داع
ثم سار حتى نزل إلى جانب البصرة؛ وقد خندق طليحة والزّبير، فقال لنا أصحابنا من أهل البصرة: مما سمعتم إخواننا من أهل الكوفة يريدون ويقولون؟ فقلنا: يقولون خرجنا للصّلح وما نريد قتالًا؛ فبينا هم على ذلك لا يحدثون أنفسهم بغيره، إذ خرج صبيان العسكرين فتسابّوا ثم تراموا، ثم تتابع عبيد العسكرين، ثم ثلَّث السفهاء، ونشبت الحرب، وألجأتهم إلى الخندق، فاقتتلوا عليه حتى أجلوا إلى موضع القتال؛ فدخل منه أصحاب علي وخرج الآخرون.
ونادى علي: ألا لا نتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور، ونهى الناس، ثم بعث إليهم أن اخرجوا للبيعة، فبايعهم على الرايات وقال: من عرف شيئًا فليأخذه، حتى ما بقي في العسكرين شيء إلّا قبض، فانتهى إليه قوم من قيس شباب، فخطب خطيبهم، فقال: أين أمراؤكم؟ فقال الخطيب: أصيبوا تحت نظّار الجمل؛ ثم أخذ في خطبته، فقال علي: أما إنّ هذا لهو الخطيب السحسح. وفرغ من البيعة؛ واستعمل عبد الله ابن عباس وهو يريد أن يقيم حتى يحكم أمرها. فأمرني الأشتر أن أشتري له أثمن بعير بالبصرة ففعلت، فقال: ائت به عائشة، وأقرئها مني السلام، ففعلت، فدعت عليه وقالت: اردده عليه؛ فأبلغته، فقال: تلومني عائشة أن أفلتّ ابن أختها؟ وأتاه الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب وقال: غلام قتلنا الشيخ! إذ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي. ثم دعا بدابتّه فركب رجعًا. وبلغ ذلك عليًّا فنادى الرحيل، ثم أجدّ السير فلحق به فلم يره أنه قد بلغه عنه وقال: ما هذا السير؟ سفتنا! وخشي إ، ترك والخروج أن يوقع في أنفس الناس شرًّا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أمّ المؤمنين وطلحة الزبير بمثل رأيهم، جمع علي الناس، ثمّ قام على الغرائر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ. وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمّة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله ﷺ، ثمّ الذي يليه، ثمّ حدث هذا الحدث الّذي جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد. ألا وإنّ راحل غدًا فارتحلوا، ألا ولا يرتحلنّ غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفّهاء عني أنفسهم.
فاجتمع نفر، منهم علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر؛ في عدّة ممن سار إلى عثمان، ورضيَ بسير من من سار، وجاء معهم المصرّيون: ابن السوداء وخالد بن ملجم وتشاوروا، فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله علي، وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممّن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، وإذا رأوا قلّتنا في كثرتهم! أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أمّا طلحة والزّبير فقد عرفنا أرمهما، وأمّا علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا؛ فهلمّوا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان؛ فتعود فتنة يرضى منّا فيها بالسّكون.
فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت! أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظليّة وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلًا، فارقأ على ظلعك.
وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدّوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم؛ دعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتّقون به، وامتنعوا من الناس. فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله في خوض اعلحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عتادًا من خيول وسلاح محمودًا، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا. فقال ابن السوداء: أحسنت!
وقال سالم بن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإنّي لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غدًا لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور، وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولًا.
وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخّروا أمرًا ينبغي لكم تعجيله؛ ولا تعجّلوا أمرًا ينبغي لكم تأخيره؛ فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون غدًا إذا ما هم التقوا! وتكلّم ابن السوداء فقال: يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدًّا من أن يمتنع؛ ويشغل الله عليًّا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون. فأبصروا الرأي، وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون.
وأصبح علي على ظهر، فمضى ومضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل بهم وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك، ثم ارتحل حتى نزل على أهل اعلكوفة وهم أمام ذلك، والناس متلاحقون به وقد قطعهم، ولما بلغ أهل البصرة رأيهم ونزل عليٌّ بحيث نزل، قام أبو الجرباء إلى الزبير بن العوّام فقال: إنّ الرأي أن تبعث الآن ألف فارس فيمسّوا هذا الرجل ويصبّحوه قبل أن يوافي أصحابه؛ فقال الزبير: يا أبا الجرباء، إنا لنعرف أمور الحرب؛ ولكنهم أهل دعوتنا؛ وهذا أمر حدث في أشياء لم تكن قبل اليوم، هذا أمر من لم يلق الله عز وجل فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة؛ ومع ذلك إنه قد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصح؛ فأبشروا واصبروا، وأقبل صبرة بن شيمان فقال: يا طلحة، يا زبير، انتهزا بنا هذا الرجل فإنّ الرأي في الحرب خير من الشدّة. فقالا: يا صبرة إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن، أو يكون فيه من رسول الله ﷺ سنّة، إنما هو حدث. وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم. وهمّ علي ومن معه، فقلنا: نحن لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ولا نؤخّره. فقال علي: هذا الّذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم شرّ وهو خير من شرّ منه، وهو كأمر لا يدرك، وقد كاد أن يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمّها منفعةً وأحوطها. وأقبل كعب بن سور فقال: ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم! اقطعوا هذا العنق من هؤلاء. فقالوا: يا كعب، إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، لا والله ما أخذ أصحاب محمد ﷺ مذ بعث الله عز وجل نبيّه طريقًا إلّا علموا أين مواقع أقدامهم؛ حتى حدث هذا فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون! إن الشيء يحسن عندنا اليوم ويقبح عند إخواننا؛ فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم؛ وإنا لنحتجّ عليهم بالحجّة فلا يرونها حجّة، ثم يحتجّون بها على أمثالها، ونحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه وتمّوا، وإلّا فإن آخر الدواء الكي.
وقام إلى علي بن أبي طالب أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، فقام إليه فيمن قام الأعور بن بنان المنقري؛ فقال له علي: على الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم؛ وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم.
وقام إليه أبو سلامة الدألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عزّ وجل بذلك؟ قال: نعم، قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعًا، قال: فما حالنا وحالكم إن ابتلينا غدًا؟ قال: إنّي لأرجو ألّا يقتل أحد نقّى قلبه لله منّا ومنهم إلا أدخله الله الجنّة.
وقام إليه مالك بن حبيب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أنّ الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلّا القتال فصدع لا يلتئم؛ قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه.
وقام علي، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يأيّها الناس، املكوا أنفسكم، كفّوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم، فإنهم إخوانكم واصبروا على ما يأتيكم، وإياكم أن تسبقونا فإنّ المخصوم غدًا من خصم اليوم.
ثم ارتحل وأقدم ودفع تعبيته التي قدم فيها حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع ابن عمرو فكفّوا وأقرّونا ننزل وننظر في هذا الأمر.
فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين؛ قد منعوا حرقوص ابن زهير، ولا يرون القتال مع علي بن أبي طالب. فقال: يا علي، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غدًا أنك تقتل رجالهم وتسبي نساءهم. فقال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحلّ هذا إلّا ممّن تولّى وكفر، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " لست عليهم بمصيطر، إلّا من تولّى وكفر "، وهم قوم مسلمون! هل أنت مغنٍ عني قومك؟ قال: نعم، واختر مني واحدة من ثنتين، إمّا أن أكون آتيك فأكون معك بنفسي، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وقد بدأ فقال فقال: يال خندف، فأجابه ناس، ثمّ نادى يال تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يال سعد؛ فلم يبق سعدي إلّا أجابه، فاعتزل بهم، ثم نظر ما يصنع الناس، فلما وقع القتال وظفر علي جاءوا وافرين، فدخلوا فيما دخل فيه الناس.
وأما الّذي يرويه المحدثون من أمر الأحنف، فغير ما رواه سيف عمن ذكر من شيوخه. والذي يرويه المحدثون من ذلك ما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت حصينًا يذكر عن عمرو بن جأوان، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحجّ، فإنا لبمنازلنا نضع رحالنا إذ أتانا آت فقال: قد فزعوا وقد اجتمعوا في المسجد، فانطلقنا فإذا الناس مجتمعون على نفر في وسط المسجد، وإذا علي والزّبير وطلحة وسعد بن أبي وقّاص، وإنا لكذلك إذ جاء عثمان بن عفان؛ فقيل: هذا عثمان قد جاء وعليه مليئة له صفراء قد قنّع بها رأسه، فقال: أهاهنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا الزبير؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال أنشدكم بالله الذي لا إله إلّا هو؛ أتعلمون أنّ رسول الله ﷺ قال: من يبتع مربد بني فلان غفر الله له؛ فابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفًا، فأتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله، قد ابتعته، قال: " اجعله في مسجدنا وأجره لك "! قالوا: اللهمّ نعم، وذكر أسشياء من هذا النوع. قال الأحنف: فلقيت طلحة والزّبير فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي؟ فإني لا أرى هذا الرجل إلّا مقتولًا، قالا: علي؟ قلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم، فانطلقت حتى قدمت مكة، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان رضي الله عنه وبها عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، فلقيتها فقلت: من تأمريني أن أبايع؟ قالت: علي، قلت: تأمرينني به وترضينه لي؟ قالت: نعم؛ فمررت على علي بالمدينة فبايعته، ثمّ رجعت إلى أهلي بالبصرة ولا أرى الأمر إلّا قد استقام، قال: فبينا أنا كذلك؛ إذ آتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزّبير قد نزلوا جانب الخريبة، فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان رضي الله عنه، فأتاني أفظع أمر أتاني قطّ! فقلت: إنّ خذلاني هؤلاء ومعهم أمّ المؤمنين وحواري رسول الله ﷺ لشديد، وإنّ قتالي رجلًا ابن عمّ رسول الله ﷺ قد أمروني ببيعته لشديد. فلما أتيتهم قالوا: جئنا لنستنصر على دم عثمان رضي الله عنه، قتل مظلومًا؛ فقلت: علي؟ فقلت: أتأمرينني به وترضينه لي؟ قلت نعم! قالت: نعم، ولكنه بدّل. فقلت: يا زبير يا حواري رسول الله ﷺ، يا طلحة، أنشدكما الله، أقلت لكما: ما تأمراني فقلتما: علي؟ فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما نعم! قالا: نعم، ولكنه بدّل. فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين وحواري رسول الله ﷺ ولا أقاتل رجلًا ابن عمّ رسول الله ﷺ، أمرتموني ببيعته؛ اختاروا مني واحدةً من ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله عز وجل من أمره ما قضى، أو أعتزل فأكون قريبًا. قالوا: إنا نأتمر، ثم نرسل إليك. فائتمروا فقالوا: نفتح له الجسر ويخبرهم بأخباركم! ليس ذاكم برأي، اجعلوه ها هنا قريبًا حيث تطئون على صماخه وتنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء من البصرة على فرسخين، فاعتزل معه زهاء على ستة آلاف.
ثم التقى القوم فكان أوّل قتيل طلحة رضي الله عنه، وكعب بن سور معه المصحف يذكّر هؤلاء وهؤلاء؛ حتى قتل من قتل منهم، ولحق الزبير بسفوان، من البصرة كمكان القادسيّة منكم، فلقيه النعر؛ رجل من مجاشع، فقال: أين تذهب يا حواري رسول الله ﷺ؟ إلي فأنت في ذمتي لا يوصل إليك؛ فأقبل معه؛ فأتى الأحنف خبره فقيل: ذاك الزبير قد لقي بسفوان فما تأمر؟ قال: جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف ثم يلحق ببيته، فسمعه عمير بن جرموز وفضالة بن حابس، ونفيع؛ فركبوا في طلبه، فلقوه مع النعر، فأتاه عمير بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنةً خفيفة، وحمل عليه الزبير وهو على فرس له يقال له ذو الخمار، حتى إذا ظنّ أنه قاتله نادى عمير بن جرموز: يا نافع، يا فضالة، فحملوا عليه فقتلوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: معتمر بن سليمان، قال: نبّأني أبي، عن حصين، قال: حدثنا عمرو بن جأوان؛ رجل من بني تميم، وذاك أنى قلت له: أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ فقال: سمعت الأحنف يقول: أتيت المدينة وأنا حاجّ؛ فذكر نحوه. الحمد لله على ما قضى وحكم.
بعثة علي بن أبي طالب من ذي قار ابنه الحسن وعمار بن ياسر ليستنفرا له أهل الكوفة
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا بشير بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه، قال: خرج هاشم بن عتبة إلى علي بالرّبذة؛ فأخبره بقدوم محمد بن أبي بكر وقول أبي موسى، فقال: لقد أردت عزله، وسألني الأشتر أن أقرّه فردّ علي هاشمًا إلى الكوفة وكتب إلى أبي موسى: إنّي وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إلي، فأشخص الناس فإنّي لم أولّك الذي أنت به إلّا لتكون من أعواني على الحقّ. فدعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري، فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تتبع ما كتب به إليك، قال: لكني لا أرى ذلك. فكتب هاشم إلى علي: إني قد قدمت على رجل غال مشاقّ ظاهر الغلّ والشنآن. وبعث بالكتاب مع المحلّ بن خليفة الطائي. فبعث علي الحسن بن علي وعمّار بن ياسر يستنفران له الناس، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرًا على الكوفة، وكتب معه: إلى أبي موسى: أما بعد، فقد كنت أرى أن بعدك من هذا الأمر الّذي لم يجعل الله عز وجل لك منه نصيبًا سيمنعك من ردّ أمري، وقد بعثت الحسن بن علي وعمّار بن ياسر يستنفران الناس، وبعثت قرظة بن كعب واليًا على المصر، فاعتزل عملنا مذمومًا مدحورًا، فإن لم تفعل فإنّي قد أمرته أن ينابذك، فإن نابذته فظفر بك أن يقطّعك آرابًا.
فلما قدم الكتاب على أبي موسى اعتزل، ودخل الحسن وعمار المسجد فقالا: أيّها الناس، إنّ أمير المؤمنين يقول: إني خرجت مخرجي هذا ظالمًا أو مظلومًا؛ وإني أذكّر الله عز وجل رجلًا رعى لله حقًّا إلا نفر، فإن كنت مظلومًا أعانني، وإن كنت ظالمًا أخذ مني، والله إنّ طلحة والزّبير لأوّل من بايعني، وأوّل من غدر، فهل استأثرت بمال، أو بدّلت حكمًا! فانفروا، فمروا بمعروف وانهوا عن منكر.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي، عن أبي الطفيل، قال: قال علي: يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل، فقعدت على نجفة ذي قار، فأحصيتهم فما زادوا رجلًا، ولا نقصوا رجلًا.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه، قال: خرج إلى علي اثنا عشر ألف رجل، وهم أسباع: على قريش وكنانة وأسد وتميم والرّباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وسبع قيس عليهم سعد بن مسعود الثقفي، وسبع بكر بن وائل وتغلب عليهم وعلة بن مخدوج الذهلي، وسبع مذحج والأشعرين عليهم حجر ابن عدي، وسبع بجيلة وأنمار وخثعم والأزد عليهم مخنف بن سليم الأزدي.
نزول علي الزاوية من البصرة
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن مسلمة بن محارب، عن قتادة، قال: نزل علي الزاوية وأقام أيامًا، فأرسل إليه الأحنف: إن شئت أتيتك، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إليه علي: كيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال! قال: إنّ من الوفاء لله عز وجل قتالهم، فأرسل إليه: كفّ من قدرت على كفّه. ثم سار علي من الزاوية، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله - أو عبد الله - بن زياد، فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدي: أن اخرج، فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي. فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل، فعدلوا إلى عسكر أمير المؤمنين، فقال الناس: من كان هؤلاء معه غلب، ودفع شقيق بن ثور رايتهم إلى مولىً له يقال له: رشراشة، فأرسل إليه وعلة بن محدوج الذهلي: ضاعت الأحساب، دفعت مكرمة قومك إلى رشراشة، فأرسل شقيق: أن أغن شأنك؛ فإنا نغني شأننا. فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، يرسل إليهم علي، ويكلّمهم ويردعهم.
حدثنا عمر، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن قتادة، قال: سار علي من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة، وساروا من الفرضة يريدون عليًا فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين يوم الخميس، فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح، فقيل لعلي: هذا الزبير؛ قال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكره، وخرج طلحة، فخرج إليهما علي، فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابّهم، فقال علي: لعمري لقد أعددتما سلاحًا وخيلًا ورجالًا، إن كنتما أعددتما عند الله عذرًا فاتّقيا الله سبحانه، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثًا. ألم أكن أخاكما في دينكما، تحرّمان دمي وأحرّم دماءكما! فهل من حدث أحلّ لكما دمي؟ قال طلحة: ألّبت الناس على عثمان رضي الله عنه، قال علي: " يومئذ يوفّيهم الله دينهم الحقّ ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين "؛ يا طلحة، تطلب بدم عثمان رضي الله عنه! فلعن الله قتلة عثمان. يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول الله ﷺ في بني غنم، فنظر إلي فضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله ﷺ: " صه، إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم "؟ فقال: اللهمّ نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدًا.
فانصرف علي إلى أصحابه، فقال: أمّا الزبير فقد أعطى الله عهدًا ألّا يقاتلكم، ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلّا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا، قالت: فما تريد أن تضنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب؛ فقال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين، حتى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب! أحسست رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد؛ قال: إني قد حلفت ألّا أقاتله، وأحفظه ما قال له، فقال: كفّر عن يمينك، وقاتله، فدعا بغلام له يقال له مكحول، فأعتقه، فقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي:
لم أر كاليوم أخا إخوان ** أعجب من مكفّر الأيمان
بالعتق في معصية الرحمن
وقال رجل من شعرائهم:
يعتق مكحولا لصون دينه ** كفّارة لله عن يمينه
والنّكث قد لاح على جبينه
رجع الحديث إلى حديث سيف عن محمد وطلحة: فأرسل عمران ابن حصين في الناس يخذّل من الفريقين جميعًا، كما صنع الأحنف، وأرسل إلى بني عدي فيمن أرسل، فأقبل رسوله حتى نادى على باب مسجدهم: ألا إنّ أبا نجيد عمران بن الحصين يقرئكم السلام، ويقول لكم: والله لأن أكون في جبل حضن مع أعنز خضر وضأن، أجزّ أصوافها، وأشرب ألبانها، أحبّ إلي من أن أرمي في شيء من هذين الصفين بسهم، فقالت بنو عدي جميعًا بصوت واحد: إنا والله لا ندع ثقل رسول الله ﷺ لشيء - يعنون أمّ المؤمنين.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا أبو نعامة العدوي، عن حجير بن الربيع، قال: قال لي عمران بن حصين: سر إلى قومك أجمع ما يكونون، فقم فيهم قائمًا، فقل: أرسلني إلأيكم عمران بن حصين صاحب رسول الله ﷺ، يقرأ عليكم السلام ورحمة الله، ويحلف بالله الذي لا إله إلّا هو، لأن يكون عبدًا حبشيًا مجدّعًا يرعى أعنزًا حضنيّات في رأس جبل حتى يدركه الموت، أحبّ إلي من أن يرمي بسهم واحد بين الفريقين؛ قال: فرفع شيوخ الحي رءوسهم إليه، فقالوا: إنا لا ندع ثقل رسول الله ﷺ لشيء أبدًا.
رجع الحديث إلى حديث سيف عن محمد وطلحة: وأهل البصرة فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال مع أحد من الفريقين، وجاءت عائشة رضي الله عنها من منزلها الذي ساحتهم، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إنّ الجموع إذا تراءوا لم تستطع، وإنما هي بحور تدفّق، فأطعني ولا تشهدهم، واعتزل بقومك، فإني أخاف ألّا يكون صلح، وكن وراء هذه النطفة، ودع هذين الغارين من مضر وربيعة، فهما أخوان، فإن اصطلحا فالصّلح ما أردنا، وإن اقتتلا كنا حكّامًا عليهم غدًا - وكان كعب في الجاهليّة نصرانيًّا - فقال صبرة: أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانيّة؛ أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس، وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردّوا عليهم الصلح، وأدع الطلب بدم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا، فأطبق أهل اليمن على الحضور.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الضريس البجلي، عن ابن يعمر، قال: لما رجع الأحنف بن قيس من عند علي لقيه هلال بن وكيع بن مالك بن عمرو، فقال: ما رأيك؟ قال: الاعتزال، فما رأيك؟ قال: مكانفة أمّ المؤمنين، أفتدعنا وأنت سيّدنا! قال: إنما أكون سيّدكم غدًا إذا قتلت وبقيت؛ فقال هلال: هذا وأنت شيخنا! فقال: أنا الشيخ المعصي، وأنت الشابّ المطاع. فاتّبعت بنو سعد الأحنف، فاعتزل بهم إلى وادي السباع، واتّبعت بنو حنظلة هلالًا، وتابعت بنو عمرو أبا الجرباء فقاتلوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، قال: لما أقبل الأحنف نادى: يا لأدّ، اعتزلوا هذا الأمر، وولّوا هذين الفريقين كيسه وعجزه، فقام المنجاب بن راشد فقال: يال الرباب! لا تعتزلوا، واشهدوا هذا الأمر، وتولوا كيسه، ففارقوا. فلما قال: يال تميم؛ اعتزلوا هذا الأمر وولوا هذين الفريقين كيسه وعجزه، قام أبو الجرباء - وهو من بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم - فقال: يال عمرو، لا تعتزلوا هذا الأمر وتولّوا كيسه. فكان أبو الجرباء على بني عمرو بن تميم، والمنجاب بن راشد على بني ضبّة، فلما قال: يال زيد مناة، اعتزلوا هذا الأمر، وولّوا هذين الفريقين كيسه وعجزه قال هلال بن وكيع: لا تعتزلوا هذا الأمر؛ ونادى: يال حنظلة توّلوا كيسه؛ فكان هلال على حنظلة، وطاوعت سعد الأحنف، واعتزلوا إلى وادي السباع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان على هوازن وعلى بني سليم والأعجاز مجاشع بن مسعود السلمي، وعلى عامر زفر بن الحارث، وعلى غطفان أعصر بن النعمان الباهلي، وعلى بكر بن وائل مالك بن مسمع، واعتزلت عبد القيس إلى علي إلّا رجلًا فإنه أقام، ومن بكر بن وائل قيّام، واعتزل منهم مثل من بقي منهم، عليهم سنان، وكانت الأزد على ثلاثة رؤساء: صبرة بن شيمان، ومسعود، وزياد ابن عمرو، والشواذب عليهم رجلان: على مضر الخرّيت بن راشد، وعلى قضاعة والتوابع الرعبي الجرمي - وهو لقب - وعلى سائر اليمن ذو الآجرة الحميري.
فخرج طلحة والزبير فنزلا بالناس من الزابوقة، في موضع قرية الأرزاق، فنزلت مضر جميعًا وهم لا يشكّون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم جميعًا وهم لا يشكّون في الصلح، ونزلت اليمن جميعًا أسفل منهم، وهم لا يشكّون في الصلح، وعائشة في الحدّان، والناس في الزابوقة، على رؤسائهم هؤلاء وهم ثلاثون ألفًا، وردّوا حكيمًا ومالكًا إلى علي؛ بأنّا على ما فارقنا عليه القعقاع فاقدم. فخرجا حتى قدما عليه بذلك، فارتحل حتى نزل عليهم بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم؛ مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكّون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلّا الصلح، وخرج أمير المؤمنين فيمن معه، وهم عشرون ألفًا، وأهل الكوفة على رؤسائهم الذين قدموا معهم ذا قار، وعبد القيس على ثلاثة رؤساء: جذيمة وبكر على ابن الجارود، والعمور على عبد الله بن السوداء، وأهل هجر على ابن الأشجّ، وبكر بن وائل من أهل البصرة على ابن الحارث بن نهار، وعلى دنور بن علي الزط والسيابجة، وقدم علي ذا قار في عشرة آلاف، وانضمّ إليه عشرة آلاف.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفيّة، قال: أقبلنا من المدينة بسبعمائة رجل، وخرج إلينا من حولنا ألفان، أكثرهم بكر بن وائل، ويقال: ستة آلاف.
رجع الحديث إلى حديث محمد وطلحة: قالا: فلما نزل الناس واطمأنوا، خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتواقفوا، وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع، وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، وطلحة والزبير إلى عسكرهما.
أمر القتال
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبعث علي من العشي عبد الله بن عبّاس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة إلى علي، وأنم يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسوا - وذلك في جمادى الآخرة - أرسل طلحة والزّبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، ما خلا أولئك الّذين هضّوا عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنّزوع عمّا اشتهى الذين اشتهوا، وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلّها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرّ، واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشرّ، فغدوا مع الغلس، وما يشعر بهم جيرانهم، انسلّوا إلى ذلك الأمر انسلالا، وعليهم ظلمة، فخرج مضريّهم إلى مضريّهم، وربعيهم إلى ربعيّهم، ويمانيهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كلّ قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم، وخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس من مضر فبعثا إلى الميمنة، وهم ربيعة يعبؤها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب ابن أسيّد، وثبتا في القلب، فقال: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلًا، فقالا: قد علمنا أنّ عليًّا غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحلّ الحرمة، وأنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة، وقصف أهل البصرة، أولئك حتى ردّوهم إلى عسكرهم، فسمع علي وأهل الكوفة الصوت، وقد وضعوا رجلًا قريبًا من علي ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال: ذاك الرجل ما فجئنا إلّا وقوم منهم بيّتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رجل فركبونا، وثار الناس، وقال علي لصاحب ميمنته: ائت الميمنة، وقال لصاحب ميسرته: ائت الميسرة، ولقد علمت أنّ طلحة والزّبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء، ويستحلّا الحرمة، وأنهما لن يطاوعانا، والسّبئيّة لا تفتر إنشابًا. ونادى علي في الناس: أيها الناس، كفّوا فلا شي، فكان من رأيهم جميعًا في تلك الفتنة ألّا يقتتلوا حتى يبدءوا؛ يطلبون بذلك الحجّة، ويستحقون على الآخرين، ولا يقتلوا مدبرًا، ولا يجهزوا على الحجّة، ويستحقون على الآخرين، ولا يقتلوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا. فكان مما اجتمع عليه الفريقان ونادوا فيما بينهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي عمرو، قالوا: وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة رضي الله عنها، فقال: أدركي فقد أبى القوم إلّا القتال، لعلّ الله يصلح بك. فركبت، وألبسوا هودجها الأدراع، ثم بعثوا جملها، وكان جملها يدعى عسكرًا، حملها عليه يعلى بن أميّة، اشتراه بمائتي دينار، فلما برزت من البيوت - وكانت بحيث تسمع الغوغاء - وقفت، فلم تلبث أن سمعت غوغاء شديدة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجّة العسكر؛ قالت: بخير أو بشرّ؟ قالوا: بشرّ. قالت: فأي الفريقين كانت منهم هذه الضجّة فهم المهومون. وهي واقفة، فوالله ما فجئها إلّا الهزيمة، فمضى الزبير من سننه في وجهه، فسلك وادي السباع، وجاء طلحة سهم غرب يخلّ ركبته بصفحة الفرس، فلما امتلأ موزجه دمًا وثقل قال لغلامه: اردفني وأمسكني، وابغني مكانًا أنزل فيه، فدخل البصرة وهو يتمثّل مثله ومثل الزبير:
فإن تكن الحوادث أقدتني ** وأخطأهنّ سهمي حين أرمى
فقد ضيّعت حين تبعت سهمًا ** سفاهًا مّا سفهت وضلّ حلمي
ندمت ندامة الكسعي لمّا شريت رضا بني سهمٍ برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأيٍ ** فألقوا للسّباع دمي ولحمي
خبر وقعة الجمل من رواية أخرى
قال أبو جعفر: وأما غير سيف فإنه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير وانصرافه عن الموقف الذي كان فيه ذلك اليوم غير الذي ذكر سيف عن صاحبيه، والذي ذكر من ذلك بعضهم ما حدثنيه أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، في قصة ذكرها من خبر علي وطلحة والزبير وعائشة في مسيرهم الذي نحن في ذكره في هذا الموضع، قال: وبلغ الخبر عليًّا - يعني خبر السبعين الذين قتلوا مع العبدي بالبصرة - فأقبل - يعني عليًّا - في اثني عشر ألفًا، فقدم البصرة، وجعل يقول:
يا لهف نفسي على ربيعة ** ربيعة السامعة المطيعه
سنّتها كانت بها الوقيعة
فلما تواقفوا خرج علي على فرسه، فدعا الزبير، فتواقفا، فقال علي للزبير: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلًا، ولا أولى به منّا؛ فقال علي: لست له أهلًا بعد عثمان! قد كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك؛ وعظّم عليه أشياء، فذكر أن النبي ﷺ مرّ عليهما فقال لعلي: " ما يقول ابن عمتك؟ ليقاتلنّك وهو لك ظالم ". فانصرف عنه الزبير، وقال: فإني لا أقاتلك. فرجع إلى ابنه عبد الله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنك قد خرجت على بصيرة، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب، وعرفت أن تحتها الموت، فجبنت. فأحفظه حتى أرعد وغضب، وقال: ويحك! إني قد حلفت له ألّا أقاتله، فقال له ابنه: كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس، فأعتقه، وقام في الصفّ معهم، وكان علي قال للزّبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره. وقال علي: يا طلحة، جئت بعرس رسول الله ﷺ تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت! أما بايعتني! قال: بايعتك وعلى عنقي اللج، فقال علىّ لأصحابه: أيّكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، وإن قطعت أخذه بأسنانه؟ قال فتىً شابّ: أنا، فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذلك الفتى، فقال له علي: اعرض عليهم هذا، وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم. فحمل على الفتى وفي يده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل، فقال علي: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم، فقتل يومئذ سبعون رجلًا، كلهم يأخذ بخطام الجمل، فلما عقر الجمل وهزم الناس، أصابت طلحة رمية فقتلته، فيزعمون أن مروان بن الحكم رماه، وقد كان ابن الزبير أخذ بخطام جمل عائشة، فقالت: من هذا؟ فأخبرها؛ فقالت: واثكل أسماء! فجرح، فألقى نفسه في الجرحى، فاستخرج فبرأ من جراحته، واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة، فضرب عليها فسطاط، فوقف علي عليها فقال: استفززت الناس وقد فزّوا، فألّبت بينهم، حتى قتل بعضهم بعضا.. في كلام كثير. فقالت عائشة: يا بن أبي طالب، ملكت فأسجح، نعم ما أبليت قومك اليوم! فسرّحها علي، وأرسل معها جماعةً من رجال ونساء، وجهزّها، وأمر لها باثني عشر ألفًا من المال؛ فاستقلّ ذلك عبد الله بن جعفر، فأخرج لها مالًا عظيمًا، وقال: إن لم يجزه أمير المؤمنين فهو علي. وقتل الزبير، فزعموا أن ابن جرموز لهو الذي قتله، وأنه وقف بباب أمير المؤمنين؛ فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير؛ فقال علي: ائذن له، وبشّره بالنار.
حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا فضيل، عن سفيان بن عقبة، عن قرّة بن الحارث، عن جون بن قتادة. قال قرّة بن الحارث: كنت معالأحنف بن قيس، وكان جون ابن قتادة ابن عمّي مع الزبير بن العوام، فحدثني جون بن قتادة، قال: كنت مع الزبير رضي الله عنه، فجاء فارس يسير - وكانوا يسلّمون على الزبير بالإمرة - فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ قال: وعليك السلام؛ قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا، فلم أر قومًا أرثّ سلاحًا، ولا أقلّ عددًا، ولا أرعب قلوبًا من قوم أتوك، ثمّ انصرف عنه. قال: ثمّ جاء فارس فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ قال: وعليك السلام؛ قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا، فلم أر قومًا أرثّ سلاحًا، ولا أقلّ عددًا، ولا أرعب قلوبًا من قوم أتوك، ثمّ انصرف عنه. قال: ثمّ جاء فارس فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ فقال: وعليك السلام، قال: جاء القوم حتى أتوا مكان كذا وكذا، فسمعوا بما جمع الله عز وجل لكم من العدد والعدّة والحدّ، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فولّوا مدبرين؛ قال الزبير: إيهًا عنك الآن؛ فوالله لو لم يجد ابن أبي طالب إلاالعرفج لدبّ إلينا فيه؛ ثم انصرف. ثم جاء فارس وقد كادت الخيول أن تخرج من الرهج فقال: السلام عليك أيّها الأمير، قال: وعليك السلام، قال: هؤلاء القوم قد أتوك، فلقيت عمّارًا فقلت له وقال لي؛ فقال الزبير: إنه ليس فيهم، فقال: بلى والله إنه لفيهم؛ قال: والله ما جعله الله فيهم، فقال: والله لقد جعله الله فيهم. قال: والله ما جعله الله فيهم؛ فلمّا رأى الرجل يخالفه قال لبعض أهله: اركب فانظر: أحقّ ما يقول! فركب معه، فانطلقا وأنا أنظر إليهما حتى وقفا في جانب الخيل قليلا، ثم رجعا إلينا، فقال الزبير لصاحبه: ما عندك؟ قال: صدق الرجل؛ قال الزبير: يا جدع أنفاه - أو يا قطع ظهراه؟ - قال محمد بن عمارة: قال عبيد الله: قال فضيل: لا أدري أيذهما قال - ثم أخذه أفكل، فجعل السلاح ينتفض، فقال جون: ثكلتني أمي، هذا الذي كنت أريد أن أموت معه، أو أعيش معه، والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلّا لشيء قد سمعه أو رآه من رسول الله ﷺ. فلمّا تشاغل الناس انصرف فجلس على دابته، ثم ذهب، فانصرف جون فجلس على دابّته، فلحق بالأحنف، ثم جاء فارسان حتى أتيا الأحنف وأصحابه، فنزلا، فأتيا فأكبّا عليه، فناجياه ساعة، ثم انصرفا. ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف، فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته، فكان يقول: والذي نفسي بيده إن صاحب الزبير الأحنف.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا بشير ابن عاصم، عن الحجّاج بن أرطاة، عن عمار بن معاوية الدهني - حي من أحمس بجيلة - قال: أخذ علي مصحفًا يوم الجمل، فطاف به في أصحابه، وقال: من يأخذ هذا المصحف، يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقام إليه فتىُ من أهل الكوفة عليه قباء أبيض محشوّ، فقال: أنا، فأعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا، فأعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا؛ فدفعه إليه، فدعاهم فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فدعاهم فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقتل رضي الله عنه، فقال علي: الآن حلّ قتالهم، فقالت أمّ الفتى بعد ذلك فيما ترثي:
لا همّ إنّ مسلمًا دعاهم ** يتلو كتاب الله لا يخشاهم
وأمّهم قائمة تراهم ** يأتمرون الغي لا تنهاهم
قد خضبت من علق لحاهم
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي، قال: حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة، فاقتتلوا، ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها، أكثرهم ضبّة الأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر؛ ويقال: إلى أن زالت الشمس، ثم انهزموا، فنادى رجل من الأزد: كرّوا، فضربه محمد بن علي فقطع يده، فنادى: يا معشر الأزد فرّوا، واستحرّ القتل بالأزد، فنادوا: نحن على دين علي بن أبيس طالب؛ فقال رجل من بني ليث بعد ذلك:
سائل بنا يوم لقينا الأزدا ** والخيل تعدو أشقرًا ووردا
لمّا قطعنا كبدهم والزّندا ** سحقًا لهم في رأيهم وبعدا!
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: حمل عمّار على الزبير يوم الجمل، فجعل بنحوزه بالرمح، فقال: أتريد أن تقتلني؟ قال: لا، انصرف؛ وقال عامر بن حفص: أقبل عمارٌ حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح، فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا يا أبا عبد الله.
رجع الحنديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة: قالا: ولما انهزم الناس في صدر النهار، نادى الزبير: أنا الزبير، هلمّوا إلي أيّها الناس، ومعه مولىً له ينادي: أعن حواري رسول الله ﷺ تنهزمون! وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتّبعه فرسان، وتشاغل الناس عنه بالناس، فلما رأى الفرسان تتبعه عطف عليهم، ففرّق بينهم، فكرّوا عليه، فلمّا عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه، فلما نفر فيهم علياء بن الهيثم؛ ومرّ القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلي عباد الله، الصبر الصبر! قال له: يا أبا محمد؛ إنك لجريح، وإنك عمّا تريد لعليل؛ فادخل الأبيات، فقال: يا غلام، أدخلني وابغني مكانًا. فأدخل البصرة ومعه غلام ورجلان، فافتتل الناس بعده، فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة. فلمّا رأوا الجمل أطافت به مضر عادوا قلبًا كما كانوا حيث التفوا، وعادوا إلى أمر جديد، ووقفت ربيعة البصرة، منهم ميمنة ومنهم ميسرة، وقالت عائشة: خلّ يا كعب عن البعير؛ وتقدّم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفًا. وأقبل القوم وأمامهم السبئيّة يخافون أن يجرى الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلّا إقدامًا، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: يا بني، البقيّة البقيّة - وبعلو صوتها كثرة - الله الله، اذكروا الله عز وجل والحساب، فيأبون إلّا إقدامًا، فكان أوّل شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيّها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقبلت تدعو.
وضجّ أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجّة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم. وأرسلت إلى عبد الرحمن ابن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما، وذمرت الناس حين رأت أنّ القوم لا يريدون غيرها، ولا يكفّون عن الناس، فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علي، فنخس علي قفا محمد، وقال: أحمل، فنكل، فأخوى علي إلى الراية ليأخذها منه، فحمل، فترك الراية في يده، وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوا قدّام الجمل حتى ضرسوا، والمجنّبات على حالها، لا تصنع شيئًا، ومع علي أقوام غير مضر، فمنهم زيد بن صوحان، فقال له رجل من قومه: تنحّإلى قومك، مالك ولهذا الموقف! ألست تعلم أن مضر بحيالك، وأنّ الجمل بين يديك، وأن الموت دونه! فقال: الموت خير من الحياة، الموت ما أريد؛ فأصيبوأخوه سيحان، وارتث صعصعة، واشتدّت الحرب. فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى ربيعة: أن اجتمعوا على من يليكم، فقام رجل من عبد القيس فقال: ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل؛ قالوا: وكيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم حدود الله سبحانه، ومن قتل داعي الله كعب بن سور! فرمته ربيعة رشقًا واحدًا فقتلوه، وقام مسلم بن عبد الله العجلي مقامه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان القتال الأوّل يستحرّ إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة رضي الله عنه، وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، ذمرتهم عائشة، فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير، وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة، وقال: إن الموت ليس منه فوت، يدرك الهارب، ولا يترك المقيم.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو عبد الله القرشي، عن يونس بن أرقم، عن علي بن عمرو الكندي، عن زيد بن حساس، قال: سمعت محمد بن الحنفيّة يقول: دفع إلي أبى الراية يوم الجمل، وقال: تقدّم؛ فتقدّمت حتى لم أجد متقدّمًا إلّا على رمح؛ قال: تقدّم لا أمّ لك! فتكاكأت وقلت: لا أجد متقدّمًا إلّا على سنان رمح، فتناول الراية من يدي متناول لا أدري من هو! فنظرت فإذا أبى بين يدي وهو يقول:
أنت الّتي غرّك منّي الحسنى ** يا عيش إنّ القوم قوم أعدا
الخفض خير من قتال الأبنا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: اقتتلت المجنّبتان حين تزاحفتا قتالًا شديدًا، يشبه ما فيه القلبان، واقتتل أهل اليمن، فقتل على راية أمير المؤمنين من أهل الكوفة عشرة، كلما أخذها رجل قتل خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها، فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفس وقد غنيت ** دهرًا فقطك اليوم ما بقيت
أطلب طول العمر ما حييت
وإنما تمثّلها وهو قول الشاعر قبله. وقال نمران بن أبي نمران الهمذاني:
جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمزد
كلّ طويل الساعدين نهد
وأقبلت ربيعة، فقتل على راية الميسرة من أهل الكوفة زيد، وصرع صعصعة، ثم سيحان، ثم عبد الله بن رقبة بن المغيرة، ثم أبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا في شبهة وعلى ريب؛ حتى قتل، ثمّ الحصين ابن معبد بن النعمان، فأعطاها ابنه معبدًا، وجعل يقول: يا معبد، قرّب لها بوّها تحدب، فثبتت في يده.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر تنادوا في عسكر عائشة وعسكر علي: يأيها الناس، طرّفوا إذا فرغ الصبر، ونزع النصر. فجعلوا يتوجّئون الأطراف: الأيدي والأرجل، فما رئيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا يسمع بها أكثر يدًا مقطوعة ورجلًا مقطوعة منها، لا يدري من صاحبها. وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب يومئذ قبل قتله، وكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب شيء من أطرافه استقتل إلى أن يقتل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة ابن بلال، عن أبيه، قال: اشتدّ الأمر حتى أرزت ميمنة الكوفة إلى القلب، حتى لزقت به، ولزقت ميسرة البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم، وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة الكوفة وميمنة البصرة، فقالت عائشة - رضي الله عنها - لمن عن يسارها: من القوم؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد، قالت: يآل غسّان! حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثّلت:
وجالد من غسّان أهل حفاظها ** وهنب وأوس جالدت وشبيب
وقالت لمن عن يمينها: من القوم؟ قالوا: بكر بن وائل؛ قالت: لكم يقول القائل:
وجاءوا إلينا في الحديد كأنّهم ** من العزّة القعساء بكر بن وائل
إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ القتال من قتالهم قبل ذلك، وأقبلت على كتيبة بين يديها، فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية، قالت: بخ بخ! سيوف أبطحيّة، وسيوف قرشيّة، فجالدوا جلادًا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبّة، فقالت: ويهًا جمرة الجمرات! حتى إذا رقّوا خالطهم بنو عدي، وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدّي، خالطنا إخواننا، فقالت: مازال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي، فأقاموا رأس الجمل، ثم ضربوا ضربًا ليس بالتعذير، ولا يعدّلون بالتطريف؛ حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعًا. راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع. وأرزت مجنّبتا علي فصارتا في القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضًا. وتلاقوا جميعًا بقلبيهم، وأخذ ابن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز، وادّعى قتل علباء ابن الهيثم وزيد بن صوحان وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان علي دين علي
فناداه عمّار: لقد لعمري لذت بحريز، وما إليك سبيل، فإن كنت صادقًا فاخرج من هذه الكتيبة إلي؛ فترك الزمام في يد رجل من بني عدي حتى كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي، فزحم الناس عمّارًا حتى أقبل إليه، فاتّقاه عمار بدرقته، فضربه انتشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، فخرج عمّار إليه لا يملك من نفسه شيئًا، فأسفّ عمار لرجليه فقطعهما، فوقع على استه، وحمله أصحابه، فارتثّ بعد، فأتى به علي، فأمر بضرب عنقه. ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام، ثم خرج فنادى: من يبارز؟ فخنّس عمّار، وبرز إليه ربيعة العقيلي - والعدوي يدعى عمرة بن بجرة، أشدّ الناس صوتًا، وهو يقول:
يا أمّنا أعقّ أمّ نعلم ** والأمّ تغذو ولدًا وترحم
ألا ترين كم شجاع يكلم ** وتخلي منه يد ومعصم
ثم اضطربا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا.
وقال عطيّة بن بلال: ولحق بنا من آخر النهار رجل يدعى الحارث، من بني ضبّة، فقام مقام العدوي، فما رأينا رجلًا قطّ أشدّ منه، وجعل يقول:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننعى ابن عفان بأطرفاف الأسل
الموت أحلى عندنا من العسل ** ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن المفضّل بن محمد، عن عدي بن أبي عدي، عن أبي رجاء العطاردي، قال: إني لأنظر إلى رجل يوم الجمل وهو يقلّب سيفًا بيده كأنه مخراق، وهو يقول:
نحن بني ضبّة أضحاب الجمل ** ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أشهى عندنا من العسل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل
ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن الهذلي، قال: كان عمرو بن يثربي يحضّض قومه يوم الجمل، وقد تعاوروا الخطام يرتجزون:
نحن بني ضبّة لا نفرّ ** حتى نرى جماجمًا تخرّ
يخرّ منها العلق المحمرّ
يا أمّنا يا عيش لن تراعى ** كلّ بنيك بطل شجاع
يا أمّنا يا زوجة النبي ** يا زوجة المبارك المهديّ
حتى قتل على الخطام أربعون رجلًا، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبّة. وقتل يومئذ عمرو بن يثربي علياء بن الهيثم السدوسي، وهند بن عمرو الجملي، وزيد بن صوحان وهو يرتجز ويقول:
أضربهم ولا أرى أبا حسن ** كفى بهذا حزنًا من الحزن
إنا نمرّ الأمر إمرار الرسن
فزعم الهذلي أنّ هذا الشعر تمثّل به يوم صفّين. وعرض عمار لعمرو بن يثربي - وعمار يومئذ ابن تسعين سنة، عليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف - فبدره عمرو بن يثربي فنحّى له درقته فنشب سيفه فيها، ورماه الناس حتى صرع وهو يقول:
إن تقتلوني فأنا ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
ثمّ ابن صوحان على دين علي
وأخذ أسيرًا حتى انتهي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقبل عليهم بسيفك تضرب به وجوههم! فأمر به فتقل.
وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن إسحاق بن راشد، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما ينهزم منا أحد، وما نحن إلّا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل، فأخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل، فأخذه الأسود بن أبي البختري فصرع، وجئت فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: من أنت؟ قلت: عبد الله بن الزبير. قالت: واثكل أسماء! ومرّ بي الأشتر، فعرفته فعانقته، فسقطنا جميعًا، وناديت: " اقتلوني ومالكًا "؛ فجاء ناس منا ومنهم، فقاتلوا عنا حتى تحاجزنا، وضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرّقوا؛ فضربه رجلٌ فسقط، فما سمعت صوتًا قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب عليها قبّة، وقال: انظر، هل وصل إليها شيء؟ فأدخل رأسه، فقالت: من أنت؟ ويلك! فقال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعميّة؟ قال: نعم؛ قالت: يأبي أنت وأمي! الحمد لله الذي عافاك.
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا بكر بن عيّاش يقول: قال علقمة: قلت للأشتر: قد كنت كارهًا لقتل عثمان رضي الله عنه. فما أخرجك بالبصرة؟ قال: إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا - وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج - فكنت أدعو الله عز وجل أن يلقّينيه، فلقيني كفّةً لكفّة، فما رضيت بشدّة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته. قلنا فهو القائل: " اقتلوني ومالكًا "؟ قال: لا، ما تركته وفي نفسي منه شيء، ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعتني وصرعته، فجعل يقول: " اقتلوني ومالكًا "، ولا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني.
ثم قال أبو بكر بن عياش: هذا كتابك شاهده.
حدثني به المغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قلت للأشتر: حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن طلحة بن النضر، عن عثمان بن سليمان، عن عبد الله بن الزبير، قال: وقف علينا شابّ، فقال: احذروا هذين الرجلين؛ فذكره - وعلامة الأشتر أنّ إحدى قدميه بادية من شيء يجد بها - قال: لما التقينا قال الأشتر: لما قصد لي سوّى رمحه لرجلي، قلت: هذا أحمق، وما عسى أن يدرك منى لو قطعها! ألست قاتله! فلما دنا مني جمع يديه في الرمح، ثم التمس به وجهي، قلت: أحد الأقران.
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن ابن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كان عمرو ابن الأشرف أخذ بخطام الجمل، لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بسيفه، إذ أقبل الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول:
يا أمّنا يا خير أم نعلم ** أما ترين كم شجاع يكلم!
وتختلي هامته والمعصم!
فاختلفا ضربتين، فرأيتهما يفحصان الأرض بأرجلهما حتى ماتا فدخلت على عائشة رضي الله عنها بالمدينة، فقالت: من أنت؟ قلت: رجل من الأزد، أسكن الكوفة؛ قالت: أشهدتنا يوم الجمل؟ قلت: نعم؛ قالت: ألنا أم علينا؟ قلت: عليكم؛ قالت: أفتعرف الذي يقول:
يا أمّنا يا خير أم نعلم
قلت: نعم، ذاك ابن عمّي، فبكت حتى ظننت أنها لا تسكت.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: لقيت عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، فلقيت أشدّ الناس وأروغه، فعانقته، فسقطنا إلى الأرض جميعًا، فنادى: " اقتلوني ومالكًا ".
حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: رأيت عبد الله بن حكيم بن حزام معه راية قريش؛ وعدّي بن حاتم الطائي وهما يتصاولان كالفحلين، فتعاورناه فقتلناه - يعني عبد الله - فطعن عبد الله عديًّا ففقأ عينه.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن عمّه محمّد بن مخنف، قال: حدثني عدّة من أشياخ الحي كلّهم شهد الجمل، قالوا: كانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم، فقتل يومئذ، فتناول الراية من أهل بيته الصقعب وأخوه عبد الله بن سليم، فقتلوه، فأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح، وهي في يده، وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن مسلم، فقتل وقتل معه زيد بن صوحان وسيحان ابن صوحان؛ وأخذ الراية عدّة منهم فقتلوا؛ منهم عبد الله بن رقية، وراشد. ثم أخذها منقذ بن النعمان، فدفعها إلى ابنه مرّة بن منقذ، فانقضى الأمر وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل من أهل الكوفة في بني ذهل، كانت مع الحارث بن حسّان بن خوط الذهلي، فقال أبو العرفاء الرقاشي: أبق على نفسك وقومك، فأقدم وقال: يا معشر بكر بن وائل، إنّه لم يكن أحدٌ له من رسول الله ﷺ مثل منزلة صاحبكم، فانصروه، فأقدم، فقتل وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة له، فقال له يومئذ بشر بن خوط وهو يقاتل:
أنا ابن حسّان بن خوط وأبي ** رسول بكر كلها إلى النبي
وقال ابنه:
أنعى الرئيس الحارث بن حسّان ** لآل ذهل ولآل شيبان
وقال رجل من ذهل:
تنعى لنا خير امرىء من عدنان ** عند الطعان ونزال الأقران
وقتل رجال من بني محدوج، وكانت الرياسة لهم من أهل الكوفة، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلًا، فقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي، ما أحسن قتالنا إن كنّا على حقّ! قال: فإنا على الحقّ، إن الناس أخذوا يمينًا وشمالًا، وإنما تمسّكنا بأهل بيت نبيّنا؛ فقاتلا حتى قتلا. وكانت رياسة عبد القيس من أهل البصر - وكانوا مع علي - لعمرو بن مرحوم، ورياسة بكر بن وائل لشقيق بن ثور، والرّاية مع رشراشة مولاه، ورياسة الأزد من أهل البصرة - وكانوا مع عائششة - لعبد الرحمن بن جشم بن أبي حنين الحمّامي - فيما حدثني عامر بن حفص، ويقال لصبرة بن شيمان الحدّاني - والراية مع عمرو بن الأشرف العتكي، فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلًامن أهل بيته.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو ليلى، عن أبي عكّاشة الهمداني، عن رفاعة البجلي، عن أبي البختري الطائي، قال: أطافت ضبّة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه ويشمّونه، ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك؛ ورجل من أصحاب علي يقاتل ويقول:
جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمرد
كلّ طويل الساعدين نهده
وماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل؛ فضربه بجير بن دلجة الضبي من أهل الكوفة، فقيل له: لم عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون، فخفت أن يفنوا، ورجوت إن عقرته أن يبقي لهم بقيّة.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا الصلت بن دينار، قال: انتهى رجل من بني عقيل إلى كعب بن سور - رحمه الله - وهو مقتول، فوضع زجّ رمحه في عينه، ثم خضخضه، وقال: ما رأيت مالًا قطّ أحكم نقدًا منك.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا عوانة، قال: اقتتلوا يوم الجمل يومًا إلى الليل، فقال بعضهم:
شفى السيف من زيد وهند نفوسنا ** شفاء ومن عيني عدي بن حاتم
صبرنا لهم يومًا إلى الليل كلّه ** بصمّ القنا والمرهفات الصوارم
وقال ابن صامت:
يا ضبّ سيرى فإنّ الأرض واسعة ** على شمالك إن الموت بالقاع
كتيبة كشعاع الشمس إذ طلعت ** لها أتي إذا ما سال دفّاع
إذًا نقيم لكم في كلّ معترك ** بالمشرفيّة ضربًا غير إبداع
حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا روح، عن أبي رجاء، قال: رأيت رجلًا قد اصطلمت أذنه، قلت: أخلقة، أم شيء أصابك؟ قال: أحدثك؛ بينا أنا أمشي بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلّا ونحن رواء
أطعنا قريشًا ضلّة من حلومنا ** ونصرننا أهل الحجاز عناء
قلت: يا عبد الله، قل لا إله إلّا الله، قال: ادن مني، ولقّنّي فإنّ في أذني وقرًا، فدنوت منه، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: رجل من الكوفة؛ فوثب علي، فاصطلم أذني كما ترى، ثمّ قال: إذا لقيت أمك فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبّي فعل بك هذا.
حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا المفضّل الراوية وعامر بن حفص وعبد المجيد الأسدي، قالوا: جرح يوم الجمل عمير بن الأهلب الضبي، فمرّ به رجلٌ من أصحاب علي وهو في الجرحى، فقال له عمير: ادن منى، فدنا منه، فقطع أذنه، وقال عمير بن الأهلب:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلا ونحن رواء
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ** وشيعتها مندوحة وغناء
أطعنا بني تيم بن مرّة شقوة ** وهل تيم إلّا أعبد وإماء!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام الحارثي، قال: كان منّا رجل يدعي هانىء بن خطّاب، وكان ممن غزا عثمان، ولم يشهد الجمل، فلمّا سمع بهذا الرج. - يعني رجز القائل:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل
في حديث الناس، نقض عليه وهو بالكوفة:
أبت شيوخ مذجح وهمدان ** ألا يردّوا نعثلًا كما كان
خلقًا جديدًا بعد خلق الرحمن
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: جعل أبو الجرباء يومئذ يرتجز ويقول:
أسامع أنت مطيع لعلي ** من قبل أن تذوق حدّ المشرفي
وخاذل في الحقّ أزواج النبي ** أعرف قومًا لست فيه بعنى
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كانت أمّ المؤمنين في حلقة من أهل النجدات والبصائر من أفناء مضر، فكان لا يأخذ أحد بالزمام إلّا كان يحمل الراية واللواء لا يحسّن تركها، وكان لا يأخذه إلّا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب لها: أنا فلان بن فلان، فوالله إن كانوا ليقاتلون عليه؛ وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلّا قتل أو أفلت، ثم لم يعد. ولما اختلط الناس بالقلب جاء عدي بن حاتم فحمل عليه، ففقئت عينه ونكل، فجاء الأشتر فحامله عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد وإنه لأقطع منزوف، فاعتنقه، ثم جلد به الأرض عن دابّته، فاضطرب تحته، فأفلت وهو جريض.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان لا يجىء رجل فيأخذ بالزّمام حتى يقول: أنا فلان بن فلان يا أمّ المؤمنين، فجاء عبد الله بن الزبير، فقالت حين لم يتكلم: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله، أنا ابن أختك، قالت: واثكل أسماء! - تعنى أختها - وانتهى إلى الجمل الأشتر وعدي بن حاتم، فخرج عبد الله ابن حكيم بن حزام إلى الأشتر، فمشى إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقتله الأشتر، ومشى إليه عبد الله بن الزبير، فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحًا شديدًا، وضرب عبد الله الأشتر ضربة خفيفة، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، وخرّا إلى الأرض يعتركان، فقال عبد الله بن الزبير: " اقتلوني ومالكًا ".
وكان مالك يقول: ما أحبّ أن يكون قال: " والأشتر " وأنّ لي حمر النعم. وشدّ أناس من أصحاب علي وأصحاب عائشة فافترقا، وتنقّذ كلّ واحد من الفريقين صاحبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: وجاء محمد بن طلحة فأخذ بزمام الجمل، فقال: يا أمّتاه، مريني بأمرك. قالت: آمرك أن تكون كخير بني آدم إن تركت. قال: فحمل فجعل لا يحمل عليه أحد إلّا حمل عليه ويقول: " حم لا ينصرون "، واجتمع عليه نفر، فكلّهم ادّعى قتله: المكعبر الأسدي، والمكعبر الضبي، ومعاوية بن شدّاد العبسي، وعفّان بن الأشقر النصري، فأنفذه بعضهم بالرّمح، ففي ذلك يقول قاتله منهم:
وأشعث قوّام بآيات ربّه ** قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ** فخرّ صريعًا لليدين وللفم
يذكّرني حم والرمح شاجر ** فهلا تلا حم قبل التقدّم!
على غير شيء غير أن ليس تابعًا ** عليًا ومن لا يتبع الحقّ يندم
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: قال القعقاع بن عمرو للأشتر يؤلّبه يومئذ: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر، بعضنا أعلم بقتال بعض منك. فحمل القعقاع، وإنّ الزمام مع زفر بن الحارث، وكان آخر من أعقب في الزمام، فلا والله ما بقي من بني عامر يومئذ شيخ إلّا أصيب قدّام الجمل، فقتل فيمن قتل يومئذ ربيعة جدّ إسحاق بن مسلم، وزفر يرتجز ويقول:
يا أمّنا يا عيش لن تراعي ** كلّ بنيك بطل شجاع
ليس بوهّام ولا براعي
وقام القعقاع يرتجز ويقول:
إذا وردنا آجنًا جهرناه ** ولا يطاق ورد ما منعناه
تمثّلها تمثّلًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان من آخر من قاتل ذلك اليوم زفر بن الحارث، فزحف إليه القعقاع، فلم يبق حول الجمل عامري مكتهل إلّا أصيب، يتسرّعون إلى الموت، وقال القعقاع: يا بحير بن دلجة، صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أمّ المؤمنين؛ فقال: يال ضبة، يا عمرو بن دلجة، ادع بي إليك؛ فدعا به، فقال: أنا آمن حتى أرجع؟ قال: نعم. قال: فاجتثّ ساق البعير، فرمى بنفسه على شقّه وجرجر البعير. وقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون. واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير، وحملا الهودج فوضعاه، ثم أطافا به، وتفارّ من وراء ذلك من الناس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: لما أمسى الناس وتقدّم علي وأحيط بالجمل ومن حوله، وعقره بجير بن دلجة، وقال: إنكم آمنون؛ كفّ بعض الناس عن بعض. وقال علي في ذلك حين أمسى وانخنس عنهم القتال:
إليك أشكو عجري وبجري ** ومعشرًا غشّوا علي بصري
قتلت منهم مضرًا بمضري ** شفيت نفسي وقتلت معشري
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال طلحة يومئذ: اللهمّ أعط عثمان منّي حتى يرضى؛ فجاء سهم غرب وهو واقف، فخلّ ركبته بالسرج، وثبت حتى امتلأ موزجه دمًا، فلما ثقل قال لمولاه: اردفني وابغني مكانًا لا أعرف فيه، فلم أر كاليوم شيخًا أشيع دمًا مني. فركب مولاه وأمسكه وجعل يقول: قد لحقنا القوم، حتى انتهى به إلى دار من دور البصرة خربة، وأنزله في فيئها، فمات في تلك الخربة، ودفن رضي الله عنه في بني سعد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن البختري العبدي، عن أبيه، قال: كانت ربيعة مع علي يوم الجمل ثلث أهل الكوفة، ونصف الناس يوم الوقعة، وكانت تعبيتهم مضر ومضر، وربيعة وربيعة، واليمن واليمن؛ فقال بنو صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لنا نقف عن مضر؛ ففعل، فأتى زيد فقيل له: ما يوقفك حيال الجمل وبحيال مضر! الموت معك وبإزائك، فاعتزل إلينا؛ فقال: الموت نريد. فأصيبوا يومئذ، وأفلت صعصعة من بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية، قال: كان رجل منا يدعى الحارث، فقال يومئذ: يال مضر؛ علام يقتل بعضكم بعضًا! تبادرون لا ندري إلّا أنّا إلى قضاء، وما تكفون في ذلك.
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن جرير، قال: حدثني الزبير بن الخرّيت، قال: حدثني شيخ من الحرامين يقال له أبو جبير، قال: مررت بكعب بن سور وهو آخذ بخطام جمل عائشة رضي الله عنها يوم الجمل، فقال: يا أبا جبير، أنا والله كما قالت القائلة:
بني لا تبن ولا تقاتل
فحدثني الزبير بن الخرّيت، قال: مرّ به علي وهو قتيل، فقام عليه فقال: والله إنك - ما علمت - كنت لصليبًا في الحقّ، قاضيًا بالعدل، وكيت وكيت؛ فأثنى عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن صعصعة المزني - أو عن صعصعة - عن عمرو بن جأوان، عن جرير بن أشرس، قال: كان القتال يومئذ في صدر النهار مع طلحة والزبير، فانهزم الناس وعائشة توقّع الصلح، فم يفجأها إلّا الناس، فأحاطت بها مضر، ووقف الناس للقتال، فكان القتال نصف النهار مع عائشة. وعلي.. كعب بن سور أخذ مصحف عائشة وعلي فبدر بين الصفين يناشدهم الله عز وجل في دمائهم، وأعطى درعه فرمى بها تحته، وأتى بترسه فتنكبّه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه رضي الله عنه، ولم يمهلوهم أن شدّوا عليهم، والتحم القتال، فكان أول مقتول بين يدي عائشة من أهل الكوفة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن كثير، عن أبيه، قال: أرسلنا مسلم بن عبد الله يدعو بنى أبينا، فرشقوه - كما صنع القلب بكعب - رشقًا واحدًا، فقتلوه، فكان أوّل من قتل بين يدي أمير المؤمنين وعائشة رضي الله عنها، فقالت أمّ مسلم ترثيه:
لا همّ إنّ مسلمًا أتاهم ** مستسلمًا للموت إذ دعاهم
إلى كتاب الله لا يخشاهم ** فرمّلوه من دم إذ جاهم
وأمّهم قائمة تراهم ** يأتمرون الغي لا تنهاهم
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شريك، عن أبيه، عن جدّه، قال: لما انهزمت مجنّبتا الكوفة عشيّة الجمل، صاروا إلى القلب - وكان ابن يثربي قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهدهم هو وأخوه يوم الجمل، وهما عبد الله وعمرو، فكان واقفًا أمام الجمل على فرس - فقال علي: من رجل يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو المرادي، فاعترضه ابن يثربي، فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربي، ثم حمل سيحان بن صوحان، فاعترضه ابن يثربي، فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي، ثم حمل علباء بن الهيثم، فاعترضه ابن يثربي، فقتله، ثم حمل صعصعة فضربه، فقتل ثلاثة أجهز عليهم في المعركة: علباء، وهند، وسيحان، وارتثّ صعصعة وزيد، فمات أحدهما، وبقى الآخر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: أخذ الخطام يوم الجمل سبعون رجلًا من قريش، كلّهم يقتل وهو آخذ بالخطام، وحمل الأشتر فاعترضه عبد الله بن الزبير، فاختلفا ضربتين، ضربه الأشتر فأمّه، وواثبه عبد الله، فاعتنقه فخرّ به، وجعل يقول: اقتلوني ومالكًا - وكان الناس لا يعرفونه بمالك، ولو قال: والأشتر، وكانت له ألف نفس ما نجا منها شئ - وما زال يضطرب في يدي عبد الله حتى أفلت، وكان الرجل إذا حمل على الجمل ثم نجا لم يعد. وجرح يومئذ مروان وعبد الله بن الزبير.
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني عمّي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: حدثني محمد بن أبي يعقوب وابن عون، عن أبي رجاء، قال: قال يومئذ عمرو بن يثربي الضبي؛ وهو أخو عميرة القاضي:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننزل بالموت إذا الموت نزل
وزاد ابن عون - وليس في حديث ابن أبي يعقوب:
القتل أحلى عندنا من العسل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل
ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن داود بن أبي هند، عن شيخ من بني ضبة، قال: ارتجز يومئذ ابن يثربي:
أنا لمن أنكرني ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان على دين علي
وقال: من يبارز؟ فبرز له رجل، فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وارتجز وقال:
اقتلهم وقد أرى عليًّا ** ولو أشا أوجرته عمريًّا
فبرز له عمّار بن ياسر؛ وإنه لأضعف من بارزه، وإنّ الناس ليسترجعون حين قام عمار، وأنا أقول لعمار من ضعفه: هذا والله لاحق بأصحابه، وكان قضيفًا، حمش الساقين، وعليه سيف حمائله تشفّ عنه قريب من إبطه، فيضربه ابن يثربي بسيفه، فنشب في حجفته، وضربه عمار وأوهطه، ورمى أصحاب علي ابن يثربي بالحجارة حتى أثخنوه وارتثّوه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حمّاد البرجمي، عن خارجة بن الصلت، قال: لما قال الضبّي يوم الجمل:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل
ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل
قال عمير بن أبي الحارث:
كيف نردّ شيخكم وقد قحل ** نحن ضربنا صدره حتّى انجفل!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، قال: عقر الجمل رجل من بني ضبّة يقال له: ابن دلجة - عمرو أو بجير - وقال في ذلك الحارث بن قيس - وكان من أصحاب عائشة:
نحن ضربنا ساقه فانجلا ** من ضربة بالنّفر كانت فيصلا
لو لم نكوّن للرّسول ثقلا ** وحرمة لاقتسمونا عجّلا
وقد نحل ذلك المثنّى بن مخرمة من أصحاب علي.
شدة القتال يوم الجمل وخبر أعين بن ضبيعة واطلاعه في الهودج
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن نويرة، عن أبي عثمان، قال: قال القعقاع: ما رأيت شيئًا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا ونتّكئ على أزجّتنا، وهم مثل ذلك حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم.
حدثني عيسى بن عبد الرحمن المروزي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين العرني، قال: حدثنا يحيى بن يعلي الأسلمي، عن سليمان بن قرم، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان الكاهلي، قال: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنّبل حتى فنيت، وتطاعنّا بالرّماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت، ثم قال علي: السيوف يا أبناء المهاجرين. قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد إلا ذكرت ذلك اليوم.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: حدثنا أبو فقيم، قال: حدثنا فطر، قال: سمعت أبا بشير قال: كنت مع مولاي زمن الجمل، فما مررت بدار الوليد قطّ، فسمعت أصوات القصّارين يضربون إلّا ذكرت قتالهم.
حدثني عيسى بن عبد الرحمن المروزي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين، قال: حدثنا يحيى بن يعلي، عن عبد الملك بن مسلم، عن عيسى ابن حطّان قال: حاص الناس حيصة، ثم رجعنا وعائشة على جمل أحمر، في هودج أحمر، ما شبّهته إلا بالقنفذ من النبل.
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي؛ قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، قال: حدثني ابن عون، عن أبي رجاء، قال: ذكروا يوم الجمل فقلت: كأنّي أنظر إلى خدر عائشة كأنه قنفذ مما رمى في من النبل، فقلت لأبي رجاء: أقاتلت يومئذ؟ قال: والله لقد رميت بأسهم فما أدري ما صنعن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن راشد السلمي، عن ميسرة أبي جميلة، أنّ محمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر أتيا عائشة وقد عقر الجمل، فقطعا غرضة الرحل، واحتملا الهودج، فنحّياه حتى أمرهما علي فيه أمره بعد؛ قال: أدخلاها البصرة، فأدخلاها دار عبد الله بن خلف الخزاعي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: أمر علي نفرًا بحمل الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير، فأقبل محمد ابن أبي بكر إليه ومعه نفر، فأدخل يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البرّ، قالت: عقوق. قال: عمّار بن ياسر: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أمّه؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا ابنك البارّ عمّار؛ قالت: لست لك بأمّ؛ قال: بلى، وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم، وأتيتم مثل ما نقمتم، هيهات؛ والله لن يظفر من كان هذا دأبه. وأبرزوها بهودجها من القتلى، ووضعوها ليس قربها أحد، وكأنّ هودجها فرخ مقصّب مما فيه من النبل، وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى اطّلع في الهودج، فقالت: إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلّا حميراء؛ قالت: هتك الله سترك، وقطع يدك، وأبدى عورتك! فقتل بالبصرة وسلب، وقطعت يده، ورمى به عريانّا في خربة من خربات الأزد، فانتهى إليها علي، فقال: أي أمّه، يغفر الله لنا ولكم؛ قالت: غفر الله لنا ولكم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شريك، عن أبيه، عن جده، قال: انتهى محمد بن أبي بكر ومعه عمّار، فقطع الأنساع عن الهودج، واحتملاه، فلما وضعناه أدخل محمد يده وقال: أخوك محمد، فقالت: مذّمم، قال: يا أخيّة، هل أصابك شئ؟ قالت: ما أنت من ذاك؟ قال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير، قال: يغفر الله لك. قالت: ولك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما كان من آخر الليل خرج الليل خرج محمد بعائشة حتى أدخلها البصرة، فأنزلها في دار عبد العزّي بن عثمان بن عبد الدار، وهي أمّ طلحة الطلحات بن عبد الله ابن خلف.
وكانت الوقعة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين، في قول الواقدي.
مقتل الزبير بن العوام رضي الله عنه
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انهزم الناس يوم الجمل عن طلحة والزّبير، ومضى الزبير رضي الله عنه حتى مرّ بعسكر الأحنف، فلما رآه وأخبر به قال: والله ما هذا بخيار، وقال للناس: من يأتينا بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا، فأتبعه، فلما لحقه نظر إليه الزبير - وكان شديد الغضب - قال: ما وراءك؟ قال: إنما أردت أن أسألك؛ فقال غلام للزّبير يدعى عطية كان معه: إنه معدّ؛ فقال: ما يهولك من رجل! وحضرت الصلاة، فقال ابن جرموز: الصلاة؛ فقال: الزبير: الصلاة، فنزلا، واستدبره ابن جرموز فطعنه من خلفه في جربّان درعه، فقتله، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، وخلّى عن الغلام، فدفنه بوادي السباع؛ ورجع إلى الناس بالخبر. فأما الأحنف فقال: والله ما أدري أحسنت أم أسأت! ثمّ انحدر إلى علي وابن جرموز معه، فدخل عليه، فأخبره، فدعا بالسيف، فقال: سيف طالما جلّى الكرب عن وجه رسول الله ﷺ! وبعث بذلك إلى عائشة، ثم أقبل على الأحنف فقال: تربّصت؛ فقال: ما كنت أراني إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإنّ طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إلي غدًا أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستصف مودّتي لغد، ولا تقولنّ مثل هذا، فإني لم أزل لك ناصحًا.
من انهزم يوم الجمل فاختفى ومضى في البلاد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ومضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راجلًا نحو المدينة، فقتله ابن جرموز، قالا: وخرج عتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم يوم الهزيمة، قد شجّجوا في البلاد، فلقوا عصمة بن أبير التيمي، فقال: هل لكم في الجوار؟ قالوا: من أنت؟ قال: عصمة بن أبير. قالوا: نعم، قال: فأنتم في جواري إلى الحول؛ فمضى بهم، ثم حماهم وأقام عليهم حتى برءوا، ثم قال: اختاروا أحبّ بلد إليكم أبلغكموه، قالوا: الشأم، فخرج بهم في أربعمائة راكب من تيم الرباب، حتى إذا وغلوا في بلاد كلب بدومة قالوا: قد وفّيت ذمّتك وذممهم، وقضيت الذي عليك فارجع، فرجع.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وفي ابن أبير والرّماح شوارع ** بآل أبي العاصي وفاء مذكّرا
وأما ابن عامر فإنه خرج أيضًا مشجّجًا، فتلقاه رجل من بني حرقوص يدعى مريًّا، فدعاه للجوار، فقال: نعم، فأجاره وأقام عليه، وقال: أي البلدان أحبّ إليك؟ قال: دمشق، فخرج به في ركب من بي حرقوص حتى بلغوا به دمشق. وقال حارثة بن بدر - وكان مع عائشة، وأصيب في الوقعة ابنه أو أخوه زراع:
أتاني من الأنباء أنّ ابن عامر ** أناخ وألقي في دمشق المرسيا
وأوى مروان بن الحكم إلى أهل بيت من عنزة يوم الهزيمة، فقال لهم: أعلموا مالك بن مسمع بكاني، فأتوا مالكًا فأخبروه بمكانه، فقال لأخيه مقاتل: كيف نصنع بهذا الرجل الذي قد بعث إليها يعلمنا بمكانه؟ قال: ابعث ابن أخي فأجره، والتمسوا له الأمان من علي، فإن آمنه فذاك الذي نحبّ وإن لم يؤمنه خرجنا به وبأسيافنا؛ فإن عرض له جالدنا دونه بأسيافنا، فإمّا أن نسلم، وأمّا أن نهلك كرامًا. وقد استشار غيره من أهله من قبل في الذي استشار فيه مقاتلًا، فنهاه، فأخذ برأي أخيه، وترك رأيهم، فأرسل إليه فأنزله داره، وعزم على منعه إن اضطر إلى ذلك، وقال: الموت دون الجوار وفاء، وحفظ لهم بنو مروان ذلك بعد، وانتفعوا به عندهم، وشرّفوهم بذلك، وأوى عبد الله بن الزبير إلى دار رجل من الأزد يدعى وزيرًا؛ وقال: ائت أمّ المؤمنين فأعلمها بمكاني، وإيّاك أن يطّلع على هذا محمد بن أبي بكر، فأتى عائشة رضي الله عنها فأخبرها، فقالت: علي بمحمد، فقال: يا أمّ المؤمنين، إنه قد نهاني أن يعلم به محمد، فأرسلت إليه فقالت: اذهب مع هذا الرجل حتى تجيئني بان أختك؛ فانطلق معه فدخل بالأزدي على ابن الزبير، قال: جئتك والله بما كرهت، وأبت أمّ المؤمنين إلّا ذلك، فخرج عبد الله ومحمد وهما يتشاتمان، فذكر محمد عثمان فشتمه وشتم عبد الله محمدًا حتى انتهى إلى عائشة في دار عبد الله بن خلف - وكان عبد الله ابن خلف قبل يوم الجمل مع عائشة، وقتل عثمان أخوه علي - وأرسلت عائشة في طلب من كان جريحًا فضمّت منهم ناسًا، وضمّت مروان فيمن ضمّت، فكانوا في بيوت الدار.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وغشى الوجوه عائشة وعلي في عسكره، ودخل القعقاع بن عمرو على عائشة في أوّل من دخل، فسلّم عليها، فقالت: إني رأيت رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي واتجزا بكذا، فهل تعرف كوفيّك منهما؟ قال: نعم، ذاك الذي قال: أعقّ أمّ نعلم، وكذب والله، إنك لأبرّ أمّ نعلم، ولكن لم تطاعي. فقالت: والله لوددت أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وخرج فأتى عليًّا فأخبره أنّ عائشة سألته، فقال: ويحك! من الرجلان؟ قال: ذلك أبو هالة الذي يقول:
كيما أرى صاحبه عليّا
فقال: والله لوددت أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة، فكان قولهما واحدًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وتسلّل الجرحى في جوف الليل، ودخل البصرة من كان يطيق الانبعاث منهم، وسألت عائشة يومئذ عن عدّة من الناس، منهم من كان معها، ومنهم من كان عليها، وقد غشيها الناس، وهي في دار عبد الله بن خلف، فكلما نعى لها منهم واحد قالت: يرحمه الله، فقال لها رجل من أصحابها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله ﷺ: فلان في الجنة، وفلان في الجنة. وقال علي بن أبي طالب يومئذ: إني لأرجو ألّا يكون أحد من هؤلاء نقّي قلبه إلّا أدخله الله في الجنّة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن أبي أيّوب، عن علي، قال: ما نزّل على النبي ﷺ آية أفرح له من قول الله عز وجل: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "، فقال ﷺ: " ما أصاب المسلم في الدنيا من مصيبة في نفسه فبذنب، وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر، وما أصابه في الدنيا فهو كفّارة له وعفو منه لا يعتدّ عليه فيه عقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عز وجل عنه في الدنيا فقد عفا عنه، والله أعظم من أن يعدو في عفوه ".
توجع علي على قتلى الجمل ودفنهم وجمعه ما كان في العسكر والبعث به إلى البصرة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وأقام علي بن أبي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة، وندب الناس إلى موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، فطاف علي معهم في القتلى، فلما أتى بكعب بن سور قال: زعمتم أنما خرج معهم السفهاء، وهذا الحبر قد ترون. وأتى علي عبد الرحمن بن عتّاب فقال: هذا يعسوب القوم - يقول الذي كانوا يطيفون به - يعني أنهم قد كانوا اجتمعوا عليه، ورضوا به لصلاتهم. وجعل علي كلما مرّ برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلّا الغوغاء، هذا العابد المجتهد. وصلّى على قتلاهم من أهل البصرة، وعلا قتلاهم من أهل الكوفة؛ وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، فكانوا مدنيّين ومكيّين، ودفن علي الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في المعسكر من شئ، ثم بعث به إلى مسجد البصرة؛ أن من عرف شيئًا فليأخذه، إلّا سلاحًا كان في الخزائن عليه سمة السلطان، فإنه لمّا بقي لم يعرف، خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله عز وجل، لا يحلّ لمسلم من مال المسلم المتوفىّ شئ، وإنما كان ذلك السلاح في أيديهم من غير تنفيل من السلطان.
عدد قتلى الجمل
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف؛ نصفهم من أصحاب علي، ونصفهم من أصحاب عائشة؛ من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مضر ألفان، وخمسمائة من قيس، وخمسمائة من تميم، وألف من بني ضبّة، وخمسمائة من بكر بن وائل. وقيل: قتل من أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل من أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة خمسة آلاف. قالا: وقتل من بني عدي يومئذ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زلت أرجو النصر حتى خفيت أصوات بني عدي.
دخول علي على عائشة وما أمر به من العقوبة فيمن تناولها
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ودخل علي البصرة يوم الاثنين، فانتهى إلى المسجد، فصلى فيه، ثم دخل البصرة، فأتاه الناس، ثم راح إلى عائشة على بغلته، فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة، وجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابنى خلف مع عائشة، وصفيّة ابنة الحارث مختمرة تبكي، فلما رأته قالت: يا علي، يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجمع، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت ولد عبد الله منه! فلم يردّ عليها شيئًا، ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة، فسلّم عليها، وقعد عندها، وقال لها: جبهتنا صفيّة، أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم، فلما خرج علي أقبلت عليه فأعادت عليه الكلام، فكفّ بغلته وقال: أما لهممت - وأشار إلى الأبواب من الدار - أن أفتح هذا الباب واقتل من فيه، ثم هذا فأقتل من فيه، ثم هذا فأقتل من فيه - وكان أناس من الجرحى قد لجئوا إلى عائشة، فأخبر علي بمكانهم عندها، فتغافل عنهم - فسكتت. فخرج علي، فقال رجل من الأزد: والله لا تفلتنا هذه المرأة. فغضب وقال: صه! لا تهتكنّ سترًا، ولا تدخلنّ دارًا، ولا تهيّجنّ امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعاف؛ ولقد كنا نؤمر بالكفّ عنهنّ، وإنهنّ لمشركات، وإن الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضّرب فيعيّر بها عقبه من بعده، فلا يبلغنّي عن أحد عرض لامرأة فأنكّل به شرار الناس. ومضى علي، فلحق به رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، قام رجلان من لقيت على الباب، فتناولا من هو أمضّ لك شتيمة من صفيّة. قال: ويحك! لعلها عائشة. قال: نعم، قام رجلان منهم على باب الدار فقال أحدهما:
جزيت عنّا أمّنا عقوقا
وقال الآخر:
يا أمّنا توبي فقد خطيت
فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين، فقال: اضرب أعناقهما، ثم قال: لأنهكنّهما عقوبة. فضربهما مائة مائة، وأخرجهما من ثيابهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الحارث بن حصيرة، عن أبي الكنود، قال: هما رجلان من أزد الكوفة يقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله.
بيعة أهل البصرة عليا وقسمه ما في بيت المال عليهم
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بايع الأحنف من العشي لأنه كان خارجًا هو وبنو سعد، ثم دخلوا جميعًا البصرة، فبايع أهل البصرة على راياتهم، وبايع علي أهل البصرة حتى الجرحى والمستأمنة، فلما رجع مروان لحق بمعاوية. وقال قائلون: لم يبرح المدينة حتى فرغ من صفين.
قالا: ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه الوقعة، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة خمسمائة، وقال: لكم إن أظفركم الله عز وجل بالشأم مثلها إلى أعطياتكم. وخاض في ذلك السبئيّة، وطعنوا على علي من وراء وراء.
سيرة علي فيمن قاتل يوم الجمل
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن راشد، عن أبيه، قال: كان في سيرة علي ألّا يقتل مدبرًا ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف سترًا، ولا يأخذ مالًا؛ فقام قوم يومئذ: ما يحلّ لنا دماءهم، ويحرم علينا أموالهم؟ فقال علي: القوم أمثالكم، من صفح عنّا فهو منّا، ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقاتله منّى على الصدر والنّحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى، فيومئذ تكلّمت الخوارج.
بعثة الأشتر إلى عائشة بجمل اشتراه لها وخروجها من البصرة إلى مكة
حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: لما فرغوا يوم الجمل أمرني الأشتر فانطلقت فاشتريت له جملًا بسبعمائة درهم من رجل من مهرة، فقال: انطلق به إلى عائشة فقل لها: بعث به إليك الأشتر مالك ابن الحارث، وقال: فهذا عوض من بعيرك، فانطلقت به إليها، فقلت: مالك يقرئك السلام ويقول: إنّ هذا البعير مكان بعيرك؛ قالت: لا سلّم الله عليه؛ إذ قتل يعسوب العرب - تعني ابن طلحة - وصنع بابن أختي ما صنع! قال: فرددته إلى الأشتر، وأعلمته، قال: فأخرج ذراعين شعراوين؛ وقال: أرادوا قتلي فما أصنع!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: قصدت عائشة مكة فكان وجهها من البصرة، وانصرف مروان والأسود بن أبي البختري إلى المدينة من الطريق، وأقامت عائشة بمكّة إلى الحجّ، ثم رجعت إلى المدينة.
ما كتب به علي بن أبي طالب من الفتح إلى عامله بالكوفة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة حين كتب في أمرها وهو يومئذ بمكة: من عبد الله علي أمير المؤمنين. أمّا بعد، فإنا التقينا في النصف من جمادى الآخرة بالخريبة - فناء من أفنية البصرة - فأعطاهم الله عز وجل سنّة المسلمين، وقتل منّا ومنهم قتلى كثيرة، وأصيب ممّن أصيب منا ثمامة بن المثني، وهند بن عمرو، وعلباء بن الهيثم، وسيحان وزيد ابنا صوحان، ومحدوج.
وكتب عبيد الله بن رافع. وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة في جمادى الآخرة.
أخذ علي البيعة على الناس وخبر زياد بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن أبي بكرة
وكان في البيعة: عليك عهد الله وميثاقه بالوفاء لتكوننّ لسلمنا سلما، ولحربنا حربًا، ولتكفّنّ عنّا لسانك ويدك. وكان زياد بن أبي سفيان من اعتزل ولم يشهد المعركة، قعد. وكان في بيت نافع بن الحارث، وجاء عبد الرحمن ابن أبي بكرة في المستأمنين مسلّمًا بعد ما فرغ علي من البيعة، فقال له علي: وعمّك المتربصّ المقاعد بي! فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنه لك لوادّ، وإنه على مسرّتك لحريص، ولكنه بلغني أنه يشتكي، فأعلم لك علمه ثم آتيك. وكتم عليًّا مكانه حتى استأمره، فأمره أن يعلمه فأعلمه، فقال علي: امش أمامي فاهدني إليه، ففعل؛ فلما دخل عليه قال: تقاعدت عني، وتربّصت - ووضع يده على صدره، وقال: هذا وجع بيّن - فاعتذر إليه زياد، فقبل عذره واستشاره. وأراده علي على البصرة، فقال: رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس؛ فإنه أجدر أن يطمئنّوا أو ينقادوا، وسأكفيكه وأشير عليه. فافترقا على ابن عباس، ورجع علي إلى منزله.
تأمير ابن عباس على البصرة وتولية زياد الخراج
وأمّر ابن عبّاس على البصرة، وولّى زيادًا الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه، فكان ابن عباس يقول: استشرته عند هنة كانت من الناس، فقال: إن كنت تعلم أنك على الحقّ، وأنّ من خالفك على الباطل، أشرت عليك بما ينبغي، وإن كنت لا تدري، أشرت عليك بما ينبغي كذلك. فقلت: إنّي على الحقّ، وإنهم على الباطل، فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك ومن ترك أمرك، فإن كان أعزّ للإسلام وأصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه. فاستكتبته، فلما ولّى رأيت ما صنع، وعلمت أنه قد اجتهد لي رأيه، وأعجلت السبئيّة عليًّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرًا إن كانوا أرادوه، وقد كان له فيها مقام.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: علم أهل المدينة بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس من نسر مرّ بما حول المدينة، معه شئ متعلّقة، فتأمّله الناس فوقع، فإذا كفّ فيها خاتم، نقشه عبد الرحمن بن عتّاب، وجفل من بين مكة والمدينة من أهل البصرة، من قرب من البصرة أو بعد، وقد علموا بالوقعة مما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام.
تجهيز علي عليه السلام عائشة رضي الله عنها من البصرة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وجهّز علي عائشة بكلّ شئ ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع، وأخرج معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلّا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهّز يا محمّد، فبلّغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس وودّعوها وودّعتهم، وقالت: يا بني، تعتّب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يعتدّنّ أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك؛ إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلّا ما يكون بين المرأة وأحمائها؛ وإنه عندي على معتبّي من الأخيار. وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرّت، ما كان بيني وبينها إلّا ذلك، وإنها لزوجة نبيّكم ﷺ في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت لغرّة رجب سنة ست وثلاثين، وشيّعها علي أميالا، وسرّح بنيه معها يومًا.
ما روي من كثرة القتلى يوم الجمل
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا محمد ابن الفضل بن عطيّة الخراساني، عن سعيد القطعي، قال: كّنا نتحدث أنّ قتلى الجمل يزيدون على ستّة آلاف.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: حدثني الزبير بن الخرّيت، عن أبي لبيد لمازة بن زياد، قال: قلت له: لم تسبّ عليًّا؟ قال: ألا أسبّ رجلًا قتل منا ألفين وخمسمائة، والشمس ها هنا! قال جرير بن حازم: وسمعت ابن أبي يعقوب يقول: قتل علي بن أبي طالب يوم الجمل ألفين وخمسمائة؛ ألف وثلثمائة وخمسون من الأزد وثمانمائة من بني ضبّة، وثلثمائة وخمسون من سائر الناس.
وحدثني أبي، عن سليمان، عن عبد الله، عن جرير، قال: قتل المعرّض بن علاط يوم الجمل، فقال أخوه الحجّاج:
لم أر يومًا كان أكثر ساعيًا ** بكفّ شمال فارقتها يمينها
قال معاذ: وحدثني عبد الله، قال: قال جرير: قتل المعرّض بن علاط يوم الجمل، فقال أخوه الحجّاج:
لم أر يومًا كان أكثر ساعيًا ** بكفّ شمال فارقتها يمينها
ما قال عمار بن ياسر لعائشة حين فرغ من الجمل
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، عن سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: سمعت أبا يزيد المديني يقول: قال عمّار بن ياسر لعائشة - رضي الله عنها - حين فرغ القوم: يا أمّ المؤمنين، ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت: أبو اليقظان! قال: نعم، قالت: والله إنّك - ما علمت - قوّال بالحق؛ قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك.
آخر حديث الجمل - بعثة علي بن أبي طالب قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر
وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ وثلاثين - قتل محمد بن أبي حذيفة، وكان سبب قتله أنه لما خرج المصريّون إلى عثمان مع محمد بن أبي بكر، أقام بمصر، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وضبطها، فلم يزل بها مقيمًا حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وبويع لعلي، وأظهر معاوية الخلاف، وبايعه على ذلك عمرو بن العاص، فسار معاوية وعمرو إلى محمد بن أبي حذيفة قبل قدوم قيس بن سعد مصر، فعالجا دخول مصر، فلم يقدرا على ذلك، فلم يزالا يخدعان محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى عريش مصر في ألف رجل، فتحصّن بها، وجاءه عمرو فنصب المنجنيق عليه حتى نزل في ثلاثين من أصحابه وأخذوا وقتلوا رحمهم الله.
وأما هشام بن محمد فإنه ذكر أن أبا مخنف لوط بن يحيى بن سعيد ابن مخنف بن سليم، حدثه عن محمد بن يوسف الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج، عن عبّاس بن سهل الساعدي أنّ محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف هو الذي كان سرّب المصريّين إلى عثمان بن عفان، وإنهم لما ساروا إلى عثمان فحصروه وثب هو بمصر على عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي القرشي، وهو عامل عثمان يومئذ على مصر، فطرده منها، وصلّى بالناس، فخرج عبد الله ابن سعد من مصر فنزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين، فانتظر ما يكون من أمر عثمان، فطلع راكب فقال: يا عبد الله، ما وراءك؟ خبّرنا بخبر الناس خلفك؛ قال: أفعل، قتل المسلمون عثمان رضي الله عنه، فقال عبد الله بن سعد: " إنّا لله وإنّا إليه راجهون! "، يا عبد الله، ثم صنعوا ماذا؟ قال: ثم بايعوا ابن عم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، قال عبد الله بن سعد: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون "، قال له الرجل: كأنّ ولاية علي بن أبي طالب عدلت عندك قتل عثمان! قال: أجل. قال: فنظر إليه الرجل، فتأملّه فعرفه وقال: كأنّك عبد الله بن أبي سرح أمير مصر! قال: أجل؛ قال له الرجل: فإن كان لك في نفسك حاجة فالنّجاء النجاء، فإنّ رأى أمير المؤمنين فيك وفي أصحابك سيّئ، إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين، وهذا بعدي أمير يقدم عليك. قال له عبد الله: ومن هذا الأمير؟ قال: قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري؛ قال عبد الله بن سعد: أبعد الله محمد بن أبي حذيفة! فإنه بغى على ابن عمّه، وسعى عليه، وقد كان كفله ورّباه وأحسن إليه، فأساء جواره، ووثب على عمّاله، وجهز الرجال إليه حتى قتل، ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان، لم يمتّعه بسلطان بلاده حولا ولا شهرًا، ولم يره لذلك أهلًا، فقال له الرجل: انج بنفسك، لا تقتل. فخرج عبد الله بن سعد هاربًا حتى قدم على معاوية ابن أبي سفيان دمشق.
قال أبو جعفر: فخبر هشام هذا يدلّ على أن قيس بن سعد ولى مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي.
وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب على مصر قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فكان من أمره ما ذكر هشام بن محمد الكلبي، قال: حدثني أبو مخنف، عن محمد بن يوسف بن ثابت، عن سهل بن سعد، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه وولى علي بن أبي طالب الأمر، دعا قيس ابن سعد الأنصاري فقال له: سر إلى مصر فقد ولّيتكها، واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوّك وأعزّ لولّيك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن، واشتدّ على المريب، وارفق بالعامة والخاصّة، فإنّ الرفق يمن.
فقال له قيس بن سعد: رحمك الله يا أمير المؤمنين! فقد فهمت ما قلت، أمّا قولك: اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلّا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدًا، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن أنت احتجت كانوا عدّة لك، وأنا أصير إليها بنفسي وأهل بيتي. وأمّا ما أوصيتني به من المرفق والإحسان، فإنّ الله عز وجل هو المستعان على ذلك.
قال: فخرج قيس بن سعد في سبعة نفر من أصحابه حتى دخل مصر، فصعد المنبر، فجلس عليه، وأمر بكتاب معه من أمير المؤمنين فقرئ على أهل مصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أمّا بعد، فإنّ الله عز وجل بحسن صنعه وتقديره وتدبيره، اختار الإسلام دينًا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل عليهم السلام إلى عباده، وخصّ به من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله عز وجل به هذه الأمّة، وخصّهم به من الفضيلة أن بعث إليهم محمدًا ﷺ، فعلّمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنّة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما لا يتفرّقوا، وزكّاهم لكيما يتطّهروا، ورفّههم لكيما لا يجوروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عز وجل صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم إنّ المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين، عملا بالكتاب والسنّة، وأحسنا السيرة، ولم يعدوا السنّة، ثم توفّاهما الله عز وجل، رضي الله عنهما. ثم ولى بعدهما وال فأحدث أحداثًا، فوجدت الأمة عليه مقالًا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيّروا، ثم جاءوني فبايعوني، فأستهدي الله عز وجل بالهدى، وأستعينه على التقوى. ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، والقيام عليكم بحقه والتنفيذ لسنّته، والنّصح لكم بالغيب، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة أميرًا، فوازروه وكانفوه، وأعينوه على الحقّ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدّة على مريبكم، والرّفق بعوامّكم وخواصّكم، وهو ممّن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته. أسأل الله عز وجل لنا ولكم عملًا زاكيًا، وثوابًا جزيلًا، ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب عبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين.
قال: ثمّ إنّ قيس بن سعد قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد ﷺ، وقال: الحمد لله الذي جاء بالحقّ، وأمات الباطل، وكبت الظالمين. أيّها الناس، إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد محمد نبينا ﷺ، فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.
فقام الناس فبايعوا، واستقامت له مصر، وبعث عليها عمّاله، إلّا أن قرية منها يقال لها: خربتا فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبها رجل من كنانة ثم من بنى مدلج يقال له يزيد بن الحارث من بني الحارث بن مدلج. فبعث هؤلاء إلى قيس بن سعد: إنّا لا نقاتلك فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن أقرّنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس.
قال: ووثب مسلمة بن مخلّد الأنصاري، ثمّ من ساعده من رهط قيس ابن سعد، فنعى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك، علي تثب! فوالله ما أحبّ أنّ لي ملك الشأم إلى مصر وأني قتلتك. فبعث إليه مسلمة: إني كافّ عنك ما دمت أنت والي مصر.
قال: وكان قيس بن سعد له حزم ورأي، فبعث إلى الذين بخربتا: إنّي لا أكرهكم على البيعة، وأنا أدعكم وأكفّ عنكم. فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلّد، وجبى الخراج، ليس أحد من الناس ينازعه.
قال: وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى الكوفة من البصرة وهو بمكانه، فكان أثقل خلق الله على معاوية بن أبي سفيان لقربه من الشأم، مخافة أن يقبل إليه علي في أهل العراق، ويقبل إليه قيس بن سعد في أهل مصر، فيقع معاوية بينهما.
وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد - وعلي بن أبي طالب يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفّين:
من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك، أمّا بعد، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان بن عفان رضي الله عنه في أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط ضربها، أو شتيمة رجل، أو في تسييره آخر، أو في استعماله الفتي، فإنكم قد علمتم - إن كنتم تعلمون - أنّ دمه لم يكن يحلّ لكم، فقد ركبتم عظيمًا من الأمر، وجئتم شيئًا إدًّا، فتب إلى الله عز وجل يا قيس ابن سعد. فإنك كنت في المجلبين على عثمان بن عفان - إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئًا - فأمّا صاحبك فإنا استيقنّا أنّه الذي أغرى به الناس، وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل. تابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألني شيئًا إلا أوتيته، واكتب إلي برأيك فيما كتبت به إليك. والسلام.
فلما جاءه كتاب معاوية أحبّ أن يدافعه ولا يبدي له أمره، ولا يتعجّل له حربه، فكتب إليه: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان، وذلك أمر لم أقارفه، ولم أطف به. وذكرت أنّ صاحبي هو أغرى الناس بعثمان، ودسّهم إليه حتى قتلوه، وهذا ما لم أطّلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان، فأوّل الناس كان فيه قيامًا عشيرتي. وأمّا ما سألتني من متابعتك، وعرضت علي من الجزاء به، فقد فهمته، وهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، ولن يأتيك من قبلي شئ تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله، والمستجار الله عز وجل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: فلما قرأ معاوية كتابه، لم يره إلّا مقاربًا مباعدًا، ولم يأمن أن يكون له في ذلك مباعدًا مكايدًا، فكتب إليه معاوية أيضًا: أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، فلم أرك تدنو فأعدّك سلمًا، ولم أرك تباعد فأعدّك حربًا، أنت فيما هاهنا كحنك الجزور، وليس مثلي يصانع المخادع، ولا ينتزع للمكايد، ومعه عدد الرجال، وبيده أعنّة الخيل؛ والسلام عليك.
فلما قرأ قيس بن سعد كتاب معاوية، ورأى أنه لا يقبل معه المدافعة والمماطلة، أظهر له ذات نفسه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من قيس بن سعد، إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فإنّ العجب من اغترارك بي، وطمعك في، واستسقاطك رأيي. أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلًا، وأقربهم من رسول الله ﷺ وسيلة، وتأمرني بالدّخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزّور، وأضلّهم سبيلًا، وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله ﷺ وسيلة، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس! وأمّا قولك إني مالئ عليك مصر خيلًا ورجلًا فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك؛ لذو جدّ، والسلام. فلما بلغ معاوية كتاب قيس أيس منه، وثقل عليه مكانه.
حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: كانت مصر من حين علي، عليها قيس بن سعد بن عبادة وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله ﷺ، وكان من ذوي الرأي والبأس، وكان معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص جاهدين على أن يخرجاه من مصر ليلغبا عليها، فكان قد امتنع فيها بالدّهاء والمكايدة، فلم يقدرا عليه، ولا على أن يفتتحا مصر؛ حتى كاد معاوية قيس بن سعد من قبل علي، وكان معاوية يحدث رجالًا من ذوي الرأي من قريش يقول: ما ابتدعت مكايدة قطّ كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيسًا من قبل علي وهو بالعراق حين امتنع منّي قيس. قلت لأهل الشأم: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى عزوه، فإنه لنا شيعة، يأتينا كيّس نصيحته سرًّا. ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويؤمّن سربهم؛ ويحسن إلى كلّ راكب قدم عليه منكم، لا يستنكرونه في شئ!.
قال معاوية: وهممت أن أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق، فيسمع بذلك جواسيس علي عندي وبالعراق. فبلغ ذلك عليًّا، ونماه إليه محمد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر بن أبي طالب. فلما بلغ ذلك عليًّا اتهم قيسًا، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا - وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف - فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم، وكتب إلى علي: إنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ منهم، وقد رضوا منّي أن أؤمّن سربهم، وأجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، وقد علمت أنّ هواهم مع معاوية، فلست مكايدهم بأمر أهون علي وعليك من الذي أفعل بهم، ولو أني غزوتهم كانوا لي قرنًا، وهو أسود العرب، ومنهم بسر بن أبي أرطأة، ومسلمة بن مخلّد، ومعاوية بن حديح، فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم. فأبى علي إلّا قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم.
فكتب قيس إلى علي: إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك، وابعث إليه غيري. فبعث علي الأشتر أميرًا إلى مصر، حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه. فبلغ حديثهم معاوية وعمرا، فقال عمرو: إن لله جندًا من عسل.
فلما بلغ عليًّا وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميرًا على مصر. فالزّهري يذكر أنّ عليًّا بعث محمد بن أبي بكر أميرًا على مصر بعد مهلك الأشتر بقلزم، وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر في خبره أنّ عليًّا بعث بالأشتر أميرًا على مصر بعد مهلك محمد بن أبي بكر.
رجع الحديث إلى حديث هشام بن أبي مخنف: ولما أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره، شقّ عليه ذلك، لما يعرف من حزمه وبأسه، وأظهر للناس قبله؛ أنّ قيس بن سعد قد تابعكم، فادعوا الله له، وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه. قال: واختلق معاوية كتابًا من قيس بن سعد، فقرأه على أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد، سلام عليك، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد، فإنّي لمّا نظرت رأيت أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلمًا محرّمًا برًّا تقيًّا، فنستغفر الله عز وجل لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا. ألا وأنّي قد ألقيت إليكم بالسّلم، وإني أجبتك إلى قتال قتلة عثمان، إمام الهدى المظلوم، فعوّل علي فيما أحببت من الأموال والرجال أعجّل عليك، والسلام.
فشاع في أهل الشام أنّ قيس بن سعد قد بايع معاوية بن أبي سفيان، فسرّحت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك؛ فلما أتاه ذلك أعظمه وأكبره، وتعجّب له، ودعا بنيه، ودعا عبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال: ما رأيكم؟ فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيسًا عن مصر. قال لهم علي: إني والله ما أصدّق بهذا على قيس؛ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، اعزله، فوالله لئن كان هذا حقًّا لا يعتزل لك إن عزلته.
فإنهم كذلك إذ جاء كتاب من قيس بن سعد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ قبلي رجالًا معتزلين قد سألوني أن أكفّ عنهم، وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس، فنرى ويروا رأيهم، فقد رأيت أن أكفّ عنهم، وألّا أتعجّل حربهم، وأن أتألّفهم فيما بين ذلك لعلّ الله عز وجل أن يقبل بقلوبهم، ويفرّقهم عن ضلالتهم، إن شاء الله.
فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ما أخوفني أن يكون هذا ممالأة لهم منه، فمره يا أمير المؤمنين بقتالهم، فكتب إليه علي: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فسر إلى القوم الّذين ذكرت، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلّا فناجزهم إن شاء الله.
فلما أتى قيس بن سعد الكتاب فقرأه، لم يتمالك أن كتب إلى أمير المؤمنين: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد عجبت لأمرك، أتأمرني بقتال قوم كافّين عنك، مفرّغيك لقتال عدوّك! وإنّك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك، فأطعني يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإنّ الرأي تركهم، والسلام.
فلما أتاه هذا الكتاب قال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ابعث محمد بن أبي بكر على مصر يكفك أمرها، واعزل قيسًا، والله لقد بلغني أن قيسًا يقول: والله إنّ سلطانًا لا يتمّ إلّا بقتل مسلمة بن مخلّد لسلطان سوء؛ والله ما أحبّ أنّ لي ملك الشأم إلى مصر وأني قتلت ابن المخلّد. قال: وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمّه، فبعث علي محمد بن أبي بكر على مصر، وعزل عنها قيسًا.
ولاية محمد بن أبي بكر مصر
قال هشام، عن ابن مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي - من والبة الأزد - عن أبيه، أنّ عليًّا كتب معه إلى أهل مصر كتابًا، فلما قدم به على قيس قال له قيس: ما بال أمير المؤمنين! ما غيّره؟ أدخل أحد بيني وبينه؟ قال له: لا، وهذا السلطان سلطانك؟! قال: لا، والله لا أقيم معك ساعة واحدة. وغضب حين عزله، فخرج منها مقبلًا إلى المدينة، فقدمها، فجاءه حسان بن ثابت شامتًا به - وكان حسان عثمانيًّا - فقال له: نزعك علي بن أبي طالب، وقد قتلت عثمان فبقى عليك الإثم، ولم يحسن لك الشكر! فقال له قيس بن سعد: يا أعمى القلب والبصر، والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حربًا لضربت عنقك؛ اخرج عنّي.
ثم إن قيسًا خرج هو وسهل بن حنيف حتى قدما على علي، فخبّره قيس؛ فصدّقه علي. ثم إن قيسًا وسهلًا شهدا مع علي صفّين.
وأما الزهري، فإنه قال فيما حدثني به عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، أنّ محمد بن أبي بكر قدم مصر وخرج قيس فلحق بالمدينة، فأخافه مروان والأسود بن أبي البخترّي، حتى إذا خاف أن يؤخذ أو يقتل، ركب راحلته، فظهر إلى علي. فبعث معاوية إلى مروان والأسود يتغيّظ عليهما، ويقول: أمددتما عليًّا بقيس بن سعد ورأيه ومكانه، فوالله لو أنّكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيس بن سعد إلى علي. فقدم قيس بن سعد على علي، فلما باثّه الحديث وجاءهم قتل محمد ابن أبي بكر، عرف أنّ قيس بن سعد كان يقاسي أمورًا عظامًا من المكايدة، وأنّ من كان يهزه على عزل قيس بن سعد لم ينصح له، فأطاع علي قيس ابن سعد في الأمر كلّه.
قال هشام: عن أبي مخنف، قال: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن أبيه، قال: كنت مع محمد بن أبي بكر حين قدم مصر، فلمّا قدم قرأ عليهم عهده: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى محمد بن أبي بكر حين ولّاه مصر، وأمره بتقوى الله والطاعة في السرّ والعلانية، وخوف الله عز وجل في الغيب والمشهد، وباللين على المسلمين، وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمّة، وبإنصاف المظلوم، وبالشدّة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين، ويعذّب المجرمين. وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره، ولا يعرفون كنهه، وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل، لا ينتقص منه ولا يبتدع فيه، ثمّ يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل، وأن يلين لهم جناحه، وأن يواسي بينهم في مجلسه ووجهه، وليكن القريب والبعيد في الحقّ سواء. وأمره أن يحكم بين الناس بالحقّ، وأن يقوم بالقسط، ولا يتّبع الهوى، ولا يخف في الله عز وجل لومة لائم، فإنّ الله جلّ ثناؤه مع من اتقى وآثر طاعته وأمره على ما سواه.
وكتب عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ لغرّة شهر رمضان.
قال: ثمّ إن محمد بن أبي بكر قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الحمد لله الذي هدانا وإيّاكم لما اختلف فيه من الحقّ، وبصّرنا وإيّاكم كثيرًا مما عمي عنه الجاهلون. ألا إنّ أمير المؤمنين ولّاني أموركم، وعهد إلي ما قد سمعتم، وأوصاني بكثير منه مشافهة، ولن آلوكم خيرًا ما استطعت، " وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب "؛ فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله وتقوى؛ فاحمدوا الله عز وجل على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي، وإن رأيتم عاملًا عمل غير الحقّ زائغًا، فارفعوه إلي، وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد، وأنتم بذلك جديرون. وفّقنا الله وإيّاكم لصالح الأعمال برحمته، ثمّ نزل.
وذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: وحدثني يزيد بن ظبيان الهمداني، أنّ محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لمّا ولّيَ؛ فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه ممّا لا يحتمل سماعها العامّة. قال: ولم يلبث محمد بن أبي بكر شهرًا كاملًا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم. فقال: يا هؤلاء، إمّا أن تدخلوا في طاعتنا، وإمّا أن تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إليه: إنا لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه أمورنا، ولا تعجل بحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا منه، وأخذوا حذرهم، فكانت وقعة صفّين، وهم لمحمّد هائبون، فلما أتاهم صبر معاوية وأهل الشأم لعلي، وأنّ عليًّا وأهل العراق قد رجعوا عن معاوية وأهل الشأم، وصار أمرهم إلى الحكومة، اجترءوا على محمد بن أبي بكر، وأظهروا له المبارزة، فلما رأى ذلك محمد بعث الحارث بن جمهان الجعفي إلى أهل خربتا، وفيها زيد بن الحارث من بني كنانة، فقاتلهم، فقتلوه. ثم بعث إليهم رجلًا من كلب يدعى ابن مضاهم، فقتلوه.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فيما قيل: قدم ماهويه مرزبان مرو مقرًّا بالصلح الذي كان جرى بينه وبين ابن عامر على علي.
ذكر من قال ذلك
قال علي بن محمد المدائني، عن أبي زكرياء العجلاني، عن ابن إسحاق، عن أشياخه، قال: قدم ماهويه أبراز مرزبان مرو على علي بن أبي طالب بعد الجمل مقرًّا بالصلح، فكتب له علي كتابًا إلى دهاقين مرو والأساورة والجند سلارين ومن كان في مرو: بسم الله الرحمن الرحيم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن ما هويه أبراز مرزبان مرو جاءني، وإنّي رضيت عنه وكتب سنة ست وثلاثين. ثم إنهم كفروا وأغلقوا أبرشهر.
توجيه علي خليد بن طريف إلى خراسان
قال علي بن محمد المدائني: أخبرنا أبو مخنف، عن حنظلة بن الأعلم، عن ماهان الحنفي، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي، قال: بعث علي خليد بن قرّة اليربوعي - ويقال خليد بن طريف - إلى خراسان.
ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية
وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ وثلاثين - بايع عمرو بن العاص معاوية، ووافقه على محاربة علي، وكان السبب في ذلك ما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما أحيط بعثمان - رضي الله عنه - خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجّهًا نحو الشأم، وقال: والله يا أهل المدينة، ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلّا ضربه الله عز وجل بذلّ؛ من لم يستطع نصره فليهرب. فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، وخرج بعده حسّان بن ثابت، وتتابع علي ذلك ما شاء الله.
قال سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: بينا عمرو بن العاص جالس بعجلان ومعه ابناه، إذ مرّ بهم راكب فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة، فقال عمرو: ما اسمك؟ قال: حصيرة. قال عمرو: حصر الرجل، قال: فما الخبر؟ قال: تركت الرجل محصورًا؛ قال عمرو: يقتل. ثم مكثوا أيامًا، فمرّ بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة؛ قال عمرو: ما اسمك؟ قال: قتّال؛ قال عمرو: قتل الرجل، فما الخبر؟ قال: قتل الرجل. قال: ثم لم يكن إلّا ذلك إلى أن خرجت، ثم مكثوا أيّامًا، فمرّ بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة؛ قال عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب، قال عمرو: يكون حرب؛ فما الخبر؟ قال: قتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وبويع لعلي بن أبي طالب، قال عمرو: أنا أبو عبد الله؛ تكن حرب من حكّ فيها قرحة نكأها، رحم الله عثمان ورضي الله عنه، وغفر له! فقال سلامة بن زنباع الجذامي: يا معشر قريش، إنه والله قد كان بينكم وبين العرب باب، فاتخذوا بابًا إذ كسر الباب. فقال عمرو: وذاك الّذي نريد. ولا يصلح الباب إلا أشاف تخرج الحقّ من حافرة البأس، ويكون الناس في العدل سواء، ثم تمثّل عمرو في بعض ذلك:
يا لهف نفسي على مالك ** وهل يصرف اللهف حفظ القدر!
أنزع من الحرّ أودي بهم ** فأعذرهم أم بقومي سكر!
ثم ارتحل راجلًا يبكي كما تبكي المرأة، ويقول: واعثماناه! أنعي الحياء والدين! حتى قدم دمشق، وقد كان سقط إليه من الذي يكون علم، فعمل عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، قال: كان النبي ﷺ قد بعث عمرًا إلى عمان، فسمع هنالك من حبر شيئًا، فلما رأى مصداقه وهو هناك أرسل إلى ذلك الحبر، فقال: حدثني بوفاة رسول الله ﷺ، وأخبرني من يكون بعده؟ قال: الذي كتب إليك يكون بعده، ومدّته قصيرة، قال: ثمّ من؟ قال: رجل من قومه مثله في المنزلة؛ قال: فما مدّته؟ قال: طويلة؛ ثم يقتل. قال: غيلة أم عن ملإ؟ قال: غيلة؛ قال: فمن يلي بعده؟ قال: رجل من قومه مثله في المنزلة، قال: فما مدّته؟ قال: طويلة، ثم يقتل، قال: أغيلة أم عن ملإ؟ قال: عن ملإ. قال: ذلك أشدّ؛ فمن يلي بعده؟ قال: رجل من قومه ينتشر عليه الناس، وتكون على رأسه حرب شديدة بين الناس، ثمّ يقتل قبل أن يجتمعوا عليه، قال: أغيلة أم عن ملإ؟ قال: غيلة، ثم لا يرون مثله. قال: فمن يلي بعده؟ قال: أمير الأرض المقدّسة، فيطول ملكه، فيجتمع أهل تلك الفرقة وذلك الانتشار عليه، ثم يموت.
وأما الواقدي، فإنه فيما حدثني موسى بن يعقوب، عن عمّه، قال: لما بلغ عمرًا قتل عثمان رضي الله عنه، قال: أنا عبد الله، قتلته وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الأمر من بعده! إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبًا، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلّا سيستنظف الحقّ، وهو أكره من يليه إلي. قال: فبلغه أنّ عليًّا قد بويع له، فاشتدّ عليه، وتربّص أيامًا ينظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة وقال: أستأني وأنظر ما يصنعون، فأتاه الخبر أنّ طلحة والزبير قد قتلا، فأرتج عليه أمره، فقال له قائل: إن معاوية بالشأم لا يريد أن يبايع لعلي، فلو قاربت معاوية! فكان معاوية أحبّ إليه من علي بن أبي طالب. وقيل له: إنّ معاوية يعظم شأن قتل عثمان بن عفان، ويحرّض على الطلب بدمه؛ فقال عمرو: ادعوا لي محمدًا وعبد الله، فدعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان رضي الله عنه، وبيعة الناس لعلي، وما يرصد معاوية من مخالفة علي، وقال: ما تريان؟ أمّا علي فلا خير عنده، وهو رجل يدلّ بسابقته، وهو غير مشركي في شئ من أمره. فقال عبد الله بن عمرو: توفّي النبي ﷺ وهو عنك راض، أرى أن تكفّ يدك، وتجلس في بيتك، حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك في صوت ولا ذكر. قال عمرو: أمّا أنت يا عبد الله فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي، وأسلم في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالّذي أنبه لي في دنياي، وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشأم يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحقّ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم - ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو - فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك! انصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك! إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني! أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إنّ في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته؛ ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية وعطف عليه.
توجيه علي بن أبي طالب جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في طاعته
وفي هذه السنة وجّه علي عند منصرفه من البصرة إلى الكوفة وفراغه من الجمل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، وكان جرير حين خرج علي إلى البصرة لقتال من قاتله بها بهمذان عاملًا عليها، كان عثمان استعمله عليها، وكان الأشعث بن قيس على أذر بيجان عاملًا عليها، كان عثمان استعمله عليها، فلما قدم علي الكوفة منصرفًا إليها من البصرة، كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة له على من قبلهما من الناس، والانصراف إليه. ففعلا ذلك، وانصرفا إليه.
فلما أراد علي توجيه الرسول إلى معاوية، قال جرير بن عبد الله - فيما حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة: ابعثني إليه، فإنه لي ودّ حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول في طاعتك، فقال الأشتر لعلي: لا تبعثه، فوالله إنّي لأظنّ هواه معه؛ فقال علي: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع به إلينا؛ فبعثه إليه، وكتب معه كتابًا يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وما كان من حربه إياهما، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرين والأنصار من طاعته، فشخص إليه جرير، فلمّا قدم عليه ماطله واستنظره، ودعا عمرًا فاستشاره فيما كتب به إليه، فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشأم، ويلزم عليًّا دم عثمان، ويقاتله بهم، ففعل ذلك معاوية، وكان أهل الشأم - فيما كتب إلي السري يذكر أن شعيبًا حدثه عن سيف، عن محمد وطلحة - لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان رضي الله عنه - الذي قتل فيه مخضّبًا بدمه وبأصابع نائلة زوجته مقطوعة بالبراجم؛ إصبعان منها وشئ من الكفّ، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام - وضع معاوية القميص على المنبر، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه، وآلي الرجال من أهل الشأم ألّا يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء للغسل إلّا من احتلام، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم. فمكثوا حول القميص سنة، والقميص يوضع كلّ يوم على المنبر ويجلّله أحيانًا فيلبسه. وعلّق في أردانه أصابع نائلة رضي الله عنها.
فلما قدم جرير بن عبد الله على علي - فيما حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة - فأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشأم معه على قتاله، وأنّهم يبكون على عثمان، ويقولون: إنّ عليًّا قتله، وآوى قتلته، وإنّهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن تبعث جريرًا، وأخبرتك بعداوته وغشّه، ولو كنت بعثتني كان خيرًا من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع بابًا يرجو فتحه إلّا فتحته، ولا بابًا يخاف منه إلّا أغلقته. فقال جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك؛ لقد ذكروا أنّك من قتلة عثمان رضي الله عنه، فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم، ولحملت معاوية على خطّة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور.
فخرج جرير بن عبد الله إلى قرقيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه بأمره بالقدوم عليه. وخرج أمير المؤمنين فعسكر بالنّخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس بمن نهض معه من أهل البصرة.
خروج علي بن أبي طالب إلى صفين
حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، عن سليمان، عن عبد الله، عن معاوية بن عبد الرحمن، عن أبي بكر الهذلي، أن عليًّا لما استخلف عبد الله بن عبّاس على البصرة سار منها إلى الكوفة، فتهيّأ فها إلى صفّين، فاستشار الناس في ذلك، فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم؛ وأشار آخرون بالمسير. فأبى إلّا المباشرة؛ فجهّز الناس. فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص فاستشاره. فقال: أمّا إذ بلغك أنه يسير فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. قال: أمّا إذًا يا أبا عبد الله فجهّز الناس. فجاء عمرو فحضّض الناس، وضعّف عليًّا وأصحابه، وقال: إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم. ثم إنّ أهل البصرة مخالفون لعلي، قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، ومنهم من قد قتل خليفتكم؛ فالله الله في حقّكم أن تضّيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه! وكتب في أجناد أهل الشأم، وعقد لواءه لعمرو، فعقد لوردان غلامه فيمن عقد، ولابنيه عبد الله ومحمد، وعقد علي لغلامه قنبر، ثم قال عمرو:
هل يغنين وردان عنّي قنبرا ** وتغني السكون عنّي حميرا
إذا الكماة لبسوا السنوّرا
فبلغ ذلك عليًّا فقال:
لأصبحنّ العاصي ابن العاصي ** سبعين ألفًا عاقدي النواصي
مجنّبين الخيل بالقلاص ** مستحقبين حلق الدلاص
فلما سمع ذلك معاوية قال: ما أرى ابن أبي طالب إلّا قد وفى لك؛ فجاء معاوية يتأنى في مسيره. وكتب إلى كلّ من كان يرى أنه يخاف عليًّا أو طعن عليه ومن أعظم دم عثمان واستعواهم إليه. فلما رأى ذلك الوليد بعث إليه يقول:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ** فإنّك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالدّم المعنّى ** تهدّر في دمشق فما تريم
وإنّك والكتاب إلى علي ** كدابغة وقد حلم الأديم
يمينك الإمارة كلّ ركب ** لأنقاض العراق بها رسيم
وليس أخو الترات بمن توانى ** ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حيًّا ** لجرّد؛ لا ألفّ ولا سئوم
ولا نكل عن الأوتار حتّى ** يبئ بها، ولا برم جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا ** فهم صرعى كأنهم الهشيم
وقال غير أبي بكر: فدعا معاوية شدّاد بن قيس كاتبه وقال: ابغني طومارًا، فأتاه بطومار، فأخذ القلم فكتب، فقال: لا تعجل، اكتب:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ** ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ثم قال: اطو الطومار، فأرسل به إلى الوليد، فلما فتحته لم يجد فيه غير هذا البيت.
قال أبو بكر الهذلي: وكتب رجل من أهل العراق حيث سار علي بن أبي طالب إلى معاوية بيتين:
أبلغ أمير المؤمني ** ن أخا العراق إذا أتيتا
أنّ العراق وأهلها ** عنق إليك فعيت هيتا
عاد الحديث إلى حديث عوانة. فبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هانئ في أربعة آلاف، وخرج علي من النخيلة بمن معه، فلمّا دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، ووجّه علي من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه.
ما أمر به علي بن أبي طالب من عمل الجسر على الفرات
فلما انتهى علي إلى الرقة قال: فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي - لأهل الرقة: اجسروا لي جسرًا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشأم، فأبوا. وقد كانوا ضمّوا إليهم السفن، فنهض من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، وذهب ليمضي بالناس كيما يعبر بهم على جسر منبج، فناداهم الأشتر، فقال: يا أهل هذا الحصن، ألا أني أقسم لكم بالله عز وجل؛ لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسّروا له عند مدينتكم جسرًا حتى يعبر لأجردنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال ولأخرّبنّ الأرض، ولآخذّن الأموال. قال: فلقي بعضهم بعضًا، فقالوا: أليس الأشتر يفي بما حلف عليه، أو يأتي بشرّ منه؟ قالوا: نعم، فبعثوا إليه: إنّا ناصبون لكم جسرًا، فأقبلوا. وجاء علي فنصبوا له الجسر، فعبر عليه بالأثقال والرجال. ثم أمر علي الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس، حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم إنه عبر آخر الناس رجلًا.
قال أبو مخنف: وحدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث، أنّ الخيل حين عبرت زحم بعضها بعضًا، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي، فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجّاج الأزدي، فنزل فأخذها، ثم ركب، وقال لصاحبه:
فإن يك ظنّ الزاجري الطير صادقًا ** كما زعموا أقتل وشيكًا وتقتل
فقال له عبد الله بن أبي الحصين: ما شئ أوتاه أحبّ إلي مما ذكرت؛ فقتلا جميعًا يوم صفّين.
قال أبو مخنف: فحدثني خالد بن قطن الحارثي، أنّ عليًّا لما قطع الفرات دعا زياد بن النضر، وشريح بن هانئ، فسرّحهما أمامه نحو معاوية على حالهما التي كانا خرجا عليها من الكوفة. قال: وقد كانا حيث سرّحهما من الكوفة أخذا على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات، فبلغهما أخذ علي على طريق الجزيرة، وبلغهما أنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشأم لاستقبال علي، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي؛ أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لا خير في أن نلقى جنود أهل الشأم بقلّة من معنا منقطعين من العدد والمدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ثم لحقوا عليًّا بقرية دون قرقيسياء؛ وقد أرادوا أهل عانات، فتحصّنوا وفرّوا، ولما لحقت المقدّمة عليًّا قال: مقدّمتي تأتيني من ورائي. فتقدّم إليه زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانئ؛ فأخبراه بالذي رأيا حين بلغهما من الأمر ما بلغهما، فقال: سددتما. ثم مضى علي، فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه نحو معاوية، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان في جند من أهل الشأم؛ فأرسلا إلى علي: إنّا قد لقينا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشأم، وقد دعوناهم فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك. فأرسل علي إلى الأشتر؛ فقال: يا مالك، إنّ زيادًا وشريحًا أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جمع من أهل الشأم، وأنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين، فالنّجاء إلى أصحابك النجاء، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم. وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع، ولا يجرمنّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم، والاعذار إليهم مرة بعد مرّة، واجعل على ميمنتك زيادًا، وعلى ميسرتك شريحًا، وقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإنّي حثيث السير في أثرك إن شاء الله. قال: وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي، فكتب علي إلى زياد وشريح: أمّا بعد، فإني قد أمّرت عليكما مالكًا، فاسمعا له وأطيعا، فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم، ولا الإسراع إلى ما الإبطاء عنه أمثل، وقد أمرته بمثل كنت أمرتكما به ألّا يبدأ القوم حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم.
وخرج الأشتر حتى قدم على القوم، فاتّبع ما أمره علي وكفّ عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي، فثبتوا له، واضطربوا ساعة. ثم إنّ أهل الشأم انصرفوا، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزهري في خيل ورجال حسن عددها وعدّتها، وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، وصبر القوم بعضهم لبعض، ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي، قتله يومئذ ظبيان بن عمّار التميمي، وما هو إلّا فتى حدث، وإن كان التنوخي لفارس أهل الشأم، وأخذ الأشتر يقول: ويحكم! أروني أبا الأعور.
ثم إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه، فوقف من وراء المكان الذي كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر حتى صفّ أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة، فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال له الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفّهم بسيفي ما رجعت أبدًا حتى أضرب بسيفي في صفّهم، قال له الأشتر: يا بن أخي، أطال الله بقاءك! قد والله ازددت رغبة فيك، لا أمرتك بمبارزته، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي؛ أنه لا يبرز إن كان ذلك من شأنه إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت - لربّك الحمد - من أهل الكفاءة والشرف، غير أنّك فتى حدث السنّ، فليس بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي. فأتاه فنادى: آمنوني فإنّي رسول. فأومن، فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي، قال: حدثني سنان، قال: فدنوت منه فقلت: إنّ الأشتر يدعوك إلى مبارزته. قال: فسكت عني طويلًا ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه هو حمله على إجلاء عمّال ابن عفان رضي الله عنه من العراق، وانتزاؤه عليه يقبّح محاسنه، ومن خفّة الأشتر وسوء رأيه أن سار إلى ابن عفان رضي الله عنه في داره وقراره حتى قتله فيمن قتله، فأصبح متبعًا بدمه؛ ألا لا حاجة لي في مبارزته. قال: قلت: إنك قد تكلمت، فاسمع حتى أجيبك، فقال: لا، لا حاجة في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عني. فصاح بي أصحابه فانصرفت عنه، ولو سمع إلي لأخبرته بعذر صاحبي وحجّته. فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة، فقال: لنفسه نظر، فواقفناهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، وبتنا متحارسين، فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا علي بن أبي طالب غدوة. فقدم الأشتر فيمن كان معه في تلك المقدّمة حتى انتهى إلى معاوية، فواقفه، وجاء علي في أثره فلحق بالأشتر سريعًا، فوقف وتواقفوا طويلًا.
ثمّ إنّ عليًّا طلب موضعًا لعسكره، فلما وجده أمر الناس فوضعوا الأثقال، فلما فعلوا ذهب شباب الناس وغلمتهم يستقون، فمنعهم أهل الشأم. فاقتتل الناس على الماء، وقد كان الأشتر قال له قبل ذلك: إنّ القوم قد سبقوا إلى الشريعة وإلى سهولة الأرض وسعة المنزل، فإن رأيت سرنا نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فإنهم يشخصون في أثرنا، فإذا هم لحقونا نزلنا فكنّا نحن وهم على السواء، فكره ذلك علي، وقال: ليس كلّ الناس يقوى على المسير، فنزل بهم.
القتال على الماء
قال أبو مخنف: وحدثني تميم بن الحارث الأزدي، عن جندب بن عبد الله، قال: إنّا لما انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح قد اختاره قبل قدومنا إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها أبا الأعور يمنعها ويحميها، فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم فلم نجدها، فأتينا عليًّا فأخبرناه بعطش الناس، وأنا لا نجد غير شريعة القوم. قال: فقاتلوهم عليها. فجاءه الأشعث بن قيس الكندي فقال: أنا أسير إليهم، فقال له علي: فسر إليهم. فسار وسرنا معه، حتى إذا دنونا من الماء ثاروا في وجوهنا ينضحوننا بالنّبل، ورشقناهم والله بالنّبل ساعة، ثم اطّعنّا والله بالرماح طويلًا، ثم صرنا آخر ذلك نحن والقوم إلى السيوف، فاجتلدنا بها ساعة. ثم إنّ القوم أتاهم يزيد بن أسد البجلي ممدًّا في الخيل والرجال، فأقبلوا نحونا، فقلت في نفسي: فأمير المؤمنين لا يبعث إلينا بمن يغني عنا هؤلاء، فذهب فالتفتّ فإذا عدّة القوم أو أكثر، قد سرّحهم إلينا ليغنوا عنّا يزيد بن أسد وأصحابه، عليهم شبث بن ربعي الرياحي، فوالله ما ازداد القتال إلّا شدّة. وخرج إلينا عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، وخرج الأشتر من قبل علي في جمع عظيم. فلمّا رأى الأشتر عمرو بن العاص يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، أمّد الأشعث بن قيس وشبث بن ربعي، فاشتدّ قتالنا وقتالهم، فما أنسى قول عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي:
خلّوا لنا ماء الفرات الجاري ** أو اثيتوا لجحفل جرّار
لكلّ قرم مستميت شاري ** مطاعن برمحه كرّار
ضرّاب هامات العدا مغوار
قال أبو مخنف: وحدثني رجل من آل خارجة بن التميمي أن ظبيان ابن عمارة جعل يومئذ يقاتل وهو يقول:
هل لك يا ظبيان من بقاء ** في ساكن الأرض بغير ماء
لا وإله الأرض والسّماء ** فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسّيف عن حمس الوغاء ** حتّى يجيبوك إلى السواء
قال ظبيان: فضربناهم والله حتى خلّونا وإيّاه.
قال أبو مخنف: وحدثني أبي يحيى بن سعيد، عن عمّه محمد بن مخنف، قال: كنت مع أبي مخنف بن سليم يومئذ، وأنا ابن سبع عشرة سنة، ولست في عطاء، فلما منع الناس الماء قال لي أبي: لا تبرحنّ الرحل، فلما رأيت المسلمين يذهبون نحو الماء لم أصبر، فأخذت سيفي، وخرجت مع الناس فقاتلت، قال: وإذا أنا بغلام مملوك لبعض أهل العراق ومعه قربة، فلما رأى أهل الشأم قد أفرجوا عن الشريعة اشتدّ حتى ملأ قربته، ثم أقبل، ويشدّ عليه رجل من أهل الشأم فيضربه فيصرعه، وسقطت القربة منه. قال: وأشدّ على الشامي فأضربه فأصرعه، واشتدّ أصحابه فاستنقذوه، فسمعتهم وهم يقولون: لا نأمن عليك. ورجعت إلى المملوك فاحتملته، فإذا هو يكّلمني وبه جرح رغيب، فما كان أسرع من أن جاءه مولاه، فذهب به، وأخذت قربته وهي مملوءة، وآتي بها أبي مخنفًا، فقال: من أين جئت بها؟ فقلت: اشتريتها - وكرهت أن أخبره الخبر، فيجد علي - فقال: اسق القوم، فسقيتهم، ثم شرب آخرهم، ونازعتني نفسي والله إلى القتال، فأنطلق فأتقدّم فيمن يقاتل، فقاتلناهم ساعة، ثم أشهد أنهم خلّوا لنا عن الماء، فما أمسينا حتى رأينا سقاتنا وسقاتهم يزدحمون على الشريعة، وما يؤذي إنسان إنسانًا، فأقبلت راجعًا، فإذا أنا بمولى صاحب القربة، فقلت: هذه قربتك عندنا، فأرسل من يأخذها، أو أعلمني مكانك حتى أبعث بها إليك، فقال: رحمك الله! عندنا ما نكتفي به؛ فانصرفت وذهب، فلما كان من الغد مرّ على أبي، فوقف فسلّم عليه، ورآني إلى جنبته، فقال: ما هذا الفتى منك؟ قال: ابني؛ قال: أراك الله فيه السرور، أنقذ الله عز وجل أمس غلامي به من القتل، حدثني شباب الحي أنه كان أمس أشجع الناس، فنظر إلي أبي نظرة عرفت منها في وجهه الغضب، فسكتّ حتى إذا مضى الرجل قال: هذا ما تقدّمت إليك فيه! فحلّفني ألّا أخرج إلى قتال إلّا بإذنه، فما شهدت من قتالهم إلّا ذلك اليوم حتى كان يوم من أيامهم.
قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مهران مولى يزيد بن هانئ، قال: والله إنّ مولاي يزيد بن هانئ ليقاتل على الماء، وإنّ القربة لفي يده، فلما انكشف أهل الشأم انكشافة عن الماء، استدرت حتى أسقي، وإنّي فيما بين ذلك لأقاتل وأرامي.
قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، قال: لما قدمنا على معاوية وأهل الشأم بصفّين، وجدناهم قد نزلوا منزلًا اختاروه مستويًا بساطًا واسعًا، أخذوا الشريعة، فهي في أيديهم، وقد صفّ أبو الأعور السلمي عليها الخيل والرجال، وقد قدّم المرامية أمام من معه، وصفّ صفًّا معهم من الرماح والدّرق، وعلى رءوسهم البيض، وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين، فخبّرناه بذلك، فدعا صعصعة ابن صوحان فقال له: ائت معاوية وقل له: إنّا سرنا مسيرنا هذا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكفّ عنك حتى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، قد حلّتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، ويكفّوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب. فعلنا. فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حصروه أربعين صباحًا يمتعونه برد الماء، ولين الطعام، اقتلهم عطشًا، قتلهم الله عطشًا! فقال له عمرو بن العاص: خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت رّيان؛ ولكن بغير الماء، فانظر ما بينك وبينهم. فأعاد الوليد بن عقبة مقالته؛ وقال عبد الله بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، ولو قد رجعوا كان رجوعهم فلًّا، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! فقال صعصعة: إنما يمنعه الله عز وجل يوم القيامة الكفرة الفسقة وشربة الخمر؛ ضربك وضرب هذا الفاسق - يعني الوليد بن عقبة - قال: فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه، فقال معاوية: كفوّا عن الرجل فإنه رسول.
قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن صعصعة رجع إلينا فحدثنا عمّا قال لمعاوية، وما كان منه وما ردّ، فقلنا: فما ردّ عليك؟ فقال: لما أردت الانصراف من عنده قلت: ما ترد علي؟ قال معاوية: سيأتيكم رأيي، فوالله ما راعنا إلا تسريته الخيل إلى أبي الأعور ليكفّهم عن الماء. قال: فأبرزنا علي إليهم، فارتمينا ثم اطّعنّا، ثم اضطربنا بالسيوف، فنصرنا عليهم، فصار الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم؛ فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.
دعاء علي معاوية إلى الطاعة والجماعة
قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي، أنّ عليًّا قال: هذا يوم نصرتم فيه بالحميّة، وجاء الناس حتى أتوا عسكرهم، فمكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية أحدًا، ولا يرسل إليه معاوية. ثم إن عليًّا دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعي: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليّه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علي: ائتوه فالقوه واحتجّوا عليه، وانظروا ما رأيه - وهذا في أول ذي الحجّة - فأتوه، ودخلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو، وقال: يا معاوية، إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله عز وجل محاسبك بعملك، وجازيك بما قدّمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرّق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها! فقطع عليه الكلام، وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إنّ صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدّين والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول ﷺ. قال: فيقول مادا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال معاوية: ونطلّ دم عثمان رضي الله عنه! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا. فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن ربعي، فتكلّم فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفي علينا ما تغزو وما تطلب؛ إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: قتل إمامكم مظلومًا، فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربّ متمنّي أمر وطالبه، الله عز وجل يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمنّي أمنيته وفوق أمنيتّه، ووالله ما لك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو إنك لشرّ العرب حالًا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحقّ من ربّك صلي النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله.
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أوّل ما عرفت فيه سفهك وخفّة حلمك، قطعك على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت، ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كلّ ما ذكرت ووصفت. انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلّا السيف. وغضب، وخرج القوم وشبث يقول: أفعلينا تهوّل بالسيف! أقسم بالله ليعجلن بها إليك. فأتوا عليًّا وأخبروه بالذي كان من قوله، وذلك في ذي الحجة، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف، فيخرج معه جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان. وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشأم لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك، فكان علي يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عدي الكندي، ومرّة شبث بن ربعي، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النضر الحارثي، ومرّة زياد بن خصفة التيمي، ومرّة سعيد بن قيس، ومرّة معقل بن قيس الرياحي، ومرّة قيس بن سعد. وكان أكثر القوم خروجًا إليهم الأشتر، وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد المخزومي، وأبا الأعور السلمي، ومرّة حبيب ابن مسلمة الفهري، ومرّة ابن ذي الكلاع الحميري، ومرة عبيد الله بن عمر ابن الخطّاب، ومرّة شرحبيل بن السمط الكندي، ومرّة حمزة بن مالك الهمداني، فاقتتلوا من ذي الحجة كلها، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرّتين أوّله وآخره.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، قال: حدثني رجل من قومي أنّ الأشتر خرج يومًا يقاتل بصفيّن في رجال من القرّاء، ورجال من فرسان العرب، فاشتدّ قتالهم، فخرج علينا رجل والله لقلّما رأيت رجلًا قطّ هو أطول ولا أعظم منه، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد إلّا الأشتر، فاختلفا ضربتين، فضربه الأشتر، فقتله، وايم الله لقد كنا أشفقنا عليه، وسألناه ألّا يخرج إليه، فلما قتله الأشتر نادى مناد من أصحابه:
يا سهم سهم ابن أبي العيرار ** يا خير من نعلمه من زار
وزارة: حي من الأزد، وقال: أقسم بالله لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنّي، فخرج فحمل على الأشتر، وعطف عليه الأشتر فضربه، فإذا هو بين يدي فرسه، وحمل فيه أصحابه فاستنقذوه جريحًا، فقال أبو رفيقة الفهمي: هذا كان نارًا، فصادف إعصارًا، واقتتل الناس ذا الحجّة كلّه، فلما انقضى ذو الحجّة تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض المحرّم، لعلّ الله أن يجري صلحًا أو اجتماعًا، فكفّ بعضهم عن بعض.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بأمر علي إيّاه بذلك، كذلك حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر.
وفي هذه السنة مات قدامة بن مظعون، فيما زعم الواقدي.
تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري | |
---|---|
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | فهرس |