تاريخ الطبري/الجزء السابع
►الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن ◄ |
ثم دخلت سنة أربع ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الوقعة بين الحرشي والسغد
ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها.
ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة
ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر، وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده.
قال: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرًا خير منك أميرًا الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قال: فكيف لي؟ قال: تأمر بالنزول، ففعل.
وخرج النيلان ابن عمّ ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة؛ وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشِّعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل. فوجّه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغرّرت بجند من المسلمين. وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير فبينا هو يتعشىّ إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي وكان فيمن وجهه مع القشيري ففزع وسقطت اللُّقمة من يده، ودعا بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدًا؟ فقال: لا، قال: الحمد لله، وتعشّى، وأخبره بما قدم له عليه. فسار جوادًا مغذًّا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قال للفضل بن بسام: ما ترى؟ قال: أرى المعالجة، قال: لا أرى ذلك، إن جرح رجلٌ فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدوّ، فجبَّن الناس الحرشي، وقالوا كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخرسان ماق. قال: فحمل رجلٌ من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقًا، وغطوه بقصب، وعلّوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق.
قال: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلًا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فراغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغير ولا أنصركم؛ فانظروا لأنفسكم؛ فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري. فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردّهم إلى السُّغد، فاشترط عليهم أن يردّوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريّهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الحراج، ولا يغتالوا أحدًا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثًا حلت دماؤهم.
قال: وكان السَّفير فيما بينهم موسى بن مشكان مولى آل بسام، فخرج إليه كارزنج، فقال له: إنّ لي حاجةً أحب أن تشفِّعني فيها، قال: وما هي؟ قال: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألّا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قال: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره. قال: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟ قال: أخاف عليكم معرّة الجند، قال: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كنَّ في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتأَ الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة المقتولة. قال فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالحبر، وسأل الحرشي ثابتًا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله، فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قال: فخذ سروالي. قال: وهذا لا يجمل، أقتل في سرويلاتكم! فسرّح غلامك إلى جلنج ابن أخي يجيئوني بسراويل جديد وكان قد قال لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطّعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريّته، ثم خرج هو وشاكرّيته، فاعترض الناس فقتل ناسًا، ومرّ بيحي بن حضين فنفحه نفحه على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرًا؛ حتى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بن مسعود. وكان في أيدي السُّغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين؛ قال: فألفت منهم غلام فأخبرالحرشي ويقال: بل أتاه رجل فأخبره - فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقًا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم - وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين - قال: فامتنع أهل السُّغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم. فلما كان الغد دعا الحراثين - ولم يعلموا ما صنع أصحابهم - فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف - ويقال سبعة آلاف - فأرسل جرير بن هميان والحسين بن أبي العمرطة ويزيد بن أبي زينب فأحصوا أموال التجار - وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل - فاصطفى أموال السغد وذراريّهم، فأخذ منها ما أعجبه، ثم دعا مسلم بن بديل العدوي؛ عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! ولِّه غيري؛ فولاه عبيد الله بن زهير بن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسّم الأموال؛ وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
أقرَّ العين مصرع كارزنج ** وكشَّينٍ وما لاقى بيار
وديواشنى وما لاقى جلنجٌ ** بحصن خجند إذ دمروا فباروا
ويروى: " أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش "؛ ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني.
ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضعٌ يده على عينه كأنه رمد، فردَّ الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد.
قال: وسرّح الحرشي سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السُّغد إلّا من وجه واحد. ومعه شوكر بن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان؛ فوجّه سليمان بن أبي السري على مقدّمته المسيّب بن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيّب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني.
قال: فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمدّه، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كسّ؛ فإنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشني أن ينزل على حكم الحرشي، وأن يوجّهه مع المسيّب بن بشر إلى الحرشي، فوفى له سليمان ووجّهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدةً، فطلب أهل القلعة الصُّلح بعد مسيره على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة. فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة.
قال: فبعث محمد بن عزيز الكندي وعلباء بن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدةً، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم. وخرج الحرشي إلى كسّ فصالحوه على عشرة آلاف رأس. ويقال: صال دهقان كسّ، واسمه ويك - على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يومًا على ألا يأتيه فلما فرغ من كسّ خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناووس وكتب على أهل ربنجن كتابًا بمائة إن فقد من موضعه؛ وولّى نصر بن يسار قبض صلح كسّ، ثم عزل سورة بن الحرّ وولّى نصر بن يسار، واستعمل سليمان بن أبي السري على كسّ، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بن أبي السري إلى طخارستان.
قال: وكانت خزار منيعة، فقال المجشّر بن مزاحم لسعيد بن عمر الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قال: بلى قال: المسربل بن الخرّيت بن راشد الناجي، فوجهه إليها - وكان المسربل صديقًا لملكها، واسم الملك سبقري. وكانوا يحبّون المسربل - فأخبر الملك ما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوّفه، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تنزل بأمان، قال: فما أصنع بمن لحق بي من عوامّ الناس؟ قال: نصيّرهم معك في أمانك، فصالحهم فأمنوه وبلاده.
قال: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بن زيد الحرشي، وأمره أن يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه - ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانًا لأهل السُّغد، فحبسه الحرشي في قهندر مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز:
إذا سعيدٌ سار في الأخماس ** في رهج يأخذ بالأنفاس
دارت على الترك أمرُّ الكاس ** وطارت الترك على الأحلاس
ولو فرارًا عطل القياس وفي هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عن المدينة ومكة، وذلك للنصف من شهر ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين.
وفيها ولّي يزيد بن عبد الملك المدينه عبد الواحد النضري.
ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضاحك عن المدينة وما كان ولاه من الأعمال
وكان سبب ذلك - فيما ذكر محمد بمن عمر، عن عبد الله بن محمد بن أبي يحيى - قال: خطب عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري فاطمة ابنة الحسين، فقالت: والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء؛ وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه. قال: وألح عليها وقال: والله لئن لم تفعلي لأجلدنّ أكبر بنيك في الخمر - يعني عبد الله بن الحسن - فبينا هو كذلك؛ وكان على ديوان المدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام، فكتب إليه يزيد أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان، فدخل على فاطمة بنت الحسين يودّعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحّاك، وما يتعرّض منّي. قال: وبعثت رسولًا بكتاب إلى يزيد تخبره وتذكر قرابتها ورحمها، وتذكر ما ينال ابن الضحاك منه، وما يتوعدها به.
فقال: فقدم ابن هرمز والرّسول معًا. قال: فدخل ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل كان من مغرّبة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين، فقال الحاجب: أصلح الله الأمير! بالباب رسول فاطمة بنت الحسين، فقال ابن هرمز: أصلح الله الأمير! إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حمَّلتني رسالة إليك فأخبره الخبر.
قال: فنزل من أعلى فراشه، وقال: لا أم لك! ألم أسألك هل من مغرّبة خبر، وهذا عندك لا تخبرينه! قال: فاعتذر بالنسيان. قال: فأذن للرسول فأدخله، فأخذ الكتاب، فاقترأه. قال: وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك! هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النَّضري.
قال: فدعا بقرطاس، فكتب بيده: إلى عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النَّضري وهو بالطائف: سلام عليك؛ أما بعد فإني قد وليّتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
قال: وأخذ البريد الكتاب، وقدم به المدينة، ولم يدخل على ابن الضحاك وقد أوجست نفس ابن الضحاك، فأرسل إلى البريد، فكشف له عن طرف المفرش، فإذا ألف دينار، فقال: هذه ألف دبنار لك ولك العهد والميثاق؛ لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثًا حتى يسير، ففعل. ثم خرج ابن الضحاك، فأغذّ السُّير حتى نزل على مسلمة بن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وذكر حاجة جاء لها، فقال: كل حاجة تكلمت فيها فهي يدك مالم يكن ابن الضحاك، فقال هو والله ابن الضحاك! فقال: والله لا أعفيه أبدًا وقد فعل ما فعل، قال: فردّه إلى المدينة إلى النَّضري.
قال عبد الله بن محمد: فرأيته في المدينة عليه جبة من صوف يسأل الناس، وقد عذِّب ولقي شرًّا، وقدم النَّضري يوم السبت للنصف من شوال سنة أربع ومائة.
قال محمد بن عمر: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن أبي فروة، عن الزهري، قال: قلت لعبد الرحمن بن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالف فعلهم، فلزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله؛ فإنهما لا يألوانك رشدًا. قال الزهري: فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادى الأنصار طرًا، وضرب أبا بكر بن حزم ظلمًا وعدوانًا في باطل، فما بقي منهم شاعر إلا هجاه، ولا صالح إلا عابه وأتاه بالقبيح، فلما ولي هشام رأيته ذليلًا.
وولي المدينة عبد الواحد بن عبد الله بن بشر فأقام بالمدينة لم يقدم عليهم والٍ أحب عليهم منه، وكان يذهب مذاهب الخير، لا يقطع أمرًا إلا استشار فيه القاسم وسالمًا.
وفي هذه السنة غزا الجرّاح بن عبد الله الحكمي - وهو أمير على أرمينية وأذربيجان - أرض الترك ففتح على يديه بلنجر، وهزم الترك وغرقهم وعامة ذراريهم في الماء، وسبوا ما شاءوا، وفتح الحصون التي تلي بلنجر وجلا عامة أهلها.
وفيها ولد - فيما ذكر - أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي في شهر ربيع الآخر.
وفيها دخل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خرسان إلى محمد ابن علي، وقد ولد أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: والله ليتمنّ هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدّوكم.
وفي هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.
ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان
ذكر أنّ سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشي في أمر الديواشني، وذلك أنه كان كتب إليه يأمره بتخليته وقتله، وكان يستخفّ بأمر ابن هبيرة، وكان البريد والرسول إذا ورد من العراق قال له: كيف أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه: اكتب إلى أبي المثنّى ولا يقول: " الأمير "، ويكثر أن يقول: قال أبو المثنى وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فدعا جميل بن عمران، فقال له: بلغني أشياء عن الحرشي، فأخرج إلى خراسان، وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه. فقدم جميل، فقال له الحرشي: كيف تركت أبا المثنى؟ فجعل ينظر في الدواوين. فقيل للحرشي ما قدم جميل لينظر في الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة، وبعث بها إلى جميل، فأكلها فمرض، وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فعولج واستبلّ وصحّ، فقال لابن هبيرة: الأمر أعظم مما بلغك؛ ما يرى سعيد إلا أنك عامل من عماله. فغضب عليه وعزله وعذبه، ونفخ في بطنه النمل، وكان يقول حين عزله: لو سألني عمر درهمًا يضعه في عينه ما أعطيته؛ فلما عذب أدّى، فقال له رجل: ألم تزعم أنك لا تعطيه درهمًا! قال: لا تعنّفني؛ إنه لما أصابني الحديد جزعت، فقال أذينة بن كليب - أو كليب بن أذينة:
تصبر أبا يحيى فقد كنت علمنا ** صبورًا ونهاضًا بثقل المغارم
وقال علي بن محمد: إنّما غضب عليه ابن هبيرة أنه وجه معقل بن عروة إلى هراة؛ إما عاملًا وإما في غير ذلك من أموره، فنزل قبل أن يمرّ علي الحرشي، وأتى هراة، فلم ينفذ له ما قدم فيه، وكتب إلى الحرشي، فكتب الحرشي إلى عامله: أن احمل إلي معقلًا، فحمله، فقال له الحرشي: ما منعك من إتياني قبل أن تأتي هراة؟ قال: أنا عامل لابن هبيرة ولاني كما ولاك، فضربه مائتين وحلّقه. فعزله ابن هبيرة، واستعمل على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة، فكتب إلى الحرشي يلخنه، فقال سعيد: بل هو ابن اللخناء. وكتب إلى مسلم أن احمل إلي الحرشي مع معقل بن عروة، فدفعه إليه، فأساء به وضيّق عليه، ثم أمره يومًا فعذبه، وقال: اقتله بالعذاب. فلما أمسى ابن هبيرة سمر فقال: من سيد قيس؟ قالوا: الأمير، قال: دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بن زفر، لو بوّق بليل لوافاه عشرون ألفًا، لا يقولون: لم دعوتنا ولا يسألونه، وهذا الحمار الذي في الحبس - قد أمرت بقتله - فارسها؛ وأما خير قيس لها فعسى أن أكونه؛ إنه لم يعرض إلي أمرٌ أرى أني أقدر فيه على منفعة وخير إلا جررته إليهم، فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت كما تقول، لو كنت كذلك ما أمرت بقتل فارسها. فأرسل إلى معقل أن كف عما كنت أمرتك به.
قال علي: قال مسلم بن المغيرة: لمّا هرب ابنُ هبيرة أرسل خالد في طلبه سعيد بن عمرو الحرشي، فلحقه بموضع من الفرات يقطعه إلى الجانب الآخر في سفينة، وفي صدر السفينة غلام لابن هبيرة يقال له قبيض، فعرفه الحرشي فقال له: قبيض؟ قال: نعم، قال: أفي السفينة أبو المثنى؟ قال: نعم. قال: فخرج إليه ابنُ هبيرة، فقال له الحرشي: أبا المثنى، ما ظنك بي؟ قال: ظني بك أنك لا تدفع رجلًا من قومك إلى رجل من قريش، قال: هو ذاك، قال: فالنّجاء.
قال علي: قال أبو إسحاق بن ربيعة: لما حبس ابن هبيرة الحرشي دخل عليه معقل بن عروة القشيري، فقال: أصلح الله الأمير! قيّدت فارس قيس وفضحته، وما أنا براض عنه؛ غير أني لم أحبّ أن تبلغ منه ما بلغت، قال: أنت بيني وبينه، قدمت العراق فوليته البصرة، ثم وليته خراسان، فبعث إلي ببرذون حطم واستخف بأمري، وخان فعزلته، وقلت له: يا بن نَسْعة، فقال لي: يا بن بُسرة. فقال معقل: وفعل ابن الفاعلة! ودخل على الحرشي السجن، فقال: يا بن نسعة أمك دخلت واشتريت بثمانين عنزًا جربًا، كانت مع الرعاء ترادفها الرجال مطية الصادر والوارد، تجعلها ندًا لبنت الحارث بن عمرو بن حرجدة! وافترى عليه، فلما عزل ابن هبيرة، وقدم خالد العراق استعدى الحرشي على معقل ابن عروة، وأقام البينة أنه قذفه، فقال للحرشي: اجلده، فحده، وقال: لولا أنّ ابن هبيرة وهّن في عضدي لنقبت عن قلبك، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: أسأت إلى ابن عمك وقذفته، فأداله الله منك، فصرت لا شهادة لك في المسلمين، وكان معقل حين ضرب الحدّ قذف الحرشي أيضًا، فأمر خالد بإعادة الحدّ، فقال القاضي: لا يُحدّ. قال: وأم عمر ابن هبيرة بُسرة بنت حسان، عدويّة من عدي الرباب.
ولاية مسلم بن سعيد على خراسان
وفي هذه السنة ولّى عمرُ بن هبيرة مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة بن عمرو بن خويلد الصعق خراسان بعد ما عزل سعيد بن عمرو الحرشي عنها.
ذكر الخبر عن سبب توليته إياها
ذكر علي بن محمد أنّ أبا الذيّال وعلي بن مجاهد وغيرهما حدثوه، قالوا: لما قتل سعيد بن أسلم ضمّ الحجاج ابنه مسلم بن سعيد مع ولده، فتأدّب ونبل، فلما قدم عدي بن أرطاة أراد أن يوليه، فشاور كاتبه، فقال: وله ولايةً خفيفة ثم ترفعه، فولاه ولاية، فقام بها وضبطها وأحسن؛ فلما وقعت فتنة يزيد بن المهلب حمل تلك الأموال إلى الشام، فلما قدم عمر بن هبيرة أجمع على أن يولّيَه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، فنظر فرأى شيبةً في لحيته، فكبّر.
قال: ثم سمر ليلة ومسلم في سَمَرِه، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة سفرجلة، فرمى بها، وقال: أيسرك أن أوليك خراسان؟ قال: نعم، قال: غدوة إن شاء الله. قال: فلما أصبح جلس، ودخل الناس؛ فعقد لمسلم على خراسان وكتب عهده، وأمره بالسير، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بن سعيد، ودعا بجبلة بن عبد الرحمن مولى باهلة فولّاه كرمان، فقال جبلة: ما صنعت بي المولوية! كان مسلم يطمع أن ألي ولاية عظيمة فأوليه كورة، فعقد له على خراسان وعقد لي على كرمان! قال: فسار مسلم فقدم خراسان في آخر سنة أربع ومائة - أو ثلاث ومائة - نصف النهار، فوافق باب دار الإمارة مغلقًا، فأتى دار الدوابّ فوجد الباب مغلقًا فدخل المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقًا، فصلى. وخرج وصيفٌ من باب المقصورة فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي، وقيل له: قدم مسلم بن سعيد بن أسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميرًا أو وزيرًا أو زائرًا؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خراسان زائرًا ولا وزيرًا، فأتاه الحرشي فشتمه وأمر بحبسه، فقيل له: إن أخرجته نهارًا قتل، فأمر بحبسه عنده حتى أمسى، ثم حبسه ليلًا وقيّده، ثم أمر صاحب السجن أن يزيده قيدًا. فأتاه حزينًا، فقال: مالك؟ فقال: أمرت أن أزيدك قيدًا، فقال لكاتبه: اكتب إليه: إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيدًا، فإن كان أمرًا ممنّ فوقك فسمعًا وطاعةً، وإن كان رأيًا رأيته فسيرك الحقحقة، وتمثل:
هم إن يثقفوني يقتلوني ** ومن أثقف فليس إلى خلود
ويروى:
فإما تثقفوني فاقتلوني ** فمن أثقف فليس إلى خلود
هم الأعداء إن شهدوا وغابوا ** أولوا الأحقاد والأكباد سود
أريغوني إراغتكم فإني وحذقة كالشجا تحت الوريد
ويروى: " أريدوني إرادتكم ".
قال: وبعث مسلم على كوره رجلًا من قبله على حربها.
قال: وكان ابن هبيرة حريصًا، أخذ قهرمانًا ليزيد بن المهلب، له علم بخراسان وبأشرافهم، فحبسه فلم يدع منهم شريفًا إلا قرفه، فبعث أبا عبيدة العنبري ورجلًا يقال له خالد، وكتب إلى الحرشي وأمره أن يدفع الذين سمّاهم إليه يستأديهم فلم يفعل، فردّ رسول ابن هبيرة، فلما استعمل ابن هبيرة مسلم بن سعيد أمره بجباية تلك الأموال، فلمّا قدم مسلم أراد أخذ الناس بتلك الأموال التي قرفت عليهم، فقيل له: إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى توضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان؛ لأنّ هؤلاء الذين تريد أن تأخذهم بهذه الأموال أعيان البلد قرفوا بالباطل؛ إنما كان على مهزم بن جابر ثلثمائة ألف فزادوا مائة ألف فصارت أربعمائة ألف، وعامة من سموا لك ممن كثر عليه بمنزله.
فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدًا فيهم مهزم بن جابر، فقال له مهزم بن جابر: أيها الأمير؛ إن الذي رفع إليك الظلم والباطل، ما علينا من هذا كله لو صدق إلا القليل الذي لو أخذنا به أديناه، فقال ابن هبيرة: " إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "، فقال: اقرأ ما بعدها: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ". فقال ابن هبيرة لا بد من هذا المال، قال: أما والله لئن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوّك، وليضرّنّ ذلك بأهل خراسان في عدّتهم وكراعهم وحلقتهم؛ ونحن في ثغر نكابد فيه عدوًا لا ينقضي حربهم؛ إنّ أحدنا ليلبس الحديد حتى يخلص صدؤه إلى جلده، حتى إن الخادم التي تخدم الرجل لتصرف وجهها عن مولاها وعن الرجل الذي تخدمه لريح الحديد؛ وأنتم في بلادكم متفضلون في الرقاق وفي المعصفرة؛ والذين قرفوا بهذا المال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي: وقبلنا قوم قدموا علينا من كلّ فجّ عميق، فجاءوا على الحرمات، فولوا الولايات، فاقتطعوا الأموال؛ فهي عندهم موقرة جمة.
فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بن سعيد بما قال الوفد، وكتب إليه أن استخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم. فلما أتى مسلمًا كتابُ ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، وأمر حاجب بن عمروا الحارثي أن يعذّبهم، ففعل وأخذ منهم ما فرّق عليهم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي.
وكان العامل على مكة والمدينة والطائف في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بن الحسن الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
ثم دخلت سنة خمس ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك غزوة الجرّاح بن عبد الله الحكمي اللان؛ حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون من وراء بلَنجر، ففتح بعض ذلك، وجلى عنه بعض أهله، وأصاب غنائم كثيرة.
وفيها كانت غزوة سعيد بن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل، فأصيبوا - فيما ذكر - جميعًا.
وفيها غزا مسلم بن سعيد الترك، فلم يفتح شيئًا، فقفل ثم غزا أفشينة مدينة من مدائن السغد بعد في هذه السنة، فصالح ملكها وأهلها.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر علي بن محمد عن أصحابه، أنّ مسلم بن سعيد مرزب بهرام سيس فجعله المرزبان. وأنّ مسلمًا غزا في آخر الصيف من سنة خمس ومائة، فلم يفتح شيئًا وقفل، فاتّبعه الترك فلحقوه، والنّاس يعبرون نهر بلْخ وتميم على الساقة، وعبيد الله بن زهير بن حيّان على خيل تميم، فحاموا عن الناس حتى عبروا. ومات يزيد بن عبد الملك، وقام هشام، وغزا مسلم أفشين فصالح ملكهاعلى ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة، فانصرف لتمام سنة خمس ومائة.
ذكر موت يزيد بن عبد الملك
وفي هذه السنة مات الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان، لخمس ليال بقين من شعبان منها؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي.
وقال الواقدي: كانت وفاته ببلقاء من أرض دمشق، وهو يوم مات ابن ثمان وثلاثين سنة.
وقال بعضهم: كان ابن أربعين سنة.
وقال بعضهم: ابن ست وثلاثين سنة؛ فكانت خلافته في قول أبي معشر وهشام بن محمد وعلي بن محمد أربعَ سنين وشهرًا، وفي قول الواقدي أربع سنين.
وكان يزيد بن عبد الملك يكنى أبا خالد؛ كذلك قال أبو معشر وهشام بن محمد والواقدي وغيرهم.
وقال علي بن محمد: توفّي يزيد بن عبد الملك وهو ابن خمس وثلاثين سنة أو أربع وثلاثين سنة في شعبان يوم الجمعة لخمس بقين منه سنة خمس ومائة.
وقال: ومات بأربد من أرض البلقاء، وصلّى عليه ابنه الوليد وهو ابن خمس عشرة سنة، وهشام بن عبد الملك يومئذ بحمص؛ حدثني بذلك عمر ابن شبّة، عن علي.
وقال هشام بن محمد: توفّي يزيد بن عبد الملك، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قال علي: قال أبو ماوية أو غيره من اليهود ليزيد بن عبد الملك: إنك تملك أربعين سنة، فقال رجل من اليهود: كذب لعنه الله، إنما رأى أنه يملك أربعين قصبة، والقصبة شهر، فجعل الشهر سنة.
ذكر بعض سيره وأموره
حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي، قال: كان يزيد بن عاتكة من فتيانهم، فقال يومًا وقد طرب، وعنده حبابة وسلّامة: دعوني أطير، فقالت حبابة: إلى من تدع الأمّة! فلما مات قالت سلّامة القس:
لا تلمنا إن خشعنا ** أو هممنا بالخشوعِ
قد لعمري بت ليلى ** كأخي الداء الوجيع
ثم بات الهم مني ** دون من لي من ضجيع
للذي حل بنا اليو ** م من الأمر الفظيع
كلما أبصرت ربعًا ** خاليًا فاضت دموعي
قد خلا من سيد كا ** ن لنا غير مضيع
ثم نادت: وا أمير المؤمنيناه! والشعر لبعض الأنصار.
قال علي: حجّ يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان بن عبد الملك فاشترى حبابة - وكان اسمها العالية - بأربعة آلاف دينار من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال سليمان: هممت أن أحجر على يزيد؛ فردّ يزيد حبابة فاشتراها رجل من أهل مصر، فقالت سعدة ليزيد: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه بعد؟ قال: نعم حبابة، فأرسلت سعدة رجلًا فاشتراها بأربعة آلاف دينار، وصنّعتها حتى ذهب عنها كلال السفر، فأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أبقي شيء من الدنيا تتمناه؟ قال: ألم تسأليني عن هذا مرّة فأعلمتُك! فرفعت الستر، وقالت: هذه حبابة، وقامت وخلتها عنده، فحظيت سعدة عند يزيد وأكرمها وحباها. وسعدة امرأة يزيد، وهي من آل عثمان بن عفان.
قال علي عن يونس بن حبيب: إن حبابة جارية يزيد بن عبد الملك غنت يومًا:
بين التراقي واللهاة حرارة ** ما تطمئنّ وما تسوغ فتبرد
فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فمرضت وثقلت، فقال: كيف أنت يا حبابة؟ فلم تجبه، فبكى وقال:
لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى ** فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد
وسمع جارية لها تتمثل:
كفى حزنًا بالهائم الصب أن يرى ** منازل من يهوي معطلة قفرا
فكان يتمثل بهذا.
قال عمر: قال علي: مكث يزيد بن عبد الملك بعد موت حبابة سبعة أيام لا يخرج إلى الناس؛ أشار عليه بذلك مسلمة، وخاف أن يظهر منه شيء يسفهه عند الناسِ.
خلافة هشام بن عبد الملك
وفي هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليالٍ بقين من شعبان منها، وهو يوم استخلف ابن أربع وثلاثين سنة وأشهر.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، قال: حدثنا أبو محمد القرشي وأبو محمد الزيادي والمنهال بن عبد الملك وسحيم بن حفص العجيفي، قالوا: ولد هشام بن عبد الملك عام قتل مصعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين. وأمّه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت حمقاء، أمرها أهلها ألّا تكلم عبد الملك حتى تلد، وكانت تثني الوسائد وتركب الوسادة وتزجرها كأنها دابّة، وتشتري الكندر فتمضغه وتعمل منه تماثيل، وتضع التماثيل على الوسائد، وقد سمت كل تمثال باسم جارية، وتنادي: يا فلانة ويا فلانة؛ فطلقها عبد الملك لحمقها. وسار عبد الملك إلى مصعب فقتله، فلما قتله بلغه مولد هشام، فسمّاه منصورًا، يتفاءل بذلك، وسمّته أمه باسم أبيها هشام، فلم ينكر ذلك عبد الملك، وكان هشام يكنى أبا الوليد.
وذكر محمد بن عمر عمّن حدثه أنّ الخلافة أتت هشامًا وهو بالزيّتونة في منزله في دُويرة له هناك.
قال محمد بن عمر: وقد رأيتها صغيرة، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، وسلّم عليه بالخلافة، فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق.
وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان من السند - وكان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن ترجمانًا له - فلما عزل الجنيد بن عبد الرحمن، قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالمًا الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة؛ فذكروا له أمر دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق ما معه عليهم، ودخل إلى محمد بن علي. ومات ميسرة فوجه محمد بن علي بكير بن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه.
وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، والنضري على المدينة.
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه، قال: كان إبراهيم بن هشام بن إسماعيل حجّ، فأرسل إلى عطاء بن أبي رباح: متى أخطب بمكة؟ قال: بعد الظهر، قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر، وقال: أمرني رسولي بهذا عن عطاء، فقال عطاء: ما أمرته إلّا بعد الظهر، قال: فاستحيا إبراهيم بن هشام يومئذ، وعدّوه منه جهلًا.
ذكر ولاية خالد القسري على العراق
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن العراق وما كان إليه من عمل المشرق، وولّى ذلك كلّه خالد بن عبد الله القسري في شوال.
ذكر محمد بن سلام الجمحي، عن عبد القاهر بن السري، عن عمر بن يزيد بن عمير الأسيدي قال: دخلت على هشام بن عبد الملك، وعنده خالد بن عبد الله القمري، وهو يذكر طاعة أهل اليمن، قال: فصفّقت تصفيقةً بيدي دقّ الهواء منها، فقلت: تالله ما رأيتُ هكذا خطأ ولا مثله خطلًا! والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا أمير المؤمنين عثمان، وهم خلعوا أمير المؤمنين عبد الملك، وإنّ سيوفنا لتقطر من دماء آل المهلب، قال: فلما قمت تبعني رجلٌ من آل مروان كان حاضرًا، فقال: يا أخا بني تميم، ورتْ بك زنادي، قد سمعت مقالتك، وأمير المؤمنين مولٍّ خالدًا العراق، وليست لك بدار.
ذكر عبد الرزاق أنّ حماد بن سعيد الصنعاني أخبره قال: أخبرني زياد بن عبيد الله، قال: أتيت الشأم، فاقترضت؛ فبينا أنا يومًا على الباب باب هشام، إذ خرج علي رجل من عند هشام، فقال لي: ممن أنت يا فتى؟ قلت: يمان، قال: فمن أنت؟ قلت: زياد بن عبيد الله بن عبد المدان، قال: فتبسم، وقال: قم إلى ناحية العسكر فقل لأصحابي: ارتحلوا فإنّ أمير المؤمنين قد رضي عني، وأمرني بالمسير، ووكّل بي من يخرجني قال: قلت: مَنْ أنت يرحمك الله؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: ومرهم يا فتى أن يعطوك منديل ثيابي وبرذوني الأصفر. فلما جزت قليلًا ناداني، فقال: يا فتى، وإن سمعت بي قد وليت العراق يومًا فالحق بي. قال: فذهبت إليهم، فقلت: إنّ الأمير قد أرسلني إليكم بأنّ أمير المؤمنين قد رضي عنه؛ وأمره بالمسير. فجعل هذا يحتضنني وهذا يقبل رأسي، فلما رأيت ذلك منهم، قلت: وقد أمرني أن تعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، قالوا: إي والله وكرامة، قال: فأعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، فما أمسى بالعسكر أحد أجود ثيابًا منّي، ولا أجود مركبًا منّي، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى قيل: قد وليَ خالد العراق، فركبني من ذلك همّ، فقال لي عريف لنا: ما لي أراك مهمومًا! قلت: أجل قد ولي خالد كذا وكذا، وقد أصبت ها هنا رزيقا عشت به، وأخشى أن أذهب إليه فيتغير علي فيفوتني ها هنا وها هنا، فلست أدري كيف أصنع! فقال لي: هل لك في خصلة؟ قلت: وما هي؟ قال: توكلني بأرزاقك وتخرج، فإن أصبت ما تحبّ فلي أرزاقك، وإلّا رجعت فدفعتها إليك، فقلت نعم. وخرجت، فلما قدمت الكوفة ليست من صالح ثيابي. وأذن للناس، فتركتهم حتى أخذوا مجالسهم، ثم دخلت فقمت بالباب، فسلمت ودعوت وأثنيت، فرفع رأسه، فقال: أحسنت بالرّحب والسعة، فما رجعت إلى منزلي حتى أصبت ستمائة دينار بين نقد وعرض.
ثم كنت أختلف إليه، فقال لي يومًا: هل تكتب يا زياد؟ فقلت: أقرأ ولا أكتب، أصلح الله الأمير! فضرب بيده على جبينه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! سقط منك تسعة أعشار ما كنت أريده منك، وبقي لك واحدة فيها غنى الدهر قال: قلت: أيها الأمير، هل في تلك الواحدة ثمن غلام؟ قال: وماذا حينئذ! قلت: تشتري غلامًا كاتبًا تبعث به إلي فيعلّمني، قال: هيهات! كبرت عن ذلك، قال: قلت: كلّا، فاشترى غلامًا كاتبًا حاسبًا بستين دينارًا، فبعث به إلي، فأكببتُ على الكتاب، وجعلت لا آتيه إلا ليلًا، فما مضت إلا خمس عشرة ليلة حتى كتبت ما شئت وقرأت ما شئت. قال: فإني عنده ليلة، إذ قال: ما أدري هل أنجحت من ذلك الأمر شيئًا؟ قلت: نعم، أكتب ما شئت، وأقرأ ما شئت، قال: إني أراك ظفرت منه بشيء يسير فأعجبك، قلت: كلا، فرفع شاذكونه، فإذا طومار، فقال: اقرأ هذا الطومار، فقرأت ما بين طرفيه، فإذا هو من عامله على الري، فقال: اخرج فقد ولّيتك عمله، فخرجت حتى قدمت الري، فأخذت عامل الخراج، فأرسل إلي: إن هذا أعرابي مجنون، فإنّ الأمير لم يولّ على الخراج عربيًا قطّ، وإنما هو عامل المعونة، فقل له: فليرّني على عملي وله ثلثمائة ألف، قال: فنظرتُ في عهدي، فإذا أنا على المعونة، فقلت: والله لا انكسرت، ثم كتبت إلى خالد: إنك بعثتني على الري، فظننت أنك جمعتها لي. فأرسل إلي صاحب الخراج أن أقرّه على عمله ويعطيني ثلثمائة ألف درهم. فكتب إلي أن اقبل ما أعطاك، واعلم أنّك مغبون. فأقمت بها ما أقمت، ثم كتبت: إني قد اشتقت إليك فارفعني إليك، ففعل، فلما قدمت عليه ولّاني الشرطة.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد بن عبد الله النضْري وعلى قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس. وقد قيل إن هشامًا إنما استعمل خالد بن عبد الله القسري على العراق وخراسان في سنة ست ومائة، وإن عامله على العراق وخراسان في سنة خمس ومائة كان عمر بن هبيرة.
ثم دخلت سنة ست ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عن المدينة عبد الواحد بن عبد الله النضري وعن مكة والطائف، وولّى ذلك كله خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة ست ومائة، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر.
وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة.
وفيها غزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فصالح أهلها، وأدوا الجزية.
وفيها ولد عبد الصمد بن علي في رجب.
وفيها مات الإمام طاوس مولى بخير بن ريسان الحميري بمكة وسالم بن عبد الله بن عمر، فصلى عليهما هشام. وكان موت طاوس بمكة وموت سالم بالمدينة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة، قال: مات سالم بن عبد الله سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة، فصلى عليه هشام بن عبد الملك بالبقيع، فرأيت القاسم بن محمد بن أبي بكر جالسًا عند القبر وقد أقبل هشام ما عليه إلا درّاعة، فوقف على القاسم فسلم عليه، فقام إليه القاسم فسأله هشام: كيف أنت يا أبا محمد؟ كيف حالك؟ قال: بخير، قال: إني أحب والله أن يجعلكم بخير. ورأى في الناس كثرة، فضرب عليهم بعث أربعة آلاف؛ فسمّي عام الأربعة الآلاف.
وفيها استقضى إبراهيم بن هشام محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله، واستقضى الصلت الكندي.
ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانية والمضرية وربيعة
وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بين المضرية واليمانية وربيعة بالبروقان من أرض بلخ.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة
وكان سبب ذلك - فيما قيل - أنّ مسلم بن سعيد غزا، فقطع النهر، وتباطأ الناس عنه؛ وكان ممن تباطأ عنه البختري بن درهم، فلما أتى النهر رد نصر بن سيار وسليم بن سليمان بن عبد الله بن خازم وبلعاء بن مجاهد بن بلعاء العنبري وأبا حفص بن وائل الحنظلي وعقبة بن شهاب المازني وسالم بن ذرابة إلى بلخ، وعليهم جميعًا نصر بن سيار، وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه. فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم من دخول بلخ - وكان عليها - وقطع مسلم بن سعيد النهر فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل صغانيان، وأتاه مسلمة العقفاني من بني تميم، وحسان بن خالد الأسدي؛ كلّ واحد منهما في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي وزرعة بن علقمة وسلمة بن أوس والحجاج بن هارون النميري في أهل بيته، وتجمّعت بكر والأزد بالبروقان، رأسهم البختري، وعسكر بالروقان على نصف فرسخ منهم، فأرسل نصر إلى أهل بلخ: قد أخذتم أعطياتكم فألحقوا بأميركم، فقد قطع النهر. فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم، وقال قوم من ربيعة: إن مسلم بن سعيد يريد أن يخلع؛ فهو يكرهنا على الخروج. فأرسلت تغلب إلى عمرو بن مسلم: إنك منا، وأنشدوه شعرًا قاله رجل عزا باهلة إلى تغلب - وكان بنو قتيبة من باهلة - فقالوا: إنّا من تغلب، فكرهت بكر أن يكونوا في تغلب فتكثر تغلب، فقال رجل منهم:
زعمت قتيبة أنها من وائل ** نسب بعيد يا قتيبة فاصعدي
وذكر أن بني معن من الأزد يدعون باهلة، وذكر عن شريك بن أبي قيلة المعني أن عمرو بن مسلم كان يقف على مجالس بني معن، فيقول: لئن لمم نكن منكم ما نحن بعرب؛ وقال عمرو بن مسلم حين عزاه التغلبي إلى بني تغلب: أما القرابة فلا أعرفها، وأما المنع فإني سأمنعكم؛ فسفر الضحاك بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني، وكلما نصرًا وناشداه فانصرف. فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري على نصر، ونادوا: يا لَ بكر! وجالوا، وكر نصر عليهم؛ عليهم؛ فكان أوّل قتيل رجلٌ من باهلة، ومع عمرو بن مسلم البحتري وزياد بن طريف الباهلي، فقتل من أصحاب عمرو بن مسلم في المعركة ثمانية عشر رجلًا، وقتل كردان أخو الفرافصة ومسعدة ورجل من بكر بن وائل يقال له إسحاق، سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر وأرسل إلى نصر: ابعث إلى بلعاء بن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال: خذْ لي أمانًا منه، فآمنه نصر، وقال: لولا أني أشمت بك بكر بن وائل لقتلتك.
وقيل: أصابوا عمرو بن مسلم في طاحونة، فأتوا به نصرًا في عنقه حبل، فآمنه نصر، وقال له ولزياد بن طريف والبختري بن درهم: الحقوا بأميركم.
وقيل: بل التقى نصر وعمرو بالبروقان، فقتل من بكر بن وائل واليمن ثلاثون، فقالت بكر: علام نقاتل إخواننا وأميرنا، وقد تقرّبنا إلى هذا الرجل فأنكر قرابتنا! فاعتزلوا. وقاتلت الأزد، ثم انهموا ودخلوا حصنًا فحصرهم نصر، ثم أخذ عمرو بن مسلم والبختري أحد بني عباد وزياد بن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح. وقيل: أخذ البختري في غيضة كان دخلها، فقال نصر في يوم البروقان:
أرى العين لجت في ابتدارٍ وما الذي ** يرد عليها بالدموع ابتدارها!
فما أنا بالواني إذا الحرب شمرت ** تحرق في شطر الخميسين نارها
ولكنّني أدعو لها خندف التي ** تطلع بالعبء الثقيل فقارها
وما حفظت بكر هنالك حلفها ** فصار عليها عار قيس وعارها
فإن تك بكر بالعراق تنزرت ** ففي أرض مرو علها وازورارها
وقد جربت يوم البروقان وقعة ** لخندف إذ حانت وآن بوارها
أتتني لقيس في بجيلة وقعة ** وقد كان قبل اليوم طال انتظارها
يعني حين أخذ يوسف بن عمر خالدًا وعياله.
وذكر علي بن محمد أن الوليد بن مسلم قال: قاتل عمرو بن مسلم نصر بن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى أستاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه أستاه قومي. قال: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان:
أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ** لآل تميم أرجفت كل مرجف
تظل عيون البرش بكر بن وائل ** إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف
هم أسلموا للموت عمرو بن مسلم ** وولوا شلالًا والأسنة ترعف
وكانت من الفتيان في الحرب عادة ** ولم يصبروا عند القنا المتقصف
خبر غزو مسلم بن سعيد الترك
وفي هذه السنة غزا مسلم بن سعيد الترك؛ فورد عليه عزله من خراسان من خالد بن عبد الله، وقد قطع النهر لحربهم وولاية أسد بن عبد الله عليها.
ذكر الخبر عن غزوة مسلم بن سعيد هذه الغزوة
ذكر علي بن محمد عن أشياخه أنّ مسلمًا غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئًا أهمّ عندي من قوم يتخلفون بعدي مخلّقي الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين؛ اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرًا ألّا يجد متخلّفًا إلا قتله، وما أرثى لهم من عذاب ينزله الله بهم - يعني عمر بن مسلم وأصحابه - فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك. فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرَّواحي - أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العم معصية، فتخلف أربعة آلاف. وسار مسلم بن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل - أو شبيل - بن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في اليوم؛ ثم سار من غد حتى قطع وادي السبّوح، فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل؛ فأنزل عبد الله بن أبي عبد الله قومًا من العفراء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دوابّ لمسلم وقتل المسّيب بن بسر الريّاحي، وقتل البراء - وكان من فرسان المهلّب - وقتل أخو غوزك، وثار الناس في وجوههم، فاخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن مالك الحمَّاني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم؛ فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد؛ وإنك إن نزلت المرج تفرّق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسورة بن الحرّ: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قال: أرى ما رأى الناس ونزلوا. قال: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحّرقوا قيمة ألف ألف، وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بن سعيد: أعزم على كلّ رجل إلا اخترط سيفه؛ ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفًا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يومًا، ثم قطع من غدٍ، وأتبعهم ابن الخاقان. قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعةً فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم - وهو مثقلٌ جراحةً - فوقف الناس، فعطف على الترك، فأرسل أهل السُّغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقيّة، ومضى حميد ورمى بنشّابه في ركبته، فمات.
وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم العامري حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعًا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد فأتوه بإناء، فأخذ جابر - أو حارثة - بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حرّ دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهد على خراسان من أسد بن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلمًا، فقال: سمعًا وطاعة، قال: وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
قال: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب:
نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ** بين المجاذيف والسُّكان مشغول
ما يعرف الناس منه غير قطنته ** وما سواها من الآباء مجهول
وكان لعبد الرحمن بن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فما عزل مسلم بن سعيد، قال الخرزج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك؛ فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحرّ بن الحنيف بن نصر بن يزيد بن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بن يسار في ثلاثين فارسًا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم؛ فانهزم الترك.
قال: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بن الحرّ. قال: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولّاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحثّ صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر. قال: وما عمال العذر؟ قال مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلً فولّه، فإن كان خيرًا لك، وإن كان شرًا كان لهم دونك؛ وكنت معذورًا.
قال: كان مسلم بن سعيد كتب إلى عامله بالبصرة: احمل إلى توبة بن أبي أسيد، مولى بني العنبير فكتب ابن هبيرة إلى عامله في البصرة: احمل إلى توبة بن أسيد، فحمله فقدم - وكان رجلًا جميلًا جهيرًا له سمتٌ - فلما دخل على ابن هبيرة، قال ابن هبيرة: مثل هذا فليولّ، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك؛ فلم يزل معه حتى قدم أسد بن عبد الله، فأراد توبه أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم. فأقام معه، فأحسن الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له أسد: حلفّهم بالطلاق فلا يختلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلًا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق.
قال: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الأيمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلّف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة. قال: فهم يعرفون ذلك، يقولون: أيمان توبة.
حج هشام بن عبد الملك
وحجّ بالناس في هذه السنه هشام بن عبد الملك؛ حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيرة، لا خلاف بينهم في ذلك. قال الواقدي: حدثني ابن أبي الزنّاد، عن أبيه، قال: كتب إلي هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزنّاد. قال أبو الزنّاد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدّمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدًا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة؛ قال: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجًا. ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزنّاد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرًا كلما رآني.
وفي هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك - وهشام واقف قد صلى في الحجر - فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظمًا لحقه، إلا رددت على ظلامتي! قال: أي ظلامة؟ قال: داري، قال: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن الوليد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله قال: فعن سليمان؟ قال: فعن عمر بن عبد العزيز؟ قال يرحمه الله، ردّها والله علي، قال: فعن يزيد بن عبد الملك؟ قال ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي له، وهي في يديك. قال هشام: أما والله لو كان فيك ضربٌ لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط.
فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما أجود هذا اللسان! قال: هذه قريش وألسنتها، ولايزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
وفي هذه السنة قدم خالد بن عبد الله القسري أميرًا على العراق.
ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان
وفيها استعمل خالد أخاه أسد بن عبد الله أميرًا على خراسان، فقدمها ومسلم بن سعيد غازٍ بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك؛ لأني نهيت عن ذلك، قال: لاطفوه وأطمعوه فأبى؛ قال فإني الأمير، ففعل، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السُّغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدًا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفائل الناس، فقالوا أسد على حجر! ما عند هذا خير. فقال له هانئ: أقدمت أميرًا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟ قال: نعم ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهمًا - ويقال: قال ثلاثة عشر درهمًا - وها هي ذي في كمي؟ وإنه لبيكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة - وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالى وأهل الكوفة - فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياة بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب. ثم أتى به مسلمًا وبعهده، فقال مسلم: سمعًا وطاعة، فقام عمر بن هلال السدوسي - ويقال التميمي - فقنّعه سوطين لما كان منه بالروقان إلى بكر بن وائل، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفز، فغضب عبد الرحمن بن نعيم، فزجوهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم.
فذكر علي بن محمد على أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئًا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبي العمرّطة الكندي من ولد آكل المرار. قال: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بن القعقاع قاضي خراسان؛ فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك - وكانوا سبعة آلاف - فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينّكم منهم، ولأقرننّ نواصي خيلكم بنواصي خيلهم.
قال ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعًا وخرج إلى العدّو متباطئًا. فبلغه خطبهم، فقال: تقولون وتعيبون! اللهمَّ اقطع آثارهم وعجّل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم.
وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضلّ، وأرتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قال:
إن لم أكن فيكم خطبيًا فإنني ** بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطبيًا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره:
أبا العلاء للقد لاقيت معضلةً ** يوم العروبة من كرب وتخنيق
تلوى اللسان إذا رمت الكلام به ** كما هوى زلق من شاهق النِّيق
لما رمتك عيون الناس ضاحيةً ** أنشأت تجرض لما قمت بالرِّيق
أمَّا القران فلا تهدى لمحكمةٍ ** من القران ولا تهدى لتوفيق
وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بن علي في رجب.
وكان العمل على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي. وعلى العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسري، وعامل خالد على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بن المنذربن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أسد بن عبد الله.
ثم دخلت سنة سبع ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من عباد الرُّعيني باليمن محكِّمًا، فقتله يوسف ابن عمر، وقتل معه أصحابه كلهم وكانوا ثلثمائة.
وفيها غزا الصائفة معاوية بن هشام، وعلى جيش الشام ميمون بن مهران، فقطع البحر حتى عبر إلى قبرس، وخرج معهم البعث الذي هشام كان أمر به في حجته سنة سبع على الجعائل، غزا منهم نصفهم وقام النصف. وغزا البر مسلمة بن عبد الملك.
وفيها وقع بالشأم طاعون شديد.
وفيها وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن خنيس وعمار العبادي في عدة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بن خنيس وعامت أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم، وصلبهم. فأقبل عمار إلى بكير بن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب به إلى محمد بن علي، فأجابه: الحمد لله الذي صدق مقالتكم ودعوتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل.
وفي هذه السنة حمل مسلم بن سعيد إلى خالد بن عبد الله، وكان أسد ابن عبد الله له مكرمًا بخراسان لم يعرض له ولم يحبسه، فقدم مسلم وابن هبيرة مجمع على الهرب، فنهاه عن ذلك مسلم، وقال له: إن القوم فينا أحسن رأيًا منكم فيهم.
وفي هذه السنة غزا أسد جبال نمرون ملك الغرشستان ممايلي جبال الطالقان، فصالحه نمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولون اليمن.
غزوة الغور
وفيها غزا أسد الغور وهي جبال هراة.
ذكر الخبر عن غزوة أسد هذه الغزوة
ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن أسدًا غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتّخاذ توابيت ووضع فيها الرجال، ودلّاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه، فقال ثابت قطنة:
أرى أسدًا تضمن مفظعاتٍ ** تهيبها الملوك ذوو الحجاب
سما بالخيل في أكناف مرو ** وتوفزهن بين هلا وهاب
إلى غورين حيث حوى أزبٌّ ** وصكٌّ بالسيوف وبالحراب
هدانا الله بالقتلى تراها ** مصلبةًبأفواه الِّشعاب
ملاحم لم تدع لسراة كلبٍ ** مهترةً ولا لبنى كلاب
فأوردها النِّهاب وآب منها ** بأفضل ما يصاب من النهاب
وكان إذا أناخ بدارقوم ** أراها المخزيات من العذاب
ألم يزر الجبال جبال ملغ ** ترى من دونها قطع السَّحاب
بأرعن لم يدع لهم شريدًا ** وعاقبها الممض من العقاب
وملع من جبال خوط فيها تعمل الحزم الملعيّة.
وفي هذه اللسنة نقل أسد من كان بالبروقان من الجند إلى بلخ، فأقطع كل من كان له بالبروقان مسكنٌ مسكنًا بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنًا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له: إنهم يتعصبون، فخلط بينهم، وكان قسم لعمارة مدينة بلخ الفعله على كل كورة على قدر خراجها، وولِّى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بن برمك، - وكان البروقان منزل الأمراء ويبن البروقان ويبن بلخ فرسخان وبين المدينة والنوبهار قدر غلوتين - فقال أبو البريد في بنيان أسد مدينة بلخ:
شفعت فؤادك فالهوى لك شاعف ** رئم على طفل بحوامل عاطف
ترعى البرير بجانبي متهدِّلٍ ** ريَّن لا يعشو إليه آلف
بمحاضرٍ من منحني عطفت له ** بقرٌ ترجح زانهنَّ روادف
إن المباركة التي أحصنتها ** عصم الذلِّيل بها وقرَّ الخائف
فأراك فيها ما أرى من صالح ** فتحًا وأبواب السماء رواعف
فمضى لك الاسم الذي يرضى به ** عنك البصير بما نويت اللَّاطف
يا خير ملك ساس أمر رعيَّة ** إني على صدق اليمين لحالف
الله آمنها بصنعك بعدما ** كانت قلوب خوفهنّ رواجف
وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وهشام وغيرهما.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين ذكرناهم قبل في سنة ست ومائة.
ثم دخلت سنة ثمان ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ففيها كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك حتى بلغ قيساريّة، مدينة الروم ممايلي الجزيرة، ففتحها الله على يديه.
وفيها أيضًا غزا إبراهيم بن هشام ففتح أيضًا حصنًا من حصون الروم.
وفيها وجّه بكير بن ماهان إلى خراسان عدّة؛ فيهم عمّار العبادي؛ فوشى بهم رجل إلى أسد بن عبد الله، فأخذ عمارًا فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه، فقدموا على بكير بن ماهان فأخبروه الخبر، فكتب بذلك إلى محمد بن علي، فكتب إليه في جواب الكتاب: الحمد لله الذي صدّق دعوتكم ونجّى شيعتكم.
وفيها كان الحريق بدابق؛ فذكر محمد بن عمر أنّ عبد الله بن نافع حدثه عن أبيه، قال: احترق المرعى حتى احترق الدواب والرجال.
غزو الختل
وفيها غزا أسد بن عبد الله الختّل؛ فذكر عن علي بن محمد أن خاقان أتى أسدًا وقد انصرف إلى القواديان، وقطع النهر، ولم يكن بينهم قتال في تلك الغزاة. وذكر عن أبي عبيدة، أنه قال: بل هزموا أسدًا وفضحوه؛ فتغنى عليه الصبيان:
أز ختلان آمذي ** برو تباه آمذي
قال: وكان السبل محاربًا له، فاستجلب خاقان، وكان أسد قد أظهر أنه يشتو بسرخ دره، فأمر أسد الناس فارتحلوا، ووجه راياته، وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال أسد: ما للناس؟ قالوا: هذه علامتهم إذا قفلوا، فقال لعروة المنادي: ناد إن الأمير يريد غورين؛ ومضى وأقبل خاقان حين انصرفوا إلى غورين النهر فقطع النهر، فلم يلتق هو ولا هم، ورجع إلى بلخ، فقال الشاعر في ذلك يمدح أسد بن عبد الله:
ندبت لي من كل خمس ألفين ** من كل لحاف عريض الدفين
قال: ومضى المسلمون إلى الغوريان فقاتلوهم يومًا، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه وركز رمحه، وقد أعلم بعصابة خضراء - وسلم بن أحوز واقف مع نصر بن سيّار - فقال سلم لنصر: قد عرفت رأى أسد، وأنا حامل على هذا العلج؛ فلعلي أن أقتله فيرضى. فقال: شأنك، فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتى غشيه سلم فطعنه، فإذا هو بين يدي فرسه، ففحص برجله، فرجع سلم فوقف، فقال لنصر: أنا حامل حملة أخرى؛ فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدوّ، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحًا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدوّ، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحًا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى خالط العدو، فصرع رجلين ورجع جريحًا، فوقف فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! فقال: لا والله فيما أظنّ. وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم وقلة غنائكما عن المسلمين لعنكما الله! فقالا: آمين إن عدنا لمثل هذا. وتحاجزوا يومئذ، ثم عادوا من الغد فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد فأسروا وسبوا وغنموا، وقال بعضهم رجع أسد في سنة ثمان ومائة مفلولا من الختل، فقال أهل خراسان:
أز ختّلان آمذي برو تباه آمذي ** بيدل فراز آمذي
قال: وكان أصاب الجند في غزاة الختل جوع شديد، فبعث أسد بكبشين مع غلام له، وقال: لا تبعهما بأقل من خمسمائة، فلما مضى الغلام، قال أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل ابن الشخير حين أمسى، فوجد الشاتين في السوق، فاشتراهما بخمسمائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما رجع الغلام إلى أسد أخبره بالقصة، فبعث إليه أسد بألف درهم.
قال: وابن الشخير هو عثمان بن عبد الله بن الشخير، أخو مطرّف بن عبد الله بن الشخير الحرشي.
وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي.
وكان العمال في هذه السنة على الأمصار في اللاة والحروب والقضاء هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة تسع ومائة
ذكر الأحداث التي كانت فيها
فممّا كان فيها من ذلك غزوة عبد الله بن عقبة بن نافع الفهري على جيش في البحر وغزوة معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح حصنًا بها يقال له طيبة، وأصيب معه قوم من أهل أنطاكية.
خبر مقتل عمر بن يزيد الأسيدي
وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي؛ قتله مالك بن المنذر بن الجارود.
ذكر الخبر عن ذلك
وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن خالد بن عبد الله شهد عمر بن يزيد أيام حرب يزيد بن المهلب، فأعجب به يزيد بن عبد الملك، وقال: هذا رجل العراق، فغاظ ذلك خالدًا، فأمر مالك بن المنذر وهو على شرطة البصرة أن يعظّم عمر بن يزيد، ولا يعصى له أمرًا حتى يعرّفه الناس، ثم أقبل يعتلّ عليه حتى يقتله، ففعل ذلك، فذكر يومًا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، فافترى عليه مالك، فقال له عمر بن يزيد: تفتري على مثل عبد الأعلى! فأغلظ له مالك، فضربه بالسياط حتى قتله.
غزو غورين
وفيها غزا أسد بن عبد الله غورين، وقال ثابت قطنة:
أرى أسدًا في الحرب إذ نزلت به ** وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا
تناول أرض السبل، خاقان ردؤه ** فحرق ما استعصى عليه وخربا
أتتك وفود الترك ما بين كابل ** وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا
فما يغمر الأعداء من ليث غابة ** أبي ضاريات حرشوه فعقبا
أزبّ كأنّ الورس فوق ذراعه ** كريه المحيا قد أسن وجربا
ألم يك في الحصن المبارك عصمة ** لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا!
بنى لك عبد الله حسنًا ورثته ** قديمًا إذا عد القديم وأنجبا
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن خراسان وصرف أخاه أسدًا عنها.
ذكر الخبر عن عزل هشام خالدا وأخاه عن خراسان
وكان سبب ذلك أن أسدًا أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، فقال أبو البريد - فيما ذكر علي بن محمد لبعض الأزد: أدخلني علي ابن عمك عبد الرحمن ابن صبح، وأوصه بي، وأخبره عني، فأدخله عليه - وهو عامل لأسد على بلخ - فقال: أصلح الله الأمير! هذا أبو البريد البكري أخونا وناصرنا، وهو شاعر أهل المشرق، وهو الذي يقول:
إن تنقض الأزد حلفًا كان أكده ** في سالف الدهر عباد ومسعود
ومالك وسويد أكداه معًا ** لما تجرد فيها أي تجريد
حتى تنادوا أتاك الله ضاحية ** وفي الجلود من الإيقاع نقصيد
قال: فجذب أبو البريد يده، وقال: لعنك الله من شفيع كذب! أصلحك الله! ولكني الذي أقول:
الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ** ما بيننا نكث ولا تبديل
قال: صدقت، وضحك. وأبو البريد من بني علباء بن شيبان بن ذهل ابن ثعلبة.
قال: وتعصب على نصر بن سيار ونفر معه من مضر، فضربهم بالسياط، وخطب في يوم جمعة فقال في خطبته: قبح الله هذه الوجوه! وجوه أهل الشقاق والنفاق، والغب والفساد. اللهم فرّق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني، وقلّ من يروم ما قبلي أو يترمرم، وأمير المؤمنين خالي، وخالد بن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان.
ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه الناس، وأخذوا مجالسهم، أخرج كتابًا من تحت فراشه، فقرأه على الناس، فيه ذكر نصر بن سيار وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي وسورة بن الحرّ الأباني - أبان بن دارم - والبختري بن أبي درهم من بني الحارث بن عبّاد، فدعاهم فأنّبهم، فأزم القوم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدوّ مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من قرفهم بالباطل. فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا، فضرب عبد الرحمن بن نعيم، فإذا رجل عظيم البطن، أرسح؛ فلما ضرب التوى، وجعل سراويله يزلّ عن موضعه، فقام رجل من أهل بيته، فأخذ رداءًا له فيؤززره. فأومى إليه أن افعل، فدنا منه فأزّره - ويقال بل أزّره أبو نميلة - وقال له: اتزر أبا زهير، فإن الأمير والٍ مؤدب. ويقال: بل ضربهم في نواحي مجلسه.
فلما فرغ قال: أين تيس بني حمان؟ - وهو يريد ضربه؛ وقد كان ضربه قبل - فقال: هذا تيس بني حمان؛ وهو قريب العهد بعقوبة الأمير، وهو عامر بن مالك بن مسلمة بن يزيد بن حجر بن خيسق بن حمسان بن كعب بن سعد. وقيل إنه خلفهم بعد الضرب، ودفعهم إلى عبد ربه بن أبي صالح مولى بني سليم - وكان من الحرس - وعيسى بن أبي يريق، ووجههم إلى خالد، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب عليه؛ فكان ابن أبي بريق كلما نبت شعر أحدههم حلقه، وكان البختري بن أبي درهم، يقول: لوددت أنه ضربني وهذا شهرًا - يعني نصر بن سيار لما كان بينهما بالبروقان - فأرسل بنو تميم إلى نصر: إن شئتم انتزعناكم من أيديهم، فكفهم نصر، فلما قدم بهم على خالد لام أسدًا وعنفه، وقال: ألا بعثت برءوسهم! فقال عرفجة التميمي:
فكيف وأنصار الخليفة كلهم ** عناة وأعداء الخليفة تطلق!
بكيت ولم أملك دموعي وحق لي ** ونصر شهاب الحرب في الغل موثق
وقال نصر:
بعثت بالعتاب في غير ذنب ** في كتاب تلوم أم تميم
إن أكن موثقًا أسيرًا لديهم ** في هموم وكربة وسهوم
رهن قسر فما وجدت بلاء ** كإسار الكرام عند اللئيم
أبلغ المدعين قسرًا وقسر ** أهل عود القناة ذات الوصوم
هل فطمتم عن الخيانة والغد ** ر أم أنتم كالحاكر المستديم؟
وقال الفرزدق:
أخالد لولا الله لم تعط طاعة ** ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا
إذًا للقيتم دون شد وثاقه ** بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا
وخطب أسد بن عبد الله على منبر بلخ، فقال في خطبته: يا أهل بلخ، لقيتموني الزاغ والله لأزيغن قلوبكم.
فلما تعصب أسد وأفسد الناس بالعصبية، كتب هشام إلى خالد بن عبد الله: اعزل أخاك، فعزله فاستأذن له في الحجّ، فقفل أسد إلى العراق ومعه دهاقين خراسان، في شهر رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف أسد على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفية، فلم يغز.
ذكر الخبر عن دعاة بني العباس
وذكر علي بن محمد أنّ أوّل من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بن عبد الله الأولى، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وقال له: ادع الناس إلينا وانزل في اليمن، والطف بمضر. ونهاه عن رجل من أبرشهر، يقال له غالب؛ لأنه كان مفرطًا في حب بني فاطمة.
ويقال: أوّل من جاء أهل خراسان بكتاب محمد بن علي حرب بن عثمان، مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ.
قال: فلما قدم زياد أبو محمد، ودعا إلى بني العباس، ذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، فقدم عليه غالب من أبرشهر؛ فكانت بينهم منازعة؛ غالب يفضّل آل أبي طالب وزياد يفضّل بني العباس. ففارقه غالب، وأقام زياد بمرو شتوة، وكان يختلف إليه من أهل مرو يحيى بن عقيل الخزاعي وإبراهيم بن الخطاب العدوي.
قال: وكان ينزل برزن سويد الكاتب في دور آل الرقاد، وكان على خراج مرو الحسن بن شيخ، فبلغه أمره، فأخبر به أسد بن عبد الله، فدعا به - وكان معه رجل يكنى أبا موسى - فلما نظر إليه أسد، قال له: أعرّفك؟ قال: نعم، قال له أسد: رأيتك في حانوت بدمشق، قال: نعم، قال لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة، وقد فرّقت مالي على الناس، فإذا صار إلي خرجت. قال له أسد: اخرج عن بلادي، فانصرف، فعاد إلى أمره، فعاود الحسن أسدًا، وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه، قال: ألم أنهك عن المقام بخراسان! قال: ليس عليك أيها الأمير مني بأس، فأحفظه وأمر بقتلهم، فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاض. فازداد غضبًا، وقال له: أنزلتني منزلة فرعون! فقال له: ما أنزلتك ولكن الله أنزلك. فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل بيت الكوفة، فلم ينجُ منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما، وأمر بالباقين فقتلوا بكشانشاه.
وقال قوم: أمر أسد بزياد أن يحط وسطه، فمد بين اثنين، فضرب فنبا السيف عنه، فكبّر أهل السوق، فقال أسد: ما هذا؟ فقيل له، لم يحك السيف فيه، فأعطى أبا يعقوب سيفًا، فخرج في سراويل، والناس قد اجتمعوا عليه، فضربه، فنبا السيف، فضربه ضربة أخرى، فقطعه باثنتين.
وقال آخرون: عرض عليهم البراءة، فمن تبرّأ منهم مما رفع عليه خلى سبيله، فأبى البراءة ثمانية منهم، وتبرأ اثنان.
فلما كان الغد أقبل أحدههما وأسد في مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة، فقال: أليس هذا أسيرنا بالأمس! فأتاه، فقال له: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فأشرفوا به على السوق، وهو يقول: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًا؛ فدعا أسد بسيف بخاراخداه، فضرب عنقه بيده قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرًا، فنزل على أبي النجم، فكان يأتيه الذين لقوا زيادًا فيحدثهم ويدعوهم، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أميًا، فقدم عليه خدّاش، وهو في قرية تدعى مرعم، فغلب كثيرًا على أمره. ويقال: كان اسمه عمار فسمّى خدّاشًا، لأنه خَدش الدين.
وكان أسد استعمل عيسى بن شداد البرجمي إمرته الأولى في وجه وجّهه على ثابت قطنة، فغضب، فهجا أسدًا، فقال:
أرى كل قوم يعرفون أباهم ** وأبو بجيلة بينهم يتذبذب
إني وجدت أبي أباك فلا تكن ** إلبًا علي مع العدوّ تجلب
أرمي بسهمي من رماك بسهمه ** وعدو من عاديت غير مكذب
أسد بن عبد الله جلل عفوه ** أهل الذنوب فكيف من لم يذنب!
أجعلتني للبرجمي حقيبة ** والبرجمي هو اللئيم المحقب
عبد إذا استبق الكرام رأيته ** يأتي سكينًا حاملًا في الموكب
إني أعوذ بقبر كرز أن أرى ** تبعًا لعبد من تميم محقب
ولاية أشرس بن عبد الله على خراسان
وفي هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك على خراسان أشرس ابن عبد الله السلمي، فذكر علي بن محمد، عن أبي الذيّال العدوي ومحمد بن حمزة، عن طرخان ومحمد بن الصلت الثقفي أن هشام بن عبد الملك عزل أسد بن عبد الله عن خراسان، واستعمل اشرس بن عبد الله السلمي عليها، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسري - وكان أشرس فاضلًا خيّرًا، وكانوا يسمونه الكامل لفضله عندهم - فسار إلى خراسان، فلما قدمها فرحوا بقدومه، فاستعمل على شرطته عميرة أبا أمية اليشكري ثم عزله وولّى السمط، واستقضى على مرو أبا المبارك الكندي، فلم يكن له علم بالقضاء، فاستشار مقاتل بن حيان، فأشار عليه مقاتل بمحمد بن زيد فاستقضاه، فلم يزل قاضيًا حتى عزل أشرس.
وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان واستعمل على الرابطة عبد الملك بن دثار الباهلي، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه.
قال: وكان أشرس لما قدم خراسان كبّر الناس فرحًا به، فقال رجل:
لقد سمع الرحمن تكبير أمة ** غداة أتاها من سليم إمامها
إمام هدى وقوى لهم أمرهم به ** وكانت عجافًا ما تمخ عظامها
وركب حين قدم حمارًا، فقال له حيان النبيطّ: أيها الأمير، إن كنت تريد أن تكون والي خراسان فاركب الخيل، وشدّ حزام فرسك، وألزم السوط خاصرته حتى تقدم النار، وإلّا فارجع. قال: أرجع إذن، ولا أقتحم النار يا حيّان. ثم أقام وركب الخيل.
قال علي: وقال يحيى بن حضين: رأيت في المنام قبل قدوم أشرس قائلًا يقول: أتاكم الوعر الصدر، العضيف الناهضة، المشئوم الطائر، فانتبهت فزعًا ورأيت في الليلة الثانية: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، الخائن قومه؛ غر، ثم قال:
لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم ** فهل من تلاف قبل دوس القبائل!
فإن صرفت عنهم به فلعله ** وإلا يكونوا من أحاديث قائل
وكان أشرس يلقب جغرًا بخراسان.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وقال الواقدي: خطب الناس إبراهيم بن هشام بمنىً في هذه السنة الغد من يوم النحر بعد الظهر. فقال سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحدًا أعلم مني. فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية؛ أواجبة هي أم لا؟ فما درى أي شيء يقول له! فنزل.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بن هسام، وعلى البصرة والكوفة خالد بن عبد الله، وعلى الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة اليزني، وعلى شرطتها بلال بن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله الأنصاري؛ من قبل خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله.
ثم دخلت سنة عشر ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك الترك؛ سار إليهم نحو باب اللان حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريبًا من شهر، وأصابهم مطر شديد، فهزم الله خاقان، فانصرف، فرجع مسلمة فسلك على مسجد ذي القرنين.
وفيها غزا - فيما ذكر - معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح صماله وفيها غزا الصائفة عبدالله بن عقبة الفهري. وكان على جيش البحر - فيما ذكر الواقدي - عبد الرحمن بن معاوية بن حديج. وفي هذه السنة دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام، على أن موضع عنهم الجزية، فأجابوا إلى ذلك، فلما أسلموا وضع عليهم الجزية، وطالبهم بها، فنصبوا له الحرب.
ذكر الخبر عما كان من أمر أشرس وأمر أهل سمرقند ومن وليهم في ذلك
ذكر أن الأشرس قال في عمله بخرسان: ابغوني رجلًا له ورع وفضل أوجهّه إلى من وراء النهر، فيدعوهم إلى الإسلام. فأشاروا عليه بأبي الصيداء صالح بن طريف، مولى بني ضبّة، فقال: لست بالماهر بالفارسية، فضموا معه الربيع بن عمران التميمي، فقال أبو الصيداء: أخرج على شريطة أن من أسلم لم يؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال، فقال أشرس: نعم قال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم.
فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بن أبي العمرّطة الكندي على حربها وخراجها، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس: إن الخراج قد انكسر؛ فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين؛ وقد بلغني أن أهل السُّغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام بعوّذًا من الجزية؛ فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه. ثم عزل أشرس ابن أبي العمرّطة عن الخراج، وصيره إلى هانئ بن هانئ، وضم إليه الأشحيذ، فقال ابن أبي العمرطة لأبي الصيداء: لست من الخراج الآن في شيء، فدونك هانئًا ولأشحيذ؛ فقام أبوا الصيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ: إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فجاء دهاقين بخارى إلى أشرس فقالوا: ممن تأخذ الخراج، وقد صار الناس كلهم عربًا؟ فكتب أشرس إلى هانئ وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا؛ واعتزل من أهل السُّغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والقاسم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وبشر بن جرموز الضِّبي وخالد بن عبد الله النحوي وبشر بن زنبور الأزدي وعامر بن قشير - أو بشير الخجندي وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة، لينصروهم.
قال: فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشرّ بن مزاحم السلمي، وضم إليه عميرة بن سعد الشيباني.
قال: فلما قدم المجشَّر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غدرتم ورجعتم عما قلتم! فقال له هانئ: ليس بغدر ما كان فبه حقن الدماء. وحمل أبا الصيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده؛ فلما أبو الصيداء اجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة، ليقتاوا هانئًا، فقال لهم: كفوا حتى أكتب إلى أشرس فيأتينا رأيه فنعمل بأمره. فكتبوا إلى أشرس، فكتب أشرس: ضعوا عليهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء، فضعف أمرهم، فتتبِّع الرؤساء منهم فأخذوا، وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوسًا، وأشرك أشرس مع هانئ بن هانئ سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة في الخراج، فألحّ هانئ والعمال في جباية الخراج، واستخفّوا بعظماء العجم، وسلّط المجشر عميررة بن سعد على الدهاقين، فأقيموا وخرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من الضعفاء، فكفرت السُّغد وبخارى، واستجاشوا الترك، فلم يزل ثابت قطنة فيحبس المجشر، حتى قدم نصر بن سيّار واليًا على المجسر، فحمل ثابتًا إلى أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثي فحبسه. وكان نصر بن سيّار ألطفه، وأحسن إليه، فمدحه ثابت قطنة، وهو محبوس عند أشرس فقال:
ما هاج شوقك من نؤي وأحجار ** ومن رسوم عفاها صوب أمطار!
لم يبق منها ألام عرصتها ** ألا شجيج وإلا موقد النار
ومائل في ديار الحي بعدهم ** مثل الربيئة في أهدامه العارى
ديار ليلى قفار لا أنيس بها ** دون الحجون وأين الحجن من دارى!
بدلت منها وقد شطّ المزار بها ** وادى المخافة لا يسرى بها السارى
بين السماوة في حزم مشرقة ** ومعنق دوننا آذيه جار
نقارع الترك ما تنفك نائحةٌ ** منا ومنهم على ذي نجدة شار
إن كان ظني بنصر صادقًا أبدًا ** فيما أدبّر من نقضي وإمراري
يصرف الجند حتى يستفئ بهم ** نبهًا عظيمًا ويحوي ملك جبّار
وتعثر الخيل في الأقياد آونةً ** تحوي النهاب إلى طلّاب أوتار
حتى يروها دوين السرح بارقة ** فيها لواء كظل الأجدل الضاري
لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة ** من الخضارم سبّاق بأوتار
إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ** منه الفروع وزندي الثاقب الوارى
لذاكر منك أمرًا قد سبقت به ** من كان قبلك يا نصر بن سيّار
ناضلت عني نضال الحرِّ إذ قصرت ** دوني العشيرة واستبطأت أنصاري
وصار كل صديق كنت آمله ** ألبًا على ورثَّ الحبل من جاري
وما تلَّبست بالأمر الذي وقعوا ** به علىّ ولا دنست أطماري
ولاعصيت إمامًا كان طاعته ** حقًّا عليَّ ولا قارفت من عار
قال علي: وخرج أشرس غازيًا فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر، وقّدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل السُّغد وأهل بخارى؛ معهم خاقان والترك، فحصروا قطن بن قتيبة في خندقه، وجعل خاقان ينتخب كل يوم فارسًا، فيعبر في قطعة من الترك النهر. وقال قوم: أقحموا دوابّهم عريًا، فعبروا وأغاروا على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمر فوجّهه مع عبد الله بن بسطام في الخيل فاتبعوا الترك، فقاتلوهم بآمل حتى استنفذوا ما بأيديهم؛ ثم قطع الترك النهر إليهم راجعين، ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن بن قتيبة، ووجّه أشرس رجلًا يقال له مسعود - أحد بني حيّان - في سريّة، فلقيهم العدو، فقاتلوهم، فأصيب رجال من المسلمين وهزم مسعود؛ حتى رجع إلى أشرس، فقال بعض شعرائهم:
خابت سريّة مسعود وما غنمت ** إلا أفانين من شدٍّ وتقريب
حلُّوا بأرض قفار لا أنيس بها ** وهن بالسًّفح أمثال اليعاسيب
وأقبل العدو، فلما كانوا بالقرب لقيهم المسلمون فقاتلوهم، فجالوا جولة، فقتل في تلك الجولة رجال من المسلمين، ثم كرّ المسلمون وصبروا لهم، فانهزم المشركون. ومضى أشرس بالناس؛ حتى نزل بيكند، فقطع العدوّ عنهم الماء، فأقام أشرس والمسلمون في عسكرهم يومهم ذلك وليلتهم، فأصبحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا، وعطشوا فارتحلوا إلى المدينة التي قطعواعنهم المياه منها، وعلى مقدمة المسلمين قطن بن قتيبة، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال، ولم يبق في صف الرباب إلا سبعة فكاد ضرار بن حصين يؤسر من الجهد الذي كان به، فحضّ الحارث بن سريج الناس فقال: أيها الناس، القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجرًا عند الله من الموت عطشًا. فتقدّم الحارث بن سريج وقطن بن قتيبة وإسحاق بن محمد، ابن أخي وكيع، في فوارس من بني تميم وقيس، فقالوا حتى أزالوا الترك عن الماء، فابتدره الناس فشربوا وارتووا.
قال: فمر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي، فقال له: يا عبد الملك، هل لك في أثار الجهاد؟ فقال: أنظرني ريثما أغتسل وأتحنّط، فوقف له حتى خرج ومضيا، فقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم، وحضّهم، فحملوا على العدوّ، واشتدّ القتال، فقتل ثابت في عدّة من المسلمين؛ منهم صخر بن مسلم بن النعمان العبدي وعبد الملك بن دثار الباهلي والوجيه الخراساني والعقار بن عقبة العودي. فضم قطن بن قتيبه وإسحاق بن محمد بن حسان خيلًا من بني تميم وقيس؛ تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدوّ، فقاتلوهم فكشفوهم؛ وركبهم المسلمون يقاتلونهم؛ حتى حجزهم الليل، وتفرق العدوّ. فأتى أشرس بخارى فحصر أهلها.
قال علي بن محمد، عن عبد الله بن المبارك: حدثني هشام بن عمارة ابن القعقاع الضبي عن فضيل بن غزوان، قال: حدثني وجيه البناني ونحن نطوف بالبيت، قال: لقينا الترك، فقتلوا منّا قومًا، وصرعت وأنا أنظر إليهم، يجلسون فيستقون حتى انتهوا إلىّ، فقال رجل منهم: دعوه فإن له أثرًا هو واطئه، وأجلًا هو بالغه؛ فهذا أثر قد وطئته، وأنا أرجو الشهادة. فرجع إلى خرسان؛ فاستشهد مع ثابت.
قال: فقال الوزاع بن مائق: مرّ بي الوجيه في بلغين يوم أشرس، فقلت: كيف أصبحت يا أبا أسماء؟ قال: أصبحت بين حائر وحائز؛ اللهم لف بين الصفين؛ فخالطا القوم وهو منتكب قوسه وسيفه، مشتمل في طيلسان واستشهد واستشهد الهيثم بن المنخل العبدي.
قال علي عن عبد الله بن المبارك، قال: لما التقى أشرس والترك، قال ثابت قطنة: اللهم إنّي كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة؛ والله لا ينظر إلى بنو أمية مشدودًا في الحديد؛ فحمل وحمل أصحابه؛ فكذب أصحابه ثبت؛ فرمى برذونه فشبّ، وضربه فأقدم، وضرب فارتثّ؛ فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحتُ ضيفًا لابن بسطام؛ وأمسيت ضيفك؛ فاجعل قراي من ثوابك الجنة.
قال علي: ويقال إن أشرس قطع النهر، ونزل بيكند؛ فلم يجد بها ماء؛ فلما أصبحوا ارتحلوا، فلما دنوا من قصر بخاراخداه - وكان منزله منهم على ميل - تلقّاهم ألف فارس، فأحاطوا بالعسكر وسطع رهج الغبار، فلم يكن الرجل يقدر أن ينظر إلى صاحبه. قال فانقطع منهم ستة آلاف، فيهم قطن بن قتيبة وغوزك من الدهاقين، فانتهوا إلى قصر من قصور بخارى، وهم يرون أن أشرس قد هلك، وأشرس في قصور بخارى؛ فلم يلتقواإلا بعد يومين، ولحق غزوك في تلك الواقعة بالترك، وكان قد دخل القصر مع قطن، فأرسل إليه قطن رجلًا، فصاحوا برسول قطن؛ ولحق بالترك.
قال: ويقال إن غوزك وقع يومئذ وسط خيل، فلم يجد بدًا من اللحاق بهم. ويقال إن أشرس أرسل إلى غوزك يطلب منه طاسًا، فقال لرسول أشرس: إنه لم يبق معي شيء أتدهن به غير الطاس، فاصفح عنه. فأرسل إليه: اشرب في قرعة، وابعث إلى بالطاس، ففارقه.
قال: وكان على سمرقند نصر بن سيار، وعلى خراجها عميرة بن سعيد الشيباني، وهم محصورون وكان عميرة ممن قدم مع أشرس وأقبل قريش لبن أبي كهمس على فرس، فقال لقطن: قد نزل الأمير والناس؛ فام يفقد أحد من الجند غيرك، فمضى قطن والناس إلى العسكر؛ وكان بينهم ميل.
ذكر وقعة كمرجة
قال: ويقال إن أشرس نزل قريبًا من مدينة بخارى على قدر فرسخ؛ وذلك المنزل يقال له المسجد؛ ثم تحول منه إلى مرج يقال له بوادرة، فأتاهم سبابة - أو شبابة - مولى قيس بن عبد الله الباهلي، وهم نزول بكمرجة - وكانت كمرجة من أشرف مدن خراسان وأعظمها أيام أشرس في ولايته - فقال لهم: إن خاقان مار بكم غدًا، فأرى لكم أن تظهروا عدتكم، فيرى جدًا واحتشادًا، فينقطع طعمه منكم. فقال له رجل منهم: استوثقوا من هذا فإنه جاء ليفتّ في أعضادكم، قالوا: لا نفعل، هذا مولانا وقد عرفناه بالنصيحة، فلم يقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به المولى، وصبّحهم خاقان، فلما حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى كأنه يريدها، فتحدر بجنوده من وراء تل بينهم وبينه، فنزلوا وتأهبوا وهم لا يشعرون بهم، فلما كان ذلك ما فاجأهم أن طلعوا على التلّ، فإذا جبل حديد: أهل فرغانة والطار بند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى. قال فأسقط في أيدي القوم، فقال لهم كليب بن قنان الذهلي: هم يريدون مزاحفتكم فسربوا دوابكم المجففة في طريق النهر، كأنكم تريدون أن تسقوها، فإذا جردتموها فخذوا طريق الباب، وتسربوا الأول فالأول؛ فلما رآهم الترك يتسربون شدٌّوا عليهم في مضايق؛ وكانوا هم أعلم بالطريق من الترك، وسبقوهم إلى الباب فلحقوهم عنده، فقتلوا رجلًا كان يقال له المهلب، كان حاميتهم، وهو رجل من العرب، فقاتلوهم فغلبوهم عل الباب الخارج من الخندق فدخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجلٌ من العرب بحزمة قصب قد أشعلها فرمى بها وجوههم قال: فتنحوا، وأخلوا عن قتلى وجرحى، فلما أمسوا انصرف الترك وأحرق العرب القنطرة، فأتاهم خسرو بن يزد جرد في ثلاثين رجلًا، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد على مملكتي، وأنا آخذ لكم الأمان! فشتموه، فانصرف.
قال: وجاءهم بازغرى في مائتين - وكان داهية - من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: آمنونا حتى ندنو منكم، وأشرفوا عليه ومعه أسراء من العرب، فقال بازغرى: يا معشر العرب، أحدروا إلي رجلًا منكم أكلمه برسالة خاقان، فأحدروا حبيبًا مولى مهرة من أهل درقين، فكلموه فلم يفهم فقال: أحدروا إلي رجلًا يعقل عني، فأحدروا يزيد بن سعيد الباهلي، وكان يشدو شدوًا من التركية، فقال: هذه خيل الرابطة ووجوه العرب معه أسراء. وقال: إن خاقان أرسلني إليكم؛ وهو يقول لكم: إني أجعل من كان عطاؤه منكم ستمائة ألفًا، ومَن كان عطاؤه ثلثمائة ستمائة؛ وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم، فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم؛ كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينكم صلح. فغضب بازغرى، فقال التركيان اللذان معه: ألا نضرب عنقه؟ قال: لا، نزل إلينا بأمان. وفهم ما قالا له يزيد، فخاف فقال: بلى يا بازغرى إلّا أن تجعلونا نصفين، فيكون نصف في أثقالنا ويسير النصف معه؛ فإن ظفر خاقان فنحن معه؛ وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن أهل السغد، فرضي بازغري والتركيان بما قال، فقال له: أعرض على القوم ما تراضينا به، وأقبل فأخذ بطرف الحبل فجذبوه حتى صار على سور المدينة، فنادى: يا أهل كمرجة، اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى، قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين، قالوا: نموت جميعًا قبل ذلك. قال: فأعلموهم.
قال: فأشرفوا عليهم، وقالوا: يا بازغري، أتبيع الأسرى في أيديكم فنفادي بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فلا نجيبكم إليه، قال لهم: أفلا تشترون أنفسكم منا؟ فما أنتم عندنا إلّا بمنزلة مَن في أيدينا منكم - وكان في أيديهم الحجاج بن حميد النضري - فقالوا له: يا حجاج، ألا تكلَّم؟ قال: علي رقباء، وأمر خاقان بقطع الشجر، فجعلوا يلقون الحطب الرطب، ويلقى أهل كمرجة الحطب اليابس، حتى سوّى الخندق، ليقطعوا إليهم، فأشعلوا فيه النيران، فهاجت ريح شديدة - صنعًا من الله عز وجل - قال: فاشتعلت النار في الحطب، فاحترق ما عملوا في ستة أيام في ساعة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم وشغلناهم بالجراحات. قال: وأصابت بازغرى نشابة في سرّته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه آذانهم، وأصبحوا بشرّ، منكّسين رءوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم. فلما امتدّ النهار جاءوا بالأسرى وهم مائة؛ فيهم أبو العوجاء العتكي وأصحابه، فقتلوهم، ورموا إليهم برأس الحجاج ابن حميد النضري. وكان مع المسلمين مائتان من أولاد المشركين كانوا رهائن في أيديهم، فقتلوهم واستماتوا، واشتدّ القتال، وقاموا على باب الخندق فسار على السور خمسة أعلام، فقال كليب: من لي بهؤلاء؟ فقال ظهير بن مقاتل الطفاوي: أنا لك بهم؛ فذهب يسعى. وقال لفتيان: امشوا خلفي، وهو جريح، قال: فقتل يومئذ من الأعلام اثنان، ونجا ثلاثة. قال: فقال ملك من الملوك لمحمد بن وساج: العجب أنه لم يبق ملك فيما وراء النهر إلّا قاتل بكمرجة غيري، وعزّ علي ألا أقاتل مع أكفائي ولم ير مكاني. فلم يزل أهل كمرجة بذلك؛ حتى أقبلت جنود العرب، فنزلت فرغانة. فعير خاقان أهل السغد وفرغانة والشاش والدهاقين، وقال لهم: زعمتم أن في هذه خمسين حمارًا، وأنّا نفتحها في خمسة أيام؛ فصارت الخمسة الأيام شهرين. وشتمهم وأمرهم بالرحلة، فقالوا: ما ندع جهدًا، ولكن أحضرنا غدًا فانظر؛ فلما كان من الغد جاء خاقان فوقف، فقام إليه ملك الطاربند؛ فاستأذنه في القتال والدّحول عليهم، قال: لا أرى أن تقاتل في هذا الموضع - وكان خاقان يعظّمه - فقال: اجعل لي جاريتين من جواري العرب، وأنا أخرج عليهم؛ فأذن له، فقاتل فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة وإلى جنب الثلمة بيت فيه خرق يفضي إلى الثلمة، وفي البيت رجل من بني تميم مريض، فرماه بكلوب فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان، فجذبوه فسقط لوجهه وركبته؛ ورماه رجل يحجر؛ فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه رجل فقتله. وجاء شاب أمرد من الترك، فقتله وأخذ سلبه وسيفه، فغلبناهم على جسده - قال: ويقال: إنّ الذي انتدب لهذا فارس أهل الشاش - فكانوا قد اتخذوا صناعًا، وألصقوها بحائط الخندق، فنصبوا قبالة ما اتخذوا أبوابًا له؛ فأقعدوا الرماة وراءها؛ وفيهم غالب بن المهاجر الطائي عمّ أبي العباس الطوسي ورجلان، أحدهما شيباني والآخر ناجي، فجاء فاطلع في الخندق، فرماه الناجي فلم يخطىء قصبة أنفه، وعليه كاشخودة تبتية، فلم تضرّه الرمية، ورماه الشيباني وليس يرى منه غير عينيه؛ فرماه غالب ابن المهاجر، فدخلت النشابة في صدره، فنكس فلم يدخل خاقان شيء أشد منه.
قال: فيقال: إنه إنما قتل الحجاج وأصحابه يومئذ لما دخله من الجزع، وأرسل إلى المسلمين أنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة ننزلها دون افتتاحها، أو ترحلهم عنها. فقال له كليب بن قنان: وليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم؛ فرأى الترك أن مقامهم عليهم ضرر، فأعطوهم الأمان على أن يرحل هو وهم عنهم بأهاليهم وأموالهم إلى سمرقند أو الدبوسية، فقال لهم: اختاروا لأنفسكم في خروجكم من هذه المدينة.
قال: ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدّة، فقالوا: نشاور أهل سمرقند، فبعثوا غالب بن المهاجر الطائي، فانحدر في موضع من الوادي، فمضى إلى قصر يسمى فرزاونة، والدّهقان الذي بها صديق له، فقال له: إنّي بعثت إلى سمرقند؛ فاحملني، فقال: ما أجد دابة إلا بعض دواب خاقان، فإن له في روضة خمسين دابة؛ فخرجا جميعًا إلى تلك الروضة، فأخذ برذونًا فركبه، وكان إلفه برذون آخر، فتبعه فأتى سمرقند من ليلته، فأخبرهم بأمرهم، فأشاروا عليه بالدبوسية، وقالوا: هي أقرب، فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من الترك رهائن ألّا يعرضوا لهم، وسألوهم رجلًا من الترك يتقوّون به مع رجال منهم، فقال لهم الترك: اختاروا من شئتم، فاختاروا كورصول يكون معهم، فكان معهم حتى وصلوا إلى حيث أرادوا. ويقال: إن خاقان لما رأى أنه لا يصل إليهم شتم أصحابه، وأمرهم بالارتحال عنهم؛ وكلمه المختار بن غوزك وملوك السغد وقالوا: لا تفعل أيها الملك؛ ولكن أعطهم أمانًا يخرجون عنها، ويرون أنك إنما فعلت ذلك بهم من أجل غوزك أنه مع العرب في طاعتها، وأن ابنه المختار طلب إليك في ذلك مخافة على أبيه؛ فأجابهم إلى ذلك، فسرّح إليهم كورصول يكون معهم، يمنعهم ممن أرادهم.
قال: فصار الرهن من الترك في أيديهم، وارتحل خاقان، وأظهر أنه يريد سمرقند - وكان الرهن الذي في أيديهم من ملوكهم - فلما ارتحل خاقان - قال كورصول للعرب: ارتحلوا، قالوا: نكره أن نرتحل والترك لم يمضوا، ولا نأمنهم أن يعرضوا لبعض النساء فتحمى العرب فنصير إلى مثل ما كنا فيه من الحرب.
قال: فكفّ عنهم؛ حتى مضى خاقان والترك، فلما صلوا الظهر أمرهم كورصول بالرحلة، وقال: إنما الشدة والموت والخوف حتى تسيروا فرسخين، ثم تصيروا إلى قرى متصلة؛ فارتحلوا وفي يد الترك من الرهن من العرب نفر، منهم شعيب البكري أو النصري، وسباع بن النعمان وسعيد بن عطية، وفي أيدي العرب من الترك خمسة، قد أردفوا خلف كل رجل من الترك رجلًا من العرب معه خنجر، وليس على التركي غير قباء، فساروا بهم.
ثم قال العجم لكورصول: إنّ الدبوسية فيها عشرة آلاف مقاتل؛ فلا نأمن أن يخرجوا علينا، فقال لهم العرب: إن قاتلوكم قاتلناهم معكم. فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوّسية قدر فرسخ أو أقلّ نظر أهلها إلى فرسان وبياذقة وجمع. فظنوا أن كمرجة قد فتحت. وأن خاقان قصد لهم. قال: وقرينا منهم وقد تأهبوا للحرب؛ فوجه كليب بن قنان رجلًا من بني ناجية يقال له الضحاك على برذون يركض، وعلى الدبوسية عقيل بن ورّاد السغذي، فأتاهم الضحاك وهم صفوف؛ فرسان ورجّالة، فأخبرهم الخبر، فأقبل أهل الدبوسية يركضون، فحمل من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحًا.
ثم إن كليبًا أرسل إلى محمد بن كرّاز ومحمد بن درهم ليعلما سباع ابن النعمان وسعيد بن عطية أنهم قد بلغوا مأمنهم، ثم خلّوا عن الرهن؛ فجعلت العرب ترسل رجلًا من الرهن الذين في أيديهم من الترك، وترسل الترك رجلًا من الرهن الذين في أيديهم من العرب؛ حتى بقي سباع بن النعمان في أيدي الترك، ورجل من الترك في أيدي العرب، وجعل كلّ فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلّوه وبقي سباع في أيديهم، فقال له كورصول: لمَ فعلت هذا؟ قال: وثقت برأيك في، وقلت: ترفع نفسك عن الغدر في مثل هذا؛ فوصله وسلّحه وحمله على برذون، وردوه إلى أصحابه.
قال: وكان حصار كمرجة ثمانية وخمسين يومًا، فيقال إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يومًا.
قال: وكان خاقان قسم في أصحابه الغنم، فقال: كلوا لحومها واملئوا جلودها ترابًا، واكبسوا خندقكم؛ ففعلوا فكبسوه، فبعث الله عليهم سحابة فمطرت، فاحتمل المطر ما ألقوا، فألقاه في النهر الأعظم.
وكان مع أهل كمرجة قوم من الخوارج، فيهم ابن شنجٍ مولى بني ناجية.
ذكر ردة أهل كردر
وفي هذه السنة ارتدّ أهل كردر، فقاتلهم المسلمون وظفروا بهم؛ وقد كان الترك أعانوا أهل كردر؛ فوجّه أشرس إلى من قرب من كردر من المسلمين ألف رجل ردءًا لهم؛ فصاروا إليهم، وقد هزم المسلمون الترك، فظفروا بأهل كردر. وقال عرفجة الدارمي:
نحن كفينا أهل مرو وغيرهم ** ونحن نفينا الترك عن أهل كردر
فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ** فقد يظلم المرء الكريم فيصبر
وفي هذه السنة جعل خالد بن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة؛ والأحداث والقضاء إلى بلال بن أبي بردة؛ فجمع ذلك كله له، وعزل به ثمامة بن عبد الله بن أنس عن القضاء.
وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك قال أبو معشر والواقدي وغيرهما؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بن هشام، وعلى الكوفة والبصرة والعراق كلها خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فممّا كان فيها من ذلك غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيساريّة.
قال الواقدي: غزا سنة إحدى عشرة ومائة على جيش البحر عبد الله بن أبي مريم، وأمّر هشام على عامّة الناس من أهل الشام ومصر الحكم بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف.
وفيها سارت الترك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو فهزمهم.
وفيها ولّى هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمي على أرمينية.
وفيها عزل هشام أشرس بن عبد الله السلمي عن خراسان، وولاها الجنيد بن عبد الرحمن المرّي.
ذكر السبب الذي من أجله عزل هشام أشرس عن خراسان واستعماله الجنيد
ذكر علي بن محمد، عن أبي الذيال، قال: كان سبب عزل أشرس أنّ شدّاد بن خالد الباهلي شخص إلى هشام فشكاه، فعزله واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان سنة إحدى عشرة ومائة.
قال: وكان سبب استعماله إيّاه أنه أهدى لأمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشامًا، فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان، وحمله على ثمانية من البريد؛ فسأله أكثر من تلك الدوابّ فلم يفعل؛ فقدم خراسان في خمسمائة - وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارى والسغد - فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النهر، فدل على الخطاب بن محرز السلمي خليفة أشرس، فلما قدم آمل أشار عليه الخطاب أن يقيم ويكتب إلى من يزم ومن حوله؛ فيقدموا عليه، فأبى وقطع النهر، وأرسل إلى أشرس أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع قبل أن يصل إليه، فوجّه إليه أشرس عامر بن مالك الحمّاني، فلما كان في بعض الطريق عرض له الترك والسغد ليقطعوه قبل أن يصل إلى الجنيد، فدخل عامر حائطًا حصينًا، فقاتلهم على ثلمة الحائط، ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم؛ ابن أخي الأسود بن كلثوم؛ فرماه رجل من العدوّ بنشابة، فأصاب عرض منخره، فأنفذ المنخرين، فقال له عامر بن مالك: يا أبا الزاهرية؛ كأنك دجاجة مقرّق. وقتل عظيم من عظماء الترك عند الثلمة، وخاقان على تلّ خلفه أجمةٌ، فخرج عاصم بن عمير السمرقندي وواصل بن عمرو القيسي في شاكريّة، فاستدارا حتى صارا من وراء ذلك الماء، فضمّوا خشبًا وقصبًا وما قدروا عليه، حتى اتخذوا رصفًا، فعبروا عليه فلم يشعر خاقان إلا بالتكبير، وحمل واصل والشاكرية على العدو فقاتلوهم؛ فقتل تحت واصل برذون، وهزم خاقان وأصحابه.
وخرج عامر بن مالك من الحائط، ومضى إلى الجنيد وهو في سبعة آلاف؛ فتلقى الجنيد وأقبل معه، وعلي مقدّمة الجنيد عمارة بن حريم. فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند، تلقته خيل الترك فقاتلهم؛ فكاد الجنيد أن يهلك ومن معه، ثم أظهره الله؛ فسار حتى قدم العسكر. وظفر الجنيد، وقتل الترك، وزحف إليه خاقان فالتقوا دون زرمان من بلاد سمرقند؛ وقطن ابن قتيبة على ساقة الجنيد، وواصل في أهل بخارى - وكان ينزلها - فأسر ملك الشاش، وأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة؛ فبعث به إلى الخليفة، وكان الجنيد استخلف في غزاته هذه مجشّر بن مزاحم على مرو، وولّى سورة بن الحر من بني أبان بن دارم بلخ، وأوفد لما أصاب في وجهه ذلك عمارة بن معاوية العدوي ومحمد بن الجرّاح العبدي وعبد ربه بن أبي صالح السلمي إلى هشام بن عبد الملك ثم انصرفوا؛ فتواقفوا بالترمذ، فأقاموا بها شهرين.
ثم أتى الجنيد مرو وقد ظفر، فقال خاقان: هذا غلام مترف، هزمني العام وأنا مهلكه في قابل؛ فاستعمل الجنيد عمّاله، ولم يستعمل إلا مضريًا؛ استعمل قطن بن قتيبة على بُخارى، والوليد بن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بن مرّة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بن عبد الرحمن الباهلي. وكان نصر بن سيار على بلخ؛ والذي بينه وبين الباهليين متباعد لما كان بينهم بالبروقان، فأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائمًا، فجاءوا به في قميص ليس عليه سراويل، ملبيًا، فجعل يضمّ عليه قميصيه، فاستحيا مسلم، وقال: شيخ من مضر جئتم به على هذه الحال! ثم عزل الجنيد مسلمًا عن بلخ، وولاها يحيى بن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بن خالد الباهلي، وكان مع الجنيد السمهري بن قعنب.
وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي؛ وكان إليه من العمل في هذه السنة التي قبلها؛ وقد ذكرت ذلك قبل.
وكان العامل على العراق خالد بن عبد الله، وعلى خراسان الجنيد بن عبد الرحمن.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك غزوة معاوية بن هشام الصائفة فافتتح خرشنة، وحرق فرنديّة من ناحية ملطية.
ذكر خبر قتل الجراح الحكمي
وفيها سار الترك من الّلّان فلقيهم الجرّاح بن عبد الله الحكمي فيمن معه من أهل الشام وأذربيجان، فلم يتتامّ إليه جيشه؛ فاستشهد الجرّاح ومن كان معه بمرج أردبيل؛ وافتتحت الترك أردبيل؛ وقد كان استخلف أخاه الحجاج بن عبد الله على أرمينية.
ذكر محمد بن عمر أنّ الترك قتلت الجراح بن عبد الله ببلنجر، وأن هشامًا لما بلغه خبره دعا سعيد بن عمرو الحرشي، فقال له: إنه بلغني أن الجرّاح قد انحاز عن المشركين، قال: كلّا يا أمير المؤمنين، الجرّاح أعرف بالله من أن ينحاز عن العدوّ، ولكنه قتل، قال: فما الرأي؟ قال: تبعثني على أربعين دابة من دوابّ البريد؛ ثم تبعث إلي كلّ يوم أربعين دابّة عليها أربعون رجلًا، ثم اكتب إلى أمراء الأجناد يوافونني. ففعل ذلك هشام.
فذُكر أن سعيد بن عمرو أصاب للترك ثلاثة جموع وفودًا إلى خاقان بمن أسروا من المسلمين وأهل الذمّة، فاستنقذ الحرشي ما أصابوا وأكثروا القتل فيهم.
وذكر علي بن محمد أنّ الجنيد بن عبد الرحمن قال في بعض ليالي حربه الترك بالشعب: ليلة كليلة الجراح ويوم كيومه؛ فقيل له: أصلحك الله! إن الجرّاح سير إليه فقتل أهل الحجى والحفاظ، فجنّ عليه الليل، فانسل الناس من تحت الليل إلى مدائن لهم بأذربيجان، وأصبح الجرّاح في قلة فقتل.
وفي هذه السنة وجه هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك فسار في شتاء شديد البرد والمطر والثلوج فطلبهم - فيما ذكر - حتى جاز الباب في آثارهم، وخلّف الحارث بن عمرو الطائي بالباب.
ذكر وقعة الجنيد مع الترك
وفي هذه السنة كانت وقعة الجنيد مع الترك ورئيسهم خاقان بالشعب. وفيها قتل سورة بن الحر؛ وقد قيل إن هذه الوقعة كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كانت
ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن الجنيد بن عبد الرحمن خرج غازيًا في سنة اثنتي عشرة ومائة يريد طخارستان، فنزل على نهر بلخ، ووجّه عمارة ابن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفًا وإبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، وجاشت الترك فأتوا سمرقند، وعليها سورة بن الحر؛ أحد بني أبان بن دارم، فكتب سورة إلى الجنيد: إن خاقان جاش بالترك، فخرجت إليهم فما قدرتُ أن أمنع حائط سمرقند؛ فالغوث! فأمر الجنيد الناس بالعبور، فقام إليه المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي وابن صبح الخرقي، فقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم، لا يلقونك صفًا ولا زحفًا، وقد فرقت جندك، فمسلم بن عبد الرحمن بالنيروذ والبختري بهراة، ولم يحضرك أهل الطالقان، وعمارة بن حريم غائب. وقال له المجشّر: إن صاحب خراسان لا يعبر النهر في أقلّ من خمسين ألفًا؛ فاكتب إلى عمارة فليأتك، وأمهل ولا تعجل، قال: فكيف بسورة ومن معه من المسلمين! لو لم أكن إلّا في بني مرة، أو من طلع معي من أهل الشام لعبرت. وقال:
أليس أحقّ الناس أن يشهد الوغى ** وأن يقتل الأبطال ضخم على ضخم.
وقال:
ما علّتي ما علّتي ما علّتي! ** إنْ لم أقاتلهم فجزوا لمتي
قال: وعبر فنزل كسّ؛ وقد بعث الأشهب بن عبيد الحنظلي ليعلم علم القوم، فرجع إليه وقال: قد أتوك فتأهب للمسير.
وبلغ الترك فعوروا الآبار التي في طريق كسّ وما فيه من الركايا فقال الجنيد: أي الطريقين إلى سمرقند أمثل؟ قالوا: طريق المحترقة. قال المجشر بن مزاحم السلمي: القتل بالسيف أمثل من القتل بالنار؛ إن طريق المحترقة فيه الشجر والحشيش ولم يزرع منذ سنين، فقد تراكم بعضه على بعض، فإن لقيت خاقان أحرق ذلك كله، فقتلنا بالنار والدخان؛ ولكن خذ طريق العقبة، فهو بيننا وبينهم سواء.
فأخذ الجنيد طريق العقبة، فارتقى في الجبل، فأخذ المجشر بعنان دابته، وقال: إنه كان يقال: إنّ رجلًا من قيس مترفًا يهلك على يديه جند من جنود خراسان؛ وقد خفنا أن تكونه. قال: أفرخ روعك، فقال المجشر: أمّا إذا كان بيننا مثلك فلا يفرخ. فبات في أصل العقبة، ثم ارتحل حين أصبح؛ فصار الجنيد بين مرتحل ومقيم؛ فتلقى فارسًا، فقال: ما اسمك؟ فقال: حرب؛ قال: ابن من؟ قال: ابن محربة، قال: من بني من؟ قال: من بني حنظلة، قال: سلط الله عليك الحرب والحرَب والكلَب. ومضى بالناس حتى دخل الشعب وبينه وبين مدينة سمرقند أربعة فراسخ، فصبّحه خاقان في جمع عظيم، وزحف إليه أهل السغد والشاش وفرغانة وطائفة من الترك. قال: فحمل خاقان على المقدّمة وعليها عثمان ابن عبد الله بن الشخير، فرجعوا إلى العسكر والترك تتبعهم؛ وجاءوهم من كلّ وجه؛ وقد كان الإخريد قال للجنيد: ردّ الناس إلى العسكر؛ فقد جاءك جمع كثير؛ فطلع أوائل العدوّ والناس يتغدون، فرآهم عبيد الله بن زهير بن حيان، فكره أن يعلم الناس حتى يفرغوا من غدائهم؛ والتفت أبو الذيّال، فرآهم، فقال: العدوّ! فركب الناس إلى الجنيد، فصبّر تميمًا والأزد في الميمنة وربيعة في الميسرة ممايلي الجبل؛ وعلى مجففة خيل بني تميم عبيد الله بن زهير بن حبان، وعلى المجرّدة عمر - أو عمرو - بن جرفاس بن عبد الرحمن بن شقران المنقري، وعلى جماعة بني تميم عامر بن مالك الحماني، وعلى الأزد عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو المعني؛ وعلى خيلهم: المجففة والمجردة فضيل بن هناد وعبد الله بن حوذان؛ أحدهما على المجفّفة، والآخر على المجرّدة - ويقال: بل كان بشر بن حوذان أخو عبد الله بن حوذان الجهضمي - فالتقوا وربيعة ممّايلي الجبل في مكان ضيق؛ فلم يقدم عليهم أحد؛ وقصد العدوّ للميمنة وفيها تتميم والأزد في موضع واسع فيه مجال للخيل. فترجّل حيان بن عبيد الله بن زهير بين يدي أبيه، ودفع برذونه إلى أخيه عبد الملك، فقال له أبوه: يا حيان، انطلق إلى أخيك فإنه حدث وأخاف عليه. فأبى، فقال: يا بني، إنك إن قتلت على حالك هذه قتلت عاصيًا. فرجع إلى الموضع الذي خلّف فيه أخاه والبرذون؛ فإذا أخوه قد لحق بالعسكر، وقد شدّ البرذون، فقطع حيان مقوده وركبه؛ فأتى العدوّ؛ فإذا العدوّ قد أحاط بالموضع الذي خلف فيه أباه وأصحابه، فأمدّهم الجنيد بنصر بن سيار في سبعة معه؛ فيهم جميل بن غزوان العدوي، فدخل عبيد الله بن زهير معهم، وشدّوا على العدوّ فكشفوهم ثم كرّوا عليهم؛ فقتلوا جميعًا، فلم يفلت منهم أحد ممن كان في ذلك الموضع، وقتل عبيد الله بن زهير وابن حوذان وابن جرفاس والفضيل بن هناد.
وجالت الميمنة والجنيد واقف في القلب، فأقبل إلى الميمنة، فوقف تحت راية الأزد - وقد كان جفاهم - فقال له صاحب راية الأزد: ما جئتنا لتحبونا ولا لتكرمنا؛ ولكنك قد علمت أنه لا يوصل إليك ومنّا رجل حي؛ فإن ظفرنا كان لك؛ وإن هلكنا لم تبك علينا. ولعمري لئن ظفرنا وبقيت لا أكلمك كلمة أبدًا. وتقدّم فقتل. وأخذ الراية ابن مجاعة فقتل، فتداول الراية ثمانية عشر رجلًا منهم فقتلوا، فقتل يومئذ ثمانون رجلًا من الأزد.
قال: وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا؛ فكانت السيوف لا تحيك ولا تقطع شيئًا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به، حتى مل الفريقان فكانت المعانقة، فتحاجزوا، فقتل من الأزد حمزة بن مجاعة العتكي ومحمد بن عبد الله بن حوذان الجهضمي، وعبد الله بن بسطام المعني وأخوه زنيم والحسن بن شيخ والفضيل الحارثي - وهو صاحب الخيل - ويزيد بن المفضّل الحداني؛ وكان حجّ فأنفق في حجه ثمانين ومائة ألف؛ فقال لأمه وحشيّة: ادعى الله أن يرزقني الشهادة، فدعت له، وغشي عليه؛ فاستشهد بعد مقدمه من الحج بثلاثة عشر يومًا، وقاتل معه عبدان له؛ وقد كان أمرهما بالانصراف فقتلا؛ فاستشهدا.
قال: وكان يزيد بن المفضل حمل يوم الشعب على مائة بعير سويقًا للمسلمين؛ فجعل يسأل عن الناس، ولا يسأل عن أحد إلا قيل له: قد قتل؛ فاستقدم وهو يقول: لا إله إلا الله؛ فقاتل حتى قتل.
وقاتل يومئذ محمد بن عبد الله بن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهب، فحمل سبع مرات يقتل في كلّ حملة رجلًا، ثم رجع إلى موقفه، فهابه من كان في ناحيته، فناداه ترجمان للعدوّ: يقول لك الملك: لا تقبل وتحوّل إلينا؛ فنرفض صنمنا الذي نعبده ونعبدك؛ فقال محمد: أنا أقاتلكم لتتركوا عبادة الأصنام وتعبدوا الله وحده. فقاتل واستشهد.
وقتل جشم بن قرط الهلالي من بني الحارث، وقتل النضر بن راشد العبدي؛ وكان دخل على امرأته والناس يقتتلون، فقال لها: كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرّجًا بالدماء؟ فشقّت جيبها ودعت بالويل؛ فقال: حسبك، لو أعولت علي كلّ أنثى لعصيتها شوقًا إلى الحور العين؛ ورجع فقاتل حتى استشهد رحمه الله. قال: فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج، فطلعت فرسان؛ فنادى منادي الجنيد: الأرض، الأرض! فترجّل وترجّل الناس، ثم نادى منادي الجنيد: ليخندق كلّ قائد على حياله؛ فخندق الناس. قال: ونظر الجنيد إلى عبد الرحمن بن مكية يحمل على العدوّ، فقال: ما هذا الخرطوم السائل؟ قيل له: هذا ابن مكية، قال: ألسان البقرة! لله درّه أي رجل هو! وتحاجزوا، وأصيب من الأزد مائة وتسعون.
وكانوا لقوا خاقان يوم الجمعة، فأرسل الجنيد إلى عبد الله بن معمر بن سمير اليشكري أن يقف في الناحية التي تلي كس ويحبس من مرّ به، ويحوز الأثقال والرّجالة؛ وجاءت الموالي رجّالة، ليس فيهم غير فارس واحد والعدوّ يتبعونهم؛ فثبت عبد الله بن معمر للعدوّ، فاستشهد في رجال من بكر، وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النهار؛ فلم ير موضعًا للقتال فيه أيسر من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصد لهم، فقالت بكر لزياد: القوم قد كثرونا، فخلّ عنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا، فقال لهم: قد مارست سبعين سنة، إنكم إن حملتم عليهم فصعدتم انهزمتم؛ ولكن دعوهم حتى يقبوا. ففعلوا، فلما قربوا منهم حملوا عليهم فأفرجوا لهم، فسجد الجنيد، وقال خاقان يومئذ: إنّ العرب إذا أحرجوا استقتلوا؛ فخلوهم حتى يخرجوا؛ ولا تعرضوا لهم؛ فإنكم لا تقومون لهم.
وخرج جوار للجنيد يولولن؛ فانتدب رجال من أهل الشام، فقالوا: الله الله يأهل خراسان! إلى أين؟ وقال الجنيد: ليلة كليلة الجراح، ويوم كيومه.
ذكر الخبر عن مقتل سورة بن الحر
وفي هذه السنة قتل سورة بن الحر التميمي.
ذكر الخبر عن مقتله
ذكر علي عن شيوخه، أن عبيد الله بن حبيب قال للجنيد: اختر بين أن تهلك أنت أو سورة، فقال: هلاك سورة أهون علي، قال: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند؛ فإن الترك إن بلغهم أن سورة قد توجه إليك انصفروا إليه فقاتلوه. فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم - وقيل: كتب أغثني - فقال عبادة بن السليل المحاربي أبو الحكم بن عبادة لسورة: انظر أبرد بيت بسمرقند فنم فيه، فإنك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير أم رضي. وقال له حليس بن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين الجنيد؛ فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك.
فكتب إلى الجنيد: إني لا أقدر على الخروج؛ فكتب إليه الجنيد: يا بن اللخناء، تخرج وإلا وجهت إليك شدّاد بن خالد الباهلي - وكان له عدوًا - فاقدم وضع فلانًا بفرخشاذ في خمسمائة ناشب، والزم الماء فلا تفارقه.
فأجمع على المسير، فقال الوجف بن خالد العبدي: إنك لمهلك نفسك والعرب بمسيرك؛ ومهلك من معك، قال: لا يخرج حملي من التنور حتى أسير؛ فقال له عبادة وحليس: أما إذ أبيت إلا المسير فخذ على النهر، فقال: أنا لا أصل إليه على النهر في يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فأصبّحه؛ فإذا سكنت الزجل سرت فأعبره.
فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم، وأمر سورة بالرحيل؛ واستخلف على سمرقند موسى بن أسود؛ أحد بني ربيعة بن حنظلة، وخرج في اثني عشر ألفًا، فأصبح على رأس جبل؛ وإنما دلّه على ذلك الطريق علج يسمى كارتقبد؛ فتلقّاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين الجنيد فرسخ: فقال أبو الذيّال: قاتلهم في أرض خوارة، فصبر وصبروا حتى اشتدّ الحرّ.
وقال بعضهم: قال له غوزك: يومك يوم حار فلا تقاتلهم حتى تحمى عليهم الشمس وعليهم السلاح تثقلهم. فلم يقاتلهم خاقان؛ وأخذ برأي غوزك، وأشعل النار في الحشيش، وواقفهم وحال بينهم وبين الماء، فقال سورة لعبادة: ما ترى يا أبا السليل؟ قال: أرى والله أنه ليس من الترك أحد إلا وهو يريد الغنيمة؛ فاعقر هذه الدوابّ وأحرق هذا المتاع، وجرّد السيف؛ فإنهم يخلّون لنا الطريق. قال أبو الذيّال: فقال سورة لعبادة: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي، قال: فما ترى الآن؟ قال: أن ننزل فنشرع الرماح، ونزحف زحفًا، فإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر، قال: لا أقوى على هذا؛ ولا يقوى فلان وفلان.. وعدّد رجالًا؛ ولكن أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنه يقاتل فأصكّهم؛ سلمت أم عطيت؛ فجمع الناس وحملوا فانكشفت الترك، وثار الغبار فلم يبصروا، ومن وراء الترك اللهب؛ فسقطوا فيه، وسقط فيه العدوّ والمسلمون، وسقط سورة فاندقت فخذه، وتفرّق الناس، وانكشفت الغمة والناس متفرقون، فقطعتهم الترك، فقتلوهم فلم ينج منهم غير ألفين - ويقال: ألف - وكان ممن نجا عاصم بن عمير السمرقندي، عرفه رجل من الترك فأجاره؛ واستشهد حليس بن غالب الشيباني، فقال رجل من العرب: الحمد لله؛ استشهد حليس، ولقد رأيته يرمي البيت أيام الحجاج ويقول: درّي عقاب، بلبن وأخشاب؛ وامرأة قائمة، فكلما رمى بحجر قالت المرأة: يا رب بي ولا ببيتك! ثم رزق الشهادة.
وانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة ومعه قريش بن عبد الله العبدي إلى رستاق يسمى المرغاب؛ فقاتلوا أهل قصر من قصورهم؛ فأصيب المهلّب بن زياد، وولّوْا أمرهم الوجف بن خالد، ثم أتاهم الأشكند صاحب نسف في خيل ومعه غوزك، فقال غوزك: يا وجف، لكم الأمان، فقال قريش: لا تثقوا بهم؛ ولكن إذا جنّنا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند؛ فإنا إن أصبحنا معهم قتلونا.
قال: فعصوه وأقاموا، فساقوهم إلى خاقان؛ فقال: لا أجيز أمان غوزك، فقال غوزك للوجف: أنا عبد لخاقان من شاكريته، قالوا: فلم غرزتنا؟ فقاتلهم الوجف وأصحابه، فقتلوا غير سبعة عشر رجلًا دخلوا الحائط. وأمسوا، فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط؛ فجاء قريش بن عبد الله العبدي إلى الشجرة فرمى بها؛ وخرج في ثلاثة فباتوا في ناووس فكمنوا فيه وجبن الآخرون فلم يخرجوا، فقتلوا حين أصبحوا. وقتل سورة، فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادرًا، فقال له خالد بن عبيد الله بن حبيب: سر سر، ومجشر بن مزاحم السلمي يقول: أذكرك الله أقم؛ والجنيد يتقدّم، فلما رأى المجشر ذلك نزل فأخذ بلجام الجنيد، فقال: والله لا تسير ولتنزلن طائعًا أو كارهًا، ولا ندعك تهلكنا بقول هذا الهجري، انزل، فنزل ونزل الناس فلم يتتامّ نزولهم حتى طلع الترك، فقال المجشّر: لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا! فلما أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة، وجال الناس، فقال الجنيد: أيّها الناس؛ إنها النار؛ فتراجعوا. وأمر الجنيد رجلًا فنادى: أي عبد قاتل فهو حر؛ فقاتل العبيد قتالًا شديدًا عجب الناس منه؛ جعل أحدهم يأخذ اللبد فيجوبه ويجعله عفي عنقه، يتوقى به. فسر الناس بما رأوا من صبرهم، فكرّ العدوّ، وصبر الناس حتى انهزم العدوّ. فمضوا، فقال موسى بن النعر للناس: أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله إنّ لكم منهم ليومًا أرونان. ومضى الجنيد فأخذ العدوّ رجلًا من عبد لاقيس فكتفوه، وعلقوا في عنقه رأس بلعاء العنبري بن مجاهد بن بلعاء؛ فلقيه الناس فأخذ بنو تميم الرأس فدفنوه، ومضى الجنيد إلى سمرقند؛ فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو، وأقام بالسغد أربعة أشهر؛ وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن بن صبح الخرقي وعبيد الله بن حبيب الهجري، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم، ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه في ذلك، وكان عبد الرحمن ابن صبح إذا نزل الأمر العظيم في الحرب لم يكن لأحد مثل رأيه؛ وكان عبيد الله بن حبيب على تعبئة القتال، وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب؛ فمنهم الفضل بن بسام مولى بني ليث وعبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم والبختري بن مجاهد مولى بني شيبان.
قال: فلما انصرف الترك إلى بلادهم بعث الجنيد سيف بن وصّاف العجلي من سمرقند إلى هشام، فجبن عن السير وخاف الطريق، فاستعفاه فأعفاه؛ وبعث نهار بن توسعة أحد بني تيم اللات وزميل بن سويد المري؛ مرة غطفان، وكتب إلى هشام: إن سورة عصاني، أمرته بلزوم الماء فلم يفعل، فتفرّق عنه أصحابه، فأتتني طائفة إلى كسّ، وطائفة إلى نسف، وطائفة إلى سمرقند، وأصيب سورة في بقية أصحابه.
قال: فدعا هشام نهار بن توسعة، فسأله عن الخبر فأخبره بما شهد، فقال نهار بن توسعة:
لعمرك ما حاببتني إذ بعثتني ** ولكنما عرضتني للمتالف
دعوت لها قومًا فهابوا ركوبها ** وكنت امرأ ركابة للمخاوف
فأيقنت إن لم يدفع الله أنني ** طعام سباع أو لطير عوائف
قرين عراك وهو أيسر هالك ** عليك وقد زملته بصحائف
فإني وإن آثرت منه قرابة ** لأعظم حظًا في حباء الخلائف
على عهد عثمان وفدنا وقبله ** وكنا أولي مجد تليد وطارف
قال: وكان عراك معهم في الوفد، وهو ابن عمّ الجنيد، فكتب إلى الجنيد: قد وجهت إليك عشرين ألفًا مددًا؛ عشرة آلاف من أهل البصرة عليهم عمرو بن مسلم، ومن أهل الكوفة عشرة آلاف عليهم عبد الرحمن بن نعيم، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح ومثلها ترسة، فافرض فلا غاية لك في الفريضة لخمسة عشر ألفًا.
قال: ويقال إن الجنيد أوفد الوفد إلى خالد بن عبد الله، فأوفد خالد إلى هشام: إنّ سورة بن الحرّ خرج يتصيد مع أصحاب له فهجم عليهم الترك، فأصيبوا. فقال هشام حين أتاه مصاب سورة: إنا لله وإنا إليه راجعون! مصاب سورة بن الحرّ بخراسان والجرّاح بالباب! وأبلى نصر بن سيّار يومئذ بلاء حسنًا، فانقطع سيفه، وانقطع سيور ركابه؛ فأخذ سيور ركابه؛ فضرب بها رجلًا حتى أثخنه، وسقط في اللهب مع سورة يومئذ عبد الكريم بن عبد الرحمن الحنفي وأحد عشر رجلًا معه. وكان ممن سلم من أصحاب سورة ألف رجل، فقال عبد الله بن حاتم بن النعمان: رأيت فساطيط مبنية بين السماء والأرض؛ فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لعبد الله بن بسطام وأصحابه، فقتلوا من غدٍ؛ فقال رجل: مررت في ذلك الموضع بعد ذلك بحين فوجدت رائحة المسك ساطعة. قال: ولم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه، فقال نصر:
إن تحسدوني على حسن البلاء لكم ** يومًا، فمثل بلائي جر لي الحسدا
يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ** كعبي عليكم وأعطى فوقكم عضدا
وضربي الترك عنكم يوم فرقكم ** بالسيف في الشعب حتى جاوز السندا
قال: وكان الجنيد يوم الشعب أخذ في الشعب، وهو لا يرى أن أحدًا يأتيه من الجبال، وبعث ابن الشخير في مقدمته، واتخذ ساقةً؛ ولم يتخذ مجنبتين.
وأقبل خاقان فهزم المقدّمة، وقتل من قتل منهم، وجاءه خاقان من قبل ميسرته وجبغويه من قبل الميمنة، فأصيب رجال من الأزد وتميم، وأصابوا له سرادقات وأبنية، فأمر الجنيد حين أمسى رجلًا من أهل بيته، فقال له: امش في الصفوف والدرّاجة، وتسمّع ما يقول الناس؛ وكيف حالهم؛ ففعل ثم رجع إليه، فقال: رأيتهم طيبة أنفسهم، يتناشدون الأشعار، ويقرءون القرآن؛ فسرّه ذلك، وحمد الله.
قال: ويقال نهضت العبيد يوم الشعب من جانب العسكر وقد أقبلت الترك والسغد ينحدرون؛ فاستقبلهم العبيد وشدّوا عليهم بالعمد، فقتلوا منهم تسعة، فأعطاهم الجنيد أسلابهم.
وقال ابن السجف في يوم الشعب، ويعني هشامًا:
اذكر يتامى بأرض الترك ضائعة ** هزلى كأنهم في الحائط الحجل
وارحم، وإلا فهبها أمة دمرت ** لا أنفس بقيت فيها ولا ثقل
ولا تأملن بقاء الدهر بعدهم ** والمرء ما عاش ممدود له الأمل
لاقوا كتائب من خاقان معلمة ** عنهم يضيق فضاء السهل والجبل
لما رأوهم قليلًا لا صريخ لهم ** مدوا بأيديهم لله وابتهلوا
وبايعوا رب موسى بيعة صدقت ** ما في قلوبهم شك ولا دغل
قال: فأقام الجنيد بسمرقند ذلك العام، وانصرف خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة، فخاف الناس الترك على قطن، فشاورهم الجنيد، فقال قوم: الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدّك بالجنود. وقال قوم: تسير فتأتي ربنجن، ثم تسير منها إلى كس، ثم تسير منها إلى نسف، فتصل منها إلى أرض زم؛ وتقطع النهر وتنزل آمُل، فتأخذ عليها بالطريق.
فبعث إلى عبد الله بن أبي عبد الله، فقال: قد اختلف الناس علي - وأخبره بما قالوا - فما الرأي؟ فاشترط عليه ألّا يخالفه فيما يشير به عليه من ارتحال أو نزول أو قتال، قال: نعم؛ قال: فإني أطلب إليك خصالًا، قال: وما هي؟ قال: تخندق حيثما نزلت؛ ولا يفوتنك حمل الماء ولو كنت على شاطىء نهر، وأن تطيعني في نزولك وارتحالك. فأعطاه ما أراد. قال: أما ما أشار به عليه في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث، فالغياث يبطىء عنك، وإن سرت فأخذت بالناس غير الطريق فتتّ في أعضادهم؛ فانكسروا عن عدوّهم، فاجترأ عليك خاقان؛ وهو اليوم قد استفتح بخارى فلم يفتحوا له، فإن أخذت بهم غير الطريق تفرّق الناس عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ أهل بخارى فيستسلموا لعدوّهم؛ وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدوّ؛ والرأي لك أن تعمد إلى عيالات من شهد الشعب من أصحاب سورة فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك؛ فإني أرجو بذلك أن ينصرك الله على عدوّك، وتعطي كل رجل تخلف بسمرقند ألف درهم وفرسًا.
قال: فأخذ برأيه فخلّف في سمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في ثمانمائة: أربعمائة فارس وأربعمائة راجل، وأعطاهم سلاحًا. فشتم الناس عبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم، وقالوا: عرّضنا لخاقان والترك، ما أراد إلا هلاكنا! فقال عبيد الله بن حبيب لحرب بن صبح: كم كانت لكم الساقة اليوم؟ قال: ألف وستمائة، قال: لقد عرضنا للهلاك. قال: فأمر الجنيد بحمل العيال.
قال: وخرج والناس معه، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع العبسي وزياد ابن خبران الطائي، فسرح الجنيد الأشهب بن عبيد الحنظلي، ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له: كلما مضيت مرحلة فسرح إلى رجلًا يعلمني الخبر.
قال: وسار الجنيد؛ فلما صار بقصر الريح أخذ عطاء الدبوسي بلجام الجنيد وكبحه، فقرع رأسه هارون الشاشي مولى بني حازم بالرمح حتى كسره على رأسه، فقال الجنيد لهارون: خلّ عن الدبوسي، وقال له: مالك يا دبوسي؟ فقال: انظر أضعف شيخ في عسكرك فسلحه سلاحًا تامًا، وقلده سيفًا وجعبة وترسًا، وأعطه رمحًا، ثم سر بنا على قدر مشيه؛ فإنا لا نقدر على السوق والقتال وسرعة السير ونحن رجّالة. ففعل ذلك الجنيد؛ فلم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا له بكرمينية، أوّل يوم من رمضان. فلما ارتحل الجنيد من كرمينية قدم محمد بن الرندي في الأساورة آخر الليل؛ فلما كان في طرف مفازة كرمينية رأى ضعف العدوّ؛ فرجع إلى الجنيد فأخبره؛ فنادى منادي الجنيد: ألا يخرج المكتبون إلى عدوّهم؟ فخرج الناس، ونشبت الحرب، فنادى رجل: أيها الناس، صرتم حرورية فاستقتلتم. وجاء عبد الله بن أبي عبد الله إلى الجنيد يضحك، فقال له الجنيد: ما هذا بيوم ضحك! فقيل له: إنه ضحك تعجبًا، فالحمد لله الذي لم يلقك هؤلاء إلا في جبال معطّشة؛ فهم على ظهر وأنت مخندق آخر النهار، كالتين وأنت معك الزاد؛ فقاتلوا قليلًا ثم رجعوا. وكان عبد الله بن أبي عبد الله قال للجنيد وهم يقاتلون: ارتحل، فقال الجنيد: وهل من حيلة؟ قال: نعم، تمضي برايتك قدر ثلاث غلاء، فإنّ خاقان ودّ أنك أقمت فينطوي عليك إذا شاء. فأمر بالرحيل وعبد الله بن أبي عبد الله على الساقة. فأرسل إليه: انزل، قال: أنزل على غير ماء! فأرسل إليه: إن لم تنزل ذهبت خراسان من يدك؛ فنزل وأمر الناس أن يسقوا، فذهب الناس الرجّالة والناشبة؛ وهم صفّان؛ فاستقوا وباتوا، فلما أصبحوا ارتحلوا، فقال عبد الله بن أبي عبد الله: إنكم معشر العرب أربعة جوانب؛ فليس يعيب بعضهم بعضًا؛ كلّ ربع لا يقدر أن يزول عن مكانه: مقدّمة - وهم القلب - ومجنبتان وساقة؛ فإن جمع خاقان خيله ورجاله ثم صدم جانبًا منكم - وهم الساقة - كان بواركم، وبالحري أن يفعل؛ وأنا أتوقع ذلك في يومي، فشدوا الساقة بخيل. فوجه الجنيد خيل بني تميم والمجفّفة، وجاءت الترك فمالت على الساقة؛ وقد دنا المسلمون من الطواويس فاقتتلوا، فاشتدّ الأمر بينهم، فحمل سلم بن أحوز على رجل من عظماء الترك فقتله. قال: فتطيّر الترك، وانصرفوا من الطواويس؛ ومضى المسلمون؛ فأتوا بخارى يوم المهرجان. قال: فتلقونا بدراهم بخارية، فأعطاهم عشرة عشرة، فقال عبد المؤمن بن خالد: رأيت عبد الله بن أبي عبد الله بعد وفاته في المنام، فقال: حدث الناس عني برأيي يوم الشعب.
قال: وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله، ويقول: ربذة من الربذ، صنبور ابن صنبور، قل ابن قلّ، هيفة من الهيف - وزعم أن الهيفة الضبع، والعجرة الخنزيرة، والقلّ: الفرد - قال: وقدمت الجنود مع عمرو بن مسلم الباهلي في أهل البصرة وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وهو بالصغانيان، فسرح معهم الحوثرة بن يزيد العنبري فيمن انتدب معه من التجار وغيرهم، وأمرهم أن يحملوا ذراري أهل سمرقند، ويدعوا فيها المقاتلة. ففعلوا.
قال أبو جعفر: وقد قيل: إنّ وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة.
وقال نصر بن سيّار يذكر يوم الشعب وقتال العبيد:
إني نشأت وحسادي ذوو عدد ** يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا
إن تحسدوني على مثل البلاء لكم ** يومًا فمثل بلائي جرّ لي الحسدا
يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ** كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا
أرمي العدو بأفراس مكلمة ** حتى اتخذن على حسادهن يدا
من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ** لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا!
فما حفظتم من الله الوصاة ولا ** أنتم بصبر طلبتم حسن ما وعدا
ولا نهاكم عن التوثاب في عتب ** إلا العبيد بضرب يكسر العمدا
هلا شكرتم دفاعي عن جنيدكم ** وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا!
وقال ابن عرس العبدي، يمدح نصرًا يوم الشعب ويذم الجنيد؛ لأن نصرًا أبلى يومئذ:
يا نصر أنت فتى نزار كلها ** فلك المآثر والفعال الأرفع
فرجت عن كل القبائل كربة ** بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا
يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ** والنحر دام والخوافق تلمع
ما زلت ترميهم بنفس حرة ** حتى تفرج جمعهم وتصدعوا
فالناس كل بعدها عتقاؤكم ** ولك المكارم والمعالي أجمع
وقال الشرعبي الطائي:
تذكرت هندًا في بلاد غريبة ** فيا لك شوقًا، هل لشملك مجمع!
تذكرتها والشاش بيني وبينها ** وشعب عصام والمنايا تطلع
بلاد بها خاقان جم زحوفه ** ونيلان في سبعين ألفًا مقنع
إذا دب خاقان وسارت جنوده ** أتتنا المنايا عند ذلك شرع
هنالك هند مالنا النصف منهموما إن لنا يا هند في القوم مطمع
ألا رب خود خدلة قد رأيتها ** يسوق بها جهم من السغد أصمع
أحامي عليها حين ولى خليلها ** تنادي إليها المسلمين فتسمع
تنادي بأعلى صوتها صف قومها ** ألا رجل منكم يغار فيرجع!
ألا رجل منكم كريم يردني ** يرى الموت في بعض المواطن ينفع!
فما جاوبوها غير أن نصيفها ** بكف الفتى بين البرازيق أشنع
إلى الله أشكو نبوة في قلوبها ** ورعبًا ملا أجوافها يتوسع
فمن مبلغ عني ألوكًا صحيفة ** إلى خالد من قبل أن نتوزع
بأن بقايانا وأن أميرنا ** إذا ما عددناه الذليل الموقع
هم أطمعوا خاقان فينا وجنده ** ألا ليتنا كنا هشيمًا يزعزع
وقال ابن عرس - واسمه خالد بن المعارك من بني غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى. وذكر علي بن محمد عن شيخ من عبد القيس أنّ أمه كانت أمة، فباعه أخوه تميم بن معارك من عمرو بن لقيط أحد بني عامر بن الحارث؛ فأعتقه عمرو لما حضرته الوفاة، فقال: يا أبا يعقوب؛ كم لي عندك من المال؟ قال: ثمانون ألفًا، قال: أنت حر وما في يديك لك. قال: فكان عمرو ينزل مرو الروذ؛ وقد اقتتلت عبد القيس في ابن عرس؛ فردوّه إلى قومه، فقال ابن عرس للجنيد:
أين حماة الحرب من معشر ** كانوا جمال المنسر الحارد!
بادوا بآجال توافوا لها ** والعائر الممهل كالبائد
فالعين تجري دمعها مسبلًا ** ما لدموع العين من ذائد
انظر ترى للميت من رجعة ** أم هل ترى في الدهر من خالد!
كنا قديمًا يتقى بأسنا ** وندرأ الصادر بالوارد
حتى منينا بالذي شامنا ** من بعد عز ناصر آئد
كعاقر الناقة لا ينثني ** مبتدئًا ذي حنق جاهد
فتقت ما لم يلتئم صدعه ** بالجحفل المحتشد الزائد
تبكي لها إن كشفت ساقها ** جدعًا وعقرًا لك من قائد!
تركتنا أجزاء معبوطة ** يقسمها الجازر للناهد
ترقت الأسياف مسلولة ** تزيل بين العضد والساعد
تساقط الهامات من وقعها ** بين جناحي مبرق راعد
إذ أنت كالطفلة في خدرها ** لم تدر يومًا كيدة الكائد
إنا أناس حربنا صعبة ** تعصف بالقائم والقاعد
أصحت سمرقند وأشياعها ** أحدوثة الغائب والشاهد
وكم ثوى في الشعب من حازم ** جلد القوى ذي مرة ماجد
يستنجد الخطب ويغشى الوغى ** لا هائب غس ولا ناكد
ليتك يوم الشعب في حفرة ** مرموسة بالمدر الجامد
تلعب بك الحرب وأبناؤها ** لعب صقور بقطًا وارد
طار لها قلبك من خيفة ** ما قلبك الطائر بالعائد
لا تحسبن الحرب يوم الضحى ** كشربك المزاء بالبارد
أبغضت من عينك تبريجها ** وصورة في جسد فاسد
جنيد ما عيصك منسوبة ** نبعًا ولا جدك بالصاعد
خمسون ألفًا قتلوا ضيعة ** وأنت منهم دعوة الناشد
لا تمرين الحرب من قابل ** ما أنت في العدوة بالحامد
قلدته طوقًا على نحره ** طوق الحمام الفرد الفارد
قصيدة حيزها شاعر ** تسعى بها البرد إلى خالد
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وقد قيل: إن الذي حجّ بالناس في هذه السنة سليمان بن هشام.
وكانت عمّال الأمصار في هذه السنة عمّالها الذين كانوا في سنة إحدى عشرة ومائة، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
قتل عبد الوهاب بن بخت
فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الوهاب بن بخت، وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم؛ فذكر محمد بن عمر، عن عبد العزيز بن عمر؛ أن عبد الوهاب بن بخت غزا مع البطّال سنة ثلاث عشرة ومائة، فانهزم الناس عن البطّال وانكشفوا، فجعل عبد الوهاب يكرّ فرسه وهو يقول: ما رأيت فرسًا أجبن منه، وسفك الله دمي إن لم أسفك دمك. ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت؛ أمن الجنة تفرّون! ثم تقدّم في نحور العدوّ؛ فمرّ برجل وهو يقول: واعطشاه! فقال: تقدّم؛ الري أمامك؛ فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.
ومن ذلك ما كان من تفريق مسلمة بن عبد الملك الجيوش في بلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل منهم، وأسر وسبى، وحرّق خلق كثير من الترك أنفسهم بالنار؛ ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر وقتل ابن خاقان.
ومن ذلك غزوة معاوية بن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع.
وفي هذه السنة صار من دعاة بني العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمن رجلًا منهم فقتله، وقال: من أصيب منهم فدمه هدر.
وحجّ بالناس في هذه السنة - في قول أبي معشر - سليمان بن هشام بن عبد الملك؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي.
وقال بعضهم: الذي حجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي. وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم الذيّن كانوا عمّالها في سنة إحدى عشرة واثنتي عشرة؛ وقد مضى ذكرنا لهم.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة
ذكر الأخبار عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وسليمان بن هشام على الصائفة اليمنى؛ فذكر أنّ معاوية بن هشام أصاب ربض أقرن، وأن عبد الله البطال التبقى وقسطنطين في جمع فهزمهم؛ وأسر قسطنطين؛ وبلغ سليمان ابن هشام قيساريّة.
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام عن المدينة، وأمّر عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم. قال الواقدي: قدم خالد بن عبد الملك المدينة للنصف من شهر ربيع الأول؛ وكان إمرة إبراهيم ابن هشام على المدينة ثماني سنين.
وقال الواقدي: في هذه السنة ولي محمد بن هشام المخزومي مكة.
وقال بعضهم: بل وليَ محمد بن هشام مكة سنة ثلاث عشرة ومائة، فما عزل إبراهيم أقرّ محمد بن هشام على مكة.
وفي هذه السنة وقع الطاعون - فيما قيل - بواسط.
وفيها قفل مسلمة بن عبد الملك عن الباب بعد ما هزم خاقان وبني الباب فأحكم ما هنالك.
وفي هذه السنة ولي هشام مروان بن محمد أرمينية وأذربيجان.
واختلف فيمن حجّ بالناس في هذه السنة، فقال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه: حج بالناس سنة أربع عشرة ومائة خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم؛ وهو على المدينة.
وقال بعضهم: حج بالناس في هذه السنة محمد بن هشام؛ وهو أمير مكة، فأقام خالد بن عبد الملك تلك السنة، لم يشهد الحجّ.
قال الواقدي: حدثني بهذا الحديث عبد الله بن جعفر، عن صالح بن كيسان.
قال الواقدي: وقال لي أبو معشر: حجّ بالناس سنة أربع عشرة ومائة خالد بن عبد الملك، ومحمد بن هشام على مكة. قال الواقدي: وهو الثبت عندنا.
وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم العمّال الذين كانوا في السنة التي قبلها؛ غير أنّ عامل المدينة في هذه السنة كان خالد بن عبد الملك، وعامل مكة والطائف محمد بن هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة
ذكر الأخبار عما كان فيها من الأحداث
فممّا كان فيها من ذلك غزوة معاوية بن هشام أرضَ الروم.
وفيها وقع الطاعون بالشام.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل؛ وهو أمير مكة والطائف، كذلك قال أبو معشر، فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكان عمّال الأمصار في هذه السنة، فقال المدائني: كان عاملها الجنيد بن عبد الرحمن، وقال بعضهم. كان عاملها عمارة بن حريم المري. وزعم الذي قال ذلك أنّ الجنيد مات في هذه السنة، واستخلف عمارة بن حريم. وأما المدائني فإنه ذكر أنه وفاة الجنيد كانت في سنة ست عشرة ومائة.
وفي هذه السنة أصاب الناس بخراسان قحط شديد ومجاعة، فكتب الجنيد إلى الكور: إنّ مرو كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان، فكفرت بأنعم الله، فاحملوا إليها الطعام.
قال علي بن محمد: أعطى الجنيد في هذه السنة رجلًا درهمًا، فاشترى به رغيفًا، فقال لهم: تشكون الجوع ورغيف بدرهم! لقد رأيتُني بالهند وإن الحبة من الحبوب لتباع عددًا بالدرهم؛ وقال: إنّ مرو كما قال الله عز وجل: " وضرب الله مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة ".
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من غزوة معاوية بن هشام أرض الروّم الصائفة.
وفيها كان طاعون شديد بالعراق والشام؛ وكان أشدّ ذلك - فيما ذكر - بواسط.
وفاة الجنيد بن عبد الرحمن وولاية عاصم بن عبد الله خراسان
وفيها كانت وفاة الجنيد بن عبد الرحمن وولاية عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي خراسان.
ذكر الخبر عن أمرهما
ذكر علي بن محمد، عن أشياخه، أنّ الجنيد بن عبد الرحمن تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام على الجنيد، وولّى عاصم بن عبد الله خراسان؛ وكان الجنيد سقى بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه، فقدم عاصم وقد مات الجنيد.
قال: وذكروا أن جبلة بن أبي روّاد دخل على الجنيد عائدًا، فقال: يا جبلة، ما يقول الناس؟ قال: قلت يتوجّعون للأمير؛ قال: ليس عن هذا سألتك، ما يقولون؟ وأشار نحو الشام بيده. قال: قلت: يقدم على خراسان يزيد بن شجرة الرهاوي، قال: ذلك سيّد أهل الشام، قال: ومن؟ قلت: عصمة أو عصام، وكنّيت عن عاصم، فقال: إن قدم عاصم فعدوّ جاهد؛ لا مرحبًا به ولا أهلًا.
قال: فمات في مرضه ذلك في المحرّم سنة ست عشرة ومائة، واستخلف عمارة بن حريم. وقدم عاصم بن عبد الله، فحبس عمارة بن حريم وعمال الجنيد وعذّبهم. وكانت وفاته بمرو، فقال أبو الجويرية عيسى ابن عصمة يرثيه:
هلك الجود والجنيد جميعًا ** فعلى الجود والجنيد السلام
أصبحا ثاويين في أرض مرو ** ما تغنت على الغصون الحمام
كنتما نزهة الكرام فلما ** متّ مات الندى ومات الكرام
ثم إن أبا الجويرية أتى خالد بن عبد الله القسري وامتدحه، فقال له خالد: ألست القائل: هلط الجود والجنيد جميعًا مالك عندنا شيء، فخرج فقال:
تظل لامعة الآفاق تحملنا ** إلى عمارة والقود السراهيد
قصيدة امتدح بها عمارة بن حريم، ابن عم الجنيد؛ وعمارة هو جدّ أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام.
قال: وقدم عاصم بن عبد الله فحبس عمارة بن حريم وعمال الجنيد وعذّبهم.
ذكر خلع الحارث بن سريج
وفي هذه السنة خلع الحارث بن سريج، وكانت الحرب بينه وبين عاصم بن عبد الله.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر علي عن أشياخه، قال: لما قدم عاصم خراسان واليًا، أقبل الحارث ابن سريج من النخذ حتى وصل إلى الفارياب، وقدم أمامه بشر بن جرموز. قال: فوجه عاصم الخطّاب بن محرز السلمي ومنصور بن عمر بن أبي الخرفاء السلمي وهلال بن عليم التميمي والأشهب الحنظلي وجرير بن هميان السدوسي ومقاتل بن حيّان النبطي مولى مصقلة إلى الحارث؛ وكان خطّاب ومقاتل بن حيّان قالا: لا تلقوه إلا بأمان، فأبى عليهما القوم؛ فلما انتهوا إليه بالفارياب قيّدهم وحبسهم، ووكل بهم رجلًا يحفظهم. قال: فأوثقوه وخرجوا من السجن، فركبوا دوابّهم، وساقوا دواب البريد، فمروا بالطالقان فهمّ سهرب صاحب الطالقان بهم، ثم أمسك وتركهم. فلما قدموا مرو أمرهم عاصم فخطبوا وتناولوا الحارث، وذكروا خبث سيرته وغدوه. ثم مضى الحارث إلى بلخ وعليها نصر، فقاتلوه؛ فهزم أهل بلخ ومضى نصر إلى مرو.
وذكر بعضهم: لما أقبل الحارث إلى بلخ وكان عليها التجيني بن ضبيعة المرّي ونصر بن سيار، وولّاهما الجنيد. قال: فانتهى إلى قنطرة عطاء وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، فتلقّى نصر بن سيار في عشرة آلاف والحارث بن سريج في أربعة آلاف، فدعاهم الحارث إلى الكتاب والسنّة والبيعة للرضا؛ فقال قطن بن عبد الرحمن بن جزي الباهلي: يا حارث؛ أنت تدعو إلى كتاب الله والسنّة؛ والله لو أنّ جبريل عن يمينك وميكائيل عن يسارك ما أجبتك؛ فقاتلهم فأصابته رمية في عينه؛ فكان أوّل قتيل. فانهزم أهل بلخ إلى المدينة، وأتبعهم الحارث حتى دخلها؛ وخرج نصر من باب آخر، فأمر الحارث بالكفّ عنهم، فقال رجل من أصحاب الحارث: إني لأمشي في بعض طرق بلخ إذ مررت بنساء يبكين وامرأة تقول: يا أبتاه! ليت شعري من دهاك! وأعرابي إلى جنبي يسير؛ فقال: من هذه الباكية؟ فقيل له: ابنة قطن بن عبد الرحمن بن جزي، فقال الأعرابي: أنا وأبيك دهيتك، فقلت: أنت قتلته؟ قال: نعم.
قال: ويقال: قدم نصر والتجيبي على بلخ، فحبسه نصر، فلم يزل محبوسًا حتى هزم الحارث نصرًا؛ وكان التجيبي ضرب الحارث أربعين سوطًا في إمْرة الجنيد، فحوّله الحارث إلى قلعة باذكر بزم، فجاء رجل من بني حنيفة فادّعى عليه أنه قتل أخاه أيام كان على هراة، فدفعه الحارث إلى الحنفي، فقال له التجيبي: أفتدي منك بمائة ألف، فلم يقبل منه وقتله. وقوم يقولون: قتل التجيبي في ولاية نصر قبل أن يأتيه الحارث.
قال: ولما غلب الحارث على بلخ استعمل عليها رجلًا من ولد عبد الله ابن خازم، وسار، فلما كان بالجوزجان دعا وابصة بن زرارة العبدي، ودعا دجاجة ووحشًا العجليين وبشر بن جرموز وأبا فاطمة، فقال: ما ترون؟ فقال أبو فاطمة: مرو بيضة خراسان؛ وفرسانهم كثير؛ لو لم يلقوك إلّا بعبيدهم لانتصفوا منك، فأقم فإنْ أتوْك قاتلتهم وإن أقاموا قطعت المادة عنهم، قال: لا أرى ذلك، ولكن أسير إليهم. فأقبل الحارث إلى مرو، وقد غلب على بلخ والجوزجان والفارياب والطالقان ومرو الروذ، فقال أهل الدين من أهل مرو: إن مضى إلى أبرشهر ولم يأتنا فرق جماعتنا، وإن أتانا نكب.
قال: وبلغ عاصمًا أن أهل مرو يكاتبون الحارث، قال: فأجمع على الخروج وقال: يا أهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن سريج، لا يقصد مدينة إلا خليتموها له، إني لاحق بأرض قومي أبرشهر، وكاتب منها إلى أمير المؤمنين حتى يمدّني بعشرة آلاف من أهل الشام. فقال له الكجشّر بن مزاحم: إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق فأقم، وإن أبوا فسرحتي تنزل أبرشهر، وتكتب إلى أمير المؤمنين فيمدّك بأهل الشام. فقال خالد بن هريم أحد بني ثعلبة بن يربوع وأبو محارب هلال بن عليم: والله لا نخليك والذهاب، فيلزمنا دينك عند أمير المؤمنين، ونحن معك حتى نموت إن بذلت الأموال. قال: أفعل، قال يزيد بن قرّان الريّاحي: إن لم أقاتل معك ما قاتلت فابنة الأبرد بن قرة الرياحي طالق ثلاثًا - وكانت عنده - فقال عاصم: أكلّكم على هذا؟ قالوا: نعم. وكان سلمة بن أبي عبد الله صاحب حرّسه يحلفهم بالطلاق.
قال: وأقبل الحارث بن سريج إلى مرو في جمع كثير - يقال في ستين ألفًا - ومعه فرسان الأزد وتميم؛ منهم محمد بن المثنّى وحمّاد بن عامر بن مالك الحماني وداود الأعسر وبشر بن أنيف الرياحي وعطاء الدبوسي. ومن الدهاقين الجوزجان وترسل دهقان الفارياب وسهرب ملك الطالقان، وقرياقس دهقان مرو، في أشباههم.
قال: وخرج عاصم في أهل مرو وفي غيرهم؛ فعسكر بجياسر عند البيعة، وأعطى الجند دينارًا دينارًا، فخفّ عنه الناس، فأعطاهم ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير، وأعطى الجند وغيرهم؛ فلما قرب بعضهم من بعض أمر بالقناطر فكسرت، وجاء أصحاب الحارث فقالوا: تحصروننا في البرّيّة! دعونا نقطع إليكم فنناظركم فيما خرجنا له، فأبوا وذهب رجّالتهم يصلحون القناطر، فأتاهم رجّالة أهل مرو فقاتلوهم؛ فمال محمد بن المثنّى الفراهيدي برايته إلى عاصم فأمالها في ألفين فأتى الأزْد؛ ومال حماد بن عامر بن مالك الحمّاني إلى عاصم، وأتى بني تميم.
قال سلمة الأزدي: كان الحارث بعث إلى عاصم رسلًا - منهم محمد ابن مسلم العنبري - يسألونه العمل بكتاب الله وسنة نبيّه ﷺ. قال: والحارث بن سريج يومئذ على السواد. قال: فلمّا مال محمد بن المثنى بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى الناس؛ فكان أوّل قتيل غياث بن كلثوم من أهل الجارود، فانهزم أصحاب الحارث، فغرق بشر كثير من أصحاب الحارث في أنهار مرو والنهر الأعظم، ومضت الدهاقين إلى بلادهم؛ فضرب يومئذ خالد بن علباء بن حبيب بن الجارود على وجهه، وأرسل عاصم بن عبد الله المؤمن بن خالد الحنفي وعلباء بن أحمر اليشكري ويحيى بن عقيل الخزاعي ومقاتل بن حيّان النبطي إلى الحارث يسأله ما يريد؟ فبعث الحارث محمد بن مسلم العنبري وحده، فقال لهم: إنّ الحارث وإخوانكم يقرءونكم السلام، ويقولون لكم: قد عطشنا وعطشت دوابّنا، فدعونا ننزل الليلة، وتختلف الرسل فيما بيننا ونتناظر؛ فإن وافقناكم على الذي تريدون وإلّا كنتم من وراء أمركم؛ فأبوا عليه وقالوا مقالًا غليظًا؛ فقال مقاتل ابن حيّان النبطي: يا أهل خراسان؛ إنا كنا بمنزلة بيت واحد وثغرنا واحد؛ ويدنا على عدوّنا واحدة؛ وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم؛ وجّه إليه أميرنا بالفقهاء والقرّاء من أصحابه، فوجّه رجلًا واحدًا. قال محمد: إنما أتيتكم مبلغًا، نطلب كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وسيأتيكم الذي تطلبون من غد إن شاء الله تعالى.
وانصرف محمّد بن مسلم إلى الحارث، فلما انتصف الليل سار الحارث فبلغ عاصمًا، فلما أصبح سار إليه فالتقوا، وعلى ميمنة الحارث رابض بن عبد الله بن زرارة التغلبي، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فحمل يحيى بن حضين - وهو رأس بكر بن وائل، وعلى بكر بن وائل زياد بن الحارث بن سريج - فقتلوا قتلًا ذريعًا، فقطع الحارث وادي مرو؛ فضرب رواقًا عند منازل الرهبان، وكفّ عنه عاصم. قال: وكانت القتلى مائة، وقتل سعيد بن سعد بن جزء الأزدي، وغرق خازم بن موسى بن عبد الله بن خازم - وكان مع الحارث بن سريج - واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة آلاف، فقال القاسم بن مسلم: لما هزم الحارث كفّ عنه عاصم، ولو ألحّ عليه لأهلكه. وأرسل إلى الحارث: إني رادّ عليك ما ضمنت لك ولأصحابك؛ على أن ترتحل؛ ففعل.
قال: وكان خالد بن عبيد الله بن حبيب أتى الحارث ليلة هزم، وكان أصحابه أجمعوا على مفارقة الحارث، وقالوا: ألم تزعم أنه لا يردّ لك راية! فأتاهم فسكّنهم.
وكان عطاء الدبوسي من الفرسان، فقال لغلامه يوم زرق: أسرج لي برذوني لعلي ألاعب هذه الحمارة، فركب ودعا إلى البراز، فبرز له رجل من أهل الطالقان، فقال بلغته: إي كيرخر.
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: وحجّ بالناس في هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو ولي العهد؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في التي قبلها إلّا ما كان من خراسان فإن عاملها في هذه السنة عاصم بن عبد الله الهلالي.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فممّا كان فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة، وفرّق سراياه في أرض الروم.
وفيها بعث مروان بن محمد - وهو على أرمينية - بعثين، فافتتح أحدهما حصونًا ثلاثة من اللان ونزل الآخر على تومانشاه، فنزل أهلها على الصلح.
وفيها عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمها إلى خالد بن عبد الله، فولاها خالد أخاه أسد بن عبد الله.
وقال المدائني: كان عزل هشام عاصمًا عن خراسان وضمّ خراسان إلى خالد بن عبد الله في سنة ستّ عشرة ومائة.
ذكر الخبر عن سبب عزل هشام عاصما وتوليته خالدا خراسان
وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي عن أشياخه - أنّ عاصم بن عبد الله كتب إلى هشام بن عبد الملك: أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فإنّ الرائد لا يكذب أهله؛ وقد كان من أمر أمير المؤمنين إلي ما يحقّ به علي نصيحته؛ وإنّ خراسان لا تصلح إلّا أن تضمّ إلى صاحب العراق؛ فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب؛ لتباعد أمير المؤمنين عنها وتباطؤ غياثه عنها.
فلما مضى كتابه خرج إلى أصحابه يحيى بن حضين والمجشّر بن مزاحم وأصحابهم، فأخبرهم، فقال له المجشّر بعد ما مضى الكتاب: كأنك بأسد قد طلع عليك. فقدم أشد بن عبد الله؛ بعث به هشام بعد كتاب عاصم بشهر، فبعث الكميت بن زيد الأسدي إلى أهل مرو بهذا الشعر:
ألا أبلغ جماعة أهل مرو ** على ما كان من نأى وبعد
رسالة ناصح يهدى سلامًا ** ويأمر في الذي ركبوا بجد
وأبلغ حارثًا عنا اعتذارًا ** إليه بأن من قبلي بجهد
ولولا ذاك قد زارتك خيل ** من المصرين بالفرسان تردي
فلا تهنوا ولا ترضوا بخسف ** ولا يغرركم أسد بعهد
وكونوا كالبغايا إن خدعتم ** وإن أقررتم ضيمًا لوغد
وإلا فارفعوا الرايات سودًا ** على أهل الضلالة والتعدي
فكيف وأنتم سبعون ألفًا ** رماكم خالد بشبيه قرد
ومن ولى بذمته رزينًا ** وشيعته ولم يوف بعهد
ومن غشي قضاعة ثوب خزيٍ ** بقتل أبي سلامان بن سعد
فمهلًا يا قضاع فلا تكوني ** توابع لا أصول لها بنجد
وكنت إذا دعوت بني نزار ** أتاك الدهم من سبط وجعد
فجدع من قضاعة كل أنف ** ولا فازت على يوم بمجد
قال: ورزين الذي ذكر كان خرج على خالد بن عبد الله بالكوفة، فأعطاه الأمان ثم لم يف به.
وقال فيه نصر بن سيّار حين أقبل الحارث إلى مرو وسوّد راياته - وكان الحارث يرى رأي المرجئة:
دع عنك دنيا وأهلًا أنت تاركهم ** ما خير دنيا وأهل لا يدومونا!
إلا بقية أيام إلى أجل ** فاطلب من الله أهلًا لا يموتونا
أكثر تقى الله في الإسرار مجتهدًا ** إن التقى خيره ما كان مكنونا
واعلم بأنك بالأعمال مرتهن ** فكن لذاك كثير الهم محزونا
إني أرى الغبن المردي بصاحبه ** من كان في هذه الأيام مغبونا
تكون للمرء أطوارًا فتمنحه ** يومًا عثارًا وطورًا تمنح اللينا
بينا الفتى في نعيم العيش حوله ** دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا
تحلو له مرة حتى يسر بها ** حينًا وتمقره طعمًا أحايينا
هل غابر من بقايا الدهر تنظره ** إلا كما قد مضى فيما تقضونا
فامنح جهادك من لم يرج آخرةً ** وكن عدوًا لقوم لا يصلونا
واقتل مواليهم منا وناصرهم ** حينًا تكفرهم والعنهم حينا
والعائبين علينا ديننا وهم ** شر العباد إذا خابرتهم دينا
والقائلين سبيل الله بغيتنا ** لبعد ما نكبوا عما يقولونا
فاقتلهم غضبًا لله منتصرًا ** منهم به ودع المرتاب مفتونا
إرجاؤكم لزكم والشرك في قرن ** فأنتم أهل إشراك ومرجونا
لا يبعد الله في الأجداث غيركم ** إذ كان دينكم بالشرك مقرونا
ألقى به الله رعبًا في نحوركم ** والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا
كيما نكون الموالي عند خائفة ** عما تروم به الإسلام والدينا
وهل تعيبون منا كاذبين به ** غال ومهتضم، حسبي الذي فينا
يأبى الذي كان يبلي الله أولكم ** على النفاق وما قد كان يبلينا
قال: ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فلمّا بلغ عاصمًا أن أسد بن عبد الله قد أقبل، وأنّه قد سيّر على مقدمته محمد بن مالك الهمداني، وأنه قد نزل الدندانقان، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابًا على أن ينزل الحارث أي كورخراسان شاء، وعلى أن يكتبا جميعًا إلى هشام؛ يسألانه كتاب الله وسنة نبيه؛ فإن أبى اجتمعا جميعًا عليه. فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وأبى يحيى ابن حضين أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين؛ فقال خلف بن خليفة ليحيى:
أبى هم قلبك إلا اجتماعا ** ويأبى رقادك إلا امتناعًا
بغير سماع ولم تلقني ** أحاول من ذات لهو سماعا
حفظنا أمية في ملكها ** ونخطر من دونها أن تراعى
ندافع عنها وعن ملكها ** إذا لم نجد بيديها امتناعا
أبى شعب ما بيننا في القديم ** وبين أمية إلا انصداعا
ألم نختطف هامة ابن الزبير ** وننتزع الملك منه انتزاعا
جعلنا الخلافة في أهلها ** إذا اصطرع الناس فيها اصطراعا
نصرنا أمية بالمشرفي ** إذا انخلع الملك عنها انخلاعا
ومنا الذي شد أهل العراق ** ولو غاب يحيى عن الثغر ضاعا
على ابن سريج نقضنا الأمور ** وقد كان أحكمها ما استطاعا
حكيم مقالته حكمة ** إذا شتت القوم كانت جماعا
عشية زرق وقد أزمعوا ** قمعنا من الناكثين الزماعا
ولولا فتى وائل لم يكن ** لينضج فيها رئيس كراعا
فقل لأمية ترعى لنا ** أيادي لم نجزها واصطناعا
أتلهين عن قتل ساداتنا ** ونأبى لحقك إلا اتباعا
أمن لم يبعك من المشترين ** كآخر صادف سوقًا فباعا!
أبى ابنُ حضين لما تصنع ** ين إلا اضطلاعا وإلّا اتّباعا
ولو يأمن الحارث الوائلين ** لراعك في بعض من كان راعا
وقد كان أصعر ذا نيرب ** أشاع الضلالة فيما أشاعا
كفينا أمية مختومة ** أطاع بها عاصم من أطاعا
فلولا مراكز راياتنا ** من الجند خاف الجنود الضياعا
وصلنا القديم لها بالحديث ** وتأبى أمية إلا انقطاعا
ذخائر في غيرنا نفعها ** وما إن عرفنا لهن انتفاعا
ولو قدمتها وبان الحجا ** ب لارتعت بين حشاك ارتياعا
فأين الوفاء لأهل الوفاء ** والشكر أحسن من أن يضاعا!
وأين ادخار بني وائل ** إذا الذخر في الناس كان ارتجاعا!
ألم تعلمي أن أسيافنا ** تداوي العليل وتشفي الصداعا!
إذا ابن حضين غدا باللواء ** أسلم أهل القلاع القلاعا
إذا ابن حضين غدا باللواء ** أشار النسور به والضباعا
إذا ابن حضين غدا باللواء ذكى وكانت معد جداعا
قال: وكان عاصم بن سليمان بن عبد الله بن شراحيل اليشكري من أهل الرأي، فأشار على يحيى بنقض الصحيفة؛ وقال له: " غمراتٌ ثم ينجلين "، وهي المغمضات، فغمّض.
قال: وكان عاصم بن عبد الله في قرية بأعلى مرو لكندة، ونزل الحارث قرية لبني العنبر؛ فالتقوا بالخيل والرّجال، ومع عاصم رجل من بني عبس في خمسمائة من أهل الشام وإبراهيم بن عاصم العقيلي في مثل ذلك؛ فنادى منادي عاصم: من جاء برأس فله ثلمائة درهم؛ فجاء رجل من عماله برأس وهو عاض على أنفه، ثم جاءه رجل من بني ليث - يقال له ليث بن عبد الله - برأس، ثم جاء آخر برأس، فقيل لعاصم: إن طمع الناس في هذا لم يدعوا ملّاحًا ولا علجًا إلا أتوك برأسه؛ فنادى مناديه: لا يأتنا أحد برأس؛ فمن أتانا به فليس له عندنا شيء؛ وانهزم أصحاب الحارث فأسروا منهم أسارى، وأسروا عبد الله بن عمرو المازني رأس أهل مرو الروذ، وكان الأسراء ثمانين؛ أكثرهم من بني تميم، فقتلهم عاصم بن عبد الله على نهر الداندانقان. وكانت اليمانية بعثت من الشام رجلًا يعدل بألف يكنى أبا داود، أيّام العصبية في خمسمائة؛ فكان لا يمرّ بقرية من قرى خراسان إلا قال: كأنكم بي قد مررت راجعًا حاملًا رأس الحارث بن سريج؛ فلما التقوا دعا إلى البراز، فبرز له الحارث بن سريج؛ فضربه فوق منكبه الأيسر فصرعه، وحامى عليه أصحابه فحملوه فخولط؛ فكان يقول: يا أبرشهر الحارث بن سريجاه! يا أصحاب المعموراه! ورمي فرس الحارس بن سريج في لبانه، فنزع النشابة؛ واستحضره وألحّ عليه بالضّرب حتى نزّقه وعرّقه، وشغله عن ألم الجراحة.
قال: وحمل عليه رجل من أهل الشام؛ فلما ظنّ أن الرمح مخالطه؛ مال عن فرسه واتّبع الشأمي، فقال له: أسألك بحرمة الإسلام في دمي! قال: انزل عن فرسك؛ فنزل وركبه الحارث، فقال الشأمي: خذ السرج؛ فوالله إنه خير من الفرس، فقال رجل من عبد القيس:
تولت قريش لذة العيش واتقت ** بنا كل فج من خراسان أغبرا
فليت قريشًا أصبحوا ذات ليلة ** يعومون في لج من البحر أخضرا
قال: وعظم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع في أمر الكتاب الذي كتبه عاصم، وكتبوا كتابًا، وبعثوا مع محمد بن مسلم العنبري ورجل من أهل الشام، فلقوا أسد بن عبد الله بالرّي - ويقال: لقوه بيهق - فقال: ارجعوا فإني أصلح هذا الأمر، فقال له محمد بن مسلم: هدمت داري، فقال: أبنيها لك، وأردّ عليكم كل مظلمة.
قال: وكتب أسد إلى خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى. قال: فأجاز خالد يحيى بن حضين بعشرة آلاف دينار وكساه مائة حلة. قال: وكانت ولاية عاصم أقل من سنة - قيل كانت سبعة أشهر - وقدم أسد بن عبد الله وقد انصرف الحارث، فحبس عاصمًا وسأله عمّا أنفق، وحاسبه فأخذه بمائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز ولم تخرج من مرو، ووافق عمارة بن حريم وعمّال الجنيد محبوسين عنده؛ فقال لهم: أسير فيكم بسيرتنا أم بسيرة قومكم؟ قالوا: بسيرتك، فخلى سبيلهم.
قال علي عن شيوخه: قالوا: لما بلغ هشام بن عبد الملك أمر الحارث ابن سريج، كتب إلى خالد بن عبد الله: ابعث أخاك يصلح ما أفسد؛ فإن كانت رجية فلتكن به. قال: فوجّه أخاه أسدًا إلى خراسان، فقدم أسد وما يملك عاصم من خراسان إلا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بن سريح بمرو الروذ وخالد بن عبيد الله الهجري بآمل، ويخاف إن قصد للحارث بمرو الروذ دخل خالد بن عبيد الله مرو من قبل آمل، وإن قصد لخالد دخلها الحارث من قبل مرو الروذ، فأجمع على أن يوجه عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث إلى ناحية مرو الروذ. وسار أسد بالناس إلى آمل، عليهم زياد القرشي مولى حيان النبطي عند ركايا عثمان، فهزمهم حتى انتهوا إلى باب المدينة، ثم كروا على الناس، فقتل غلام لأسد بن عبد الله يقال له جبلة؛ وهو صاحب علمه، وتحصنوا في ثلاث مدائن لهم.
قال: فنزل عليهم أسد وحصرهم، ونصب عليهم المجانيق، وعليهم خالد ابن عبيد الله الهجري من أصحاب الحارث، فطلبوا الأمان، فخرج إليهم رويد ابن طارق القطعي ومولى لهم، فقال: ما تطلبون؟ قالوا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: فلكم ذلك، قالوا: على ألّا تأخذ أهل هذه المدن بجنايتنا. فأعطاهم ذلك، واستعمل عليهم يحيى ين نعيم الشيباني أحد بني ثعلبة بن شيبان، ابن أخي مصقلة بن هبيرة. ثم أقبل أسد في طريق زمّ يريد مدينة بلخ؛ فتلقاه مولى لمسلم بن عبد الرحمن، فأخبره أنّ أهل بلخ قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم. فقدم بلخ، واتّخذ سفنًا وسار منها إلى الترمذ، فوجد الحارث محاصرًا سنانًا الأعرابي السُّلمي، ومعه بنو الحجّاج بن هارون النميري، وبنو زرعة وآل عطية الأعور النضري في أهل الترمذ، والسل مع الحارث، فنزل أسد دون النهر، ولم يطق القطوع إليهم ولا أن يمدّهم، وخرج أهل الترمذ من المدينة، فقاتلوا الحارث قتالًا شديدًا، وكان الحارث استطرد لهم، ثم كرّ عليهم، فانهزموا فقتل يزيد بن الهيثم بن المنخّل وعاصم بن معوّل النجلي في خمسين ومائة من أهل الشام وغيرهم؛ وكان بشر بن جرموز وأبو فاطمة الأيادي ومن كان مع الحارث من القرى يأتون أبواب الترمذ، فيبكون ويشكون بني مروان وجورهم؛ ويسألونهم النزول إليهم على أن يمالئوهم على حرب بني مروان فيأبون عليهم؛ فقال السبل وأتى بلاده.
قال: وكان أسد حين مرّ بأرض زمّ تعرض للقاسم الشيباني وهو في حصن بزم يقال له باذكر؛ ومضى حتى أتى الترمذ، فنزل دون النهر، ووضع سريره على شاطىء النهر؛ وجعل الناس يعبرون؛ فمن سفلت سفينته عن سفن المدينة قاتلهم الحارث في سفينة؛ فالتقوا في سفينة فيها أصحاب أسد، فيهم أصغر بن عيناء الحميري، وسفينة أصحاب الحارث فيها داود الأعسر، فرمى أصغر فصكّ السفينة، وقال: أنا الغلام الأحمري، فقال داود الأعسر: لأمرٍ ما انتميت إليه، لا أرض لك! وألزق سفينته بسفينة أصغر فاقتتلوا؛ وأقبل الأشكند - وقد أراد الحارث الانصراف - فقال له: إنما جئتك ناصرًا لك؛ وكمن الأشكند وراء دير؛ وأقبل الحارث بأصحابه؛ وخرج إليه أهل الترمذ، فاستطرد لهم فاتّبعوه، ونصر مع أسد جالس ينظر؛ فأظهر الكراهية، وعرف أنّ الحارث قد كادهم، فظنّ أسد أنه إنما فعل ذلك شفقة على الحارث حين ولّى؛ وفأراد أسد معاتبة نصر؛ فإذا الأشكند قد خرج عليهم؛ فحمل على أهل الترمذ فهربوا. وقتل في المعركة يزيد بن الهيثم بن المنخّل الجرموزي من الأزد وعاصم بن معوّل - وكان من فرسان أهل الشأم - ثم ارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل الترمذ إلى الحارث فهزموه؛ وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وقومًا من أهل البصائر، ثم سار أسد إلى سمرقند في طريق زم؛ فلما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيباني - وهو في باذكر؛ وهو من أصحاب الحارث - فقال: إنكم إنما أنكرتم على قومكم ما كان من سوء سيرتهم؛ ولم يبلغ ذلك النساء ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند؛ وأنا أريد سمرقند، وعلي عهد الله وذمته ألّا يبدأك مني شر؛ ولك المؤاساة واللطف والكرامة والأمان ولمن معك؛ وأنت إن غمصت ما دعوتك إليه فعلي عهد الله وذمة أمير المؤمنين وذمّة الأمير خالد إن أنت رميت بسهم ألّا أؤمنك بعده؛ وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به. فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان فآمنه، وسار معه إلى سمرقند فأعطاهم عطاءين، وحملهم على ما كان من دواب ساقها معه، وحمل معه طعامًا من بخارى، وساق معه شاء كثيرة من شاء الأكراد قسمها فيهم؛ ثم ارتفع إلى ورغسر وماء سمرقند منها، فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند؛ وكان يحمل الحجارة بيديه حتى يطرحها في السكر، ثم قفل من سمرقند حتى نزل بلخ.
وقد زعم بعضهم أن الذي ذكرت من أمر أسد وأمر أصحاب الحارث كان في سنة ثمان عشرة.
وحجّ بالناس في هذه السنة خالد بن عبد الملك.
وكان العامل فيها على المدينة، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
وفيها توفّيت فاطمة بنت علي وسكينة ابنة الحسين بن علي.
أمر أسد بن عبد الله مع دعاة بني العباس
وفي هذه السنة أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فقتل بعضهم، ومثّل ببعضهم، وحبس بعضهم؛ وكان فيمن أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريظ وخالد بن إبراهيم وطلحة بن رزيق؛ فأتى بهم، فقال لهم: يا فسقة، ألم يقل الله تعالى: " عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام "! فذكر أن سليمان بن كثير قال: أتكلم أم أسكت؟ قال: بل تكلم، قال: نحن والله كما قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان؛ بالماء اعتصاري
تدري ما قصتنا؟ صيدت والله العقارب بيدك أيّها الأمير؛ إنا أناس من قومك، وإن هذه المضرية إنما رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشدّ الناس على قتيبة بن مسلم؛ وإنما طلبوا بثأرهم. فتكلم ابن شريك بن الصامت الباهلي، وقال: إنّ هؤلاء القوم قد أخذوا مرة بعد مرة، فقال مالك بن الهيثم: أصلح الله الأمير! ينبغي لك أن تعتبر كلام هذا بغيره؛ فقالوا: كأنك يا أخا باهلة تطلبنا بثأر قتيبة! نحن والله كنا أشدّ الناس عليه؛ فبعث بهم أسد إلى الحبس، ثم دعا عبد الرحمن بن نعيم فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تمنّ بهم على عشائرهم؛ قال: فالتميميان اللذان معهم؟ قال: تخلّي سبيلهما، قال: أنا إذًا من عبد الله بن يزيد نفي، قال: فكيف تصنع بالرّبعي؟ قال: أخلّي والله سبيله. ثم دعا بموسى بن كعب وأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم قال: اكسروا وجهه، فدق أنفه، ووجأ لحيته، فندر ضرس له. ثم دعا بلاهز بن قريط، فقال لاهز: والله ما في هذا الحق أن تصنع بنا هذا، وتترك اليمانيين والربعيين، فضربه ثلثمائة سوط، ثم قال: اصلبوه، فقال الحسن بن زيد الأزدي: هو لي جار وهو برىء مما قذف به؛ قال: فالآخرون؟ قال: أعرفهم بالبراءة، فخلى سبيلهم.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائة
ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
فمن ذلك غزوة معاوية وسليمان ابني هشام بن عبد الملك أرض الروم.
ولاية عمار بن يزيد على شيعة بني العباس بخراسان
وفيها وجّه بكير بن ماهان عمار بن يزيد إلى خراسان واليًا على شيعة بني العباس؛ فنزل - فيما ذكر - مرو، وغيّر اسمه وتسمى بخداش ودعا إلى محمد بن علي؛ فسارع إليه الناس، وقبلوا ما جاءهم به؛ وسمعوا إليه وأطاعوا، ثم غيّر ما دعاهم إليه، وتكذّب وأظهر دين الخرمية؛ ودعا إليه ورخّص لبعضهم في نساء بعض؛ وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بن علي؛ فبلغ أسد بن عبد الله خبره، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأتى به؛ وقد تجهز لغزو بلخ؛ فسأله عن حاله، فأغلظ خداش له القول، فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه وسملت عينه.
ذكر ما كان من الحارث بن سريج مع أصحابه
فذكر علي بن محمد عن أشياخه، قال: لما قدم أسد آمل في مبدئه، أتوه بخداش صاحب الهاشمية، فأمر به قرعة الطبيب، فقطع لسانه، وسمل عينه، فقال: الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك! ثم دفعه إلى يحيى بن نعيم الشيباني عامل آمل. فلما قفل من سمرقند كتب إلى يحيى فقتله وصلبه بآمل، وأتى أسد بحزور ملوى المهاجر بن دارة الضبي، فضرب عنقه بشاطىء النهر. ثم نزل أسد منصرفه من سمرقند بلخ، فسرح جديعًا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحارث وثقل أصحابه - واسم القلعة التبوشكان من طخارستان العليا، وفيها بنو برزى التغلبيون، وهم أصهار الحارث - فحصرهم الكرماني حتى فتحها، فقتل مقاتلتهم وقتل بني برزى، وسبى عامّة أهلها من العرب والموالي والذراري، وباعهم فيمن يزيد في سوق بلخ، فقال علي بن يعلى - وكان شهد ذلك: نقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلًا من أصحابه؛ وكان رئيسهم جرير بن ميمون القاضي؛ وفيهم بشر بن أنيف الحنظلي وداود الأعسر الخوارزمي. فقال الحارث: إن كنتم لابد مفارقي وطلبتم الأمان، فاطلبوه وأنا شاهد؛ فإنه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان، فقالوا: ارتحل أنت وخلّنا. ثم بعثوا بشر بن أنيف ورجلًا آخر، فطلبوا الأمان فأمّنهما أسد ووصلهما، فغدروا بأهل القلعة، وأخبراه أنّ القوم ليس لهم طعامٌ ولا ماءٌ، فسرح أسد الكرماني في ستة آلاف؛ منهم سالم بن منصور البجلي، على ألفين، والأزهر بن جرموز النميري في أصحابه، وجند بلخ وهم ألفان وخمسمائة من أهل الشأم؛ وعليهم صالح بن القعقاع الأزدي؛ فوجّه الكرماني منصور بن سالم في أصحابه، فقطع نهر ضرغام؛ وبات ليله وأصبح، فأقام حتى متع النهار؛ ثم سار يومه قريبًا من سبعة عشر فرسخًا، فأتعب خيله، ثم انتهى إلى كشتم من أرض جبغويه؛ فانتهى إلى حائط فيه زرع قد قصّب، فأرسل أهل العسكر دوابهم فيه، وبينهم وبين القلعة أربعة فراسخ. ثم ارتحل فلما صار إلى الوادي جاءته الطلائع فأخبرته بمجىء القوم ورأسهم المهاجر بن ميمون؛ فلما صاروا إلى الكرماني كابدهم فانصرفوا، وسار حتى نزل جانبًا من القلعة؛ وكان أول ما نزل في زهاء خمسمائة في مسجد كان الحارث بناه؛ فلما أصبح تتامت إليه الخيل، وتلاحقت من أصحاب الأزهر وأهل بلخ.
فلما اجتمعوا خطبهم الكرماني، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل بلخ؛ لا أجد لكم مثلًا غير الزانية؛ من أتاها أمكنته من رجلها؛ أتاكم الحارث في ألف رجل من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم، وطرد أميركم. ثم سرتم معه من مكانفيه إلى مرو فخذلتموه، ثم انصرف إليكم منهزمًا فأمكنتموه من المدينة؛ والذي نفسي بيده لا يبلغني عن رجل منكم كتب كتابًا إليهم في سهم إلا قطعت يده ورجله وصلبته؛ فأما من كان معي من أهل مرو فهم خاصتي، ولست أخاف غدرهم، ثم نهد إلى القلعة فأقام بها يومًا وليلة من غير قتال؛ فلما كان من الغد نادى مناد: إنا قد نبذنا إليكم بالعهد؛ فقاتلوهم؛ وقد عطش القوم وجاعوا؛ فسألوا أن ينزلوا على الحكم ويترك لهم نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد، فأقام أيامًا. وقدم المهلب بن عبد العزيز العتكي بكتاب أسد، أن احملوا إلي خمسين رجلًا منهم؛ فيهم المهاجر بن ميمون ونظراؤه من وجوههم؛ فحملوا إليهم فقتلهم؛ وكتب إلى الكرماني أن يصيّر الذين بقوا عنده أثلاثًا، فثلث يصلبهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم؛ ففعل ذلك الكرماني، وأخرج أثقالهم فباعها فيمن يزيد، وكان الذين قتلهم وصلبهم أربعمائة. واتّخذ أسد مدينة بلخ دارًا في سنة ثمان عشرة ومائة، ونقل إليها الدواوين واتخذ المصانع، ثم غزا طخارستان ثم أرض جبغويه، ففتح وأصاب سبيًا.
وفي هذه السنة عزل هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها محمد بن هشام بن إسماعيل. ذكر الواقدي أن أبا بكر بن عمرو بن حزم يوم عزل خالد عن المدينة جاءه كتاب بإمرته على المدينة؛ فصعد المنبر، وصلى بالنّاس ستة أيام، ثم قدم محمد بن هشام من مكة عاملًا على المدينة.
وفي هذه السنة مات علي بن عبد الله بن العباس؛ وكان يكنى أبا محمد، وكانت وفاته بالحميمة من أرض الشأم؛ وهو ابن ثمان - أو سبع - وسبعين سنة.
وقيل إنه ولد في اللية التي ضرب فيها علي بن أبي طالب وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان من سنة أربعين، فسمّاه أبوه عليًا، وقال: سميته باسم أحب الخلق إلي، وكناه أبا الحسن، فلما قدم على عبد الملك بن مروان أكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم والكنية لأحد؛ وسأله: هل وليد له من ولد؟ وكان قد ولد له يومئذ محمد بن علي، فأخبره بذلك، فكناه أبا محمد.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام وهو أمير مكة والمدينة والطائف.
وقد قيل إنما كان عامل المدينة في هذه السنة خالد بن عبد الملك، وكان إلى محمد بن هشام فيها مكة والطائف؛ والقول الأول قول الواقدي.
وكان على العراق خالد بن عبد الله، وإليه المشرق كله، وعامله على خراسان أخوه أسد بن عبد الله، وعامله على البصرة وأحداثها وقضائها والصّلاة بأهلها بلال بن أبي بردة، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد بن مروان.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة الوليد بن القعقاع العبسي أرض الروم.
وفيها غزا أسد بن عبد الله الختل. فافتتح قلعة زغرزك؛ وسار منها إلى خداش، وملأ يديه من السبتي والشاء؛ وكان الجيش قد هرب إلى الصين.
ذكر غزو الترك ومقتل خاقان
وفيها لقي أسد خاقان صاحب الترك فقتله، وقتل بشرًا كثيرًا من أصحابه، وسلم أسد والمسلمون، وانصرفوا بغنائم كثيرة وسبي.
ذكر الخبر عن هذه الغزوة
ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أنهم قالوا: كتب ابن السائجي إلى خاقان أبي مزاحم - وإنما كنى أبا مزاحم لأنه كان يزاحم العرب - وهو موالث، يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها؛ وأنه بحال مضيعة. فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز - وكان الخاقان مرج وجبل حمىً لا يقربهما أحد، ولا يتصيد فيهما، يتركان للجهاد فضاء، ما كان في المرج ثلاثة أيام، وما في الجبل ثلاثة أيام - فتجهزوا وارتعوا ودبغوا مسوك الصيد؛ واتخذوا منها أوعية؛ واتخذوا القسي والنشاب، ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت ثم علقت في المعاليق، ثم أخذ شيئًا من ملح فصيره في كيس، وجعله في منطقته؛ وأمر كلّ تركي أن يفعل مثل ذلك، وقال: هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختل.
وأخذ طريق خشوراغ؛ فلما أحسّ ابن السائجي أنّ خاقان قد أقبل بعث إلى أسد: اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلتك. فشتم رسوله، ولم يصدّقه؛ فبعث صاحب الختل: إني لم أكذبك؛ وأنا الذي أعلمته دخولك؛ وتفرّق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته المدد، غير أنك أمعرت البلاد، وأصبت الغنائم؛ فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك؛ وعادتني العرب أبدًا ما بقيت. واستطال علي خاقان واشتدّت مؤونته؛ وامتنّ علي بقوله: أخرجتُ العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك؛ فعرف أسد أنه قد صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدّم، وولّى عليها إبراهيم بن عاصم العقيلي الجزري، الذي كان ولي سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة، فيهم كثير ابن أمية وأبو سليمان بن كثير الخزاعي وفضيل بن حيّان المهري وسنان بن داود القطعي، وكان على أهل العالية سنان الأعرابي السلمي، وعلى الأقباض عثمان بن شباب الهمذاني، جدّ قاضي مرو، فسارت الأثقال؛ فكتب أسد إلى داود بن شعيب والأصبغ بن ذؤالة الكلبي - وقد كان وجّههما في وجه: إنّ خاقان قد أقبل، فانضمّا إلى الأثقال؛ إلى إبراهيم بن عاصم.
قال: ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسي، فأشاع أنّ خاقان قد كسر المسلمين، وقتل أسدًا.
وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإنّ فينا هشامًا ننحاز إليه؛ فقال داود بن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ: حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجرّاح ومن معه فما ضرّ المسلمين كثير ضرّ، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حي قيوم؛ وأمير المؤمنين حي وجنود المسلمين كثير. فقال داود: أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة ونيران الأتراك متفرّقة؛ فقال الأصبغ: هم في مضيق. ودنوا فسمعوا نهيق الحمير، فقال داود: أما علمت أنّ الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ: أصابوها بالأمس؛ ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين؛ فقال داود: نسرّح فارسين فيكبّران؛ فبعثا فارسين؛ فلما دنوا من العسكر كبّرا، فأجابهما العسكر بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال؛ ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه؛ فقام إبراهيم بن عاصم مبادرًا.
قال: وأقبل أسد من الختّل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بن عاصم بالسبي وما أصاب. فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بن زحر وعبد الرحمن بن خنفر الأزديّان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراء ظهرك. فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه. فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعًا يخوضه الناس، وفي موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كلّ رجل شاة، وحمل هو بنفسه شاة؛ فقال له عثمان بن عبد الله بن مطرف ابن الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخرط مما تخاف؛ وقد فرّقت الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوّك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر الناس بالاستعداد. فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء؛ الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه؛ وخاض الناس. ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع سباخة فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدّهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر - ويقال كانت المسلحة على الأزد وبني تميم فانكشفوا، وكض أشد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه. أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي. قال: وأقبل خاقان، فظنّ المسلمون أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر؛ فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند - وهو يومئذ أصبهبذ نسف - أن يسير في الصفّ حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق؛ حتى انتهى إلى الأشتيخن، فقال: بلى يطاق، لأنّا خمسون ألف فارس؛ فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة ردّ بعضنا عن بعض الماء فذهب جريته. قال: فضربوا بكوساتهم فظنّ أسد ومن معه أنه منهم وعيد، فأقحموا دوابّهم، فجعلت تنخر أشدّ النخير؛ فلما رأى المسلمون اقتحام الترك ولّوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر الرجل دابّته، ولا يعرف بعضهم بعضًا؛ فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان خارجًا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك؛ فأدبروا، وبات أسد؛ فلما أصبح - وقد كان عبّأ أصحابه من الليل تخوّفًا من غدر خاقان وغدوّه عليه، ولم ير شيئًا - دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل العافية، قال: ما هذه عافية، بل هي بليّة، لقينا خاقان أمس فظفر بنا وأصاب من الجند والسلاح؛ فما منعه منّا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعًا فيها. فارتحل فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلامًا من أعلام الإشكند، في بشر قليل. فسار والدوابّ مثقلة، فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل العافية، قال: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بليّة وذهاب الأنفس والأموال. فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس: أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية؛ وما عسى أن يكون ذهاب المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بن سيار مطرق، فقال أسد: مالك يا بن سيار مطرقًا لا تتكلم! قال: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت قحمة لا بدّ من قطوعها. فقبل رأيه وسار يومه كلّه.
قال: ودعا أسد سعيدًا الصغير - وكان فارسًا مولى باهلة. وكان عالمًا بأرض الختل - فكتب كتابًا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد؛ فإنّ خاقان قد توجّه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل؛ فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك؛ وإن أنت لحقت بالحارث فعلى أسد مثل الذي حلف، إن لم يبع امرأتك الدلّال في سوق بلخ وجميع أهل بيتك. قال سعيد: فادفع إلي فرسك الكميت الذنوب قال: لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم. فدفعه إليه. فسار على دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه فلما حاذى الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم؛ فتحوّل على فرس أسد، فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع - يقال عشرون رجلًا - حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقًا؛ فأتاهم وهم قيام عليه؛ فأمر أهل السغد بقتالهم؛ فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلًا، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلًا فجعل ينظر العورة، ووجّه القتال، قال: وهكذا كان يفعل؛ ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة. فلما صعد التلّ رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة. فدعا بعض قوّاد الترك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم؛ فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم؛ وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم. ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامّة أصحابه، واحتووا على أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء؛ فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجّب من كفتهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد.
قال: وكان أسد قد أغذّ السير، فأقبل حتى وقف على التلّ الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير؛ قتل يومئذ بركة بن خولي الراسبي وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة. وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت زوجها، فبكى اسد معها حتى علا صوتهن ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري.
قال: وكان مصعب بن عمرو الخزاعي ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا، فلا تعرّضوا لهم. وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بن سريج فأمره فنادى: يا أسد؛ أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد كان لك عن الختل مندوحة؛ وهي أرض آبائي وأجدادي. فقال أسد: كان ما رأيت؛ ولعلّ الله أن ينتقم منك. قال كورمغانون - وكان من عظماء الترك: لم أر يومًا كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أصبت أموالًا عظيمة، ولم أر عدوًا أسمج من أسراء العرب؛ يعدو أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه.
وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد؛ فلما أشرف على الظهر، ورأى المسلمين الترك امتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا، فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم.
قال: فأردف كلّ رجل منهم وصيفًا أو وصيفة، ثم اقبلوا إلى عسكر أسد عند مغيب الشمس. قال: وسار أسد بالنّاس، حتى نزل مع الثقل. وصبحوا أسدًا من الغد؛ وذلك يوم الفطر، فكادوا يمنعونهم من الصلاة. ثم انصرفوا ومضى أسد إلى بلخ؛ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم تفرّق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي هذه الغزاة قيل له بالفارسية:
أز ختلان آمديه ** بروتباه آمديه
آبار باز آمديه ** خشك نزار آمديه
قال: وكان الحارث بن سريج بناحية طخارستان؛ فانضمّ إلى خاقان؛ فلمّا كان ليلة الأضحى قيل لأسد: غنّ خاقان نزل جزّة، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب الناس، وقال: إن عدوّ الله الحارث بن سريج استجلب طاغيته ليطفىء نور الله، ويبدّل دينه، والله مذلّه إن شاء الله. وإن عدوّكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله. وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله؛ وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربّكم، وأخلصوا له الدعاء. ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكّون في الفتح، ثم نزل عن المنبر. وضحّى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك. قال: والله لأخرجنّ؛ فإما ظفر وإما شهادة.
ويقال: أقبل خاقان، وقد استمدّ من وراء النهر وأهل طخارستان وجيغويه الطخاري بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفًا، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة؛ عليها أبو العوجاء بن سعيد العبدي، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء، فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان. فكتب أبو العوجاء إلى أسد بمسيرهم. قال: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده. وقال آخرون: تأخذ في طريق زمّ، وتسبق خاقان إلى مرو.
وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم؛ فوافق قولهم رأي أسد وما كان عزم عليه من لقائهم. ويقال: إن خاقان حين فارق أسدًا، ارتفع حتى صار بأرص طخارستان عند جبغويه، فلمّا كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبثّ الغارات؛ وذلك أن الحارث بن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند؛ فقال البختري ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بثّ الخيول حتى تنزل الجوزجان. فلما بثّ الخيل، قال له البحتري: كيف رأيت رأيي؟ قال: وكيف رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بن أبي روّاد عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل خراسان وأهل الشأم سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بن علي، وأمره ألّا يدع أحدًا يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة. فقال له نصر بن سيار الليثي والقاسم بن بخيت المراغي من الأزد وسليم بن سليمان السلمي وعمرو بن مسلم بن عمرو ومحمد بن عبد العزيز العتكي وعيسى الأعرج الحنظلي والبختري بن أبي درهم البكري وسعيد الأحمر وسعيد الصغير مولى باهلة: أصلح الله الأمير؛ ائذن لنا في الخروج، ولا تهجّن طاعتنا. فأذن لهم ثم خرج فنزل بابًا من أبواب بلخ وضربت له قبة؛ فازتان، وألصق إحداهما بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طوّلهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس: ادعوا الله؛ وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمّن الناس على دعائه؛ فقال: نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله، ثلاث مرات. ثم نادى مناديه: برئت ذمّة الله من رجل حمل امرأة ممّن كان من الجند، قالوا: إنّ أسدًا إنما خرج هاربًا، فخلف أم بكر أم ولده وولده؛ فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟ فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بن الحارث البكري - وزياد جالس - فقطّب أسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم علي. فأضرب ظهره وبطنه. فقال زياد: إن كانت لي فهي حرة، لا والله أيّها الأمير ما معي امرأة، فإنّ هذا عدوّ حاسد.
وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قال لمسعود بن عمرو الكرماني، وهو يومئذ خليفة الكرماني على الأزد: ابغني خمسين رجلًا ودابّة أخلفهم على هذه القنطرة، فلا تدع أحدًا ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود: ومن أين أقدر على خمسين رجلًا! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه، فقام إليه قوم فكلموه فكفّ عنه؛ فلما جاز القنطرة نزل منزلًا، فأقام فيه حتى أصبح؛ وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بن زيد: ليأتمر الأمير على المقام يومه حتى يتلاحق الناس. قال: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة لنا إلى المتخلّفين، ثم ارتحل، وعلى مقدّمته سالم بن منصور البجلي في ثلثمائة، فلقي ثلثمائة من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم معه، وهرب بقيّتهم، فأتى به أسد. قال: فبكى التركي، قال: ما يبكيك؟ قال: لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قال: كيف؟ قال: لأنه قد فرّق جنوده فيما بينه وبين مرو.
قال: وسار أسد؛ حتى نزل السدة - قرية ببلخ - وعلى خيل أهل العالية ريحان بن زياد العامري العبدلي من بني عبد الله بن كعب. قال: فعزله، وصيّر على أهل العالية منصور بن سالم، ثم ارتحل من السدة، فنزل خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقّار بن ذعير، فتطيّر من اسمه واسم أبيه، فقال: ردّوه، قال: إني مقتول بجرأتي على الترك، قال: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارّة استقبله بشر بن رزين - أو رزين بن بشر - فقال بشارة ورزانة؛ ما وراءك يا رزين؟ قال: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قال: قل للمقدام بن عبد الرحمن يطاول رمحي، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد ابن المثنى واريته؛ ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته. أنّ رهجًا ساطعًا طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث، فقال: ألم تزعم أن أسدًا ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ، قال الحارث: هذا اللصّ الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي. فبعث خاقان طلائع، فقال: انظروا هل ترون على الإبل سريرًا وكراسي؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنّهم عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرّة والكراسي، وهذا أسد قد أتاك. فسار أسد غلوة فلقيه سالم بن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله. فقال المجشّر بن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك؛ فضرب وجه دابته، وقال: لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يأهل الصباح، انزلوا، فنزلوا وقرّبوا دوابّهم، وأخذوا النبل والقسي. قال: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة.
قال: وقال عمرو بن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلّى الغداة، فمرّ بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان. قال: وقصور الجوزجان إذ ذاك ذليلة. قال: وأتاه المقدام بن عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في مقاتلته وأهل الجوزجان - وكان عاملها - فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بن الجوزجان: سر معي؛ وكان على التعبئة القاسم بن بخيت المراغي؛ فجعل الأزد وبني تميم والجوجان بن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين عليهم صغراء بن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة، عليهم يحيى بن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرىء من حمير؛ وعلى المقدّمة منصور بن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد.
قال: وعبّى خاقان الحارث بن سريج وأصحابه وملك السغد وصاحب الشاش وخرا بغرة أبا خانا خرّة، جد كاوس وصاحب الختل وجبغويه، والترك كلهم ميمنة. فلمّا التقوا حمل الحارث ومن معه من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل الشأم؛ فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد؛ فشدت عليهم الميمنة - وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان - فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث والأتراك، وحمل الناس جمعيًا، فقال أسد: اللهمّ إنهم عصوني فانصرهم؛ وذهب الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم؛ فاستاقوا أكثر من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة. وأخذ خاقان طريقًا غير الجادّة في الجبل، والحارث بن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر. ويقال: لما واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع، فقال رجل من بني قيس بن ثعلبة: يأهل الشأم؛ أهكذا رأيكم، إذا حضر الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون. وأقبل خاقان في قريب من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوى: إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رأيت من أهل الجوزجان موليًا فاقتله. وقال الجوزجان لعثمان بن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي وطرقها؛ فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قال: ما هو؟ قال: تتبعني؛ قال: نعم؛ فأخذ طريقًا يسمّى ورادك، فأشرفوا على طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف. وقد شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصارف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا، ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على الطوقات، وولّى خاقان مدبرًا منهزمًا، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بن سريج. قال: ولم يعلم الناس أنه خاقان، ووجد عسكر الترك مشحونًا من كلّ شيء من آنية الفضة وصنّاجات الترك. وأراد الخصي أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرّك، فأخذوا خفّها وهو من لبود مضرب.
قال: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين.
قال: وأقام أسد خمسة أيام. قال: فكانت الخيول التي فرّق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي:
لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ** تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيرًا مرة ونقضا ** من الأمير أسد وأمضى
أفضى إلينا، الخير حين أفضى ** وجمع الشمل وكان رفضا
ما فاته خاقان إلا ركضا ** قد فض من جموعه ما فضا
يا بن سريج قد لقيت حمضًا ** حمضًا به يشفى صداع المرضى
قال: وارتحل أسد، فنزل جزّة الجوجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هاربًا منه. وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشأم وأهل العراق، فاستعمل عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، فساروا ونزلوا مدينة تسمّى ورد من أرض جزّة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر - ويقال: أصابهم الثلج - فرجعوا. ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاري، وانصرف البهراني إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم؛ وكان الترك قد بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع؛ فلما صار ببلخ أمر الناس بالصّوم لافتتاح الله عليهم.
قال: وكان أسد يوجّه الكرماني في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون الرجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك؛ ومضى خاقان إلى طخارستان العليا، فأقام عند جبغويه الخزلخي تعززًا به، وأمر بصنيعة الكوسات، فلما جفّت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده؛ فلما ورد شروسنة، تلقّاه خرابغره أبو خاناخره، جدّ كاوس أبي أفشين باللعانين، وأعدّ له هدايا ودوابّ له ولجنده - وكان الذي بينهما متباعدًا - فلما رجع منهزمًا أحب أن يتخذ عنده يدًا، فأتاه بكلّ ما قدر عليه. ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرّق براذين في قوّاد الترك، فلاعب خاقان يومًا كورصول بالنّرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الترقشي، فطلب منه التدرجة، فقال: أنثى، فقال: الآخر ذكر؛ فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرنّ يد كورصول؛ وبلغ كورصول، فتنحّى وجمع جمعًا من أصحابه، فبيت خاقان فقتله؛ فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجرّدًا، فأتاه زريق بن طفيل الكشاني وأهل بيت الحموكيين - وهم من عظماء الترك - فحمله ودفنه، وصنع به ما يصنع بمثله إذا قتل. فتفرّقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشاش؛ فعند ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها. قال: فلم يسلم من خيل الترك التي تفرّقت في الغارات إلا زرّ بن الكسي، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان، وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بن وصّاف العجلي على فرس، فسار حتى نزل الشبورقان. قال: وفيها إبراهيم بن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد حتى قدم على خالد بن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدّقه، وقال للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامّة الكبرى إذا كان صادقًا؛ ولا أراه صادقًا، اذهب فعده ثم سله عمّا يقوله وأتني بما يقول. فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشامًا. قال: فدخل عليه أمر عظيم؛ فدعا به بعد، فقال: من القاسم بن بخيت منكم؟ قال: ذلك صاحب العسكر، قال: فإنه قد أقبل، قال: فإن كان قد أقبل فقد فتح الله على أمير المؤمنين - وكان أسد وجّهه حين فتح الله عليه - فأقبل القاسم بن بخيت، فكبّر على الباب، ثم دخل يكبر وهشام يكبّر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير المؤمنين؛ وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر؛ وهي واحدة عندهم. قال: فحسدت القيسيّة أسدًا وخالدًا؛ وأشاروا على هشام أن يكتب إلى خالد بن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بن حيّان، فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بن حيّان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق؛ فإنك لا تقول غير الحقّ إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك. قالوا: إذًا لا يأخذ شيئًا، قال: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وكذا، وجهزه.
فسار فقدم على هشام بن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال: غزونا الختل، فأصبنا أمرًا عظيمًا، وأنذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة قريبًا من خلم، فانتهى الناس إلى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدوّ؛ فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراري من ذراري المسلمين، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم. ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم الظفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان؛ فأجلي عنه - وهشام متكىء فاستوى جالسًا عند ذكره عسرك خاقان - فقال ثلاثًا: أنتم استبحتم عسكر خاقان! قال: نعم، قال: ثمّ ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا. قال هشام: إن أسدًا لعضيف، قال: مهلًا يا أمير المؤمنين؛ ما أسدٌ بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قال: إن يزيد بن المهلب أخذ من أبي حيّان مائة ألف درهم بغير حقّ؛ فقال له هشام: لا أكلفك شاهدًا، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردّها عليه من بيت مال خراسان؛ وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها؛ فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيّان على كتاب الله وفرائضه. ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقًا أعطى مائة ألف درهم.
وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بن الأشهب بن عتبة الحنظلي. قال: فأوفد أسد إلى خالد بن عبد الله وفدًا في هزيمته يوم سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام، فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهندي الأسدي لأسد يذكر وقعة سان:
أبا منذر رمت الأمور فقستها ** وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته ** برأيك إلا مثل رأي البهائم
أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ** عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله مذ حج راكبولا عمر البطحاء بعد المواسم
فكم من قتيل بين سان وجزة ** كثير الأيادي من ملوك قماقم
تركت بأرض الجوزجان تزوره ** سباع وعقبان لحز الغلاصم
وذي سوقة فيه من السيف خطة ** به رمق حامت عليه الحوائم
فمن هارب منا ومن دائن لنا ** أسير يقاسي مبهمات الأداهم
فدتك نفوس من تميم وعامر ** ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ** جلائبه ترجو احتواء المغانم
قال: وكان السبل أوصى عند موته ابنّ السائجي حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم؛ فإني ملك ولست بملك؛ إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتلمون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى تردّه إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كلّ حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم. فقال له ابن السائجي: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من ردّ الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قال: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم؛ إني قد جرّبت قوّتكم بقوّتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعًا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضًا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم.
قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجي الذي أخبر أسد بن عبد الله بمسير خاقان إليه، فكره محاربة أسد.
ذكر الخبر عن مقتل المغيرة بن سعيد ونفر معه
وفي هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم.
ذكر الخبر عن مقتلهم
أما المغيرة بن سعيد، فإنه كان - فيما ذكر - ساحرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، قال: سمعت المغيرة بن سعيد، يقول: لو أردت أن أحيي عادًا أو ثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا لأحييتهم. قال الأعمش: وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور؛ أو نحو هذا من الكلام.
وذكر أبو نعيم، عن النضر بن محمد، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب العلم؛ فكان عندنا، فأمرتُ جاريتي يومًا أن تشتري لي سمكًا بدرههمين، ثم انطلقت أنا والبصري إلى المغيرة بن سعيد، فقال لي: يا محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قال أفتحبّ أن أخبرك لم سماك أهلك محمدًا؟ قلت: لا، قال: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكًا بدرهمين. قال: فنهضنا عنه. قال أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد القسري فقتله وصلبه.
وذكر أبو زيد أن أبا بكر بن حفص الزهري، قال: أخبرني محمد بن عقيل، عن سعيد بن مرادابند، مولى عمرو بن حريث، قال: رأيت خالدًا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنًا فكع عنه وتأنّى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنًا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بيانًا آخرهم فقدم إلى الطنّ مبادرًا فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه.
قال أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانًا أرسل إلى مالك بن أعين الجهني فسأله فصدّقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به - وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان - قال:
ضربت له بين الطريقين لا حبًا ** وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
وألقيته في شبهة حين سالني ** كما اشتبها في الخط سين وشينها
فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
قال أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: خرج المغبرة بن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل، فقال:
أخالد لا جزاك الله خيرًا ** وأير في حرامك من أمير
تمنى الفخر في قيس وقسر ** كأنك من سراة بني جرير
وأمك علجة وأبوك وغد ** وما الأذناب عدلًا للصدور
جرير من ذوي يمن أصيل ** كريم الأصل ذو خطر كبير
وأنت زعمت أنك من يزيد ** وقد أدحقتم دحق العبور
وكنت لدى المغيرة عبد سوء ** تبول من المخافة للزئير
وقلت لما أصابك: أطعموني ** شرابًا ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخ ** كبير السن ليس بذي نصير
خبر مقتل بهلول بن بشر
وفي هذه السنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل
ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله
ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن بهلولًا كان يتألّه، وكان له قوت دانق، وكان مشهورًا بالبأس عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلًا بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية - وهي من السواد - فكلّمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك؛ فمضى بهلول في حجّه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدعوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلًا، وأمّروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألّا يمرّوا بأحد إلا أخبروه أنّهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجّههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرّون بعامل إلا أخبروه بذلك. وأخذوا دوابّ من دوابّ البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخلّ فأعطى خمرًا، قال بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال؛ فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد؛ فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره؛ فننشدك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد؛ ويبني البيع والكنائس، ويولى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات؛ لعلنا نقتله فيريح الله منه. قال: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده؛ وأرجو أن أقتل هذا الذي قال لي ما قال وأدرك خالدًا فأقتله؛ وإن تركت هذا وأتيت خالدًا شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قال الله عز وجل: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة "، قالوا: أنت ورأيك. فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرابًا، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت؛ وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط حتى أتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشأم من بني القين في جيش قد وجهوا مددًا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة؛ فإنّ من قتل منهم رجلًا أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشأم، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند - وكان الخروج إلى أرض الهند شاقًا عليهم - فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا. فتوجه القيني إليهم في ستمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبّأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا - وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد - وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه؛ فأنفذه. فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله.
وولّى أهل الشأم مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا باب الكوفة، وبهلول وأصحابه يقتلونهم. فأما الشاميون فإنهم كانوا على خيل جياد ففاتوه؛ وأما شرط الكوفة فإنه لحقهم، فقالوا: اتق الله فينا فإنا مكرهون مقهورون؛ فجعل يقرع رءوسهم بالرمح، ويقول: الحقوا! النجاء النجاء! ووجد البهلول مع القيني بدرة فأخذها.
وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي البهلول، فخرجوا إليه يريدون اللحاق به فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: من قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا، وهذا يقول: أنا؛ حتى عرفهم؛ وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم مالًا لقتلهم من قتلوا. فقال بهلول لأهل القرية: أصدق هؤلاء، هم قتلوا النفر؟ قالوا: نعم؛ وخشي بهلول أنهم ادّعوا ذلك طمعًا في المال، فقال لأهل القرية: انصرفوا أنتم؛ وأمر بأولئك فقتلوا، وعاب عليه أصحابه فحاجّهم، فأقرّوا له بالحجّة.
وبلغت هزيمة القوم خالدًا وخبر من قتل من أهل صريفين، فوجّه قائدًا من بني شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم؛ فلقيهم فيما بين الموصل والكوفة، فشدّ عليهم البهلول، فقال: نشدتك بالرحم! فإني جانح مستجير! فكفّ عنه؛ وانهزم أصحابه، فأتوا خالدًا وهو مقيم بالحيرة ينتظر، فلم يرعه إلا الفلّ قد هجم عليه؛ فارتحل البهلول من يومه يريد الموصل؛ فخافه عامل الموصل، فكتب إلى هشام: إنّ خارجة خرجت فعاثت وأفسدت؛ وأنه لا يأمن على ناحيته، ويسأله جندًا يقاتلهم به؛ فكتب إليه هشام: وجّه إليهم كثارة بن بشر - وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه - فكتب إليه العامل: إن الخارج هو كثارة.
قال: ثم قال البهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئًا - يعني خالدًا - وما خرجت إلا لله، فلم لا نطلب الرأس الذي يسلط خالدًا وذوي خالد! فتوجّه يريد هشامًا بالشام، فخاف عمال هشام موجدته إن تركوه يجوز بلادهم حتى ينتهي إلى الشأم، فجند له خالد جندًا من أهل العراق، وجنّد له عامل الجزيرة جندًا من أهل الجزيرة، ووجه إليه هشام جندًا من أهل الشأم؛ فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم - ويقال: التقوا بالكحيل دون الموصل - فأقبل بهلول، فنزل على باب الدير، فقالوا له: تزحزح عن باب الدير حتى نخرج إليك، فتنحّى وخرجوا؛ فلما رأى كثرتهم وهو في سبعين جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل عليهم فقال: أكلّكم يرجو أن يقتلنا ثم يأتي بلده وأهله سالمًا؟ قالوا: إنا نرجو ذلك إن شاء الله، فشدّ على رجل منهم فقتله، فقال: أما هذا فلا يأتي أهله أبدًا؛ فلم يزل ذلك ديدنه حتى قتل منهم ستة نفر؛ فانهزموا، فدخلوا الديّر فحاصرهم، وجاءتهم الأمداد فكانوا عشرين ألفًا، فقال له أصحابه: ألا نعقر دوابّنا، ثم نشدّ عليهم شدة واحدة؟ فقال: لا تفعلوا حتى نبلي الله عذرًا ما استمسكنا على دوابّنا، فقاتلوهم يومهم ذلك كله إلى جنح العصر حتى أكثروا فيهم القتل والجراح.
ثم إن بهلولا وأصحابه عقروا دوابّهم وترجّلوا، وأصلتوا لهم السيوف، فأوجعوا فيهم؛ فقتل عامة أصحاب بُهلول وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، وحمل عليه رجل من جديلة قيس يكنى أبا الموت، فطعنه فصرعه، فوافاه من بقي من أصحابه، فقالوا له: ولّ أمرنا من بعدك من يقوم به، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، فإن هلك دعامة فأمير المؤمنين عمرو اليشكري، وكان أبو الموت إنما ختل البهلول. ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلّاهم، فقال رجل من شعرائهم:
لبئس أمير المؤمنين دعامة ** دعامة في الهيجاء شر الدعائم
وقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولًا، ويذكر أصحابه:
بدلت بعد أبي بشر وصحبته ** قومًا علي مع الأحزاب أعوانًا
كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ** ولم يكونوا لنا بالأمس خلانًا
يا عين أذري دموعًا منك تهتانا ** وابكى لنا صحبةً بانوا وإخوانا
خلّوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ** وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا
قال أبو عبيدة: لما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل. ثم خرج العنزي صاحب الأشهب - وبهذا كان يعرف - على خالد في ستّين، فوجّه إليه خالد السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات. فشدّ العنزي على السمط، فضربه بين أصابعه فألقى سيفه، وشلّت يده. وحمل عليهم فانهزمت الحروريّة فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم، فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
قال أبو عبيدة: ثم خرج وزير السختياني على خالد في نفر؛ وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمرّ بقرية إلا أحرقها، ولا أحد إلا قتله؛ وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجّه إليه خالد قائدًا من أصحابه وشرطًا من شرط الكوفة، فقاتلوه وهو في نفير؛ فقاتل حتى قتل عامة أصحابه، وأثخن بالجراح؛ فأخذ مؤتثًا، فأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، وتلا عليه آيات من القرآن. فأعجب خالدًا ما سمع منه، فأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان لا يزال يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشامًا وسعي به إليه، وقيل: أخذ حروريًا قد قتل وحرق وأباح الأموال، فاستبقاه فاتّخذه سميرًا. فغضب هشام، وكتب إلى خالد يشتمه، ويقول: لا تستبق فاسقًا قتل وحرق، وأباح الأموال؛ فكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت لما كان يسمع من بيانه وفصاحته. فكتب فيه إلى هشام يرقق من أمره - ويقال: بل لم يكتب ولكنه كان يؤخّر أمره ويدفع عنه - حتى كتب إليه هشام يؤنبه ويأمره بقتله وإحراقه؛ فلما جاءه أمر عزيمة لا يستطيع دفعه بعث إليه وإلى نفر من أصحابه كانوا أخذوا معه؛ فأمر بهم فأدخلوا المسجد، وأدخلت أطنان القصب فشدّوا فيها، ثم صبّ عليهم النفط، ثم أخرجوا فنصبوا في الرحبة. ورموا بالنّيران؛ فما منهم أحد إلا من اضطرب وأظهر جزعًا، إلا وزيرًا فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وفي هذه السنة غزا أسد بن عبد الله الختل. وفيها قتل أسد بدرطرخان ملك الختل.
ذكر الخبر عن غزوة أسد الختل هذه الغزوة وسبب قتله بدرطرخان
ذكر علي بن محمد عن أشياخه الذين ذكرناهم قبل أنهم قالوا: غزا أسد ابن عبد الله الختل وهي غزوة بدرطرخان، فوجه مصعب بن عمرو الخزاعي إليها، فلم يزل مصعب يسير حتى نزل بقرب بدرطرخان؛ فطلب الأمان على أن يخرج إلى أسد. فأجابه مصعب، فخرج إلى أسد فطلب منه أشياء فامتنع، ثم سأله بدرطرخان أن يقبل منه ألف ألف درهم، فقال له أسد: إنك رجل غريب من أهل الباميان، اخرج من الختل كما دخلتها. فقال له بدرطرخان: دخلت أنت خراسان على عشرة من المحذفة، ولو خرجت منها اليوم لم تستقلّ على خمسمائة بعير؛ وغير ذلك أني دخلت الختل بشيء فاردده علي حتى أخرج منها كما دخلتها. قال: وما ذاك؟ قال: دخلتها شابًا فكسبت المال بالسيف، ورزق الله أهلًا وولدًا، فاردد علي شبابي حتى أخرج منها؛ هل ترى أن أخرج من أهلي وولدي! فما بقائي بعد أهلي وولدي! فغضب أسد.
قال: وكان بدرطرخان يثق بالأمان، فقال له أسد: أختم في عنقك؛ فإني أخاف عليك معرّة الجند، قال: لست أريد ذلك؛ وأنا أكتفي من قبلك برجل يبلغ بي مصعبًا. فأبى أسد إلّا أن يختم في عنقه، فختم في رقبته ودفعه إلى أبي الأسد مولاه، فسار به أبو الأسد، فانتهى إلى عسكر المصعب عند المساء. وكان سلمة بن أبي عبد الله في الموالي مع مصعب، فوافى أبو الأسد سلمة، وهو يضع الدرّاجة في موضعها، فقال سلمة لأبي الأسد: ما صنع الأمير في أمر بدرطرخان؟ فقصّ الذي عرض عليه بدرطرخان وإباء أسد ذلك، وسرحه معه إلى المصعب ليدخله الحصن. فقال سلمة: إن الأمير لم يصب فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم؛ إنما كان ينبغي له أن يقبض ما عرض عليه أو يحبسه فلا يدخله حصنه؛ فإنا إنما دخلناه بقناطر اتّخذناها، ومضايق أصلحناها؛ وكان يمنعه أن يغير علينا رجاء الصلح؛ فأما إذ يئس من الصلح فإنه لا يدع الجهد. فدعه الليلة في قبّتي؛ ولا تنطلق به إلى مصعب؛ فإنه ساعة ينظر إليه يدخله حصنه.
قال: فأقام أبو الأسد وبدرطرخان معه في قبّة سلمة، وأقبل أسد بالناس في طريق ضيّق، فتقطّع الجند، ومضى أسد حتى انتهى إلى نهر وقد عطش - ولم يكن أحد من خدمه - فاستسقى؛ وكان السغدي بن عبد الرحمن أبو طعمة الجرمي معه شاكري له، ومع الشاكري قرن تبتي؛ فأخذ السغدي القرن؛ فجعل فيه سويقًا، وصبّ عليه ماء من النهر، وحركه وسقى أسدًا وقومًا من رؤساء الجند، فنزل أسد في ظلّ شجرة، ودعا برجل من الحرس، فوضع رأسه في فخذه، وجاء المجشّر بن مزاحم السلمي يقود فرسه حتى قعد تجاهه حيث ينظر أسدًا، فقال أسد: كيف أنت يا أبا العدبسّ؟ قال: كنت أمس أحسن حالًا منّي اليوم، قال: وكيف ذاك؟ قال: كان بدرطرخان في أيدينا وعرض ما عرض؛ فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شدّ يده عليه؛ لكنه خلّى سبيله؛ وأمر بإدخاله حصنه لما عنده - زعم - من الوفاء. فندم أسد عند ذلك، ودعا بدليل من أهل الختّل ورجل من أهل الشأم نافذ، فاره الفرس فأتى بهما، فقال للشامي: إن أنت أدركت بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم، فتوجّها حتى انتهيا إلى عسكر مصعب؛ فنادى الشأمي: ما فعل العلج؟ قيل: عند سلمة، وانصرف الدليل إلى أسد بالخبر، وأقام الشامي مع بدرطرخان في قبة سلمة، وبعث أسد إلى بدرطرخان فحوّله إليه فشتمه، فعرف بدرطرخان أنه قد نقض عهده، فرفع حصاة فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد الله؛ وأخذ أخرى فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد محمد صلى الله عليه، وأخذ يصنع كذلك بعهد أمير المؤمنين وعهد المسلمين؛ فأمر أسد بقطع يده، وقال أسد: من هاهنا من أولياء أبي فديك؟ رجل من الأزد قتله بدرطرخان، فقام رجل من الأزد فقال: أنا، قال: اضرب عنقه؛ ففعل. وغلب أسد على القلعة العظمى، وبقيت قلعة فوقها صغيرة فيها ولده وأمواله، فلم يوصل إليهم، وفرق أسد الخيل في أودية الختل.
قال: وقدم أسد مرو، وعليها أيوب بن أبي حسان التميمي. فعزله واستعمل خالد بن شديد، ابن عمه. فلما شخص إلى بلخ بلغه أنّ عمارة بن حريم تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فكتب إلى خالد بن شديد احمل عمارة على طلاق ابنة يزيد؛ فإن أبي فاضربه مائة سوط؛ فبعث إليه فأتاه وعنده العذافر بن زيد التميمي، فأمره بطلاقها، ففعل بعد إباء منه؛ وقال عذافر: عمارة والله فتى قيس وسيّدها، وما بهاعليه أبّهة؛ أي ليست بأشراف منه. فتوفّي خالد بن شديد، واستخلف الأشعث بن جعفر البجلي.
ظهور الصحاري بن شبيب الخارجي
وفيها شرى الصحاري بن شبيب، وحكم بجبل.
ذكر خبره
ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن الصحاري بن شبيب أتى خالدًا يسأله الفريضة، فقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة! فودّعه ابن شبيب، ومضى، وندم خالد وخالف أن يفتق عليه فتقًا، فأرسل إليه يدعوه، فقال: أنا كنت عنده آنفًا؛ فأبوا أن يدعوه، فشدّ عليهم بسيفه، فتركوه فركب وسار حتى جاوز واسطًا، ثم عقر فرسه وركب زورقًا ليخفي مكانه، ثم قصد إلى نفر من بني تيم اللات بن ثعلبة، كانوا بجبل، فأتاهم متقلدًا سيفًا فأخبرهم خبره وخبر خالد، فقالوا له: وما كنت ترجو بالفريضة! كنت لأن تخرج إلى ابن النصرانية فتضربه بسيفك أحرى. فقال: إني والله ما أردت الفريضة، وما أردت إلا التوصّل إليه لئلا ينكرني، ثم أقتل ابن النصرانيّة غيلة بقتله فلانًا - وكان خالد قبل ذلك قد قتل رجلًا من قعدة الصفرية صبرًا - ثم دعاهم الصحاري إلى الوثوب معه فأجابه بعضهم، وقال بعضهم: ننتظر؛ وأبى بعضهم وقالوا: نحن في عافية، فلما رأى ذلك قال:
لم أرد منه الفريضة إلا ** طمعًا في قتله أن أنالا
فأريح الأرض منه وممن ** عاث فيها وعن الحق مالا
كل جبار عنيد أراه ** ترك الحق وسن الضلالا
إنني شارٍ بنفسي لربي ** تارك قيلا لديهم وقالا
بائع أهلي ومالي أرجو في جنان الخلد أهلًا ومالا
قال: فبايعه نحو من ثلاثين، فشرى بجبل، ثم سار حتى أتى المبارك. فبلغ ذلك خالدًا، فقال. قد كنت خفتها منه. ثم وجه إليه خالد جندًا، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالًا شديدًا، ثم انطووا عليه فقتلوه وقتلوا جميع أصحابه.
قال أبو جعفر: وحجّ بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحجّ معه ابن شهاب الزهري في هذه السنة.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله القسري، وعامل خالد على خراسان أخوه أسد بن عبد الله.
وقد قيل: إن أخا خالد أسدًا هلك في هذه السنة، واستخلف عليها جعفر بن حنظلة البهراني.
وقيل: إن أسدًا أخا خالد بن عبد الله إنّما هلك في سنة عشرين ومائة.
وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.
ثم دخلت سنة عشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتاحه - فيما ذكر - سندرة، وغزوة إسحاق بن مسلم العقيلي وافتتاحه قلاع تومانشاه وتخريبه أرضه، وغزوة مروان بن محمد أرض الترك.
خبر وفاة أسد بن عبد الله القسري
وفيها كانت وفاة أسد بن عبد الله في قول المدائني.
ذكر الخبر عن سبب وفاته
وكان سبب ذلك أنه كانت به - فيما ذكر - دبيلة في جوفه؛ فحضر المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين؛ فكان ممن قدم عليه إبراهيم بن عبد الرحمن الحنفي عامله على هراة وخراسان، ودهقان هراة؛ فقدما بهدية قومت بألف ألف؛ فكان فيما قدما به قصران: قصر منفضة وقصرمن ذهب، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على السرير، وأشاراف خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين؛ ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج المروي والقوهي والهروي وغير ذلك؛ حتى امتلأ السماط؛ وكان فيما جاء به الدهقان أسدًا كرة من ذهب؛ ثم قام الدهقان خطيبًا، فقال: أصلح الله الأمير! إنا معشر العجم؛ أكلنا الدنيا أربعمائة سنة؛ أكلناها بالحلم والعقل والوقار؛ ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل؛ وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يده، والذي يليه رجل تمت مروته في بيته فإن كان كذلك رجيَ وعظم، وقود وقدم؛ ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي؛ فإذا كان كذلك قود وقدم؛ وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة الذين أكلنا الدنيا بهم أربعمائة سنة فيك أيها الأمير؛ وما نعلم أحدًا هو أتم كتخدانية منك؛ إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك؛ فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدّى على صغير ولا كبير، ولا غني ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز؛ فيجيء الجائي من المشرق والآخر من المغرب؛ فلا يجدان عيبًا إلا أن يقولا: سبحان الله ما أحسن ما بني! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف، معه الحارث ابن سريج فهزمته وفللته، وقتلت أصحابه، وأبحت عسكره. وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنّا ما ندري أي المالين أقرّ لعينك؟ أمالٌ قدم عليك، أم مال خرج من عندك! بل أنت بما خرج أقرّ عينًا. فضحك أسد، وقال: أنت خير دهاقين خراسان وأحسنهم هديّة. وناوله تفاحة كانت في يده؛ وسجد له دهقات هراة، وأطرق أسد ينظر إلى تلك الهدايا؛ فنظر عن يمينه، فقال: يا عذافر بن يزيد، مر من يحمل هذا القصر الذهب، ثم قال: يا معن بن أحمر رأس قيس - أو قال قنسرين - مر بهذا القصر يحمل، ثم قال: يا فلان خذ إبريقًا، ويا فلان خذ إبريقًا، وأعطى الصحاف حتى بقيت صحفتان، فقال: قم يا بن الصيداء، فخذ صحيفة، قال: فأخذ واحدة فرزنها فوضعها، ثم أخذ الأخرى فرزنها، فقال له أسد: مالك؟ قال: آخذ أرزنهما، قال: خذهما جميعًا؛ وأعطى العرفاء وأصحاب البلاء؛ فقام أبو اليعفور - وكان يسير أمام صاحب خراسان في المغازي - فنادى: هلم إلى الطريق، فقال أسد: ما أحسن ما ذكرت بنفسك! خذ ديباجتين، وقام ميمون العذاب فقال: إلي، إلى يساركم، إلى الجادة؛ فقال: ما أحسن ما ذكرت نفسك! خذ ديباجة، قال: فأعطى ما كان في السمّاط كلّه، فقال نهر بن توسعة:
تقلون إن نادي لروعٍ مثوب ** وأنتم غداة المهرجان كثير
ثم مرض أسد، فأفاق إفاقة فخرج يومًا، فأتى بكمثرى أول ما جاء، فأطعم الناس منه واحدة واحدة؛ وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة، فانقطعت الدبيلة، فهلك. واستخلف جعفرًا البهراني، وهو جعفر بن حنظلة سنة عشرين ومائة فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيّار في رجب سنة إحدى وعشرين ومائة، فقال ابن عرس العبدي:
نعى أسد بن عبد الله ناع ** فريع القلب للملك المطاع
ببلخ وافق المقدار يسرى ** وما لقضاء ربك من دفاع
فجودي عين بالعبرات سحًا ** ألم يحزنك تفريق الجماع!
أتاه حمامه في جوف صيغ ** وكم بالصيغ من بطل شجاع!
كتائب قد يجيبون المنادي ** على جرد مسومة سراع
سقيت الغيث إنك كنت غيثًا ** مريعًا عند مرتاد النجاع
وقال سليمان بن قتة مولى بني تيم بن مرة - وكان صديقًا لأسد:
سقى الله بلخًا، سهل بلخ وحزنها ** ومروى خراسان السحاب المجمعا
وما بي لتسقاه ولكن حرفة ** بها غيبوا شلوًا كريمًا وأعظما
مراجم أقوام ومردى عظيمة ** وطلاب أوتار عفرنًا عثمثما
لقد كان يعطى السيف في الروع حقه ** ويروى السنان الزاغبي المقوما
أمر شيعة بنى العباس بخراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجّهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن علي بن العباس سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
ذكر الخبر عن سبب توجيههم سليمان إلى محمد
وكان السبب في ذلك موجدة كانت من محمد بن علي على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم، كانت لخداش الذي ذكرنا خبره قبل وقبولهم منه ما روى عليه من الكذب؛ فترك مكاتبتهم؛ فلما أبطأ عليهم كتابه، اجتمعوا فذكروا ذلك بينهم؛ فأجمعوا على الرِّضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم، ويخبره عنهم، ويرجع إليهم بما يردّ عليه؛ فقدم - فيما ذكر - سليمان بن كثير على محمد بن علي وهو متنكر لمن بخرسان من شيعته، فأخبره عنهم، فعنفهم في إتّباعهم خداشًا وما كان دعا إليه، وقال: لعن الله خداشًا ومن كان على دينه! ثم صرف سليمان إلى خراسان، وكتب إليهم معه كتابًا، فقدم عليهم، ومعه الكتاب مختومًا، ففضوا خاتمه فلم يجدوا فيه شيئًا، إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فلفظ ذلك عليهم وعلموا أن ما كان خداش أتاهم به لأمره مخالف.
وفي هذه السنة وجّه محمد بن علي بكير بن ماهان إلى شيعته بخراسان بعد منصرف سليمان بن كثير من عنده إليهم، وكتب معه إليهم كتابًا يعلمهم أن خداشًا حمل شيعته على غير منهاجه. فقدم عليهم بكير بكتابه فلم يصدقوه واستخفوا به؛ فانصرف بكير إلى محمد بن علي؛ فبعث معه بعصى مضببة بعضها بالحديد وبعضها بالشّبه؛ فقدم بها بكير وجمع النقباء والشيّعة، ودفع إلى كلّ رجل منهم عصًا، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته، فرجعوا وتابوا.
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن أعماله التي كان ولاه إياها كلَّها.
ذكر سبب عزل هشام خالدا
قد قيل في ذلك أقوال، نذكر ما حضرنا من ذلك ذكره؛ فمما قيل في ذلك: إن فروخ أبا المثنى كان قد تقبّل من ضياع هشام بن عبد الملك بموضوع يقال له رستاق الرمان أو نهر الرمان - وكان يدعي بذلك فروخ الرماني - فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطي: ويحك! اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فرّوخ، فخرج فزاد عليه ألف ألف درهم؛ فبعث هشام رجلين من صلحاء أهل الشأم، فحازا الضياع، فصار حسان أثقل على خالد من فرّوخ؛ فجعل يضربه، فيقول له حسان: لا تفسدني وأنا صنيعتك! فأبى إلّا الإضرار به، فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع. ثم خرج إلى هشام، فقال: إن خالدًا بثق البثوق على ضياعك. فوجّه هشام رجلًا، فنظر إليها ثم رجع إلى هشام فأخبره، فقال حسان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار، قال: فجعّل لي الألف وأقول ما شئت، قال: فعجّلها له وقال له: بك صيبًّا من صبيان هشام؛ فإذا بكى فقل له: اسكت؛ والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلّته ثلاثة عشر ألف ألف. فسمعها هشام فأغضى عليها. ثم دخل عليه حسان بعد ذلك، فقال له هشام إدن مني فدنا منه، فقال: كم غلة خالد؟ ثلاثة عشر ألف ألف، قال: فكيف لم تخبرني بهذا! قال: وهل سألتني؟ فوقرت في نفس هشام، فأزمع على عزله.
وقيل: كان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنت بدون مسلمة بن هشام؛ فإنّك لتفخر على النناس بثلاث لا يفخر بمثلها أحدٌ: سكرت دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولى سقايةٌ بمكة، ولي ولاية العراق.
وقيل: إنما أغضب هشامًا على خالد أن رجلًا من قريش دخل على خالد فاستخف به وعضه بلسانه، فكتب إلى هشام يشكوه، فكتب هشام إلى خالد:
أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين - وإن كان أطلق لك يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه، للّذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن تدبيرك - لم يفرشك غرة أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تحد إليه بصرك؛ فكيف بك وقد بسطت على غرتهم بالعراق لسانك بالتوبيخ؛ تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره؛ زعمت بالنصفة منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ في اللفظ عليه في مجلس العامة، غير متحلحل له حين رأيته مقبلًا من صدر مهادك الذي مهد له الله، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصةً، مساوين بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين؛ حتى حللت هضبةً أصبحت تنحو بها عليهم متفخرًا. هذا إن لم يدهده بك قلة شكرك متحطّمًا وقيذًا. فهلّا - يابن مجرشة قومك - أعظمت رجلهم عليك داخلًا، ووسعت مجلسه إذ رأيته إليك مقبلًا، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرمًا، ثم فاوضته مقبلًا ببشرك، إكرامًا لأمير المؤمنين، فإذا اطمأن به مجلسه نازعته بحيي السرار، معظمًا لقرابته، عارفًا لحقّه؛ فهو سن البيتين ونابهم، وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرتهم. وبالله يقسم أمير المؤمنين لك لولا ما تقدم من حرمتك وما يكره من شماتة عدوك بك لوضع منك ما رفع؛ حتى يردّك إلى حال تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك. وما أقربني من أن أجعلك تابعًا لمن كان لك تبعًا؛ فانهض على أي حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه، من ليل أو نهار، ماشيًا على قدمك بمن معك من خولك حتى تقف على باب ابن عمرو صاغرًا، مستأذنًا عليه، متنصّلا إليه؛ أذن لك أو منعك؛ فإن حركته عواطف رحمة احتملك، وإن احتملته أنفة وحمية من دخولك عليك فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل؛ ثم أمرك بعد إليه؛ عزل أو ولىّ، انتصر أو عفا؛ فلعنك الله من متكل عليه بالثقة؛ ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشرف ألفاظك؛ التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق، وأقدم وأقوم. وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمّه بما كتب به إليك من إنكاره عليك، ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه، مفوضًا ذلك إليه مبسوطة فيه يده، محمودًا عند أمير المؤمنين على أيّهما آتى إليك موفقًا إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى ابن عمرو:
أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفيهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامة محتقرًا لقدرك، مستصغرًا لقرابتك من أمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه، تعظيمًا لأمير المؤمنين وسلطانه، وتمسكًا بوثائق عصم طاعته، مع مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه، وإكثابه عليك عند إطراقك عنه، مرويًّا فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوّه من خموله؛ وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذنّابي وطائشة أحلامها، صمت من غير إفحام، بل بأحلام تخف بالجبال وزنًا. وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه، وتوقيرك سلطانه وشكره؛ وقد جعل أمر خالد إليك في عزلك إياه أو إقراره؛ فإن عزلته أمضى علك إياه. وإن أقررته فتلك منَّه لك عليه لا يشكرك أمير المؤمنين فيها. وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله إليه، يأمره بإتيانك راجلًا على أيّة حال صادفه كتاب أمير المؤمنين فيها، وألفاه رسوله الموجّه إليه من ليله أو نهاره حتى يقف ببابك؛ أذنت له أو حجته، أقررته أو عزلته، وتقدم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك على رأسه عشرين سوطًا إلا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته؛ فأيّهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برّك وعظم حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقًا، وإليه حبيبًا، فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد. فكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك مبتدئًا ومجيبًا ومحادثًا وطالبًا؛ ما عسى أن ينزل بك أهلك من أهل بيت أمير المؤمنين، من حوائجهم التي تعقد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلة إمكان الخروج لإنزالها به؛ غير متحشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه، على قدر قرابتهم وأديانهم وأنسابهم، مستمنحًا ومسترفدًا، وطالبًا مستزيدًا تجد أمير المؤمنين إليك سريعًا بالبرّ لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حقّ قرابته، وعليه يتوكل، وبه بثق. والله وليّه ومولاه. والسلام.
وقيل: إنّ خالدًا كان كثيرًا ما يذكرهشامًا، فيقول: ابن الحمقاء. وكانت أم هشام تستحمق، وقد ذكرنا خبرها قبل.
وذكرنا أنه كتب إلى هشام كاتبًا غاظه، فكتب إليه هشام: يابن أمّ خالد؛ قد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف؛ فيابن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفًا، وأنت من بجلية القليلة الذليلة! أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش؛ يشد يديك إلى عنقك.
وذكر أن هشامًا كتب إليه: قد بلغني قولك: أنا خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز؛ ما أنا بأشرف الخمسة. أما والله لأردّنك إلى بغلتك وطيلسانك الفيروزي.
وذكر أن هشامًا بلغه أنه يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين! فظهر الغضب في وجهه.
وقيل: إن هشامًا قدم عليه رجل من أهل الشأم، فقال: إني سمعت خالدًا ذكر أمير المؤمنين بما لا نتطلق به الشفتان؛ قال: قال: الأحول؟ قال: لا، بل قال أشدّ من ذلك، قال: فما هو؟ قال: لا أقوله أبدًا، فلم يزل يبلغه عنه ما يكره حتى تغير له.
وذكر أن دهقانًا دخل على خالد، فقال: أيّها الأمير، إن غلة ابنك قد زادت على عشرة آلاف ألف؛ ولا آمن أن بيلغ هذا أمير المؤمنين فيستكثره. وإن الناس يحبون جسدك، وأنا أحب جسدك وروحك؛ قال: إن أسد بن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، فأنت أمرته؟ قال: نعم، قال: ويحك! دع ابني، فلربما طلب الدرهم فلم يقدر عليه.
ثم عزل هشام - لما كثر عليه ما يتصل به عن خالد من الأمور التي كان يكرهها - على عزله؛ فلما عزم على ذلك أخفى ما قد عزم له عليه من أمره.
ذكر الخبر عن عمل هشام في عزل خالد حين صح عزمه على عزله
ذكر عمر أن عبيد بن جنّاد حدثّه أنه سمع أباه وبعض الكتبة يذكر أن هشامًا أخفى عزل خالد، وكتب إلى يوسف بخطّه - وهو على اليمن - أن يقبل في ثلاثين من أصحابه. فخرج يوسف حتى صار إلى الكوفة، فعرّس قريبًا منها، وقد ختن طارق - خليفة خالد على الخراج - ولده؛ فأهدى له ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة؛ سوى الأموال والثياب وغير ذلك؛ فمرّ العاس بيوسف وأصحابه، ويوسف يصلي ورائحة الطيب تنفح من ثيابه، فقال: ماأنتم؟ قالوا: سفار؛ قال فأين تريدون؟ قالوا بعض المواضع، فأتوا طارق وأصحابه، فقالوا: إنا رأينا قومًا أنكرناهم، والرأي أن نقتلهمم، فإن كانوا خوارج استرحنا منهم؛ وإن كانوا يريدونكم عرفتم ذلك فاستعددتم على أمرهم. فنهوهم عن قتلهم؛ فطافوا؛ فلما كان في السَّحر وقد انتقل يوسف وصار إلى دور ثقيف، فمرّ بهم العاسّ، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: سفّار قال فأين تريدون؟ قالوا بعض المواضع، فأتوا طارقًا وأصحابه، فقالوا: قد صاروا إلى دور ثقيف والرأي أن نقتلهم، فمنعوهم وأمر يوسف بعض الثقفييّن، فقال: اجمع لي من بها من مضر ففعل، فدخل المسجدمع الفجر، فأمر المؤذّن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الإمام؛ فانتهره فأقام، وتقدّم يوسف فقرأ: " إذا وقعت الواقعة "، و " سأل سائل "، ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما، فأخذوا وإنّ القدور لتغلي.
قال عمر: قال علي بن محمد، قال: قال الربيع بن سابور مولى بني الحريش - وكان هشام جعل إليه الخاتم مع الحرس: أتى هشامًا كتاب خالد فغاظه، وقدم عليه في ذلك اليوم جندب مولى يوسف بن عمر بكتاب يوسف، فقرأه ثم قال لسالم مولى عنبسة بن عبد الملك: أجبه عن لسانك، وكتب هو بخطّه كتابًا صغيرًا، ثم قال لي: ائتني بكتاب سالم - وكان سالم على الديوان - فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغّير، ثم قال لي: اختمه ففعلت، ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعدٍّ طوره، ويسأل فوق قدره؛ ثم قال لي مزق ثيابه. ثم أمر به فضرب أسواطًا، فقال: أخرجه عني وادفع إليه كتابه. فدفعت إليه الكتاب، وقلت له: ويلك! النجاء! فارتاب بشير بن أبي ثلجة من أهل الأردنّ، وكان خليفة سالم وقال: هذه حيلة؛ وقد ولّى يوسف العراق؛ فكتب إلى عامل لسالم على أجمة سالم، يقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوّب اليماني؛ فإذا أتاك فالبسه واحمد الله، وأعلم ذلك طارقًا. فبعث عياض إلى طارق بن أبي زياد بالكتاب، وندم بشير على كتابه، وكتب إلى عياض: إن أهلك قد بادا لهم في إمساك الثوب فلا تتكل عليه؛ فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول؛ ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الخبر فكتب بهذا. وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط؛ فسار يومًا وليلة، فصبحهم، فرآه داود البربري - وكان على حاجة خالد وحرسه وعلى ديوان الرسائل - فأعلم خالدًا، فغضب، وقال: قدم بغغير إذن؛ فأذن له، فلمّا رآه قال: ما أقدمك؟ قال: أمرٌ كنت أخطأت فيه؛ قال: وما هو؟ قال: وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزّيه عنه، وإنما كان ينبغي لي أن آتيه ماشيًا. فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك، قال: أردت أن أذكر للأميرأمرًا أسرُّه، قال: ما دون داود سرّ قال: أمر من أمري، فغضب داود وخرج، وأخبر طارق خالدًا، قال: فما الرأي؟ قال تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك. قال: فبئس الرجل أنا إذًا إن ركبت إليه بغير إذنه، قال: فشيء آخر، قال: وما هو؟ قال: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشأم، فأستأذنه لك؛ فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه، قال: ولا هذا، قال: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهدك مستقبلا، قال: وما يبلغ ذاك؟ قال: مائة ألف ألف، قال: ومن أين آخذ هذا! والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قال: أتحمل أنا وسعيد بن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزيني وأبان بن الوليدعشرين ألف ألف؛ وتفّرق الباقي على العمال، قال: إني إذًا للئيم، أن كنت سوغت قومًا شيئًا ثم أرجع فيه، فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال؛ وهي عند تجار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربصون بنا فنقتل، ويأكلون تلك الأموال. فأبى خالد فودعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا؛ ومضى.
ودخل داود، فأخبه خالد بقول طارق، فقال: قد علم أنك لا تخرج بغير إذن؛ فأراد أن يختلك ويأتي الشأم، فيتقبل بالعراق هو وابن أخيه سعيد بن راشد. فرجع طارق إلى الكوفة، وخرج خالد إلى الحمة.
قال: وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال له: ما وراءك؟ قال: الشرّ، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان. ففضّ الكتاب فقرأه، فلما اتنهى إلىآخره قرأ كتاب هشام بخطه: أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بذاك أحد؛ وخذ ابن النصرانيّة وعمّاله فافشنى منهم؛ فقال يوسف: انظروا دليلًا عالمًا بالطريق، فأتى بعدةّ، فاختار منهم رجلًا وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصلت فشيَّعه؛ فلما أراد أن ينصرف سأله: أين تريد؟ فضربه مائة سوط، وقال: يابن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقرّ بي منزل، فسار، فكان إذا أتى إلى طريقين سأل، فإذا قيل: هذا إلى العراق، قال: أعرق، حتى أتي الكوفة.
قال عمر: قال علي عن بشر بن عيسى، عن أبيه، قال: قال حسان النبطي: هيأت لهشام طيبًا، فإني لبين يديه وهو ينظر إلى ذلك الطِّيب إذ قال لي: يا حسان، في كم يقدم القادم من العراق إلى اليمن؟ قال: قلت: لا أدري، فقال:
أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني ** فأصبحت مسلوب الإمارة نادمًا
قال: فلم يلبث إلا قليلًا حتى جاء كتاب يوسف من العراق قد قدمها؛ وذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة.
قال عمر: قال علي: قال سالم زنبيل: لما صرنا إلى النجَّف قال لي يوسف: انطلق فأتني بطارق؛ فلم أستطيع أن آبى عليه، وقلت في نفسي: من لي بطارق في سلطانه! ثم أتيت الكوفة، فقلت لغلمان طارق: استأذنوا لي على طارق، فضربوني فصحت له: ويلك يا طارق! أنا سالم رسول يوسف، وقد قدم على العراق. فخرج فصاح بالغلمان، وقال: أنا آتيه.
قال: وروى أن يوسف قال لكيسان: انطلق فأتني بطارق؛ فإن كان قد أقبل فاحمله على إكاف، وإن لم يكن أقبل فأت به سحبًا. قال: فأتيته بالحيرة دار عبد المسيح - وهو سيد أهل الحيرة - فقلت له: إن يوسف قد قدم على العراق؛ وهو يأمرك أن تشد طارقًا وتأتيه به؛ فخرج هو وولده غلمانه حتى أتوا منزل طارق - وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعاء لهم سلاح وعدة - فقال لطارق: إن أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم، ثم طرت على وجهك. فذهب حيث شئت. قال: فأذن لكسان، فقال أخبرني عن الأمير، يريد المال؟ قال: نعم قال: فأنا أعطيه ما سأل؛ وأقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضربًا مبرحًا - يقال خمسمائة سوط - ودخل الكوفة، وأرسل عطاء بن مقدّم إلى خالد بالحمّة.
قال عطاء: فأتيت الحاجب فقلت: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل وهو متغير الوجه فقال له خالد: مالك؟ قال: خير قال: ما عندك خير، قال: عطاء بن مقدّم، استأذن لي على أبي الهيثم، فقال: ائذن له فدخلت: فقال: ويل أمها سخطة؟ قال: فلم أستقرّ حتى دخل الحكم بن الصلت، فقعد معه، فقال له خالد: ما كان ليلى على أحد هو أحب إلي منكم.
وخطب يوسف بالكوفة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني بأخذ عمال ابن النصرانّية وأن أشفيه منهم وسأفعل وأزيد والله يا أهل العراق؛ ولأقتلن منافقيكم بالسيف وجناتكم بالعذاب وفسّاقكم. ثم نزل ومضى إلى واسط وأتى بخالد وهو بواسط.
قال عمر: حدثني الحكم بن النضّر: قال سمعت أبا عبيدة يقول: لما حبس يوسف خالدًا صالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم قال: ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء. وأخبر أصحاب خالد خالدًا، فقال: قد أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم، فارجعوا. فجاءوا فقالوا: إنا أخبرنا خالدًا فلم يرض بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه، فقال: أنتم أعلموصاحبكم؛ فأما أنا فلا أرجع عليكم؛ فإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: قإنا قد رجعنا، قال: وقد فعلتم؟ قالوا: نعم، قال: فمنكم أتى النقض؛ فوالله لا أرضى بتسعة آلاف ألف ولامثليها ولا مثلها، فأخذ أكثر من ذلك. وقد قيل: إنه أخذ مائة ألف ألف.
وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، أن هشامًا أزمع على عزل خالد، وكان سبس ذلك أنه اعتقد بالعراق أموالًا وحفر أنهارًا؛ حتى بلغت غلته عشرين ألف ألف؛ منها نهر خالد، وكان يغلّ خمسة آلاف ألف وباجوّى وبارمان والمبارك والجامع وكورة سابور والصّلح، وكان كثيرًا ما يقول: إنني والله مظلوم؛ ما تحت قدمي من شيء إلا وهو لي - يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد.
قال الهيثم بن عدي: أخبرني الحسن بن عمارة، عن العريان بن الهيثم، قال: كنت كثيرًا ما أقول لأصحابي: إنّي أحسب هذا الرجل قد تخلّى منه؛ إن قريشًا لا تحتمل هذا ونحوه؛ وهم أهل حسد، وهذا يظهر ما يظهر، فقلت له يومًا: أيها الأمير؛ إنّ الناس قد رموك بأبصارهم، وهي قريش وليس بينك وبينها إلّ، وهم يجدون منك بدًا؛ وأنت لا تجد منهم بدًا؛ فأنشدك الله إلا ما كتبت إلى هشام تخبره عن أموالك، وتعرض عليه منها ما أحبّ؛ فما أقدرك على أن تتخذ مثلها؛ وهو لا يستفسدك؛ وإن كان حريصًا على ذلك فلعمري لأن يذهب بعض ويبقى بعض خير من أن تذهب كلها؛ وما كان يستحسن فيما بينك وبينه أن يأخذها كلها، ولا آمن أن يأتيه باغ أو حاسد فيقبل منه؛ فلأن تعطيه طائعًا خير من أن تعطيه كارهًا. فقال: ما أنت بمتهم؛ ولا يكون ذلك أبدًا. قال: فقلت أطعني واجعلني رسولك، فوالله لا يحلّ عقدة إلا شددتها، ولا يشدّ عقدة إلا حللتها. قال: إنّا والله لا نعطي على الذلّ، قال: قلتُ: هل كانت لك هذه الضياع إلا في سلطانه؟ وهل تستطيع الامتناع منه إن أخذها؟! قال: لا، قلت: فبادره، فإنه يحفظها لك ويشكرك عليها؛ ولو لم تكن له عندك يد إلّا ما ابتدأك به كنت جديرًا أن تحفظه، قال: لا والله لا يكون ذلك أبدًا، قال: قلت فما كنت صانعًا إذا عزلك وأخذ ضياعك فاصنعه، فإنّ إخوته وولده وأهل بيته قد سبقوا لك، وأكثروا عليه فيك، ولك صنائع تعود عليهم بما بدا لك، ثم استدرك استتمام ما كان منك إلى صنائعك من هشام. قال: قد أبصرت ما تقول وليس إلى ذلك سبيل. وكان العريان يقول: كأنكم به قد عزل، وأخذ ما له وتجنى عليه ثم لا ينتفع بشيء. قال: فكان كذلك.
قال الهيثم: وحدثني ابن عيّاش، أنّ بلال بن أبي بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتّب هشام عليه: إنّه حدث أمر لا أجد بدًا من مشافهتك فيه؛ فإن رأيت أن تأذن لي؛ فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفًا. فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت. فركب هو وموليان له الجمّازات؛ فسار يومًا وليلة، ثم صلى المغرب بالكوفة؛ وهي ثمانون فرسخًا، فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصّب، فقال: أبا عمرو، أتعبت نفسك، قال: أجل، قال: متى عهدك بالبصرة؟ قال: أمس، قال: أحق ما تقول! قال: هو والله ما قلت، قال: فما أنصبك؟ قال: ما بلغني من تعتّب أمير المؤمنين وقوله، وما بغاك به ولده وأهل بيته؛ فإن رأيت أن أتعرّض له وأعرض عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحبّ وأنفسنا به طيّبة، ثم أعرض عليه مالك، فما أخذ منه فعلينا العوض منه بعد. قال: ما أتّهمك وحتى أنظر؛ قال: إني أخاف أن تعاجل، قال: كلا، قال: إن قريشًا من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك قال: يا بلال؛ إني والله ما أعطي شيئًا قسرًا أبدًا. قال أيها الأمير، أتكلم؟ قال: نعم، قال: إن هشامًا أعذر منك، يقول: استعملتك. وليس لك شيء، فلم تر من الحق عليك أن تعرض علي بعض ما صار إليك؛ وأخاف أن يزيّن له حسان النبطي ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة. قال: أنا ناظر في ذلك فانصرف راشدًا. فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بهذا الرجل قد بعث إليه رجل بعيد أتي، به حمز، بغيض النفس سخيف الدين، قليل الحياء، يأخذه بالإحن والترات. فكان كما قال.
قال ابن عياش: وكان بلال قد اتخذ دارًا بالكوفة، وإنما استأذن خالدًا لينظر إلى داره، فما نزلها إلّا مقيّدًا، ثم جعلت سجنًا إلى اليوم.
قال ابن عيّاش: كان خالد يخطب فيقول: إنكم زعمتم أنّي أغلي أسعاركم؛ فعلى من يغليها لعنة الله! وكان هشام كتب إلى خالد لا تبيعنّ من الغلّات شيئًا حتى تباع غلّات أمير المؤمنين حتى بلغت كيلجة درهمًا.
قال الهيثم، عن ابن عياش: كانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة ثم عزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة.
وفي هذه السنة قدم يوسف بن عمر العراق واليًا عليها، وقد ذكرت قبل سبب ولايته عليها.
وفي هذه السنة ولّى خراسان يوسف بن عمر جديع بن علي الكرماني وعزل جعفر بن حنظلة.
وقيل: إنّ يوسف لما قدم العراق أراد أن يولّي خراسان سلم بن قتيبة، فكتب بذلك إلى هشام، ويستأذنه فيه، فكتب إليه هشام: إنّ سلم بن قتيبة رجل ليس له بخراسان عشيرة؛ ولو كان له بها عشيرة لم يقتل بها أبوه.
وقيل إن يوسف كتب إلى الكرماني بولاية خراسان مع رجل من بني سليم وهو بمرو؛ فخرج إلى الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدًا وقدومه خراسان، وما كانوا فيه من الجهد والفتنة، وما صنع لهم على يديه. ثم ذكر أخاه خالدًا بالجميل، وأثنى عليه؛ وذكر قدوم يوسف العراق، وحثّ الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قال: غفر الله للميت - يعني أسدًا - وعافى الله المعزول، وبارك للقادم. ثم نزل.
وفي هذه السنة عزل الكرماني عن خراسان، ووليها نصر بن سيار بن ليث بن رافع بن ربيعة بن جري بن عوف بن عامر بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وأمّه زينب بنت حسان من بني تغلب.
ذكر الخبر عن سبب ولاية نصر بن سيار خراسان
ذكر علي بن محمد عن شيوخه أن وفاة أسد بن عبد الله لما انتهت إلى هشام بن عبد الملك استشار أصحابه في رجل يصلح لخراسان؛ فأشاروا عليه بأقوام، وكتبوا له أسماءهم؛ فكان ممن كتب له عثمان بن عبد الله بن الشخير ويحيى بن حضين بن المنذر الرقاشي ونصر بن سيّار الليثي وقطن بن قتيبة بن مسلم والمجشّر بن مزاحم السلمي أحد بني حرام؛ فأما عثمان بن عبد الله ابن الشخير، فقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له: المجشّر شيخ هم، وقيل له: ابن حضين رجل فيه تيه وعظمة، وقيل له: قطن بن قتيبة موتور؛ فاختار نصر بن سيّار؛ فقيل له: ليست له بها عشيرة، فقال هشام: أنا عشيرته. فولّاه وبعث بعهده مع عبد الكريم بن سليط بن عقبة الهفاني؛ هفان بن عدي بن حنيفة. فأقبل عبد الكريم بعهده، ومعه أبو المهند كاتبه مولى بنى حنيفة، فلما قدم سرخس ولا يعلم به أحد، وعلى سرخس حفص بن عمر بن عباد التيمي أخو تميم بن عمر، فأخبره أبو المهند، فوجه حفص رسولًا، فحمله إلى نصر، ونفذ ابن سليط إلى مرو، فأخبر أبو المهند الكرماني، فوجّه الكرماني نصر بن حبيب بن بحر بن ماسك بن عمر الكرماني إلى نصر بن سيار، فسبق رسول حفص إلى نصر بن سيار؛ فكان أوّل من سلم عليه بالإمرة، فقال له نصر: لعلك شاعر مكار! فدفع إليه الكتاب. وكان جعفر بن حنظلة ولّى عمرو بن مسلم مرو، وعزل الكرماني وولّى منصور بن عمر أبرشهر، وولّى نصر بن سيار بخاري، فقال جعفر ابن حنظلة: دعوت نصرًا قبل أن يأتيه عهده بأيام؛ فعرضت عليه أن أولّية بخارى، فشاور البختري بن مجاهد، فقال له البختري، وهو مولى بني شيبان: لا تقبلها، قال: ولمَ؟ قال: لأنك شيخ مضر بخراسان؛ فكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها؛ فلما أتاه عهده بعث إلى البختري فقال البختري لأصحابه: قد ولى نصر بن سيار خراسان؛ فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: أنّى علمت؟ قال: لما بعثت إلي، وكنت قبل ذلك تأتيني، علمت أنك قد وليت.
قال: وقد قيل إنّ هشامًا قال لعبد الكريم حين أتاه خبر أسد بن عبد الله بموته. من ترى أن نولّي خراسان، فقد بلغني أنّ لك بها وبأهلها علمًا؟ قال عبد الكريم: قلت: يا أمير المؤمنين؛ أما رجل خراسان حزمًا ونجدة فالكرماني؛ فأعرض بوجهه، وقال: ما اسمه؟ قلت: جديع بن علي، قال: لا حاجة لي فيه؛ وتطيّر، وقال: سم لي غيره، قلت: اللسن المجرّب يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني أبو الميلاء، قال: ربيعة لا تسد بها الثغور - قال عبد الكريم: فقلت في نفسي: كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر - فقلت: عقيل بن معقل الليثي، إن اغتفرت هنةً، قال: ما هي؟ قلت: ليس بالعفيف، قال: لا حاجة لي به، قلت: منصور بن أبي الخرقاء السلمي، إن اغتفرت نكره فإنه مشئوم، قال: غيره، قلت: المحشّر بن مزاحم السلمي، عاقل شجاع، له رأي مع كذب فيه، قال: لا خير في الكذب، قلت: يحيى بن حضين، قال: ألم أخبرك أنّ ربيعة لا تسدّ بها الثغور! قال: فكان إذا ذكرت له ربيعة، واليمن أعرض. قال عبد الكريم: وأخرّت نصرًا وهو أرجل القوم وأ؛ زمهم وأعلمهم بالسياسة، فقلت: نصر بن سيار الليثي، قال: هو لها، قلت: إن اغتفرت واحدة؛ فإنه عفيف مجرّب عاقل، قال: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قليلة، قال: لا أبا لك، أتريد عشيرة أكثر مني! أنا عشيرته.
وقال آخرون: لما قدم يوسف بن عمر العراق قال: أشيروا علي برجل أولّه خراسان، فأشاروا عليه بمسلمة بن سليمان بن عبد الله ابن خازم وقديد بن منيع المنقري ونصر بن سيّار وعمرو بن مسلم ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم ومنصور بن أبي الخرقاء وسلم بن قتيبة ويونس بن عبد ربّه وزياد بن عبد الرحمن القشيري؛ فكتب يوسف بأسمائهم إلى هشام، وأطرى القيسية، وجعل آخر من كتب اسمه نصر بن سيار الكناني، فقال هشام: ما بال الكناني آخرهم! وكان في كتاب يوسف إليه: يا أمير المؤمنين، نصر بخراسان قليل العشيرة. فكتب إليه هشام: قد فهمت كتابك وإطراءك القيسيّة. وذكرت نصرًا وقلة عشيرته، فكيف يقلّ من أنا عشيرته! ولكنك تقيّست علي، وأنا متخندف عليك؛ ابعث بعهد نصر؛ فلم يقلّ من عشيرته أمير المؤمنين؛ بله ما إن تميمًا أكثر أهل خراسان. فكتب إلى نصر أن يكاتب يوسف بن عمر، وبعث يوسف سلمًا وافدًا إلى هشام؛ وأثنى عليه فلم يوله، ثم أوفد شريك بن عبد ربه النميري، وأثنى عليه ليولّيه خراسان، فأبى هشام.
قال: وأوفد نصر من خراسان الحكم بن يزيد بن عمير الأسدي إلى هشام، وأثنى عليه نصر، فضربه يوسف ومنعه من الخروج إلى خراسان؛ فلما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة استعمل الحكم بن يزيد على كرمان، وبعث بعهد نصر مع عبد الكريم الحنفي - ومعه كاتبه أبو المهند مولى بني حنيفة - فلما أتى سرخس وقع الثلج، فأقام ونزل على حفص بن عمر بن عباد التيمي، فقال له: قدمت بعهد نصر على خراسان؛ قال: وهو عامل يومئذ على سرخس - فدعا حفص غلامه، فحمله على فرس وأعطاه مالًا، وقال له: طر واقتل الفرس؛ فإن قام عليك فاشتر غيره حتى تأتي نصرًا. قال: فخرج الغلام حتى قدم على نصر ببلخ، فيجده في السوق، فدفع إليه الكتاب، فقال: أتدري ما في هذا الكتاب؟ قال: لا، فأمسكه بيده، وأتى منزله، فقال الناس: أتى نصرًا عهده على خراسان، فأتاه قوم من خاصته، فسألوه فقال: ما جاءني شيء، فمكث يومه، فدخل عليه من الغد أبو حفص بن علي، أحد بني حنظلة - وهو صهره؛ وكانت ابنته تحت نصر، وكان أهوج كثير المال؛ فقال له: إنّ الناس قد خاصوا وأكثروا في ولايتك؛ وأقرأه الكتاب، فقال: ما كان حفص ليكتب إليك إلا بحق، قال: فبينا هو يكلمه إذ استأذن عليه عبد الكريم، فدفع غليه عهده، فوصله بعشرة آلاف درهم. ثم استعمل نصر على بلخ مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل وشاح ابن بكير بن وشاح على مرو الروذ، والحارث بن عبد الله بن الحشرج لعى هراة، وزياد بن عبد الرحمن القشيري على أبرشهر، وأبا حفص بن علي ختنه على خوارزم، وقطن بن قتيبة على السغد. فقال رجل من أهل الشأم من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه! قال: بلى، التي كانت قبل هذه. فلم يستعمل أربع سنين إلا مضريًا، وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبل ذلك مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية. فقال سوار بن الأشعر:
أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ** من ظلم كل غشوم الحكم جبار
لما أتى يوسفًا أخبار ما لقيت ** اختار نصرًا لها؛ نصر بن سيار
وقال نصر بن سيار فمن كره ولايته:
تعز عن الصبابة لا تلام ** كذلك لا يلم بك احتمام
أأن سخطت كبيرة بعد قرب ** كلفت بها واشرك السقام!
ترجّى اليوم ما وعدت حديثًا ** وقد كذبت مواعدها الكرام
ألم تر أن ما صنع الغواني ** عسير لا يريع به الكلام
أبت لي طاعتي وأبى بلائي ** وفوزي حين يعترك الخصام
وإنا لا نضيع لنا ملمًا ** ولا حسبًا إذا ضاع الذمام
ولا نغضي على غدر وإنا ** نقيم على الوفاء فلا نلام
خليفتنا الذي فازت يداه ** بقدح الحمد والملك الهمام
نسوسهم به ولنا عليهم ** إذا قلنا مكارمه جسام
أبو العاصي أبوه وعبد شمس ** وحرب والقماقمة الكرام
ومروان أبو الخلفاء عال ** عليه المجد فهو لهم نظام
وبيت خليفة الرحمن فينا ** وبيتاه المقدس والحرام
ونحن الأكرمون إذا نسبنا ** وعرنين البرية والسنام
فأمسينا لنا من كل حي ** خراطيم البرية والزمام
لنا أيد نريش بها ونبري ** وأيد في بوادرها السمام
وبأس في الكريهة حين نلقى ** إذا كان النذير بها الحسام
قال: وأتى نصرًا عهده في رجب من سنة عشرين ومائة، وقال له البختري: اقرأ عهدك واخطب الناس؛ فخطب الناس فقال في خطبته: استمسكوا أصحابنا بجدتكم، فقد عرفنا خيركم وشركم.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وقد قيل: إن الذي حجّ بهم فيها سليمان بن هشام.
وقيل: حج بهم يزيد بن هشام.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق كله يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار - وقيل جعفر بن حنظلة - وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي من قبل يوسف بن عمر، وعلى قضائها عامر بن عبيدة الباهلي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة مسلمة بن هشام بن عبد الملك الروم، فافتتح بها مطامير. وغزوة مروان بن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، فافتتح قلاعه وخرّب أرضه، وأذعن له بالجزية، في كلّ سنة ألف رأس يؤدّيه إليه، وأخذ منه بذلك الرهن، وملّكه مروان على أرضه.
وفيها ولد العباس بن محمد.
ذكر الخبر عن ظهور زيد بن علي
وفيها قتل زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب في قول الواقدي في صفر؛ وأما هشام بن محمد فإنه زعم أنه قتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، في صفر منها.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وأموره وسبب مخرجه
اختلف في سبب خروجه؛ فأما الهيثم بن عدي فإنه قال - فيما ذكر عنه، عن عبد الله بن عياش - قال: قدم زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن عباس على خالد بن عبد الله وهو على العراق، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة؛ فلما ولّى ابن يوسف بن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالدًا ابتاع من زيد بن علي أرضًا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرّحهم إليه ففعل، فسألهم هشام فأقرّوا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيدًا عن الأرض فأنكرها، وحلفوا لهشام فصدّقهم.
وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه ذكر أن أبا مخنف حدثه أن أوّل أمر زيد بن علي كان أنّ يزيد بن خالد القسري ادّعى مالًا قبل زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فكتب فيهم يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك - وزيد بن علي يومئذ بالرصافة يخاصم بني الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب في صدقة رسول الله ﷺ، ومحمد بن عمر بن علي يومئذ مع زيد بن علي - فلما قدمت كتب يوسف ابن عمر على هشام بن عبد الملك بعث إليهم فذكر لهم ما كتب به يوسف ابن عمر إليه مما ادّعى قبلهم يزيد بن خالد، فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم إليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بن علي: أنشدك الله والرّحم أن تبعث بي إلى يوسف بن عمر! قال: وما الذي تخاف من يوسف بن عمر؟ قال: أخاف أن يعتدى علي، قال له هشام: ليس ذلك له، ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بن عمر: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين يزيد بن خالد القسري، فإن هم أقروا بما ادّعى عليهم فسرح بهم إلي، وإن هم أنكروا فسله بيّنة، فإن هو لم يقم البيّنة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو؛ ما استودعهم يزيد بن خالد القسري وديعة، ولا له قبلهم، شيء! ثم خلّ سبيلهم.
فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدّى كتابك، ويطول علينا، قال: كلا، أنا باعث معكم رجلًا من الحرس يأخذه بذلك؛ حتى يعجّل الفراغ، فقالوا: جزاك الله والرحم خيرًا؛ لقد حكمت بالعدل. فسرح بهم إلى سوسف، واحتبس أيوب بن سلمة؛ لأن أمّ هشام بن عبد الملك ابنة هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي. وهو في أخواله، فلم يؤخذ بشيءٍ من ذلك القرف.
فلما قدموا على يوسف، أدخلوا عليه، فأجلس زيد بن علي قريبًا منه، وألطفه في المسأة، ثم سألهم عن المال، فأنكروا جميعًا، وقالوا: لم يستودعنا مالًا، ولا له قبلنا حق، فأخرج يوسف يزيد بن خالد إليهم، فجمع بينه وبينهم، وقال له: هذا زيد بن علي، وهذا محمد بن عمر بن علي وهذا فلان وفلان الذين كنت ادّعيت عليهم ما ادّعيت، فقال: مالي قبلهم قليل ولا كثير، فقال يوسف: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين! فعذّبه يومئذ عذابًا ظنّ أنه قد قتله، ثم أخرجهم إلى المسجد بعد صلاة العصر، فاستحلفهم فحلفوا له، وأمر بالقوم فبسط عليهم؛ ما عدا زيد بن علي فإنه كف عنه فلم يقتدر عند القوم على شيء. فكتب إلى هشام يعلمه اعلحال. فكتب إليه هشام: أن استحلفهم، وخلّ سبيلهم. فخلّى عنهم فخرجوا فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بن علي بالكوفة.
وذكر عبيد بن جنّاد، عن عطاء بن مسلم الخفّاف أنّ زيد بن علي رأى في منامه أنه أضرم في العراق نارًا، ثم أطفأها ثم مات. فهالته، فقال لابنه يحيى: يا بني، إني رأيت رؤيا قد راعتني، فقصّها عليه. وجاءه كتاب هشام بن عبد الملك بأمره بالقدوم عليه، فقدم، فقال له: الحق بأميرك يوسف، فقال له: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين، فوالله ما آمن إن بعثتني إليه ألّا أجتمع أنا وأنت حيّين على ظهر الأرض بعدها، فقال: الحق بيوسف كما تؤمر؛ فقدم عليه.
وقد قيل: إن هشام بن عبد الملك إنما استقدم زيدًا من المدينة عن كتاب يوسف بن عمر؛ وكان السبب في ذلك - فيما زعم أبو عبيدة - أن يوسف بن عمر عذّب خالد بن عبد الله، فادّعى خالد أنه استودع زيد بن علي وداود بن علي ابن عبد الله بن عباس ورجلين من قريش: أحدهما مخزومي والآخر جمحي مالًا عظيمًا، فكتب بذلك يوسف إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله إبراهيم بن هشام - وهو عامله على المدينة - يأمره بحملهم إليه. فدعا إبراهيم بن هشام زيدًا وداود، فسألهما عما ذكر خالد، فحلفا ما أودعهما خالد شيئًا، فقال: إنكما عندي لصادقان؛ ولكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان، فلا بدّ من إنفاذه. فحملهما إلى الشأم، فحلفا بالأيمان الغلاظ ما أودعهما خالد شيئًا قط. وقال داود: كنت قدمت عليه العراق، فأمر لي بمائة ألف درهم، فقال هشام: أنتما عندي أصدق من ابن النصرانية، فاقدما على يوسف، حتى يجمع بينكما وبينه فتكذّباه في وجهه.
وقيل: إن زيدًا إنما قدم على هشام مخاصمًا ابن عمّه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي، ذكر ذلك عن جويرية بن أسماء، قال: شهدت زيد بن علي وجعفر بن حسن بن حسن يختصمان في ولاية وقوف علي، وكان زيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن؛ فكان جعفر وزيد يتبالغان بين يدي الوالي إلى كلّ غاية، ثم يقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفًا. فلما مات جعفر قال عبد الله: من يكفينا زيدًا؟ قال حسن بن حسن بن حسن: أنا أكفيكه، قال: كلا، إنا نخاف لسانك ويدك؛ ولكنى أنا، قال: إذن لا تبلغ حاجتك وحجتك، قال: أما حجتي فسأبلغها؛ فتنازعا إلى الوالي - والوالي يومئذ عندهم فيما قيل إبراهيم بن هشام - قال: فقال عبد الله لزيد: أتطمع أن تنالها وأنت لأمة سندية! قال: قد كان إسماعيل لأمة؛ فنال أكثر منها؛ فسكت عبد الله، وتبالغا يومئذ كل غاية؛ فلما كان الغد أحضرهم الوالي، وأحضر قريشًا والأنصار، فتنازعا، فاعترض رجل من الأنصار، فدخل بينهما، فقال له زيد: وما أنت والدخول بيننا، وأنت رجل من قحطان! قال: أنا والله خير منك نفسًا وأبًا وأمًا. قال: فسكت زيد، وانبرى له رجل من قريش فقال: كذبت، لعمر الله لهو خير منك نفسًا وأبًا وأمًا وأولًا وآخرًا، وفوق الأرض وتحتها، فقال الوالي: وما أنت وهذا! فأخذ القرشي كفًا من الحصى، فضرب به الأرض وقال: والله ما على هذا من صبر، وفطن عبد الله وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله ليتكلم فطلب إليه زيد فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعانا على مثله؛ وإني أشده الله ألّا أنازعه إليك محقًا ولا مبطلًا ما كنت حيًا. ثم قال لعبد الله: انهض يا بن عمّ؛ فنهضا وتفرّق الناس.
وقال بعضهم: لم يزل زيد ينازع جعفر بن حسن ثم عبد الله بعده؛ حتى ولّى هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم المدينة، فتنازعا، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال: يا بن الهندكيّة! فتضاحك زيد، وقال: قد فعلتها يا أبا محمد! ثم ذكر أمّه بشيء.
وذكر المدائني أن عبد الله لما قال ذلك لزيد قال زيد: أجل والله، لقد صبرت بعد وفاة سيّدها فما تعتّبت بابها إذ لم يصبر غيرها. قال: ثم ندم زيد واستحيا من عمته؛ فلم يدخل عليها زمانًا، فأرسلت إليه: يا بن أخي، إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده.
وقيل: إن فاطمة أرسلتْ إلى زيد: إن سبّ عبد الله أمك فاسبب أمه؛ وأنها قالت لعبد الله: أقلت لأم زيد كذا وكذا؟ قال: نعم، قالت: فبئس والله ما صنعت! أما والله لنعم دخيلة القوم كانت!
فذكر أن خالد بن عبد الملك، قال لهما: اغدوا علينا غدًا، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما. فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل: كذا وقائل كذا؛ قائل يقول قال زيد كذا، وقائل يقول: قال عبد الله كذا. فلما كان الغدُ جلس خالد في المجلس في المسجد، واجتمع الناس، فمن شامت ومن مهموم، فدعا بهما خالد، وهو يحبّ أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدًا؛ ثم أقبل على خالد فقال له: يا خالد؛ لقد جمعت ذرّية رسول الله ﷺ لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر؛ قال خالد: أما لهذا السفيه أحد! فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن أبي تراب وابن حسين السفيه، ما ترى لوالٍ عليك حقًا ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطاني، فإنا لا نجيب مثلك، قال: ولم ترغب عني! فوالله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمّي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، أفذهبت الأحساب! فوالله إنه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: كذبت والله أيها القحطاني؛ فوالله لهو خير منك نفسًا وأبًا وأمًا ومحتدًا، وتناوله بكلام كثير؛ قال القحطاني: دعنا منك يا بن واقد؛ فأخذ ابن واقد كفًا من حصىً؛ فضرب بها الأرض، ثم قال له: والله ما لنا على هذا صبر، وقام. وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص؛ فكلّما رفع إليه قصّة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك؛ فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدًا، وما أسأل مالًا؛ إنما أنا رجل مخاصم؛ ثم أذن له يومًا بعد طول حبس.
فذكر عمر بن شبّة، عن أيوب بن عمر بن أبي عمرو، قال: حدثني محمد بن عبد العزيز الزهري قال: لما قدم زيد بن علي على هشام بن عبد الملك أعلمه حاجبه بمكانه، فرقي هشام إلى علية له طويلة، ثم أذن له، وأمر خادمًا أن يتبعه، وقال: لا يرينك، واسمعما يقول. قال: فأتعبته الدرجة - وكان بادنًا - فوقف في بعضها، فقال: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذلّ، فلما صار إلى هشام قضى حوائجه، ثم مضى نحو الكوفة، ونسي هشام أن يسأل الخادم حتى مضى لذلك أيام، ثم سأله فأخبره، فالتفت إلى الأبرش. فقال: والله ليأتينّك خلعه أول شيء، وكان كما قال.
وذكر عن زيد أنه حلف لهشام على أمر؛ فقال له: لا أصدقك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله لم يرفع قدر أحد عن أن يرضى بالله، ولم يضع قدر أحد عن ألا يرضى بذلك منه، فقال له هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها، ولست هناك وأ، ت ابن أمة! فقال زيد: إن لك يا أمير المؤمنين جوابًا، قال: تكلم، قال: ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبي ابتعثه؛ وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وولد خيرهم محمدًا ﷺ، وكان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة مثلك؛ فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر؛ وما على أحد من ذلك جده رسول الله ﷺ ما كانت أمه أمة. فقال له هشام: اخرج، قال: أخرج ثم لا تراني إلّا حيث تكره، فقال له سالم: يا أبا الحسين؛ لا يظهرنّ هذا منك.
رجع الحديث إلى حديث هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف. قال: فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد بن علي، وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور. وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية. فأقام بالكوفة، فجعل يوسف بن عمر يسأل عنه، فقال: هو هاهنا، فيبعث إليه أن اشخص، فيقول: نعم؛ ويعتل له بالوجع. فمكث ما شاء الله، ثم سأل أيضًا عنه فقيل له: هو مقيم بالكوفة بعد لم يبرح، فبعث إليه، فاستحثه بالشخوص، فاعتل عليه بأشياء يبتاعها، وأخبره أنه في جهازه، ورأى جد يوسف في أمره فتهيأ، ثم شخص حتى أتى القادسيّة. وقال بعض الناس: أرسل معه رسولًا حتى بلّغه العذيب، فلحقته الشيعة، فقالوا له: أين تذهب عنا ومعك مائة ألف رجل من أهل الكوفة، يضربون دونك بأسيافهم غدًا وليس قبلك من أهل الشأم إلا عدّة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نحو مذحج أو همدان أو تميم أو بكر نصبت لهم لكفتكهم بإذن الله تعالى! فننشدك الله لما رجعت؛ فلم يزالوا به حتى ردّوه إلى الكوفة.
وأما غير أبي مخنف؛ فإنه قال ما ذكر عبيد بن جناد، عن عطاء بن مسلم، أن زيد بن علي لما قدم على يوسف، قال له يوسف: زعم خالد أنه قد أودعك مالًا، قال: أنّى يودعني مالًا وهو يشم آبائي على منبره! فأرسل إلى خالد، فأحضره في عباءة، فقال له: هذا زيد، زعمت أنك قد أودعته مالًا، وقد أنكر؛ فنظر خالد في وجههما، ثم قال: أتريد أن تجمع مع إثمك في إثمًا في هذا! وكيف أودعه مالًا وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قال: فشتمه يوسف، ثم ردّه.
وأما أبو عبيدة، فذكر عنه، أنه قال: صدّق هشام زيدًا ومن كان يوسف قرفه بما قرفه به، ووجههم إلى يوسف، وقال: إنهم قد حلفوا لي، وقبلت أيمانهم وأبرأتهم من المال، وإنما وجهت بهم إليك لتجمع بينهم وبين خالد فيكذبوه. قال: ووصلهم هشام؛ فلما قدموا على يوسف أنزلهم وأكرمهم، وبعث إلى خالد فأتى به، فقال: قد حلف القوم، وهذا كتاب أمير المؤمنين ببراءتهم، فهل عندك بيّنة بما ادعيت؟ فلم تكن له بينة، فقال القوم لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: غلّظ علي العذاب فادّعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم. فأطلقهم يوسف، فمضى القرشيان: الجمحي والمخزومي إلى المدينة؛ وتخلّف الهاشميّان: داود بن علي وزيد ابن علي بالكوفة.
وذكر أن زيدًا أقام بالكوفة أربعة أشهر أو خمسة ويوسف يأمره بالخروج، ويكتب إلى عامله على الكوفة وهو يومئذ بالحيرة يأمره بإزعاج زيد، وزيد يذكر أنه ينازع بعض آل طلحة بن عبيد الله في مال بينه وبينهم بالمدينة، فيكتب العامل بذلك إلى يوسف، فيقرّه أيمًا، ثم يبلغه أنّ الشيعة تختلف إليه؛ فيكتب إليه أن أخرجه ولا تؤخّره؛ وإن ادّعى أنه ينازع فليجر جرًا، وليوكل من يقوم مقامه فيما يطالب به؛ وقد بايعه جماعة منهم سلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وحجيّة بن الأجلح الكندي وناس من وجوه أهل الكوفة؛ فلما رأى ذلك داود ابن علي قال له: يا بن عمّ، لا يغرنّك هؤلاء من نفسك؛ ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم. فقال: يا داود، إنّ بني أمية قد عتوا وقست قلوبهم؛ فلم يزل به داود حتى عزم على الشخوص، فشخصا حتى بلغا القادسية.
وذكر عن أبي عبيدة، أنه قال: اتّبعوه إلى الثعلبيّة وقالوا له: نحن أربعون ألفًا، إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلّف معنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلّظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي. فيحلفون له، فيقول داود بن علي: يا بن عمّ، إن هؤلاء يغرّونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعزّ عليهم منك؛ جدّك علي بن أبي طالب حتى قتل! والحسن م بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه، وجرّحوه! أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين، وحلّفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه وأسلموه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه! فلا تفعل ولا ترجع معهم. فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، فقال: زيد لداود: إن عليًا كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرانه بأهل الشأم، وإن الحسين قاتله يزيد بن معاوية والأمر عليهم مقبل؛ فقال له داود: إني لخائف إن رجعت معهم ألّا يكون أحد أشد عليك منهم، وانت أعلم. ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
وقال عبيد بن جنّاد. عن عطاء بن مسلم الخفاف، قال: كتب هشام إلى يوسف أن أشخص زيدًا إلى بلده، فإنه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلا أجابوه، فأشخصه، فلما كان بالثعلبية - أو القادسية - لحقه المشائيم - يعني أهل الكوفة - فردوه وبايعوه، فأتاه سلمة بن كهيل، فأستاذن عليه، فأذن له، فذكر قرابته من رسول الله ﷺ وحقه فأحسن. ثم تكلم زيد فأحسن، فقال له سلمة: اجعل لي الأمان، فقال: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي الأمان! وإنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه، ثم قال: لك الأمان، فقال: نشدتك بالله، كم بايعك؟ قال: أربعون ألفًا، قال: فكم بايع جدّك؟ قال: ثمانون ألفًا، قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلثمائة، قال: نشدتك الله أنت خير أم جدّك؟ قال: بل جدي، قال: أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك؟ قال: بل القرن الذي خرج فيهم جدّي، قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدّك! قال: قد بايعوني، ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم، قال: أفتأذن لي أن أخرج من البلد؟ قال: لمَ؟ قال: لا آمن أن يحدث في أمرك حدث فلا أملك نفسي، قال: قد أذنت لك، فخرج إلى اليمامة، وخرج زيد فقتل وصلب. فكتب هشام إلى يوسف يلومه على تركه سلمة ابن كهيل يخرج من الكوفة، ويقول: مقامه كان خيرًا من كذا وكذا من الخيل تكون معك.
وذكر عمر عن أبي إسحاق - شيخ من أهل أصبهان حدثه - أن عبد الله ابن حسن كتب إلى زيد بن علي: يا بن عمّ؛ إن أهلّ الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هوج في الرخاء، جزع في اللقاء؛ تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعدة في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوّة؛ ولقد تواترت إلي كتبهم بدعوتهم، فصمّمت عن ندائهم؛ وألبست قلبي غشاءً عن ذكرهم؛ يأسًا منهم واطراحًا لهم؛ وما لهم مثل إلا ما قال علي بن أبي طالب: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم.
وذكر عن هشام بن عبد الملك، أنه كتب إلى يوسف بن عمر في أمر زيد بن علي: أما بعد فقد علمت بحال أهل الكوفة في حبهم أهل هذا لابيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم؛ لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم، ووظفوا عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن؛ حتى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها إلى الخروج، وقد قدم زين بن علي على أمير المؤمنين في خصومة عمر بن الوليد، ففصل أمير المؤمنين بينهما، ورأى رجلًا جدلًا لسنًا خليقًا بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه، وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلى به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوّة الحادّة لنيل الفلج؛ فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخلّه والمقام قبلك؛ فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه، وحلاوة منطقه، مع ما يدلي به من القرابة برسول الله ﷺ، وجدهم ميلًا إليه؛ غير متئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم؛ وبعض التحامل عليه فيه أذى له، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء والأمن للفرقة أحب إلي من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم؛ والجماعة حبل الله المتين، ودين الله القويم وعروته الوثقى؛ فادع إليك أشارف أهل المصر، وأوعدهم العقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال؛ فإن من له عقد أو عهد منهم سيبطىء عنه، ولا يخفّ معه إلّا الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة؛ استلذاذًا للفتنة؛ وأولئك ممن يستعبد إبليس؛ وهو يستعبدهم. فبادهم بالوعيد. وأعضضهم بسوطك، وجرّد فيهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السفلة. والعم أنك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاض على جماعة، ومشمر لدين الله؛ فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الذي تأوي غليه، وضغوك الذي تخرج منه الثقة بربك، والغضب لدينك، والمحاماة عن الجماعة، ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذي أمرهم الله بالدخول فيه، والتشاح عليه؛ فإن أمير المؤمنين قد أعذر إليه وقضى من ذمامه، فليس له منزىً إلى ادعاء حقّ هو له ظلمة من نصيب نفسه، أو فيء، أو صلة لذي قربى، إلا الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضل؛ ولهم أمر، ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذب عنه، فإنه لا يحب أن يرى في أمته حالًا متفاوتًا نكالًا لهم مفنيًا؛ فهو يستديم النظرة، ويتأتى للرشاد، ويجتنبهم على المخاوف، ويستجرّهم إلى المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد الشفيق على ولده، والرّاعي الحدب على رعيته.
واعلم أنّ من حجّتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم، وأعطية ذرّيتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم؛ فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله؛ فإنه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغى؛ وقد أوقعهم الشيطان، ودلّاهم فيه، ودلّهم عليه؛ والعصمة بتارك البغي أوْلى؛ فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيته، ويسأل إلهه ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسدًا، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز؛ إنه سميع قريب.
رجع الحديث إلى حديث هشام. قال: فرجع زيد إلى الكوفة، فاستخفى، قال: فقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب حيث أراد الرجوع إلى الكوفة: أذكّرك الله يا زيد لمّا لحقت بأهلك؛ ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك إلى ما يدعونك إليه؛ فإنهم لا يفون لك؛ فلم يقبل منه ذلك، ورجع.
قال هشام: قال أبو مخنف: فأقبلت الشيعة لما رجع إلى الكوفة يختلفون إليه، ويبايعون له، حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهرًا؛ إلّا أنه قد كان منها بالبصرة نحو شهرين، ثم أقبل إلى الكوفة، فأقام بها، وأرسل إلى أهل السواد وأهل الموصل رجالًا يدعون إليه.
قال: وتزوج حيث قدم الكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمي، أحد بني فرقد، وتزوج ابنة عبد الله بن أبي العنبس الأزدي. قال: وكان سبب تزوّجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت ترى رأي الشيعة، فبلغها مكان زيد، فأتته لتسلّم عليه - وكانت امرأة جسيمة جميلة لحيمة، قد دخلت في السنّ، إلا أن الكبر لا يستبين عليها - فلمّا دخلت على زيد بن علي فسلمت عليه ظنّ أنها شابة، فكلمته فإذا أفصح الناس لسانًا، وأجمله منظرًا، فسألها عن نسبها فأنتسبت له، وأخبرته ممن هي، فقال لها: هل لك رحمك الله أن تتزوجيني؟ قالت: أنت والله - رحمك الله - رغبة لو كان من أمري التزويج، قال لها: وما الذي يمنعك؟ قالت: يمنعني من ذلك أني قد أسننت، فقال لها: كلّا قد رضيت، ما أبعدك من أن تكوني قد أسننت! قالت: رحمك الله، أنا أعلم بنفسي منك؛ وبما أتى علي من الدهر؛ ولو كنت متزوجة يومًا من الدهر لما عدلت بك؛ ولكن لي ابنة أبوها ابن عمي؛ وهي أجمل مني، وأنا أزوّجكها إن أحببت، قال: رضيت أن تكون مثلك، قالت له: لكن خالقها ومصورها لم يرض أن يجعلها مثلي، حتى جعلها أبيض وأوسم وأجسم، وأحسن مني دلًا وشكلًا. فضحك زيد، وقال لها: قد رزقت فصاحة ومنطقًا حسنًا، فأين فصاحتها من فصاحتك؟ قالت: أما هذا فلا علم لي به؛ لأني نشأت بالحجاز، ونشأت ابنتي بالكوفة، فلا أدري علّ ابنتي قد أخذت لغة أهلها. فقال زيد: ليس ذلك بأكره إلي، ثم واعدها موعدًا فأتاها فتزوّجها، ثم بنى بها فولدت له جاريةً. ثم إنها ماتت بعد؛ وكان بها معجبًا.
قال: وكان زيد بن علي ينزل بالكوفة منازل شتى، في دار امرأته في الأزد مرة، ومرة في أصهاره السلميين، ومرة عند نصر بن خزيمة في بني عبس، ومرة في بني غبر. ثم إنه تحوّل من بني غبر إلى دار معاوية ابن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري في أقصى جباّانة سالم السلولي، وفي بني نهد وبني تغلب عند مسجد بني هلال بن عامر، فأقام يبايع أصحابه؛ وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس: " إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وجهاد الظالمين، والدّفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردّ الظالمين، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا "، أتبايعون على ذلك فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله، لتفينّ بيعتي ولتقاتلنّ عدوّي ولتنصحنّ في السرّ والعلانية؟ فإذا قال: نعم مسح يده على يده، ثم قال: اللهمّ اشهده. فمكث بذلك بضعة عشر شهرًا؛ فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيّؤ، فجعل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ لو يتهيّأ، فشاع أمره في الناس.
ذكر الخبر عن غزوة نصر بن سيار ما وراء النهر
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرّتين، ثم غزا الثالثة، فقتل كور صول.
ذكر الخبر عن غزواته هذه
ذكر علي عن شيوخه، أن نصرًا غزا من بلخ ما وراء النهر من ناحية باب الحديد؛ ثم قفل إلى مرو، فخطب الناس، فقال: ألا إن بهرامسيس كان مانحج المجوس، يمنحهم ويدفع عنهم، ويحمل أثقالهم على المسلمين؛ ألا إنّ اشبداد بن جريجور كان مانح النصارى؛ ألا إن عقيبة اليهودي كان مانح اليهود يفعل ذلك. ألا إني مانح المسلمين، أمنحهم وأدفع عنهم، وأحمل أثقالهم على المشركين؛ ألا إنه لا يقبل مني إلا توفي الخراج على ما كتب ورفع. وقد استعملت عليكم منصور بن عمر بن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم. فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقل عليه في خراجه، وخفّف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك إلى المنصور بن عمر، يحوّله عن المسلم إلى المشرك. قال: فما كانت الجمعة الثانية؛ حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم، كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحوّل ذلك عليهم، وألقاه من المسلمين. ثم صنّف الخراج حتى وضعه مواضعه، ثم وظّف الوظيفة التي جرى عليها الصلح. قال: فكاانت مرو يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج أيام بني أميّة. ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم قفل، ثم غزا الثانية إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين قطوع النهر نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفًا، استأجر كلّ رجل منهم في كلّ شهر بشقّة حرير؛ الشقة يومئذ بخمسة وعشرين درهمًا، فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرًا من القطوع إلى الشاش. وكان الحارث بن سريج يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم؛ فكان بإزاء نصر، فرمى نصرًا؛ وهو على سريره على شاطىء النهر بحسبان، فوقع السهم في شدق وصيف لنصر يوضّئه. فتحوّل نصر عن سريره، ورمى فرسًا لرجل من أهل الشأم فنفق. وعبر كورصول في أربعين رجلًا، فبيّت أهل العسكر، وساق شاء لأهل بُخارى، وكانوا في الساقة، وأطاف بالعسكر في ليلة مظلمة؛ ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكسّ وأشروسنة، وهم عشرون ألفًا، فنادى نصر في الأخماس: ألا لا يخرجنّ أحد من بنائه، وأثبتوا على مواضعكم. فخرج عاصم بن عمير وهو على جند أهل سمرقند. حتى مرّت خيل كورصول، وقد كانت الترك صاحت صيحة. فظن أهل العسكر أن الترك قد قطعوا كلّهم. فلما مرّت خيل كورصول على ذلك حمل على آخرهم، فأسر رجلًا؛ فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة، فجاءوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرًا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق، وقباء فرند مكفف بالديباج، فقال له نصر: من أنت؟ قال: كورصول، فقال نصر: وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوّى بها جندك، وخلّ سبيلي! فقال نصر لمن حوله من أهل الشأم وأهل خراسان: ما تقولون؟ فقالوا: خلّ سبيله، فسأله عن سنّه، قال: لا أدري، قال: كم غزوت؟ قال: اثنتين وسبعين غزوة، قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم، قال: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك. وقال لعاصم بن عمير السغدي: قم إلى سلبه فخذه؛ فلما أيقن بالقتل، قال: من أسرني؟ قال نصر وهو يضحك: يزيد بن قرّان الحنظلي - وأشار إليه - قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه - أو قال: لا يستطيع أن يتمّ بوله - فكيف يأسرني! فأخبرني من أسرني؛ فإني أهلٌ أن أقتل سبع قتلات، قيل له: عاصم بن عمير، قال: لست أجد مسّ القتل إذ كان الذي أسرني فارسًا من فرسان العرب. فقتله وصلبه على شاطىء النهر. قال: وعاصم بن عمير هو الهزارمرد، قتل بنهاود أيام قحطبة.
قال: فلما قتل كورصول تخدّرت الترك وجاءوا بأبنيته فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وجردّوا وجوههم. وطفقوا يبكون عليه؛ فلما أمسى نصر وأراد الرحلة، بعث إلى كورصول بقارورة نفط، فصبّها عليه، وأشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه. قال: وكان ذلك أشدّ عليهم من قتله.
وارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس، قال: فقال عنبر بن برعمة الأزدي: كتب يوسف بن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشاش - يعني الحارث بن سريج - فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش، فخرّب بلادهم، واسب ذراريّهم؛ وإياك وورطة المسلمين.
قال: فدعا نصر الناس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: ما ترون؟ فقال يحيى بن حضين: امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير، فقال نصر: يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة؛ فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت: أقول مثلها. سر يا يحيى، فقد وليتك مقدّمتي؛ فأقبل الناس على يحيى يلومونه، فقال نصر يومئذ: وأي ورطة أشدّ من أن تكون في السفر وهم في القرار! قال: فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بن سريج فنصب عرّادتين تلقاء بني تميم؛ فقيل له: هؤلاء بنو تميم، فنقلهما فنصبهما على الأزد - ويقال: علي بكر بن وائل - وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترك، فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه، فأمر نصر بن سيار برأس الأخرم، فرمى به في عسكرهم بمنجنيق، فلما رأوه ضجوا ضجة عظيمة، ثم ارتحلوا منهزمين، ورجع نصر، وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك، فقال أبو نميلة صالح بن الأبّار:
كنا وأوبة نصر عند غيبته ** كراقب النوء حتى جاده المطر
أودى بأخرم منه عارض برد ** مسترجف بمنايا القوم منهمر
وأقبل نصر فنزل سمرقند في السنة التي لقي فيها الحارث بن سريج، فأتاه بخارا خذاه منصرفًا؛ وكانت المسلحة عليهم، ومعهم دهقانان من دهاقين بخارى، وكانا أسلما على يدي نصر، وقد أجمعا على الفتك بواصل بن عمرو القيسي عامل بخارى وببخاراخذاه يتظلّمان من بخاراخذاه، - واسمه طوق شياده - فقال بخاراخذاه لنصر: أصلح الله الأمير! قد علمت أنهما قد أسلما على يديك، فما بالهما معلّقي الخناجر عليهما! فقال لهما نصر: ما بالكما معلقي الخناجر وقد أسلمتما! قال: بيننا وبين بخاراخذاه عداوة فلا نأمنه على أنفسنا. فأمر نصر هارون بن السياوش مولى بني سليم - وكان يكون على الرابطة - فاجتذبهما فقطعهما، ونهض بخارخذاه إلى نصر يسارّه في أمرهما، فقالا: نموت كريمين؛ فشدّ أحدهما على واصل ابن عمرو فطعنه في بطنه بسكين، وضربه واصل بسيفه على رأسه؛ فأطار قحف رأسه فقتله، ومضى الآخر إلى بخارخذاه - وأقيمت الصلاة، وبخارخذاه جالس على كرسي - فوثب نصر، فدخل السرادق، وأحضر بخارخذاه، فعثر عند باب السرادق فطعنه، وشدّ عليه الجوزجان بن الجوزجان، فضربه بجرز كان معه فقتله، وحُمل بخاراخذاه فأدخل سرادق نصر، ودعا له نصر بوسادة فاتّكأ عليها، وأتاه قرعة الطبيب، فجعل يعالجه وأوصى إلى نصر، ومات من ساعته، ودفن واصل في السرادق، وصلى عليه نصر. وأما طوق شياده فكشطوا عنه لحمه، وحملوا عظامه إلى بخارى.
قال: وسار نصر إلى الشاش، فلما قدم أشروسنة عرض دهقانها أباراخرّه مالًا، ثم نفذ إلى الشاش، واستعمل على فرغانة محمد بن خالد الأزدي، وجهه إليها في عشرة نفر، وردّ من فرغانة أخاجيش فيمن كان معه من دهاقين الختل وغيرهم، وانصرف منها بتماثيل كثيرة، فنصبها في أشروسنة.
وقال بعضهم: لما أتى نصر الشاش تلقّاه قدر ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب؛ واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وقد كانوا أحسوا بمجيئه، فأحرقوا الحشيش وحبسوا الميرة. ووجّه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة في بقية سنة إحدى وعشرين ومائة، فحاصروه في قعلة من قلاعها، فغفل عنهم المسلمون، فخرجوا على دوابّهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدهقان، وأسروا منهم أسراء، وحمل ابن الدهقان المقتول على ابن المثنى، فختله محمد بن المثنىّ، فأسره، وهو غلام أمرد، فأتى به نصرًا، فضرب عنقه.
وكان نصر بعث سليمان بن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما. قال سليمان: فقدمت عليه فقال لي: من أنت؟ قلت: شاكري خليفة كاتب الأمير، قال: فقال: أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا، فقيل له: قم، قال: قلت ليس بي مشي، قال: قدّموا له دابة يركبها، قال: فدخلت خزائنه، فقلت في نفسي: يا سليمان، شمت بك إسرايل وبشر بن عبيد؛ ليس هذا إلّا لكراهة الصحل، وسانصرف بخفّي حنين. قال: فرجعت إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قلت: سهلًا كثير الماء والمرعى؛ فكره ما قلت له، فقال: ما علمك؟ فقلت: قد غزوت غرشستان وغور والختّل وطبرستان، فكيف لا أعلم! قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قلت: رأيت عدة حسنة؛ ولكن أما علمت أن صاحب الحصار لا يسلم من خصال! قال: وما هن؟ قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه وأحبهم إليه وأوثقهم في نفسه أن يثب به يطلب مرتبته، ويتقرّب بذلك، أو يفنى ما قد جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت. فقطّب وكره ما قلت له وقال: انصرف إلى منزلك، فانصرفت فأقمت يومين، وأنا لا أشكّ في تركه الصلح، فدعاني فحملتُ كتاب الصلح مع غلامي، وقلت له: إن أتاك رسولي يطلب الكتاب فانصرف إلى المنزل، ولا تظهر الكتاب، وقل لي: إني خلفت الكتاب في المنزل. فدخلت عليه، فسألني عن الكتاب، فقلت: خلّفته في المنزل. فقال: ابعث من يجيئك به، فقبل الصلح، وأحسن جائزتي، وسرّح معي أمّه، وكانت صاحبة أمره.
قال: فقدمت على نصر؛ فلما نظر إلي قال: ما مثلك إلا كما قال الأوّل: فأرسل حكيمًا ولا توصه فأخبرته، فقال: وفقت، وأذن لمه عليه، وجعل يكلمها والترجمان يعبّر عنها، فدخل تميم بن نصر، فقال للترجمان: قل لها: تعرفين هذا؟ فقالت: لا، فقال: هذا تميم بن نصر، فقالت: والله ما أرى له حلاوة الصغير، ولا نبل الكبير.
قال أبو إسحاق بن ربيعة: قالت لنصر: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزيرٌ يباثّه بكتاب نفسه وما شجر في صدره من الكلام، ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتمًا فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه - تعني البرذون - وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين وقع بها من الأرض عاش بها.
ثم دخل تميم بن نصر في الأزفلة وجماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان، هذا تميم بن نصر، قالت: ما له نبل الكبار ولا حلاوة الصغار.
ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بن قتيبة، قال: فحيّته، وسألت عنه؛ وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء؛ لا يصلح بعضكم لبعض. قتيبة الذي وطّن لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك! فحقك أن تجلسه هذا المجلس، وتجلس أنت مجلسه.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي - كذلك قال أبو معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت. عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وكان عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة محمد بن هشام، وعامله على العراق كلّه يوسف بن عمر، وعامله على أذربيجان وأرمينية مروان بن محمد، وعلى خراسان نصر بن سيّار، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من أحداث
خبر مقتل زيد بن علي
فمن ذلك مقتل زيد بن علي.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر هشام عن أبي مخنف، أنّ زيد بن علي لما أمر أصحابه بالتأهب للخروج والاستعداد، أخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة فيما أمرهم به من ذلك، فانطلق سليمان بن سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر، فأخبره خبره، وأعلمه أنه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر. وإلى رجل من بني تميم يقال له طعمة؛ ابن أخت لبارق؛ وهو نازل فيهم. فبعث يوسف يطلب زيد بن علي في منزلهما فلم يوجد عندهما، وأخذ الرجلان، فأتيَ بهما، فلما كلمهما استبان له أمر زيد وأصحابه. وتخوّف زيد بن علي أن يؤخذ، فتعجّل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة. قال: وعلى أهل الكوفة يومئذ الحكم بن الصلت، وعلى شرطه عمرو بن عبد الرحمن، رجل من القارة؛ وكانت ثقيف أخواله؛ وكان فيهم ومعه عبيد الله بن العباس الكندي، في أناس من أهل الشأم، ويوسف بن عمر بالحيرة. قال: فلما رأى أصحاب زيد بن علي الذين بايعوه أنّ يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد، وأنه يدسّ إليه، ويستبحث عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدًا من أهل بيتي يتبرّأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيرًا، قالوا: فلم تطلب إذًا بدم أهل هذا البيت؛ إلّا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم! فقال لهم زيد: إن أشدّ ما أقول فيما ذكرتم أنّا كنا أحقّ بسلطان رسول الله ﷺ من الناس أجمعين، وإنّ القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرًا، قد ولّوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم يظلمك هؤلاء! وإن كان أولئك لم يظلموك، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين! فقال: وإنّ هؤلاء ليسوا كأولئك؛ إنّ هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم؛ وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ؛ فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته، وقالوا: سبق الإمام - وكانوا يزعمون أنّ أبا جعفر محمد بن علي أخا زيد بن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ - وكان ابنه جعفر بن محمد حيًّا، فقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه؛ وهو أحقّ بالأمر بعد أبيه؛ ولا نتبع زيد بن علي فليس بإمام. فسمّاهم زيد الرافضة، فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة حيث فارقوه. وكانت منهم طائفة قبل خروج زيد مرّوا إلى جعفر بن محمد بن علي، فقالوا له: إن زيد بن علي فينا يبايع؛ أفترى لنا أن نبايعه؟ فقال لهم: نعم بايعوه؛ فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا فجاءوا، فكتموا ما أمرهم به.
قال: واستتبّ لزيد بن علي خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة.
وبلغ يوسف بن عمر أنّ زيدًا قد أزمع على الخروج، فبعث إلى الحكم ابن الصلت، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة؛ فأدخلهم المسجد، ثم نادى مناديه: ألا إنّ الأمير يقول: من أدركناه في رحلة فقد برئت منه الذمّة؛ ادخلوا المسجد الأعظم. فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيدًا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، فخرج ليلًا؛ وذلك ليلة الأربعاء، في ليلة شديدة البرد، من دار معاوية بن إسحاق، فرفعوا الهرادي فيها النيران، ونادوا: يا منصور أمت، أمت يا منصور. فكلما أكلت النار هرديًا رفعوا آخر، فما زالوا كذلك حتى طلع الفجر؛ فلما أصبحوا بعث زيد بن علي القاسم التنعي ثم الحضرمي ورجلًا آخر من أصحابه، يناديان بشعارهما، فلما كانوا في صحراء عبد القيس لقيهم جعفر بن العباس الكندي، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل الذي كان مع القاسم التنعي، وارتُثّ القاسم، فأتى به الحكم فكلمه فلم يردّ عليه شيئاّ، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر؛ فكان أول من قتل من أصحاب زيد ابن علي هو وصاحبه. وأمر الحكم بن الصلت بدروب السوق فغلقت، وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة. وعلى أرباع الكوفة يومئذ؛ على ربع أهل المدينة إبراهيم بن عبد الله بن جرير البجلي، وعلى مذحج وأسد عمرو ابن أبي بذل العبدي، وعلى كندة وربيعة المنذر بن محمد بن أشعث بن قيس الكندي، وعلى تميم وهمدان محمد بن مالك الهمداني ثم الخيواني.
قال: وبعث الحكم بن الصلت إلى يوسف بن عمر، فأخبره الخبر، فأمر يوسف مناديه فنادى في أهل الشأم: من يأتي الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فقال جعفر بن العباس الكندي: أنا، فركب في خمسين فارسًا، ثم أقبل حتى انتهى إلى جبّانة سالم السَّلولي، فاستخبرهم، ثم رجع إلى يوسف بن عمر فأخبره، فلما أصبح إلى تلّ قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس؛ وعلى شرطته يومئذ العباس بن سعيد المزني، فبعث الريان بن سلمة الإراشي في ألفين ومعه ثلثمائه من القيقاينّة رجلًا معهم النُّشاب.
وأصبح زيد بن علي، فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلًا، فقال زيد: سبحان الله! اين الناس! فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون، فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر. وسمع نصر ابن خزيمة النداء، فأقبل إليه، فلقي عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت في خيله من جهينة عند دار الزبير بن أبي حكمة في الطريق الذي يخرج إلى مسجد بني عدي، فقال نصر بن خزيمة: يا منصور أمت؛ فلم يردّ عليه شيئًا، فشدّ عليه نصر وأصحابه، فقتل عمر بن عبد الرحمن، وانهزم من كان معه، وأقبل زيد بن علي من جبّانة سالم حتى انتهى إلى جبّانه الصائديّين، وبها خمسمائة من أهل الشأم، فحمل عليهم زيد بن علي فيمن معه فهزمهم. وكان تحت زيد بن علي يومئذ برذون أدهم بهيم؛ اشتراه رجل من بني نهد بن كهمس بن مروان النجّاري بخمسة وعشرين دينارًا، فلما قتل زيد بعد ذلك أخذه الحكم بن الصلت.
قال: وانتهى زيد بن علي إلى باب دار رجل من الأزد، يقال له أنس ابن عمرو - وكان فيمن بايعه - فنودي وهو في الدار فجعل بجيب، فناداه زيد يا أنس: اخرج إلىّ رحمك الله، فقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا. فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم! قد فعلتموها، الله حسيبكم!
قال: ثم إن زيدًا مضى حتى انتهى إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشأم فهزمهم؛ ثم خرج حتى ظهر إلى الجبّانة ويوسف بن عمر على التلّ ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه حزام بن مرة المزني وزمزم بن سليم الثعلبي؛ وهما على المجفّفة، ومعه نحو من مائتي رجل؛ والله لو أقبل على يوسف لقتله، والرّيان بن سلمة يتبع أثر زيد بن علي بالكوفة في أهل الشأم. ثم إن زيدًا أخذ ذات اليمين على مصلّى خالد بن عبد الله حتى دخل الكوفة، وكانت فرقة من أصحاب زيد بن علي حيث وجّه إلى الكناسة قد انشعبت نحو جبّانة مخنف بن سليم. ثم قال بعضهم لبعض: ألا ننطلق نحو جبّانة كندة! قال: فما زاد الرجل على أن تكلم بهذا الكلام. وطلع أهل الشأم؛ فلما رأوهم دخلوا زقاقًا فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فقاتلهم ساعة. ثم إنهم صروعه، فجعلوا يضربونه بأسيافهم؛ فنادى رجل منهم مقنع بالحديد: أن اكشفوا المغفر ثم اضربوا رأسه بعمود حديد؛ ففعلوا، وقتل وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه وقد قتل، وانصرف أهل الشأم؛ وقد اقتطعوا رجلًا، ونجا سائرهم. فذهب ذلك الرجل حتى دار عبد الله بن عوف فدخل أهل الشأم عليه فأسروه، فذهب به إلى يوسف بن عمر فقتله.
قال: وأقبل زيد بن علي، وقد رأى خذلان الناس إيّاه، فقال: يا نصر بن خزيمة، أتخاف أن يكون قد جعلوهها حسينيّة! فقال له: جعلني الله لك الفداء! أما أنا فوالله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتى أموت؛ فكان قتاله يومئذ بالكوفة. ثم إن نصر بن خزيمة قال لزيد بن علي: جعلني الله لك الفداء! إن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فامض بنا نحوهم، فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمرّ على دار خالد بن عرفطة. وبلغ عبيد الله ابن العباس الكندي إقباله، فخرج في أهل الشأم، وأقبل زيد فالتقوا على باب عمر بن سعد أبي وقّاص، فكعّ صاحب لواء عبيد الله - وكان لواؤه مع سلمان مولاه - فلما أراد عبيد الله الحملة ورآه قد كعّ عنه، قال: احمل يابن الخبيثة! فحمل عليهم، فلم ينصرف حتى خضِّب لواؤه بالدم.
ثم إن عبيد الله برز فخرج إليه واصل الحنّاط، فاضطربا بسيفهما، فقال للأحوال: خذها منّي وأنا الغلام الحنّاط! وقال الآخر: قطع الله يدي إن كلت بقفيز أبدًا. ثم ضربه فلم يصنع شيئًا. وانهزم عبيد الله بن العباس وأصحابه، حتى انتهوا إلى دار عمرو بن حريث. وجاء زيد وأصحابه حتى انتهوا إلى باب الفيل؛ فجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب، ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا. وجعل نصر بن خزيمة يناديهم، ويقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل اخرجوا إلى الدين والدنيا؛ فإنكم لستم في دين ولا دنيا. فأشرف عليهم أهل الشأم، فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد - وكان يومئذ جمع كبير بالكوفة في نواحيها، وقيل في جبّانة سالم - وانصرف الريان بن سلمة إلى الحيرة عند المساء، وانصرف زيد بن علي فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق، فأتاه الريان بن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالًا شديدًا، فجرح من أهل الشأم وقتل منهم ناس كثير، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزّق؛ حتى انتهوا إلى المسجد؛ فرجع أهل الشأم مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنًا؛ فلما كان من الغد غداة يوم الخميس، دعا يوسف بن عمر الريان بن سلمة، فلم يوجد حاضرًا تلك الساعة.
وقال بعضهم: بل أتاه وليس عليه سلاحه فأفّف به، وقال له: أفٍّ لك من صاحب الخيل! اجلس. فدعا العباس بن سعيد المزني صاحب شرطته، فبعثه في أهل الشأم، فسار حتى انتهى إلى زيد بن علي في دار الرزق، وثمّ خشب للتجار كثير، فالطريق متضايق. وخرج زيد في أصحابه، وعى مجنّبتيه نصر بن خزيمه العبسي ومعاوية بن إسحاق الأنصاري، فلما رآهم العباس - ولم يكن معه رجال - نادى: يا أهل الشأم، الأرض والأرض! فنزل ناس كثير ممن معه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا في المعركة. وقد كان رجل من أهل الشأم من بني عبس يقال له نائل بن فروة قال ليوسف بن عمر: والله لئن أنا ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلني، فقال له يوسف: خذ هذا السيف؛ فدفع إليه بسيف لا يمرّ بشيء ألا قطعه. فلما التقى أصحاب العباس بن سعيد وأصحاب زيد واقتتلوا، بصر نائل بن فروة بنصر بن خزيمة، فأقبل نحوه، فضرب نصرًا فقطع فخذه، وضربه نصر ضربةً فقتله؛ فلم يلبث نصر أن مات، واقتتلوا قتالًا شديدًا.
ثم إن زيد بن علي هزمهم وقتل من أهل الشأم نحوًا من سبعين رجلًا، فانصرفوا وهم بشرّ حال. وقد كان العباس بن سعيد نادى في أصحابه أن اركبوا؛ فإن الخيل لاتطيق الرجال في المضيق فركبوا، فلما كان العشي عبأهم يوسف بن عمر ثم سرحهم، فأقبلوا حتى التقواهم وأصحاب زيد، فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبَّخة، ثم شدّ عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجاله؛ حتى أخذوا على المسناة.
ثم إن زيدًا ظهر لهم فيما بين بارق ورؤاس، فقاتلهم هنالك قتالًا شديدًا. وصاحب لوائه يومئذ رجل يقال له عبد الصمد بن أبي مالك بن مسروح، من بني العباس بن زيد، حليف العباس بن عبد المطلب، وكان مسروح السعدي تزوج صفية بنت العباس بن عبد المطلب، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ورجله، فبعث العباس إلى يوسف بن عمر ييعلمه ذلك، فقال له: ابعث إلي الناشبة، فبعث إليهم سليمان بن كيسان الكلبي في القيقانيّة والبخاريّة؛ وهم ناشبة، فجعلوا يرمون زيدًا وأصحابه، وكان زيد حريصًا على أن يصرفهم حين انتهوا إلى السبخة، فأبوا عليه، فقاتل معاويه بن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد بن علي قتالًا شديدًا، فقتل بين يديه، وثبت زيد بن علي ومن معه حتى إذا جنح الليل رمى بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فتشبث في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه؛ ولا يظن أهل الشأم أنهم رجعوا إلا للمساء والليل.
قال: فحدثني سلمة بن ثابت الليثي - وكان مع زيد بن علي، وكان آخر من انصرف من الناس يومئذ، هو وغلام لمعاوية بن إسحاق - قال: أقبلت أنا وصاحبي نقصُّ أثر زيد بن علي، فنجده قد أنزل؛ وأدخل بيت حرّان ابن كريمة مولى لبعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر. قال سلمة بن ثابت: فدخلت عليه، فقلت له: جعلني الله فداك أبا الحسين! وانطلق أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له شقير مولى بني رؤاس فانتزع النصل من جبهته، وأنا أنظر إليه، فوالله ما عدا أن انتزعه جعل يصيح، ثم لم يلبث أن قضى؛ فقال القوم: أين ندفنه، وأين نواريه؟ فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال بعضهم: بل نحتز رأسه ونضعه بين القتلى، فقال ابنه يحيى: لا والله لا تأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم: لا بل نحمله إلى العباسيّة فندفنه.
قال سلمة: فأشرت عليهم أن ننطلق به إلى الحفرة التي يؤخذ منها الطين فندفنه فيها، فقبلوا رأيي وانطلقنا، وحفرنا له بين حفرتين، وفيه حينئذ ماء كثير؛ حتى إذا نحن أمكنّا له دفناه، وأجرينا عليه الماء، وكان معنا عبد له سندي قال: ثم انصرفنا حتى نأتي جبّانة السيبع، ومعنا ابنه، فلمم نزل بها، وتصدّع الناس عنا، وبقيت في رهط معه لا يكونون عشرة، فقلت له: أين تريد؟ هذا الصبح قد غشيك - ومعه أبو الصبَّار العبدي - قال: فقال: النهرين، فظننت أنه يريد أن يتشطّط الفرات ويقاتلهم - فقلت له: لاتبرح مكانك، تقاتلهم حتى تقتل، أو يقضي الله ما هو قاض. فقال لي: أنا أريد نهري كربلاء. فقلت له: فالنجاء قبل الصبح، فخرج من الكوفة، وأنا معه وأبوا الصبّار ورهط معنا، فلما خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذّنين، فصلينا الغداة بالنُّخيلة سراعًا قبل نينوى، فقال لي: إني أريد سباقًا مولى بشر بن عبد الملك بن بشر فأرسع السير، وكنت إذا لقيت القوم أستطعمهم فأطعم الأغرفة فأطعمها إياه، فيأكل ونأكل معه؛ فانتهينا إلى نينوى وقد أظلمنا، فأتينا منزل سابق، فدعوت على الباب، فخرج إلينا فقلت له: أما أنا فآتي الفيّوم، فأكون به؛ فإذا بدا لك أن ترسل إلي فأرسل. قال: ثم إني مضيت وخلّفته عند سابق؛ فذلك آخر عهدي به.
قال: ثم إنّ يوسف بن عمر بعث أهل الشأم يطلبون الجرحى في دور أهل الكوفة، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار، ويطوفون البيت يتلمسون الجرحى.
قال: ثم دلّ غلام زيد بن علي السندي يوم الجمعة على زيد، فبعث الحكم بن الصلت العباس بن سعيد المزني وابن الحكم بن الصلت، فانطلقا فاستخرجاه، فكره العباس أن يغلب عليه ابن الحكم بن الصلت، فتركه وسرح بشيرًا إلى يوسف بن عمر غداة يوم الجمعة برأس زيد بن علي مع الحجاج بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، فقال أبوا الجورية مولى جهينة:
قل للذين انتهكوا المحارم ** ورفعوا الشمع بصحرا مالم
كيف وجدتم وقعة الأكارم ** يا يوسف بن الحكم بن القاسم
قال: ولما أتى يوسف بن عمر البشير، أمر بزيد فصلب بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وزياد النهدي؛ وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بن عباد برأس نصر بن خزيمة، فأمر له يوسف بن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعرييّن برأس معاوية بن إسحاق؛ فقال: أنت قتلته؟ فقال أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته؛ ولكني رأيته فعرفته، فقال: أعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه أن يتم له ألفًا، إلا أنه زعم أنه لم يقتله.
وقد قيل: إن يوسف بن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلًا من بني أمية كتب - فيما ذكر - إلى هشام، إلى يوسف يشتمه ويجهّله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفة يبايع له فألحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن نلم يقبل فقاتله. فكتب يوسف إلى الحكم بن الصلت من آل أبي عقيلل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي عليه موضعه، فدس يوسف مملوكًا خرسانيًا ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم، وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حبًا لأهل البيت؛ وأن معه مالًا يريد أن يقويهم به؛ فلم يزل المملوك يلقى الشيعة، ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على موضعه، فوجّه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه منهم إلا ثلثمائة أو أقل، فجعل يقول: كان داود ابن علي أعلم بكم؛ قد حذرني خذلانكم فلم أحذر!
وقيل إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن فيه - وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء - عبد قصار كان به، فاستعجل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم فاستخرجوه، فقطعوا رأسه، وصلبوا جسده؛ ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زمانًا. وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بن معاوية أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبًا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وقيل: إن حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى يوسف.
فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في أمر يحيى بن زيد: لما قتل زيد عمد رجل من بنى أسد إلى يحيى بن زيد، فقال له: قد قتل أبو، وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها. قال: وكيف لي بذلك؟ قال: تتوارى حتى يكفّ عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف فأتى عبد الملك بن بشر بن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة، وحقّه عليك واجب، قال له: أجل؛ ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى، قال: فقد قتل وهذا ابنه غلامًا حدثًا لا ذنب له؛ وإن علم يوسف بن عمر بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قال: نعم وكرامة. فأتاه به فواراه عنده. فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام عندك، وأعطى الله عهدًا؛ لئن لم تأتني به لأكتبنّ فيك إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور؛ أنا أواري من ينازعني سلطاني ويدّعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا علي ولا الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر؛ ما كان ليواري مثل هذا، ولا يستر عليه؛ فكفّ عن طلبه؛ فلما سكن الطلبُ خرج يحيى في نفر من الزيديّة إلى خراسان.
وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال: يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقّل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه؛ والله لو أبدى لي صفحته لعقت خصييه كما عرقت خصيَي أبيه.
وذكر عن رجل من الأنصار قال: لما جىء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال:
ألا يا ناقض الميثا ** ق أبشر بالذي ساكا
نقضت العهد والميثا ** ق قدمًا كان قدماكا
لقد أخلف إبليس ال ** ذي قد كان منّاكا
قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم:
ألا يا شاعر السوء ** لقد أصبحت أفاكا
أشتم ابن رسول الل ** ه يرضي من تولاكا
ألا صبحك الله ** بخزي ثم مساكا
ويوم الحشر لا شك ** بأن النار مثواكا
وقيل: كان خراش بن حوشب بن يزيد الشيباني على شرط يوسف ابن عمر؛ فهو الذي نبش زيدًا، وصلبه، فقال السيد:
بتّ ليلى مسهدا ** ساهر الطرف مقصدا
ولقد قلت قولة ** وأطلت التبلدا
لعن الله حوشبًا وخراشًا ومزيدا
ويزيدًا فإنه ** كان أعتى وأعندا
ألف ألف وألف أل ** ف من اللعن سرمدا
إنهم حاربوا الإل ** ه وآذوا محمدا
شركوا في دم المطه ** ر زيد تعندا
ثم عالوه فوق جذ ** ع صريعًا مجردا
يا خراش بن حوشب ** أنت أشقى الورى غدا
قال أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بن علي أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال: يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولا أخوف بالذنب. هيهات؟ حبيت بالساعد الأشدّ، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق؛ ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم. أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله؛ إلا حكيم بن شريك المحاربي؛ ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم؛ ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم.
وفي هذه السنة قتل كلثوم بن عياض القشيري الذي كان هشام بن عبد الملك بعثه في خيول أهل الشأم إلى إفريقيّة؛ حيث وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم.
وفيها ولد الفضل بن صالح ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي.
وفيها وجّه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكلذلك قال الواقدي وغيره.
وكانت عمال المصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل؛ إلا أنّ قاضي الكوفة كان - فيما ذكر - في هذه السنة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد
فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بن سيار من الصلح.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
ذكر علي بن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرّقت الترك في غارة بعضها على بعض؛ فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كلّ ما أرادوا.
قال: وكانوا سألوا شروطًا أنكرها أمراء خراسان؛ منها ألّا يعاقب من كان مسلمًا وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدّى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضيّة قاض وشهادة العدول؛ فعاب الناس ذلك على نصر، وكلّموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك؟ فأرسل رسولًا إلى هشام في ذلك؛ فلما قدم الرسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جُرّبت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك. فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين، تألّف القوم واحمل لهم؛ فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل.
وفادة الحكم بن الصلت على هشام بن عبد الملك
وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام بن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بن سيّار.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه
ذكر علي عن شيوخه، قال: لما طالت ولاية نصر بن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بن عمر إلى هشام حسدًا له: إن خراسان دبرة دبرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرّح إليها الحكم بن الصلت؛ فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودّتنا أهلَ البيت.
فلما أتى هشامًا كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن علي السغدي، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قال: نعم، وأنا صاحب الترك - قال: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك - فقال: أتعرف الحكم بن الصلت؟ قال: نعم، قال: فما وليَ بخراسان؟ قال: وليَ قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفًا، فأسره الحارث بن سريج، قال: ويحك؟ وكيف أفلت منه؟ قال: عرك أذنه، وقفده وخلّى سبيله. قال: فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالًا وبيانًا، فكتب إلى يوسف: إنّ الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخلّ الكناني وعمله.
وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، وأوفد مغراء بن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام.
ذكر الخبر عن ذلك وما كان من هشام ويوسف بن عمر فيه
ذكر أن نصرًا وجّه مغراء بن أحمر إلى العراق وافدًا، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بن عمر: يا بن أحمر؛ يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم؟ فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه. فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير، فقال: ويحك؟ أخبرني عن خراسان، قال: ليس لك جند يا أمير المؤمنين أحدّ ولا أنجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيلة؛ وعدّة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قال: ويحك؟ فما فعل الكناني؟ قال: لا يعرف ولده من الكبر. فردّ عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتيَ بشبيل بن عبد الرحمن المازني، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قال: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشابّ يخشى سفهه، المجرِّب المجرَّب، قد ولي عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته. فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكأّدوا حتى قدموا بيهق - وقد كتب إلى نصر بقول شبيل - وكان إبراهيم بن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصرًا، وأخبره أنه قد وليَ الحكم بن الصلت بن أبي عقيل خراسان. فقسم له إبراهيم أمر خراسان كله؛ حتى قدم عليه إبراهيم بن زياد رسول نصر؛ فعرف أنّ يوسف قد مكرَ به وقال: أهلكني يوسف.
وقيل: إن نصرًا أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بن نعيم الكلبي، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، إن هو تنقّص نصرًا عند هشام أن يوليه السند. فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قال: لو كان الله متعنا منه ببقيّة؟ فاستوى هشام جالسًا، ثم قال: ببقيّة ماذا؟ قال: لا يعرف الرجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضعف لأجل كبره. فقام حملة الكلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قال؛ هو هو. فقال هشام: إن نصرًا ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر؛ وقد كان يوسف كتب إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بن قتيبة. فكتب إليه هشام: اله عن ذكر الكناني، فلما قدم مغراء على يوسف، قال له: قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام؛ فأمره بالمقام. وكتب إلى نصر: إني قد حوّلت اسمه، فأشخص إلي من قبلك من أهله.
وقيل: إنّ يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قال: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي! فلم يزل به، فقال: فبم أعيبه؟ أعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قال: عبه بالكبر. فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصرًا بأحسن ما يكون، ثم قال في آخر كلامه: لولا..، فاستوى هشام جالسًا، فقال: ما لولا! قال: لولا أنّ الدهر قد غلب عليه، قال: ما بلغ به ويحك الدهرّ قال: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو والركوب. فشقّ ذلك على هشام. فتكلّم حملة بن نعيم. فلما بلغ نصرًا قول مغراء بعث هارون بن السياوش إلى الحكم بن نميلة، وهو في السرّاجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر علي بن محمد، عن الحارث بن أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة: لما وليَ نصر خراسان أدنى مغراء بن أحمر بن مالك بن سارية النميري والحكم ابن نميلة بن مالك والحجاج بن هارون بن مالك؛ وكان مغراء بن أحمر النميري رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم؛ وكان بعده عكابة بن نميلة، ثم أوفد نصر وفدًا من أهل الشأم وأهل خراسان، وصيّر عليهم مغراء؛ وكان في الوفد حملة بن نعيم الكلبي، فقال عثمان بن صدقة بن وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان:
خيرني مسلم مراكبه ** فقلت حسبي من مسلم حكما
هذا فتى عامر وسيدها ** كفى بمن ساد عامرًا كرما
يعني الحكم بن نميلة.
قال: فتغيّر نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء. قال: وكان أبو نميلة صالح الأبّار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بن زيد بن علي بن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان. وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فقال:
قد كنت في همة حيران مكتئبًا ** حتى كفاني عبيد الله تهمامي
ناديته فسما للمجد مبتهجًا ** كغرة البدر جلّى وجه إظلام
فاسم برأى أبي ليث وصولته ** إن كنت يوم حفاظ بامرىء سام
تظفر يداك بمن تمت مروته ** واختصه ربه منه بإكرام
ماضي العزائم ليثي مضاربه ** على الكريهة يوم الروع مقدام
لا هذر ساحة النادي ولا مذل ** فيه ولا مسكت إسكات إفحام
له من الحلم ثوباه ومجلسه ** إذا المجالس شانت أهل أحلام
قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف؛ فإن رأيت أن تأذن لراويتي! فأذن له، فأنشده:
فاز قدح الكلبي فاعتقدت مغ ** راء في سعيه عروق لئيم
فأبيني نمير ثم أبيني ** ألعبد مغراء أم لصميم
فلئن كان منكم ما يكون ال ** غدر والكفر من خصال الكريم
ولئن كان أصله كان عبدًا ما عليكم من غدره من شتيم
وليته ليث وأي ولاة ** بأياد بيض وأمر عظيم!
أسمنته حتى إذا راح مغبو ** طًا بخير من سيبها المقسوم
كاد ساداته بأهون من نه ** قة عير بقفرة مرقوم
فضربنا لغيرنا مثل الكل ** ب ذميمًا والذمّ للمذموم
وحمدنا ليثًا ويأخذ بالفض ** ل ذوو الجود والندى والحلوم
فاعلمن يا بني القساورة الغل ** ب وأهل الصفا وأهل الحطيم
أن في شكر صالحينا لما يد ** حض قول المرهق الموصوم
قد رأى الله ما أتيت ولن ين ** قص نبح الكلاب زهر النجوم
فلما فرغ قال نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا. قال: وأهان نصر قيسًا وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء:
لقد بغض الله الكرام إليكم ** كما بغض الرحمن قيسًا إلى نصر
رأيت أبا ليث يهين سراتهم ** ويدنى إليه كل ذي والث غمر
وحجّ بالناس في هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكذلك قال الواقدي أيضًا.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة
ذكر الإخبار عما كان فيها من الأحداث
ابتداء أمر أبي مسلم الخراساني
فممّا كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفّة يريدون مكّة، وشرّي بكير بن ماهان - في قول بعض أهل السير - أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس من عيسى بن معقل العجلي.
ذكر الخبر عن سبب ذلك
وقد اختلف في ذلك؛ فأمّا علي بن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بن طلحة السلمي حدثه عن أبيه، قال: كان بكير بن ماهان كاتبًا لبعض عمّال السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير وخليَ عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجلي، ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بن معقل: ما هذا الغلام؟ قال: مملوك، قال: تبيعه؟ قال: هو لك، قال: أحبّ أن تأخذ ثمنه، قال: هو لك بما شئت؛ فأعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج، فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان.
وقال غيره: توجّه سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجلي؛ وهو في الحبس، قد اتهم بالدّعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل؛ حبسهما يوسف بن عمر فيمن حبس من عمّال خالد بن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما؛ فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من السراجين - وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى - فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل.
وفي هذه السنة غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم.
وفيها مات - في قول الواقدي - محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي.
وحجّ في هذه السنة عبد العزيز بن الحجاع بن عبد الملك معه امرأته أمّ سلمة بنت هشام بن عبد الملك.
وذكر محمد بن عمر أن يزيد مولى أبي الزناد حدثه، قال: رأيت محمد ابن هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيرة، ويعتذر فتأبى؛ حتى كان يأيس من قبول هديّته، ثم أمرت بقبضها.
وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة اثنتين وعشرين ومائة وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.
خبر وفاة هشام بن عبد الملك
ومن ذلك وفاة هشام بن عبد الملك بن مروان فيها، وكانت وفاته - فيما ذكر أبو معشر - لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عنه.
وكذلك قال الواقدي والمدائني وغيرهما؛ غير أنهم قالوا: كانت وفاته يوم الأربعاء لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر، فكانت خلافته في قول جميعهم تسع عشرة سنة، وسبعة أشهر وأحدًا وعشرين يومًا في قول المدائني وابن الكلبي، وفي قول أبي معشر: وثمانية أشهر ونصفًا، وفي قول الواقدي: وسبعة أشهر وعشر ليالٍ.
واختلف في مبلغ سنه، فقال هشام بن محمد الكلبي: توفي وهو ابن خمس وخمسين سنة. وقال بعضهم: توفّي وله اثنتان وخمسون سنة.
وقال محمد بن عمر: كان هشام يوم توفّي ابن أربع وخمسين سنة. وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وكان يكنى أبا الوليد.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثني شيبة بن عثمان، قال: حدثني عمرو بن كليع؛ قال: حدثني سالم أبو العلاء، قال: خرج علينا هشام بن عبد الملك يومًا وهو كئيب، يعرف ذلك فيه، مسترخ عليه ثيابه، وقد أرخى عنان دابته، فسار ساعة ثم انتبه، فجمع ثيابه وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع: ادع الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت منك شيئًا غمّني، قال: وما هو؟ قال: رأيتك قد خرجت على حال غمّني. قال: ويحك يا أبرش! وكيف لا أغتّمّ وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يومًا! قال سالم: فرجعت إلى منزلي، فكتبت في قرطاس: " زعم أمير المؤمنين يوم كذا وكذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يومًا ". فلمّا كان في الليلة التي استكمل فيها ثلاثة وثلاثين يومًا إذا خادم يدقّ الباب يقول: أجب أمير المؤمنين، واحمل معك دواء الذبحة - وقد كان أخذه مرّة فتعالج فأفاق - فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن فقال لي: يا سالم، قد سكن بعض ما كنت أجد؛ فانصرف إلى أهلك، وخلف الدوائ عندي. فانصرفت، فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ عليه، فقالوا: مات أمير المؤمنين! فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقمًا يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوه حتى استعاروا قمقمًا من بعض الجيران، فقال بعض من حضر ذلك: إن في هذا لمعتبرًا لمن اعتبر. وكان وفاته بالذبحة فلما مات صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
ذكر بعض سير هشام
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، عن وسنان الأعرجي، قال: حدثني ابن أبي نحيلة، عن عقّال بن شيبه، قال: دخلت على هشام، وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان، وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن، فقال: ما لك؟ قلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك أخضر، فجعلت أتأمّل هذا، أهو ذاك أم غيره؟ فقال: هو والله الذي لا إله إلا، هو ذاك، ما لي قباء غيره. وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم. قال: وكان عقّال مع هشام. فأما شبّة أبو عقّال؛ فكان مع عبد الملك بن مروان، وكان عقّال يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشوّ عقلًا.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي؛ قال: قال مروان بن شجاع؛ مولى لمروان بن الحكم: كنت مع محمد بن هشام بن عبد الملك، فأرسل إلي يومًا، فدخلتُ عليه، وقد غضب وهو يتلهف، فقلت: مالك؟ فقال: رجل نصراني شجّ غلامي - وجعل يشتمه - فقلت له: على رسلك! قال: فما أصنع؟ قلت: ترفعه إلى القاضي، قال: وما غير هذا! قلت: لا، قال خصي له: أنا أكفيك، فذهب فضربه. وبلغ هشامًا فطلب الخصي، فعاذ بمحمد، فقال محمد بن هشام: لم آمرك، وقال الخصي: بلى والله لقد أمرتني، فضرب هشام الخصي وشتم ابنَه.
وحدثني أحمد، قال علي: لم يكن أحد يسير في أيام هشام في موكب إلّا مسلمة بن عبد الملك. قال: ورأى هشام يومًا سالمًا في موكب، فزجره وقال: لأعلمنّ متى سرت في موكب. وكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم، ويقول: حاجتك، ويمنعه أن يسير معه، وكان سالم كأنه هو أمّر هشامًا.
قال: ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو؛ فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلًا.
قال: وكان لهشام بن عبد الملك مولىً يقال له يعقوب، فكان يأخذ عطاء هشام مائتي دينار ودينارًا، يفضّل بدينار، فيأخذها يعقوب ويغزو. وكانوا يصيّرون أنفسَهم في أعوان الديّوان، وفي بعض ما يجوّز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم. وكان داود وعيسى ابنا علي بن عبد الله بن عباس - وهما لأمّ - في أعوان السوق بالعراق لخالد بن عبد الله، فأقاما عنده، فوصلهما، ولولا ذلك لم يستطع أن يحبسهما، فصيّرهما في الأعوان، فسمرا، وكانا يسامرانه ويحدثانه.
قال: فولى هشام بعض مواليه ضيعةً له، فعمرها فجاءت بلغة عظيمة كبيرة ثم عمّرها أيضًا، فأضعفت الغلّة، وبعث بها مع ابنه، فقدم بها على هشام، فأخبره خبر الضيعة فجزاه خيرًا، فرأى منه انبساطًا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: زيادة عشرة دنانير في العطاء، فقال: ما يخيّل إلى أحدكم أن عشرة دنانير في العطاء إلا بقدر الجوز! لا لعمري لا أفعل.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال جعفر بن سليمان: قال لي عبد الله بن علي: جمعت دواوين بني مروان، فلم أر ديوانًا أصحّ ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
حدثنا أحمد، قال: قال علي: قال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرًا في أمر أصحابي ودواوينه، ولا أشدّ مبالغة في الفحص عنهم من هشام.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال حماد الأبحّ: قال هشام لغيلان: ويحك يا غيلان! قد أكثر الناس فيك، فنازعنا بأمرك، فإن كان حقًا اتّبعناك، وإن كان باطلًا نزعت عنه، قال: نعم، فدعا هشام ميمون بن مهران ليكلمه، فقال له ميمون: سل؛ فإن أقوى ما تكونون إذا سألتم، قال له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارهًا! فسكت، فقال هشام: أجبه فلم يجبه، فقال له هشام: لا أقالني الله إن أقلتُه؛ وأمر بقطع يديه ورجليه.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي عن رجل من غني، عن بشر مولى هشام، قال: أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه وضربه، فبكى الشيخ. قال بشر: فقلت له - وأنا أعزّيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضّرب! إنما أبكي لاحتقاره للبربط إذ سماه طنبورًا! قال: وأغلظ رجل لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك! قال: وتفقّد هشام بعض ولده - ولم يحضر الجمعة - فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة! فمنعه الدابّة سنة.
قال: وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إنّ بغلتي قد عجزت عني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابّة فعل. فكتب إليه: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظنّ أمير المؤمنين أن ذلك من قلة تعهّدك لعلفها، وأنّ علفها يضيع، فتعهد دابتك في القيام عليها بنفسك، ويرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك.
قال: وكتب إليه بعض عمّاله: إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن؛ فليكتب إلي أمير المؤمنين بوصولها. فكتب إليه: قد وصل إلى أمير المؤمنين الدرّاقن الذي بعثتَ به فأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء.
قال: وكتب إلى بعض عمّاله: قد وصلت الكمأة التي بعثت بها إلى أمير المؤمنين؛ وهي أربعون، وقد تغيّر بعضها، ولم تؤت في ذلك إلا من حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين منها شيئًا فأجد حشوها في الظرف الذي تجعلها فيه بالرمل؛ حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضًا.
حدثني أحمد، قال: حدثني علي، قال: حدثنا الحارث بن يزيد، قال: حدثني مولى لهشام، قال: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطيرين ظريفين، فدخلت إليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فاقل: أرسلهما في الدار، قال: فأرسلتهما فنظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، جائزتي، قال: ويلك! وما جائزة طيرين؟ قلت: ما كان، قال: خذ أحدهما، فعدوت في الدار عليهما، فقال: ما لك؟ قلت: أختار خيرهما، قال: أتختار أيضًا خيرهما وتدع شرهما لي! دعهما ونحن نعطيك أربعين درهمًا أو خمسين درهمًا.
قال: وأقطع هشام أرضًا يقال لها دورين، فأرسل في قبضها؛ فإذا هي خراب، فقال لذويد كاتب كان بالشأم: ويحك! كيف الحيلة؟ قال: ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار، فكتب دورين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، فأخذ شيئًا كثيرًا، فلما ولى هشام دخل عليه ذويد، فقال له هشام: دورين وقراها! لا والله لا تلي لي ولاية أبدًا، وأخرجه من الشأم.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمير بن يزيد، عن أبي خالد، قال: حدثني الوليد بن خليد، قال: رآني هشام بن عبد الملك، وأنا على برذون طخارى، فقال: يا وليد بن خليد، ما هذا البرذون؟ قلت: حملني عليه الجنيد، فحسدني وقال: والله لقد كثرت الطخارية، لقد مات عبد الملك فما وجدنا في دوابه برذونًا طخاريًا غير واحد، فتنافسه بنو عبد الملك أيهم يأخذه؛ وما منهم أحد إلا يرى أنه إن لم يأخذه لم يرث من عبد الملك شيئًا.
قال: وقال بعض آل مروان لهشام: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف! قال: وقال هشام يومًا للأبرش: أوضعت أعنزك؟ قال: إي والله، قال: لكن أعنزي تأخّر ولادها، فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قال: نعم، أفأقدّم قومًا؟ قال: لا، قال: أفأقدّم خباءً حتى يضرب لنا؟ قال: نعم، فبعث برجلين بخباء فضرب، وغدا هشام والأبرش وغدا الناس، فقعد هشام والأبرش؛ كلّ واحد منهما على كرسي، وقدّم إلى كلّ واحد منهما شاة، فحلب هشام الشاة بيده، وقال: تعلم يا أبرش أني لم أبسّ الحلب! ثم أمر بملة فعجنت وأوقد النار بيده، ثم فحصها وألقى الملة، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: يا أبرش، كيف ترى رفقي! حتى نضجت ثم أخرجها، وجعل يقلّبها بالمحراث، ويقول: جبينك جبينك. والأبرش يقول: لبّيك لبيك - وهذا شيء تقوله الصبيان إذا خبزت لهم الملة - ثم تغدّى وتغدّى الناس ورجع.
قال: وقدم علباء بن منظور الليثي على هشام، فأنشده:
قالت علية واعتزمت لرحلة ** زوراء بالأذنين ذات تسدر
أين الرحيل وأهل بيتك كلهم ** كل عليك كبيرهم كالأصغر!
فأصاغر أمثال سلكان القطا ** لا في ثرى مال ولا في معشر
إني إلى ملك الشآم لراحل ** وإليه يرحل كل عبد موقر
فلأتركنك إن حييت غنية ** بندى الخليفة ذي الفعال الأزهر
إنا أناس ميت ديواننا ** ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر
فقال له هشام: هذا الذي كنت تحاول، وقد أحسنت المسألة. فأمر له بخمسمائة درهم، وألحق له عيلًا في العطاء.
قال: وأتى هشامًا محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. فقال: ما لك عندي شيء. ثم قال: إيّاك أن يغرّك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين؛ إني قد عرفتك؛ أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلا تقيمنّ وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة، فالحق بأهلك.
قال: ووقف هشام يومًا قريبًا من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بن حيان المري، وعثمان قائم يكاد رأسه يوازي رأس أمير المؤمنين وهو يكلمه إذ سمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطًا، ولا تنفضوه نفضًا، فتتفقّأ عيونه، وتتكسر غصونه.
قال: وحجّ هشام، فأخذ الأبرش مخنثين ومعهم البرابط، فقال هشام: احبسوهم وبيعوا متاعهم - وما درى ما هو - وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردّوا عليهم الثمن.
وكان هشام بن عبد الملك ينزل الرصافة - وهي فيما ذكر - من أرض قنسرين. وكان سبب نزوله إياها - فيما حدثني أحمد بن زهير بن حرب، عن علي بن محمد - قال: كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدّون ويهربون من الطاعون، فينزلون البريّة خارجًا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج؛ فإنّ الخلفاء لا يطعنون؛ ولم نر خليفة طعن، قال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، ابتنى بها قصرين، والرصافة مدينة رومية بنتها الروم.
وكان هشام أحول، فحدثني أحمد، عن علي، قال: بعث خالد بن عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بحادٍ فحدا بين يديه بأرجوزة أبي النجم:
والشمس في الأفق كعين الأحول ** صغواء قد همت ولما تفعل
فغضب هشام وطرده.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثنا أبو عاصم الضبي، قال: مرّ بي معاوية بن هشام، وأنا أنظر إليه في رحبة أبي شريك - وأبو شريك رجل من العجم كانت تنسب إليه وهي مزرعة - وقد اختبز خبزة، فوقف علي، فقلت: الغداء! فنزل وأخرجتها، فوضعتها في لبن، فأكل ثم جاء الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاوية بن هشام، فأمر لي بصلة. وركب وثار بين يديه ثعلب، فركض خلفه، فما تبعه غلوة؛ حتى عثر به فرسه فسقط فاحتملوه ميتًا، فقال هشام: تالله لقد أجمعت أن أرشحه للخلافة، ويتبع ثعلبًا! قال: وكانت عند معاوية بن هشام ابنة إسماعيل بن جرير وامرأة أخرى، فأخرج هشام كلّ واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألفًا.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا، علي، قال: قال قحذم كاتب يوسف: بعثني يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفي، وحبّة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحبّ، فدخلت عليه فدنوت منه، فلم أر وجهه من طول السرير وكثرة الفرش، فتناول الحجر والحبّة، فقال: أكتب معك بوزنهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ هما أجلّ عن أن يكتب بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما! قال: صدقت، وكانت الياقوتة للرائقة جارية خالد بن عبد الله، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا حسين بن يزيد، عن شهاب بن عبد ربّه، عن عمرو بن علي، قال: مشيت مع محمد بن علي إلى داره عند الحمّام، فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين. وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس! ولكن أبي حدثني عن أبيه، عن علي، عن النبي ﷺ أنه قال: " لن يعمّر الله ملكًا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ بذلك النبي من العمر ".
وفي هذه السنة ولي الخلافة بعد موت هشام بن عبد الملك الوليد بن يزيد ابن عبد الملك بن مروان، وليها يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة في قول هشام بن محمد الكلبي.
وأما محمد بن عمر فإنه قال: استُخلف الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين ومائة.
وقال في ذلك علي بن محمد مثل قول محمد بن عمر.
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان
ذكر الخبر عن بعض أسباب ولايته الخلافة
قد مضى ذكرى سبب عقد أبيه يزيد بن عبد الملك بن مروان له الخلافة بعد أخيه هشام بن عبد الملك؛ وكان الوليد بن يزيد يوم عقد له أبوه يزيد ذلك ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنُه الوليد خمس عشرة سنة، فندم يزيد على استخلافه هشامًا أخاه بعده؛ وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد، قال: الله بيني وبين من جعل هشامًا بيني وبينك! فتوفيَ يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد ابن خمسة عشرة سنة. وولى هشام وهو للوليد مكرّم معظم مقرّب؛ فلم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد بن يزيد مجون وشرب الشراب؛ حمله على ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن علي ابن محمد، عن جويرية بن أسماء وإسحاق بن أيوب وعامر بن الأسود وغيرهم - عبد الصمد بن عبد الأعلى الشبّاني أخو عبد الله بن عبد الأعلى - وكان مؤدّب الوليد - واتّخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحجّ سنة تسع عشرة ومائة، فحمل معه كلابًا في صناديق، فسقط منها صندوق - فيما ذكر علي بن محمد عمّن سميت من شيوخه - عن البعير وفيه كلب، فأجالوا على لاكري السياط، فأوجعوه ضربًا. وحمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمرًا، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة؛ ويجلس فيها؛ فخوّفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك؛ فلم يحرّكها. وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشامًا فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة؛ فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك؛ فأبى، فتنكر له هشام وأضرّ به، وعمل سرًّا في البيعة لابنه؛ فأجابه قوم. قال: فكان ممن أجابه خالاه: محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي، وبنو القعقاع بن خليد العبسي وغيرهم من خاصّته.
قال: وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئًا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به! فكتب إليه الوليد:
يأيها السائل عن ديننا ** نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفًا وممزوجة ** بالسخن أحيانًا وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة - وكان يكنى أبا شاكر - وقال له: يعيّرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة! فالزم الأدب واحضر الجماعة.
وولّاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالًا، فقال مولى لأهل المدينة:
يأيها السائل عن ديننا ** نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ** ليس بزنديق ولا كافر
يعرّض بالوليد.
وأمّ مسلمة بن هشام أمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص. فقال الكميت:
إن الخلافة كائن أوتادها ** بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
فقال خالد بن عبد الله القسري: أنا برىء من خليفة يكنى أبا شاكر؛ فغضب مسلمة بن هشام على خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد ابن عبد الله، كتب أبو شاكر إلى خالد بن عبد الله بعشر هجا به يحيى بن نوفل خالدًا وأخاه أسدًا حين مات:
أراح من خالد وأهلكه ** رب أراح العباد من أسد
أما أبوه فكان مؤتشبًا ** عبدًا لئيمًا لأعبد قفد
وبعث بالطومار مع رسول على البرييد إلى خالد؛ فظنّ أنه عزاه عن أخيه، ففضّ الخاتم، فلم ير في الطومار غير الهجاء، فقال: ما رأيت كاليوم تعزية! وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه، وكشر عبثه به وبأصحابه وتقصيره به، فلمّا رأى ذلك الوليد خرج وخرج معه ناس من خاصّته ومواليه، فنزل بالأزرق؛ بين أرض بلقين وفزارة، على ماء يقال له الأغدف، وخلف كاتبه عياض ابن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرصافة، فقال له: اكتب إلي بما يحدث قبلكم. وأخرج معهه عبد الصمد بن عبد الأعلى، فشربوا يومًا فلما أخذ فيهم الشراب، قال الوليد لعبد الصمد: يا أبا وهب، قل أبياتًا، فقال:
ألم تر للنجم إذ شيعا ** يبادر في برجه المرجعا
تحير عن قصد مجراته ** أتى الغور والتمس المطلعا
فقلت وأعجبني شأنه ** وقد لاح إذ لاح لي مطمعا:
لعل الوليد دنا ملكه ** فأمسى إليه قد استجمعا
وكنا نؤمل في ملكه ** كتأميل ذي الجدب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو ** ر طوعًا فكان لها موضعا
وروى الشعر؛ فبلغ هشامًا، فقطع عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكتب إلى الوليد: بلغني عنك أنك اتخذت عبد الصمد خدنًا ومحدثًا ونديمًا؛ وقد حقق ذلك عندي ما بلغني عنك، ولم أبرئك من سوء، فأخرج عبد الصمد مذمومًا مدحورًا. فأخرجه، وقال فيه:
لقد قذفوا أبا وهب بأمر ** كبير بل يزيد على الكبير
فأشهد أنهم كذبوا عليه ** شهادة عالم بهم خبير
وكتب الوليد إلى هشام يعلمه إخراج عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه من منادمته، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه - وكان ابن سهيل من أهل اليمن وقد ولي دمشق غير مرّة، وكان ابن سهيل من خاصّة الوليد - فضرب هشام ابن سهيل وسيّره، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد، وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد، فضربه ضربًا مبرحًا، وألبسه المسوح. فبلغ الوليد، فقال: من يثق بالناس، ومن يصطنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدّمه أبي على أهل بيته فصيّره ولي عهده، ثم يصنع بي ما ترون؛ لا يعلم أنّ لي في أحد هوىً إلا عبث به، كتب إلي أن أخرج عبد الصمد فأخرجته إليه، وكتبت إليه أن يأذن لابن سهيل في الخروج إلي، فضربه وسيّره، وقد علم رأي فيه، وقد علم انقطاع عياض بن مسلم إلي، وتحرّمه بي ومكانه مني وأنه كاتبي، فضربه وحبسه، يضارّني بذلك؛ اللهم أجرني منه! وقال:
أنا النذير لمسدي نعمة أبدًا ** إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرًا ** وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتشمخون ومنّا رأس نعمتكم ** ستعلمون إذا كانت لنا دولا
انظر فإن كنت لم تقدر على مثل ** له سوى الكلب فاضربه له مثلا
بينا يسمنه للصيد صاحبه ** حتى إذ ما قوى من بعد ما هزلا
عدا عليه فلم تضرره عدوته ** ولو أطاق له أكلا لقد أكلا
وكتب إلى هشام: لقد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عنّي، ومحو ما محا من أصحابي وحرمي وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتليَ الله أمير المؤمنين بذلك ولا أبالي به منه؛ فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فبحسب العير أن يكون قدر الذئب؛ ولم يبلغ من صنيعي في ابن سهيل واستصلاحه، وكتابي إلى أمير المؤمنين فيه كنه ما بلغ أمير المؤمنين من قطيعتي؛ فإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين علي، فقد سبّب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدتّه، ولا صرف شيء عن مواقعه؛ فقدر الله يجري بمقاديره فيما أحبّ الناس أو كرهوا، ولا تأخير لعاجله ولا تعجيل لآجله؛ فالناس بين ذلك يقترفون الآثام على نفوسهم من الله، ولا يستوجبون العقوبة عليه؛ وأمير المؤمنين أحقّ أمته بالبصر بذلك والحفظ له، والله الموفّق لأمير المؤمنين بحسن القضاء له في الأمور.
فقال هشام لأبي الزبير: يا نسطاس، أترى الناس يرضون بالوليد إن حدث بي حدث؟ قال: بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! لا بدّ من الموت؛ أفترى الناس يرضون بالوليد؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ له في أعناق الناس بيعة، فقال هشام: لئن رضي الناس بالوليد ما أظن الحديث الذي رواه الناس: " إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار "، إلا باطلًا.
وكتب هشام إلى الوليد:
قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع عنك وغير ذلك؛ وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجري عليك؛ ولا يتخوّف على نفسه اقتراف المآثم في الذي أحدث من قطع ما قطع، ومحو من محا من صحابتك، لأمرين: أمّا أحدهما فإيثار أمير المؤمنين إياك بما كان يجري عليك؛ وهو يعلم وضعك له وإنفاقكه في غير سبيله، وأما الآخر فإثبات صحابتك، وإدرار أرزاقهم عليهم؛ لا ينالهم ما ينال المسلمين في كلّ عام من مكروه عند قطع البعوث، وهم معك تجول بهم في سفهك؛ ولأمير المؤمنين أحرى في نفسه للتقصير في القتر عليك منه للاعتداء عليك فيها؛ مع أن الله قد نصر أمير المؤمنين في قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجو به تكفير ما يتخوّف مما سلف فيه منه. وأما ابن سهيل فلعمري لئن كان نزل منك بما نزل، وكان أهلًا أن تسر فيه أو تساء؛ ما جعله الله كذلك؛ وهل زاد ابن سهيل - لله أبوك - على أن كان مغنيًا زفانًا، قد بلغ في السفه غايته! وليس ابن سهيل مع ذلك بشر ممن تستصحبه في الأمور التي يكرم أمير المؤمنين نفسه عن ذكرها، مما كنت لعمر الله أهلًا للتوبيخ به؛ ولئن كان أمير المؤمنين على ظنك به في الحرص على فسادك؛ إنك إذًا لغير آلٍ عن هوى أمير المؤمنين من ذلك.
وأما ما ذكرت مما سبب الله لك؛ فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك، واصطفاه له؛ والله بالغ أمره. لقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من رّبه؛ أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاه من كرامته ضرًا ولا نفعًا؛ وإن الله ولي ذلك منه؛ وإنه لا بدّ له من مزايلته؛ والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضي له منهم. وإنّ أمير المؤمنين من حسن ظنه بربّه لعلي أحسن الرجاء أن يوليه تسبيب ذلك لمن هو أهله في الرضا له به ولهم؛ فإنّ بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره، أو يؤديه شكره؛ إلا بعون منه؛ ولئن كان قدر لأمير المؤمنين تعجيل وفاة، إنّ في الذ يهو مفض إليه إن شاء الله من كرامة الله لخلفًا من الدنيا. ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك، فاربع على نفسك من غلواتها، وارقأ على ظلعك؛ فإن لله سطوات وعينًا؛ يصيب بذلك من يشاء، ويأذن فيه لمن يشاء ممن شاء الله؛ وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه وأرضاها له.
فكتب الوليد إلى هشام:
رأيتك تبني جاهدًا في قطيعتي ** لو كنت ذا إرب لهدمت ما تبني
تثير على الباقين مجنى ضغينة ** فويل لهم إن مت من شر ما تجني!
كأني بهم والليت أفضل قولهم ** ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني
كفرت يدًا من منعم لو شكرتها ** جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمنِّ
قال: فلم يزل الوليد مقيمًا في تلك البرية حتى مات هشام؛ فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة، أرسل إلى أبي الزبير المنذر بن أبي عمرو، فأتاه فقال له: يا أبا الزبير؛ ما أتت علي ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة؛ عرضت لي هموم، وحدثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل؛ الذي قد أولع بي - يعني هشامًا - فاركب بنا نتنفس؛ فركبا، فسارا ميلين؛ ووقف على كثيب، وجعل يشكو هشامًا إذ نظر إلى رهج، فقال: هؤلاء رسل هشام؛ نسأل الله من خيرهم، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان؛ أحدهما مولىً لأبي محمد السفياني، والآخر جردبة.
فلما قربا أتيا الوليد، فنزلا يعدوان حتى دنوا منه؛ فسلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعل جردبة يكرّر عليه السلام بالخلافة، فقال: ويحك! أمات هشام! قال: نعم؛ قال فممّن كتابك؟ قال: من مولاك سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأ الكتاب وانصرفا، فدعا مولى أبي محمد السفياني، فسأله عن كاتبه عياض بن مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين؛ لم يزل محبوسًا حتى نزل بهشام أمر الله. فلما صار في حدّ لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان؛ أن احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلنّ أحد منه إلى شيء. وأفاق هشام غفاقةً، فطلب شيئًا فمنعوه فقال: أرانا كنا خزانًا للوليد! ومات من ساعته. وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه؛ فما وجدوا له قمقمًا يسخّن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفنًا من الخزائن؛ فكفنّه غالب مولى هشام؛ فكتب الوليد إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة، فيحصيَ ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عمّاله وحشمه؛ إلا مسلمة بن هشام؛ فإنه كتب إليه ألّا يعرض له، ولا يدخل منزله؛ فإنه كان يكثر أن يكلم أبه في الرفق به، ويكفه عنه. فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به إليه الوليد؛ وكتب إلى الوليد بأخذ بني هشام وحشمه وإحصاء أموال هشام، فقال الوليد:
ليت هشامًا كان حيًا يرى ** محلبه الأوفر قد أترعا
ويروى:
ليت هشامًا عاش حتى يرى ** مكياله الأوفر قد طبّعا
كلناه بالصاع الذي كاله ** وما ظلمناه به إصبعا
وما أتينا ذاك عن بدعة ** أحله الفرقان لي أجمعا
فاستعمل الوليد العمّال، وجاءته بيعته من الآفاق؛ وكتب إليه العمّال، وجاءته الوفود؛ وكتب إليه مروان بن محمد: بارك الله لأمير المؤمنين فيما أصاره إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده؛ وكان من تغشى غمرة سكرة الولاية ما حمل هشامًا على ما حاول من تصغير ما عظّم الله من حقّ أمير المؤمنين، ورام من الأمر المستصعب عليه؛ الذي أجابه إليه المدخولون في آرائهم وأديانهم؛ فوجد ما طمع فيه مستصعبًا، وزاحمته الأقدار بأشدّ مناكبها. وكان أمير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى أزّره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه الله له أهلًا، ونهض متسقلًا بما حمل منها، مثبتة ولايته في سابق الزبر بالأجل المسمى، وخصّه الله بها على خلقه وهو يرى حالاتهم، فقلّده طوقها، ورمى إليه بأزمّة الخلافة، وعصم الأمور.
فالحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته، ووثائق عرى دينه، وذبّ له عما كاده فيه الظالمون، فرفعه ووضعهم؛ فمن أقام على تلك الخسيسة من الأمور أوبق نفسه، وأسخط ربه، ومن عدلت به التوبة نازعًا من الباطل إلى حقّ وجد الله توابًا رحيمًا.
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أني عندما انتهى إلي من قيامه بولاية خلافة الله، نهضت إلى منبري؛ علي سيفان مستعدًا بهما لأهل الغشّ، حتى أعلمت من قبلي ما امتنّ الله به عليهم من ولاية أمير المؤمنين، فاستبشروا بذلك، وقالوا: لم تأتنا ولاية خليفة كانت آمالنا فيها أعظم ولا هي لنا أسرّ من ولاية أمير المؤمنين؛ وقد بسطت يدي لبيعتك فجدّدتها ووكدّتها بوثائق العهود وترداد المواثيق وتغليظ الأيمان، فكلهم حسنت إجابتهم وطاعتهم، فأثبهم يا أمير المؤمنين بطاعتهم من مال الله الذي آتاك؛ فإنك أجودهم جودًا وأبسطهم يدًا؛ وقد انتظروك راجين فضلك قبلهم بالرّحم الذي استرحموك، وزدهم زيادة يفضل بها من كان قبلك؛ حتى يظهر بذلك فضلك عليهم وعلى رعيّتك؛ ولولا ما أحاول من سدّ الثغر الذي أنا به، لخفت أن يحملني الشوق إلى أمير المؤمنين أن أستخلف رجلًا على غير أمره، وأقدم لمعاينة أمير المؤمنين؛ فإنها لا يعدلها عندي عادل نعمة وإن عظمت؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في المسير إليه لأشافهه بأمور كرهت الكتاب بها فعل.
فلما وليَ الوليد أجرى على زمني أهل الشأم وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم؛ وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة؛ وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام، وزاد الناس جميعًا في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشأم بعد زيادة العشرات عشرة عشرة؛ لأهل الشأم خاصّة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف، وكان وهو لي عهد يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلًا، ويطعم من صدر عن الحجّ بمنزل يقال له زيزاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابّهم، ولم يقل في شي يسأله: لا، فقيل له: إن في قولك: أنظر، عدّة ما يقيم عليها الطالب؛ فقال: لا أعوّد لساني شيئًا لم أعتده، وقال:
ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ** بأن سماء الضر عنكم ستقلع
سيوشك إلحاق معًا وزيادة ** وأعطية منّي عليكم تبرع
محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ** به يكتب الكتّاب شهرًا وتطبع
وفي هذه السنة عقد الوليد بن يزيد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده، وجعلهما وليّي عهده؛ أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدّمًا على عثمان، وكتب بذلك إلى الأمصار؛ وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بن سيار؛ وكانت نسخة الكتاب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار؛ أما بعد فإني بعثت إليك نسخة كتاب أمير المؤمنين الذي كتب به إلى من قبلي في الذي ولّى الحكم ابن أمير المؤمنين وعثمان ابن أمير المؤمنين من العهد بعده مع عقّال بن شبّة التميمي وعبد الملك القيني، وأمرتهما بالكلام في ذلك؛ فإذا قدما عليك فاجمع لقراءة كتاب أمير المؤمنين الناس، ومرهم فليحشدوا له، وقم فيهم بالذي كتب أمير المؤمنين؛ فإذا فرغت فقمم بقراءة الكتاب، وأذن لمن أراد أن يقوم بخطبة، ثم بايع الناس لهما على اسم الله وبركته، وخذ عليهم العهد والميثاق على الذي نسخت لك في آخر كتابي هذا الذي نسخ لنا أمير المؤمنين في كتابه، فافهمه وبايع عليه، نسأل الله أن يبارك لأمير المؤمنين ورعيّته في الذي قضى لهم على لسان أمير المؤمنين، وأن يصلح الحكم وعثمان، ويبارك لنا فيهما؛ والسلام عليك.
وكتب النضر يوم الخميس للنصف من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة.
بسم الله الرحمن الرحيم. تبايع لعبد الله الوليد أمير المؤمنين والحكم ابن أمير المؤمنين إن كان من بعده وعثمان ابن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم على السمع والطاعة؛ وإن حدث بواحد منهما حدث فأمير المؤمنين أملك في ولده ورعيته، يقدّم من أحبّ، ويؤخر من أحب. عليك بذلك عهد الله وميثاقه؛ فقال الشاعر في ذلك:
نبايع عثمان بعد الولي ** د للعهد فينا ونرجو يزيدا
كما كان إذ ذاك في ملكه ** يزيد يرجى لذاك الوليدا
على أنها شسعت شسعةً ** فنحن نومّلها أن تعودا
فإن هي عادت فأرض القري ** ب عنها ليؤيس منها البعيدا
قال أحمد: قال علي عن شيوخه الذين ذكرت: فقدم عقّال بن شبّة وعبد الملك بن نعيم على نصر، وقدما بالكتاب وهو:
أما بعد؛ فإنّ الله تباركت أسماؤه، وجلّ ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار الإسلام دينًا لنفسه، وجعله دين خيرته من خلقه، ثم اصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس؛ فبعثهم به، وأمرهم به؛ وكان بينهم وبين من مضى من الأمم، وخلا من القرون قرنًا فقرنًا؛ يدعون إلى التي هي أحسن، ويهدون إلى صراط مستقيم؛ حتى انتهت كرامة الله في نبوّته إلى محمد صلوات الله عليه؛ على حين دروس من العلم، وعميً من الناس، وتشتيت من الهوى، وتفرّقٍ من السبل، وطموس من أعلام الحقّ؛ فأبان الله به الهدى، وكشف به العمى، واستنقذ به من الضلالة والردى، وأبهج به الدين، وجعله رحمةً للعالمين، وختم به وحيه، وجمع له ما أكرم به الأنبياء قبله؛ وقفّى به على آثارهم؛ مصدّقًا لما نزل معهم، ومهيمنًا عليه، وداعيًا إليه، وآمرًا به؛ حتى كان من أجابه من أمته، ودخل في الدين الذي أكرمهم الله به، مصدّقين لما سلف من أنبياء الله فيما يكذّبهم فيه قومهم، منتصحين لهم فيما ينهونه، ذابّين لحرمهم عما كانوا منتهكين؛ معظمين منها لما كانوامصغّرين؛ فليس من أمة محمد ﷺ أحد كان يسمع لأحد من أنبياء الله فيما بعثه الله به مكذبًا، ولا عليه في ذلك طاعنًا، ولا له مؤذيًا، بتسفيه له، أو ردٍّ عليه؛ أو جحد ما أنزل الله عليه ومعه، فلم يبق كافر إلا استحلّ بذلك دمه، وقطع الأسباب التي كانت بينه وبينه؛ وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم. ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوّته؛ حين قبض نبيّه ﷺ، وختم به وحيه لإنفاذ حكمه، وإقامة سنّته وحدوده، والأخذ بفرائضه وحقوقه، تأييدًا بهم للإسلام، وتشييدًا بهم لعراه؛ وتقويةً بهم لقوى حبله، ودفعًا بهم عن حريمه، وعدلًا بهم بين عباده، وإصلاحًا بهم لبلاده؛ فإنه تبارك وتعالى يقول: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين "، فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه، واستخلفهم عليه منه؛ لا يتعرّض لحقهم أحد إلا صرعه الله، ولا يفارق جماعتهم أحد إلّا أهلكه الله؛ ولا يستخف بولايتهم، ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم الله منه، وسلطهم عليه، وجعله نكالًا وموعظة لغيره؛ وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها، والأثرة لها؛ والتي قامت السموات والأرض بها؛ قال الله تبارك وتعالى: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين "، وقال عزّ ذكره: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ".
فبالخلافة أبقى الله من أبقى في الأرض من عباده، وإليها صيّره، وبطاعة من ولّاه إياها سعد من ألهمها ونصرها؛ فإن الله عز وجل علم أن لا قوام لشيء، ولا صلاح له إلا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقه، ويمضي بها أمره، وينكل بها عن معاصيه، ويوقف عن محارمه، ويذبّ عن حرماته؛ فمن أخذ بحظه منها كان لله وليًا ولأمره مطيعًا، ولرشده مصيبًا، ولعاجل الخير وآجله مخصوصًا؛ ومن تركها ورغب عنها وحاد الله فيها أضاع نصيبه، وعصى ربّه، وخسر دنياه وآخرته؛ وكان ممن غلبت عليه الشقوة، واستحوذت عليه الأمور الغاوية، التي تورد أهلها أفظع المشارع، وتقودهم إلى شرّ المصارع، فيما يحلّ الله بهم في الدنيا من الذلة والنقمة، ويصيّرهم فيما عندهم من العذاب والحسرة.
والطاعة رأس هذا الأمر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه، وعصمته وقوامه، بعد كلمة الإخلاص التي ميّز الله بها بين العباد. وبالطاعة نال المفلحون من الله منازلهم، واستوجبوا عليه ثوابهم، وفي المعصية مما يحلّ بغيرهم من نقماته، ويصيبهم عليه، ويحق من سخطه وعذابه، وبترك الطاعة والإضاعة لها والخروج منها والإدبار عنها والتبذّل للمعصية بها، أهلك الله من ضلّ وعتا، وعمى وغلا، وفارق مناهج البرّ والتقوى.
فالزموا طاعة الله فيما عراكم ونالكم؛ وألمّ بكم من الأمور، وناصحوها واستوثقوا عليها، وسارعوا غليها وخالصوها، وابتغوا القربة إلى الله بها؛ فإنكم قد رأيتم مواقع الله لأهلها في إعلائه إياهم، وإفلاجه حجّتهم، ودفعه باطل من حادهم وناورأهم وساماهم، وأراد إطفاء نور الله الذي معهم. وخبرتم مع ذلك ما يصير إليه أهل المعصية من التوبيخ لهم والتقصير بهم؛ حتى يؤول أمرهم إلى تبار وصغار، وذلة وبوار؛ وفي ذلك لمن كان له رأي وموعظة عبرة ينتفع بواضحها، ويتمسّك بحظوتها؛ ويعرف خيرة قضاء الله لأهلها.
ثم إن الله - وله الحمد والمنّ والفضل - هدى الأمة لأفضضل الأمور عاقبةً لها في حقن دمائها، والتئام ألفتها، واجتماع كلمتها، واعتدال عمودها، وإصلاح دهمائها؛ وذخر النعمة عليها في دنياها، بعد خلافته التي جعلها لهم نظامًا، ولأمرهم قوامًا؛ وهو العهد الذي ألهم الله خلفاءه توكيده والنظر للمسلمين في جسيم أمرهم فيه؛ ليكون لهم عندما يحدث بخلفائهم ثقةً في المفزع وملتجأ في الأمر، ولما للشعث، وصلاحًا لذات البين، وتثبيتًا لأرجاء الإسلام، وقطعًا لنزغات الشيطان؛ يما يتطلع إليه أولياؤه، ويوثبهم عليه من تلف هذا الدين وانصداع شعب أهله، واختلافهم فيما جمعهم الله عليه منه؛ فلا يريهم الله في ذلك إلّا ما ساءهم، وأكذب أمانيهم، ويجدون الله قد أحكم بما قضى لأوليائه من ذلك عقد أمورهم، ونفى عنهم من أراد فيها إدغالًا أو بها إغلالا، أو لما شدّد الله منها توهينًا، أو فيما تولّى الله منها اعتمادًا، فأكمل الله بها لخلفائه وحزبه البر الذين أودعهم طاعته أحسن الذي عوّدهم، وسبّب لهم من إعزازه وأكرامه وإعلائه وتمكينه؛ فأمر هذا العهد من تمام الإسلام، وكمال ما استوجب الله على أهله من المنن العظام؛ ومما جعل الله فيه لمن أجراه على يديه، وقضى به على لسانه، ووفقه لمن ولاه هذا الأمر عنده أفضل الذخر؛ وعند المسلمين أحسن الأثر فيما يؤثر بهم من منفعته، ويتّسع لهم من نعمته، ويستندون إليه من عزّه، ويدخلون فيه من وزره الذي يجعل الله لهم به منعة، ويحرزهم به من كلّ مهلكة، ويجمعهم به من كلّ فرقة، ويقمع به أهل النفاق، ويعصمهم به من كلّ اختلاف وشقاق. فاحمدوا الله ربكم الرءوف بكم، الصانع لكم في أموركم على الذي دلّكم عليه من هذا العهد؛ الذي جعله لكم سكنًا ومعوّلًا تطمئنون إليه، وتستظلون في أفنانه؛ ويستنهج لكم به مثنى أعناقكم، وسمات وجوهكم، وملتقى نواصيكم في أمر دينكم ودنياكم؛ فإنّ لذلك خطرًا عظيمًا من النعمة؛ وإنّ فيه من الله بلاء حسنًا في سعة العافية؛ يعرفه ذوو الألباب والنيات المريئون من أعمالهم في العواقب، والعارفون منار مناهج الرشد؛ فأنتم حقيقون بشكر الله فيما حفظ به دينكم وأمر جماعتكم من ذلك، جديرون بمعرفة كنه واجب حقه فيه، وحمده على الذي عزم لكم منه؛ فلتكن منزلة ذلك منكم، وفضيلته في أنفسكم على قدر حسن بلاء الله عندكم فيه إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله.
ثم إنّ أمير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الأمور أشد اهتمامًا وعناية منه بهذا العهد؛ لعلمه بمنزلتهمن أمر المسلمين، وما أراهم الله فيه من الأمور التي يغتبطون بها، ويكرمهم بما يقضي لهم ويختار له ولهم فيه جهده؛ ويستقضي له ولهم فيه إلهه ووليّه؛ الذي بيده الحكم وعند الغيب، وهو على كل شيء قدير. ويسأله أن يعينه من ذلك على الذي هو أرشد له خاصة وللمسلمين عامة.
فرأى أمير المؤمنين أن يعهد لكم عهدًا بعد عهد، تكونون فيه على مثل الذي كان عليه من كان قبلكم، في مهلة من انفساح الأمل وطمأنينة النفس، وصلاح ذات البين؛ وعلم موضع الأمر الذي جعله الله لأهله عصمةً ونجاةً وصلاحًا وحياة، ولكل منافق وفاسق يحبّ تلف هذا الدين وفساد أهله وقمًا وخسارًا وقدعًا. فولّى أمير المؤمنين ذلك الحكم ابن أمير المؤمنين، وعثمان ابن أمير المؤمنين من بعده، وهما ممّن يرجو أمير المؤمنين أن يكون الله خلقه لذلك وصاغه، وأكمل فيه أحسن مناقب من كان يوليه إياه، في وفاء الرأي وصحة الدين، وجزالة المروءة والمعرفة بصالح الأمور، ولم يألكم أمير المؤمنين ولا نفسه في ذلك اجتهادًا وخيرًا.
فبايعوا للحكم ابن أمير المؤمنين باسم الله وبركته ولأخيه من بعده؛ على السمع والطاعة، واحتسبوا في ذلك أحسن ما كان الله يريكم ويبليكم ويعوّدكم ويعرّفكم في أشباهه فيما مضى، من اليسر الواسع والخير العام، والفضل العظيم الذي أصبحتم في رجائه وخفضه وأمنه ونعمته، وسلامته وعصمته. فهو الأمر الذي استبطأتموه واستسرعتم إليه، وحمدتم الله على إمضائه إياه، وقضائه لكم، وأحدثتم فيه شكرًا، ورأيتموه لكم حظًا، تستبقونه وتجهدون أنفسكم في أداء حقّ الله عليكم، فإنه قد سبق لكم في ذلك من نعم الله وكرامته وحسن قسمه ما أنتم حقيقون أن تكون رغبتكم فيه، وحدبكم عليه، على قدر الذي أبلاكم الله، وصنع لكم منه.
وأمير المؤمنين مع ذلك إن حدث بواحد من وليّيْ عهده حدث، أولى بأن يجعل مكانه وبالمنزل الذي كان به من أحبّ أن يجعل من أمته أو ولده، ويقدّمه بين يدي الباقي منهما إن شاء، أو أن يؤخره بعده. فاعلموا ذلك وافهموه.
نسأل الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أن يبارك لأمير المؤمنين ولكم في الذي قضى به على لسانه من ذلك وقدّر منه؛ وأن يجعل عاقتبه عافيةً وسرورًا وغبطة؛ فإن ذلك بيده ولا يملكه إلا هو، ولا يرغب فيه إلا إليه، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكتب سمال يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب سنة خمس وعشرين ومائة.
تولية الوليد نصر بن سيار على خراسان وأمره مع يوسف بن عمر
وفي هذه السنة ولّى الوليد نصر بن سيار خراسان كلها، وأفرده بها.
وفيها وفد يوسف بن عمر على الوليد، فاشترى نصرًا وعماله منه، فردّ إليه الوليد ولاية خراسان.
وفي هذه السنة كتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار يأمره بالقدوم عليه. ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال.
ذكر الخبر عما كان من أمر يوسف ونصر في ذلك
ذكر علي عن شيوخه؛ أن يوسف كتب إلى نصر بذلك، وأمره أن يقدم معه بعياله أجمعين، فلما أتى نصرًا كتابه، قسّم على أهل خراسان الهدايا وعلى عمّاله، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبدًا ولا برذونا فارهًا إلا أعده، واشترى ألف مملوك، وأعطاهم السلاح، وحملهم على الخيل.
قال: وقال بعضهم: كان قد أعد خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذهب والفضة وتماثيل الظباء ورءوس السباع والأيايل وغير ذلك؛ فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثّه، فسرّح الهدايا حتى بلغ أوائلها بيهق؛ فكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير، فقال بعض شعرائهم:
فأبشر يا أمين الل ** ه أبشر بتباشير
بإبل يحمل المال ** عليها كالأنابير
بغال تحمل الخمر ** حقائبها طنابير
ودل البربريات ** بصوت البم والزير
وقرع الدف أحيانًا ** ونفخ بالمزامير
فهذا لك في الدنيا ** وفي الجنة تحبير
قال: وقدم الأزرق بن قرّة المسمعي من الترمذ أيام هشام على نصر، فقال لنصر: إني أريت الوليد بن يزيد في المنام؛ وهو ولي عهد، شبه الهارب من هشام، ورأيته على سرير، فشرب عسلًا وسقاني بعضه. فأعطاه نصر أربعة آلاف دينار وكسوة، وبعثه إلى الوليد، وكتب إليه نصر. فأتى الأزرق الوليد، فدفع إليه المال والكسوة، فسر بذلك الوليد، وأطلف الأزرق، وجزى نصرًا خيرًا، وانصرف الأزرق، فبلغه قبل أن يصل إلى نصر موت هشام، ونصر لا علم له بما صنع الأزرق، ثم قدم عليه فأخبره؛ فلمّا ولى الوليد كتب إلى الأزرق وإلى نصر، وأمر رسوله أن يبتدىء بالأزرق فيدفع إليه كتابه، فأتاه ليلًا، فدفع إليه كتابه وكتاب نصر، فلم يقرأ الأزرق كتابه، وأتى نصرًا بالكتابين؛ فكان في كتاب الوليد إلى نصر يأمره أن يتّخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان يقدر عليها، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله بنفسه في وجوه أهل خراسان. فقال رجل من باهلة: كان قوم من المنجّمين يخبرون نصرًا بفتنة تكون؛ فبعث نصر إلى صدقة بن وثاب وهو ببلخ - وكان منجمًا - وكان عنده. وألحّ عليه يوسف بالقدوم؛ فلم يزل يتباطأ، فوجّه يوسف رسولًا وأمره بلزومه يستحثه بالقدوم، أو ينادي في الناس أنه قد خلع؛ فلما جاءه الرسول أجازه وأرضاه، وتحوّل إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم؛ فلم يأت لذلك إلا يسير حتى وقعت الفتنة، فتحوّل نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بن عبد الله الأسدي على خراسان، وولىّالمهلب بن إياس العدوي الخراج، وولىّ موسى بن ورقاء الناجي الشاش، وحسان من أهل صغانيان الأسدي سمرقند، ومقاتل بن علي السغُّدي آمل، وأمرهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستحلبوا الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر؛ لينصرف إليهم بعد خروجه، يعتلّ بذلك، فبينا هو يسير يومًا إلى العراق طرقه ليلًا مولى لبني ليث؛ فلمّا أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسول الوليد؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد كان في مسيري ما قد علمتم، وبعثي بالهدايا ما رأيتم؛ فطرقني فلان ليلًا، فأخبرني أن الوليد قد قتل، وأن الفتنة قد وقعت بالشأم؛ وقدم منصور بن جمهور العراق، وقد هرب يوسف ابن عمر، ونحن في بلاد قد علمتم حالتها وكثرة عدونا. ثم دعا بالقادم فأحلفه إنّ ما جاء به لحقّ! فحلف؛ فقال سلم بن أحوز: أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقًا؛ إنه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتم، فسر ولا تهجِّنا. قال: يا سلم أنت رجل لك علم بالحروب ولك مع ذلك حسن طاعة لبني أمية؛ فأما مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأي أمة هتماء.
ثم قال نصر: لم أشهد بعد ابن خازم أمرًا مفظعًا إلّا كنت المفزع في الرأي فقال الناس: قد علمنا ذلك، فالرأي رأيك.
تولية الوليد بن زيد خاله يوسف الثقفي على المدينة ومكة
وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي واليًا على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة، فأقامهما للناس بالمدينة. ثم كتب الوليد إليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر، وهو يومئذ عامله على العراق؛ فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما؛ وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالًا كثيرًا.
وفي هذه السنة عزل يوسف بن محمد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاهما يحيى بن سعيد الأنصاري.
غزو قبرس
وفيها غزى الوليد بن يزيد أخاه الغمر بن زيد بن عبد الملك، وأمر علي على جيش البحر الأسود بن بلال المحاربي، وأمره أن يسير إلى قبرس فيخيرهم بين المسير إلى الشأم إن شاءوا، وإن شاءوا إلى الروم، فاختارت طائفة منهم جوار المسلمين، فنقلهم الأسود إلى الشأم؛ واختار آخرون أرض الروم فانتقلوا إليها.
وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه؛ فقال لهم: أحرّ هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنّه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر، قال: فاشتروه وأعتقوه؛ واعطوا محمد بن علي مائتي ألف ألف درهم وكسوة بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمد، فإني أثق به وأوصيكم به خيرًا، فقد أوصيته بكم. فصدروا من عنده.
وتوفي محمد بن علي في مستهلّ ذي القعدة وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ وكان بين وفاته وبين وفاة أبيه علي سبع سنين. وحج بالناس في هذه السنة بن محمد بن يوسف الثقفي، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
ذكر الخبر عن مقتل يحيى بن زيد بن علي
وفي هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله
قد مضى ذكرنا قبل أمر مصير يحيى بن زيد بن علي إلى خراسان وسبب ذلك؛ ونذكر الآن سبب مقتله؛ إذا كان ذلك في هذه السنة.
ذكر هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف، قال: أقام يحيى بن زيد بن علي عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ حتى هلك هشام بن عبد الملك، وولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن يسار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله الذي كان ينزل؛ حتى أخبره أنه عند الحريش، وقال له: ابعث إليه وخذه أشد الأخذ. فبعث نصر بن سيّار إلى عقيل بن معقل العجلي، يأمره أن يأخذ الحريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد بن علي. فبعث إليه عقيل، فسأله عنه، فقال: لا علم لي به، فجلده ستمائة سوط، فقال له الحريش: والله لو أنه كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه؛ فلما رأى ذلك قريش بن الحريش أتى عقيلا، فقال: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه، فأرسل معه فدلّه عليه، وهو في بيت في جوف بيت، فأخذه ومعه يزيد بن عمر والفضل مولى عبد القيس - كان أقبل معه من الكوفة - فأتى به نصر بن سيّار فسحبه، وكتب إلى يوسف بن عمر يخبره بذلك؛ فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بن يزيد، فكتب الوليد إلى نصر بن سيّار، يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل أصحابه، فدعاه نصر ابن سيّار، فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة، وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد، وأمر له بأفلي درهم وبغلين، فخرج هو وأصحابه حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها وعليها عبد الله بن قيس بن عباد، فكتب إليه نصر بن سيّارأن يشخصه عنها، وكتب إلى الحسن بن زيد التميمي - وكان رأس بني تميم، وكان على طوس - أن انظر يحيى بن زيد، فإذا مرّ بكم فلا تدعه يقيم بطوس حتى يخرج منها، وأمرهما إذا هو مرّ بهما ألّا يفارقاه حتى يدفعاه إلى عمرو بن زرارة بأبر شهر. فأشخصه عبد الله بن قيس من سرخس، ومرّ بالحسن بن زيد فأمره أن يمضي، ووكل به سرحان بن فروّخ بن مجاهد بن بلعاء العنبري أبا الفضل، وكان على مسلحة.
قال: فدخلت عليه، فذكر نصر بن سيّار وما أعطاه؛ فإذا هو كالمستقلّ له؛ فذكر أمير المؤمنين الوليد بن يزيد، فأثنى عليه، وذكر مجيئه بأصحابه معه، وأنه لم يأت بهم إلا مخافة أن يسمّ أو يغمّ، وعرض بيوسف؛ وذكر أنه إياه يتخوّف، وقد كان أراد أن يقع فيه ثم كفّ، فقلت له: قل ما أحببت رحمك الله؛ فليس عليك منى عين؛ فقد أتى إليك ما تستحقّ أن تقول فيه. ثم قال: العجب من هذا الذي يقيم الأحراس أو أمر الأحراس، قال - وهو حينئذ يتفصّح: والله لو شئت أن أبعث إليه؛ فأوتي به مربوطًا. قال: فقلت له: لا والله ما بك صنع هذا؛ ولكن هذا شيء يصنع في هذا المكان أبداّ، لمكان بيت المال. قال: واعتذرت إليه من مسيري معه، وكنت أسير معه على رأس فرسخ، فأقبلنا معه حتى وقعنا إلى عمرو بن زرارة، فأمر بألف درهم، ثم أشخصه حتى انتهى إلى بيهق، وخاف اغتيال يوسف إياه، فأقبل من بيهق - وهي أقصى أرض خراسان، وأدناه من قومس - فأقبل في سبعين رجلًا إلى عمرو بن زرارة، ومرّ به تجار، فأخذ دوابهم، وقال: علينا أثمانها. فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر بن سيّار، فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس وإلى الحسن بن زيد أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة، فهو عليهم، ثم ينصبوا ليحيى بن زيد فيقاتلوه. فجاءوا حتى انتهوا إلى عمرو بن زرارة، واجتمعوا فكانوا عشرة آلف، وأتاهم يحيى بن زيد، وليس هو إلا في سبعين رجلًا، فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة، وأصاب دوابّ كثيرة. وجاء يحيى بن زيد حتى مرّ بهراة، وعليها مغلسّ بن زياد العامري، فلم يعرض واحد منها لصاحبه، فقطعها يحيى بن زيد، وسرح نصر بن سيّار سلم بن أحوز في طلب يحيى بن زيد فأتى هراة حين خرج منه يحيى بن زيد فأتبعه فلحقه بالجوزجان بقرية منها، وعليها حماد بن عمرو السغدي.
قال: ولحق بيحيى بن زيد رجل من بني حنيفة يقال له أبو العجلان فقتل يومئذ معه، ولحق به الحسحاس الأزدي فقطع نصر بعد ذلك يده ورجاه.
قال: فبعث سلم بن أحوز سورة بن محمد بن عزيز الكندي على ميمنته، وحمّاد بن عمرو السغدي على ميسرته، فقاتله قتالًا شديدًا، فذكروا أن رجلًا من عنزة يقال له عيسى، مولى عيسى بن سليمان العنزي رماه بنشّابة، فأصاب جبهته.
قال: وقد كان محمد شهد ذلك اليوم، فأمره سلم بتعبئة الناس، فتمارض عليه، فعبّى الناس سورة بن محمد بن عزيز الكندي، فاقتتلوا فقتلوا من عند آخرهم. ومرّ سورة بيحيى بن زيد فأخذ رأسه، وأخذ العنزي سلبه وقميصه، وغلبه سورة على رأسه.
فلما قتل يحيى بن زيد وبلغ خبره الوليد بن زيد، وكتب - فيما ذكر هشام عن موسى بن حبيب؛ أنه حدثه - إلى يوسف بن عمر: إذا أتاك كتابي هذا، فانظر عجل العراق فأحرقه ثم انسفه في اليمّ نسفًا. قال: فأمر يوسف خراش بن حوشب، فأنزله من جذعه وأحرقه بالنار، ثم رضّه فجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذرّاه في الفرات.
كانت عمّال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
ذكر بقية أخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك
فمن ذلك ما كان من قتل يزيد بن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد بن يزيد.
ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف قتل
قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ولما ولي الخلافة وأفضت إليه، لم يزدد في الدي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساّق إلاتماديًا وحدًا تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها - فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده، فكرهوا أمره.
وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه إفساده على نفسه بني عمّيه بني هشام وولد الوليد، ابني عبد الملك بن مروان، مع إفساده على نفسه اليمانية، وهم عظم جند أهل الشأم. ذكر بعض الخبر عن إفساده بني عمّيه هشام والوليد:
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي عن المنهال بن عبد الملك، قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذّات؛ فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد، حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتدّ على بني هشام؛ فضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغربه إلى عمان فحبسه بها؛ فلم يزل بها محبوسًاحتى قتل الوليد. قال: وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلمه عمر بن الوليد، فيها فقال: لا أردّها، فقال: إذن تكثير الصواهل حول عسكر. قال: وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وأراد البيعة لابنيه الحكم وعثمان فشاور سعيد بن بيهس بن صهيب، فقال: لا تفعل؛ فإنهما غلامان لم يحتلما؛ ولكن بايع لعتيق بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فغضب وحبسه حتى مات في الحبس. وأراد خالد بن عبد الله على البيعة لابنيه فأبى، فقال له قوم من أهله: أرادك أمير المؤمنين على البيعة لابنيه فأبيت، فقال: ويحكم! كيف أبايع من لا أصلّي خلفه، ولا أقبل شهادته! قالوا: فالوليد تقبل شهادته مع مجونه وفسقه! قال: أمر الوليد أمر غائب عني ولا أعلمه يقينًا؛ إنما هي أخبار الناس؛ فغضب الوليد على خالد.
قال: وقال عمرو بن سعيد الثققفي: أوفدني يوسف بن عمر إلى الوليد فلما قدمت قال لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد - ثم قال: إياك أن نسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بن جبير طلق إن سمعته إذنى ما دمت حيًا؛ فضحك. فقال: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: ققد أتخذ مائة جامعة؛ زكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها. ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولًا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسمعنا الرضا بالوليد؛ حتى حمل الناس على الفتك به.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، عن يزيد بن مصاد الكلبي، عن عمرو بن شراحيل، قال: سيرنا هشام بن عبد الملك إلى دهلك، فلم نزل بها حتى مات هشام، واستخلف الوليد، فكلم فينا فأبى، وقال: والله ما عمل هشام عملًا أرجى له عندي أن تناله المغفرة به من قتله القدرية وتسييرة إياهم. وكان الوالي علينا الحجاج بن بشر بن فيروز الديلمي، وكان يقول: لا يعيش الوليد إلا ثمانية عشر شهرًا حتى يقتل؛ ويكون قتله سبب هلاك أهل بيته. قال: فأجمع على قتل الوليد جماعة من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة، فأتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور ويعقوب بن عبد الرحمن وحبال بن عمرو؛ ابن عمّ منصور، وحميد بن نصر اللخمي والأصبغ بن ذؤالة وطفيل بن حارثة والسّري بن زياد بن علاقة، خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم، فقال: لا أسمّي أحدًا منكم. وأراد الوليد الحجّ، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخّر الحجّ العام، فقال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدى ما عليه من أموال العراق.
وقال علي عن الحكم بن النعمان، قال: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانيّة البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه؛ فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنّه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك؛ لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من قرابة؛ فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشأم وغيرهم من الزيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضرّ ذلك ببيوت الأموال. قال: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية مالم يحمل من العراق مثله. فقدم - وخالد بن عبد الله محبوس - فلقيه حسان النبطي ليلًا، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بدّ ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال: ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت. قال: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة منى، ففرقها على قدر علمك فيهم؛ ففعل. وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له: حسان: لا تغد على الوليد؛ ولكن رح إليه رواحًا؛ واكتب على لسان خليفتك كتابًا إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر. وادخل على الوليد والكتاب معك متحازنًا، فأقرئه الكتاب، ومر أبان ابن عبد الرحمن النميري يشتري خالدًا منه بأربعين ألف ألف. ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلى خالدًا وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم، قال: ومن يضمن عنك؟ قال: يوسف، قال: أتضمن عنه؟ ذقال: بل ادفعه إلي، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء.
قال محمد بن محمد بن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافًا كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفّلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان - يعني أن أخي الفيض ان على عمان، فبعث إلي بمال جسيم - فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: أحسنت، هو أسير؛ ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذىً.
وقدم الكوفة فقتله في العذاب؛ فقال الوليد بن يزيد - فيما زعم الهيثم بن عدي - شعرًا يوبّخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بن عبد الله.
وأما أحمد بن زهير، فإنه حدثه عن علي بن محمد؛ عن محمد بن سعيد العامري، عامر كلب، أنّ هذا الشعر قاله بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرّض عليه اليمانية:
ألم تهتج فتذّكر الوصالا ** وحبلًا كان متصلًا فزالا
بلى فالدمع منك له سجام ** كماء المزن ينسجل انسجالا
فدع عنك ادّكارك آل سعدى ** فنحن الأكثرون حصىً ومالا
ونحن المالكون الناس قسرًا ** نسومهم المذلّة والنكالا
وطئنا الأشعرين بعزّ قيس ** فيا لك وطأة لن تستقالا!
وهذا خالد فينا أسيرًا ** ألا منعوه إن كانوا رجالا!
عظيمهم وسيدهم قديمًا ** جعلنا المخزيات له ظلالا
فلو كانت قبائل ذات عز ** لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوبًا أسيرًا ** يسامر من سلاسلنا الثقالا
ورواه المدائني: " يعالج من سلاسلنا "
وكندة والسكون فما استقالوا ** ولا برحت خيولهم الرحالا
بها سمنا البريّة كل خسف ** وهدمنا السهولة والجبالا
ولكن الوقائع ضعضعتهم ** وجذتهم وردتهم شلالا
فما زالوا لنا أبدًا عبيدًا ** نسومهم المذلة والسفالا
فأصبحت الغداة علي تاج ** لملك الناس ما يبغي انتقالا
فقال عمران بن هلباء الكلبي يجيبه:
قفي صدر المطية يا حلالا ** وجذي حبل من قطع الوصالا
ألم يحزنك أن ذوي يمان ** يرى من حاذ قيلهم جلالا
جعلنا للقبائل من نزار ** غداة المرج أيامًا طوالا
بنا ملك المملك من قريش ** وأودى جدّ من أودى فزالا
متى تلق السكون وتلق كلبًا ** بعبس تخش من ملك زوالا
كذاك المرء ما لم يلف عدلًا يكون عليه منطقه وبالا
أعدوا آل حمير إذ دعيتم ** سيوف الهند والأسل النهالا
وكل مقلص نهد القصيري ** وذا فودين والقب الجبالا
يذرن بكلّ معترك قتيلا ** عليه الطير قد مذل السؤالا
لئن عيرتمونا ما فعلنا ** لقد قلتم وجدّكم مقالا
لإخوان الأشاعث قتلوهم ** فما وطئوا ولا لاقوا نكالا
وأبناء المهلب نحن صلنا ** وقائعهم وما صلتم مصالا
وقد كانت جذام على أخيهم ** ولخم يقتلونهم شلالا
هربنا أن تساعدكم عليهم ** وقد أخطا مساعدكم وفالا
فإن عدتم فإنّ لنا سيوفًا ** صوارم نستجد لها الصقالا
سنبكي خالدًا بمهندات ** ولا تذهب صنائعه ضلالا
ألم يك خالد غيث اليتامى ** إذا حضروا وكنت لهم هزالا!
يكفن خالد موتى نزار ** ويثرى حيّهم نشبًا ومالا
لو أنّ الجائرين عليه كانوا ** بساحة قومه كانوا نكالا
ستلقى إن بقيت مسومات ** عوابس لا يزايلن الحلالا
فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: فازداد الناس على الوليد حنقًا لما روى هذا الشعر، فقال ابن بيض:
وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ** زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشامًا كان حيًا يسوسنا ** وكنا كما كنا نرجى ونطمع
وكان هشام استعمل الوليد بن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط؛ فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بن عبد الملك؛ فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان على قنسرين - فعذّبهم، فمات في العذاب الوليد بن القعقاع وعبد الملك بن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بن عبد الله. فأتت اليمانية يزيد بن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بن يزيد الحكمي، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بن الوليد؛ فإنه سيّد بني مروان؛ فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك. وكانت الشأم تلك الأيام وبيّة، فخرجوا إلى البوادي؛ وكان يزيد بن الوليد متبدّيًا، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة.
فحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي، قال: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العبّاس: مهلًا يا يزيد؛ فإنّ في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا. فرجع يزيد إلى منزله، ودبّ في الناس فبايعوه سرًا، ودسّ الأحنف الكلبي ويزيد بن عنبسة السكسكي وقومًا من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم؛ فدعوا الناس سرًا، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره أن قومًا يأتونه يريدونه على البيعة، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنّك وثاقًا، ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جادًا! قال: جعلت فداك! ما أظن ذاك؛ ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعًا. قال: أما والله إني لأظنّه أشأم سخلة في بني مروان؛ ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقًا، وحملته إليه؛ فازجره عن أمره؛ فإنه يسمع إليك. فقال يزيد لقطن: ما قال لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكفّ.
وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس؛ فأتى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالأنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وأنا أسمع ما لا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحًا، أو أسكت مطيعًا؟ قال: كل مقبول منك؛ ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك.
وبلغ مروان بن محمد بأمرينية أنّ يزيد يؤلّب الناس، ويدعو إلى خلع الوليد؛ فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم - وكان سعيد يتألّه: إنّ الله جعل لكل أهل بيت أركانًا يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربّك ركنٌ من أركان أهل بيتك؛ وقد بلغني أن قومًا من سفهاء أهل بيتك قد استنّوا أمرًا - إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم - استفتحوا بابًا لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم؛ وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجًا، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك؛ لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا؛ وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط إلا بتشتيت كلمتهم؛ وإنّ كلمتهم إذا تشتّتت طمع فيهم عدوهم. وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك وإظهار المتابعة لهم؛ فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب؛ لعلّ الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم؛ فإنّ فيما سعوا فيه تغير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الألفة مشدود، والناس سكون، والثّغور محفوظة؛ فإنّ للجماعة دولة من الفرقة وللسعة دافعًا من الفقر، وللعدد منتقصًا، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلّب مع الزيادة والنقصان؛ وقد امتدّت بنا - أهل البيت - متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها؛ وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة. وقد أمّل القوم في الفتنة أملًا؛ لعل أنفسهم تهلك دون ما أمّلوا، ولكلّ أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم - فأعاذك الله من ذلك - فاجعلني من أمرهم على علم. حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك.
فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه إلى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدّده، فحذّره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدوّنا أراد أن يغري بيننا؛ وحلف له أنه لم يفعل. فصدّقه.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال ابن بشر بن الوليد بن عبد الملك: دخل أبي بشر بن الوليد على عمّي العباس، فكلّمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فكان العباس ينهاه، وأبي يرادّه، فكنت أفرح وأقول في نفسي: أرى أبي يجترىء أن يكلم عمي ويردّ عليه قوله! وكنت أرى أنّ الصواب فيما يقول أبي، وكان الصواب فيما يقول عمّي، فقال العباس: يا بني مروان؛ إني أظنّ الله قد أذن في هلاككم؛ وتمثّل قائلًا:
إني أعيذكم بالله من فتن ** مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم ** فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم ** إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم ** فثم لا حسرة تغنى ولا جزع
قال: فلما اجتمع ليزيد أمره وهو مبتدّ، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكرًا في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرلحة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام. وقال القوم لمولّى لعباد بن زياد: أما عندك طعام فنشتريه؟ قال: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم. فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا. ثم سار فدخل دمشق ليلًا، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سرًا، وبايع أهل المزة غير معاوية بن مصاد الكلبي - وهو سيد أهل المزّة - فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بن مصاد ماشيًا في نفير من أصحابه - وبين دمشق وبين المزّة ميل أو أكثر - فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية بن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قال: إن في رجلي طينًا، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد. فكلمه يزيد فبايعه معاوية - ويقال هشام بن مصاد - ورجع يزيد إلى دمشق؛ فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود؛ فنزل دار ثابت بن سليمان بن سعد الخشني، وخرج الوليد بن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلّا في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب - وهو على فرس أبلق - حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطنًا، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إنّ يزيد خارج، فلم يصدّق. وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذّنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا - وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل - فلمّا صلّى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضًا فأعنّي عليه وسددني له؛ وإن كان غير ذلك فاصرفه عنّي بموت.
وأقبل في اثني عشر رجلًا، فلمّا كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلًا من أصحابهم، فلمّا كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم؛ فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد؛ ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كلّ من كان يحذره فأخذ. وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيدة - مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك - فأخذه، وأرسل يزيد من ليلته إلى عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف، فأخذه ووجّه إلى الثنيّة إلى أصحابه ليأتوه. وقال للبوّابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا. فتركوا الأبواب بالسلاسل. وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزّان قبضوه، فأصابوا سلاحًا كثيرًا، فلما أصبحوا جاء أهل المزّة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النابغة:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ** إلى الموت إرقال اعلجمال المصاعب
فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا؛ هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر!
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني رزين بن ماجد، قال: غدونا مع عبد الرحمن ابن مصاد، ونحن زهاء ألف وخمسمائة؛ فلما انتهينا إلى باب الجابية ووجدناه مغلقًا، ووجدنا عليه رسولًا للوليد، قال: ما هذه الهيئة وهذه العدّة! أما والله لأعلمنّ أمير المؤمنين. فقتله رجل من أهل المزّة، فدخلنا من باب الجابية، ثم أخذنا في زقاق اعلكلبيّين، فضاق عنا، فأخذ ناس منا سوق القمح؛ ثم اجتمعنا على باب المسجد، فدخلنا على يزيد، فما فرغ آخرنا من التسليم عليه؛ حتى جاءت السكاسك في نحو ثلثمائة، فدخلوا من باب الشرقي حتى أتوا المسجد، فدخلوا من باب الدرج، ثم أقبل يعقوب ابن عمير بن هانىء العبسي في أهل داريّا، فدخلوا من باب دمشق الصغير، وأقبل عيسى بن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، فدخلوا من باب توما، وأقبل حميد بن حبيب اللخمي في أهل دبر المران والأرزة وسطرا، فدخلوا من باب الفراديس، وأقبل النضر بن الجرشي في أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، فدخلوا من باب الشرقي، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، فدخلوا من باب توما، ودخلت جهينة ومن والاهم مع طلحة بن سعيد، فقال بعض شعرائهم:
فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا ** سكاسكها أهل البيوت الصنادد
وكلب فجاءوهم بخيل وعدة ** من البيض والأبدان ثم السواعد
فأكرم بها أحياء أنصار سنة ** هم منعوا حرماتها كل جاحد
وجاءتهم شعبان والأزد شرعًا ** وعبس ولخم بين حام وذائد
وغسان والحيان قيس وتغلب ** وأحجم عنها كل وان وزاهد
فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها ** قد استوثقوا من كل عات ومارد
حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني قسيم بن يعقوب ورزين بن ماجد وغيرهما، قالوا: وجّه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس أو نحوهم إلى قطن؛ ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف، وقد تحصّن في قصره، فأعطاه الأمان فخرج إليه، فدخلنا القصر، فأصبنا فيه خرجين، في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار. قال: فلما انتهينا إلى المزّة قلت لعبد الرحمن بن مصاد: اصرف أحد هذين الحرجين إلى منزلك أو كليهما، فإنك لا تصيب من يزيد مثلهما أبدًا، فقال: لقد عجلت إذًا بالخيانة، لا والله لا يتحدث العرب أنى أوّل من خان في هذا الأمر، فمضى به إلى يزيد بن الوليد. وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فأمره فوقف بباب الجابية، وقال: من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة. وقال لبني الوليد بن عبد الملك ومعه منهم ثلاثة عشر: تفرّقوا في الناس يرونكم وحضورهم، وقال للوليد بن روح بن الوليد: أنزل الراهب، ففعل.
وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني دكين بن الشماخ الكلبي وأبو علاقة بن صالح السلاماني أن يزيد بن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقلّ من ألف رجل، فأمر رجلًا فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟ فانتدب إليه يومئذ ألف وخمسمائة، فعقد لمنصور بن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي على طائفة أخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بن حبيب اللخمي على طائفة أخرى، وعليهم جميعًا عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم بن الوليد أنّ مولىً للوليد لما خرج يزيد بن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية فأجازه، ووجّهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجّه يزيد بن الوليد إليه عبد الرحمن بن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف - والأغدف من عمّان - فقال بيهس بن زميل الكلابي - ويقال قاله يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجّه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره. فقال يزيد بن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وهو ابن عمهنّ، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقال: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر؛ وهم الذين خرجوا علي؛ ولكن دلني على منزل حصين، فقال: أرى أن تنزل القرية، قال: أكرهها، قال: فهذا الهزيم، قال: أكره اسمه، قال: فهذا البخراء، قصر النعمان بن بشير، قال: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الريف، وهو في مائتين، فقال:
إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد ** نصيحًا ولا ذا حاجة حين تفزع
إذا ما هم هموا بإحدى هناتهم ** حسرت لهم رأسي فلا أتقنع
فمر بشبكة الضحاك بن قيس الفهري؛ وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلًا، فساروا معه وقالوا: إنا عزل؛ فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفًا ولا رمحًا، فقال له بيهس بن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قال: إني أخاف الطاعون، قال: الذي يراد بك أشدّ من الطاعون؛ فنزل حصن البخراء.
قال: فندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين، وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بن الوليد بالبرّيّة، فواافاه ثمانمائة، فسار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه، ونزلوا قريبًا من الوليد، فأتاه رسول العباس بن الوليد: إني آتيك، فقال الوليد: أخرجوا سريرًا، فأخرجوا سريرًا فجلس عليه وقال: أعلي توثّب الرجال، وأنا أثبُ على الأسد وأتخصّر الأفاعي! وهم ينتظرون العباس، فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بن حوي السكسكي وعلى المقدّمة منصور بن جمهور وعلى الرجالة عمارة بن أبي كلثم الأزدي، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيّه، فقتله قطري مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجّل عبد العزيز، فكرّ أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدّة، وحملت رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بن يزيد عثمان الخشبي، قتله جناح بن نعيم الكلبي، وكان من أولاد الخشبيّة الذين كانوا مع المختار.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد، فأرسل منصور بن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم. فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدّمت لأنفذن حصينك - يعني درعك - وقال نوح بن عمرو بن حوي السكسكي: الذي لقي العباس بن الوليد يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي - فعدل به إلى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين؛ لئن أبيت لأضربنّ الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بن عبد الله بن دحية، فقال: من هذا؟ قال: يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم، قال: أما والله إن كان لبغيضًا إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف؛ وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدّمهم مع بنيه، فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية. وقالوا: هذه راية العباس بن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الاشيطان! هلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيْه: السندي والزّائد، فقاتلهم قتالًا شديدًا، فناداهم رجل: اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.
فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال. أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه! فقال له يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني، قال له: من أنت؟ قال: أنا يزيد بن عنبسة، قال: يا أخا السكاسكك؛ ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤمن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم! فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله؛ قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت؛ وإن فيما أحلّ لي لسعة عمّا ذكرت. ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفًا، وقال: يوم كيوم عثمان؛ ونشر المصحف يقرأ، فعلوا الحائط، فكان أوّل من علا الحائط يزيد بن عنبسة السكسكي، فنزل إليه وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نحّ سيفك، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة فيهم غير هذه، فأخذ بيد الوليد؛ وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه. فنزل من الحائط عشرة: منصور بن جمهور وحبال بن عمرو الكلبي وعبد الرحمن بن عجلان مولى يزيد بن عبد الملك وحميد بن نصر اللخمي والسري بن زياد بن أبي كبشة وعبد السلام اللخمي، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السري على وجهه، وجرّوه بين خمسة ليخرجوه. فصاحت امرأة كانت معه في الدار، فكفّوا عنه ولم يخرجوه، واحتزّ أبو علاقة القضاعي رأسه، فأخذ عقبًا فخاط الضربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بن مقبل، وقال أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس - ويزيد يتغدّى - فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بن عنبسة السكسكي، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفّه، وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضًا فسدّدني، وقال ليزيد بن عنبسة: هل كلّمكم الوليد؟ قال: نعم. كلّمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم ذو حسب فأكلّمه! فكلمته ووبّخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.
حدثني أحمد عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: قال نوح ابن عمرو بن حوي السكسكي: خرجنا إلى قتال الوليد في ليالٍ ليس فيها قمر؛ فإن كنت لأرى الحصى فأعرف أسوده من أبيضه. قال: وكان على ميسرة الوليد بن يزيد الوليد بن خالد، ابن أخي الأبرش الكلبي في بني عامر - وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز - فلم تقاتل ميسرة الوليد ميمنة عبد العزيز، ومالوا جميعاُ إلى عبد العزيز بن الحجاج. قال: وقال نوح بن عمرو: رأيت خدم الوليد بن يزيد وحشمه يوم قتل يأخذون بأيدي الرجال، فيدخاونهم عليه.
وحدثني أحمد عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني المثنّى بن معاوية، قال: أقبل الوليد فنزل اللؤلؤة، وأمر ابنه الحكم والمؤمّل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين دينارًا في العطاء، فأقبلتُ أنا وابن عمتي سليمان بن محمد بن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقرّبني المؤمّل وأدناني. وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلّمه حتى يفرض لك في مائة دينار.
قال المثنىّ: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بن قيس من حمص يخبره أن عمرًا قد وجّه إليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بن أبي الجنوب البهراني، فدعا الوليد الضحّاك بن أيمن من بني عوف بن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب - وهو بالغوير - فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة. فلما أصبح أمر الناس بالرّحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خزّ، محتزمًا بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بن كيسان في ستة عشر فارسًا، ثم سار قليلًا، فتلقّاه بنو النعمان بن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص. ثم أتى البخراء، فضجّ أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلًا فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل! تضعف عليه دوابنا؛ وإنما أرادوا الدراهم.
قال المثنّى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخّر الفسسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أمّ كلثوم بنت عبد الله بن يزيد بن عبد الملك يقال له عمرو بن مرة، فأخبره أنّ عبد العزيز بن الحجاج؛ قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بن عثمان المخراش - وان على شرطه - برجل من بني حارثة بن جناب، فقال له: إنّي كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد أتيتك بالخبر؛ وهذه ألف وخمسمائة قد أخذتها - وحل هميانًا من وسطه، وأراه - وقد نزل اللؤلؤة؛ وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قال، فقال: سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجّه منصور بن جمهور، فأخذ شرقي القرى - وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء - وكان العباس بن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلًا من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيّره بين أن يأتيه فيكون معه؛ أو يسير إلى يزيد بن الوليد. فاتّهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه فيكون معه، فلقي منصور بن جمهور الرسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنّك ومن معك؛ فإذا أصبح فليأخذ حيث أحبّ. فأقام العباس يتهيّأ؛ فلما كان في السحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بن عثمان المخراش، فعبّأ الناس؛ فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس؛ وكان مع أصحاب يزيد بن الوليد كتاب معلّق في رمح، فيه: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وأن يصير الأمر شورى. فاقتتلوا فتقل عثمان الخشبي، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلًا، وأقبل منصور بن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل إلى الوليد وهو في فسطاطه؛ ليس بينه وبين منصور أحد. فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بن هبيرة المعافري خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سمي بن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز. وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين؛ قد شدّها تحت لحيته؛ فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء، قدّم رايتك، فقال له: لا أجد متقدّمًا، إنها بنو عامر. وأقبل العباس بن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشدّ مولى لسليمان بن عبد الله بن دحية - يقال له التركي - على الحارث بن العباس بن الوليد، فطعنه طعنة أذراه عن فرسه؛ فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا. فبعث الوليد بن يزيد الوليد بن خالد إلى عبد العزيز بن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف؛ فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضًا، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد؛ حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة ألاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخصّ رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟ فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد؛ ففعل. وكان على ميمنة الوليد معاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن خالد، فقال لعبد العزيز: أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردنّ والشركة في الأمر على أن أصير معكم؟ قال: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد. وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرجل بعد الرجل يدخل من تحت السلسلة. وأتى عبد العزيز عبد السلام بن بكير بن شمّاخ اللخمي، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قال: فليخرج؛ فلما ولّى قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس. فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض علي، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر. قال: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشى، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بن شيبان مولى كنانة بن عمير؛ وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب - أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز - وعبد السلام عن يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوسًا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له. يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوسًا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له.
قال أحمد: قال علي: قال عمرو بن مروان الكلبي: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بن الوليد، فسبقت الرأس؛ قدم بها ليلة الجمعة، وأتى برأسه من الغد، فنصبه للناس بعد الصلاة. وكان أهل دمشق قد أجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفّوا. قال: وأمر يزيد بنصب الرأس، فقال له يزيد بن فروة مولى بني مروان: إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك؛ وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس؛ ويغضب له أهل بيته؛ فقال: والله لأنصبنّه، فنصبه على رمح، ثم قال له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق؛ وأدخله دار أبيه. ففعل، فصاح الناس وأهل الدار ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك؛ فمكث عنده قريبًا من شهر، ثم قال له: ادفعه إلى أخيه سليمان - وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه - فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعدًا له! أشهد أنه كان شروبًا للخمر، ماجنًا فاسقًا؛ ولقد أرادني على نفسي الفاسق. فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل؛ وما كان ليقدر على الامتناع منه.
وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكابي، قال: حدثني يزيد بن مصاد عن عبد الرحمن بن مصاد، قال: بعثني يزيد بن الوليد إلى أبي محمد السيفاني - وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد واليًا على دمشق وأتى ذنبة؛ وبلغ يزيد خبره، فوجّهني إليه - فاتيته، فسالم وبايع ليزيد. قال: فلم نرم حتى رفع لنا شحص مقبل من ناحية البريّة، فبعث إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيّل أبو كمال المغنّي، على بلغة للوليد تدعى مريم، فأخبر أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني دكين بن شماخ الكلبي ثم العامري، قال: رأيت بشر بن هلباء العامري يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول:
سنبكي حالدًا بمهنّداتٍ ** ولا تذهب صنائعه ضلالا
وحدثني أحمد عن علي، عن أبي عاصم الزيّادي، قال: ادّعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، فقال: أنا قتلته؛ وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتزّ رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي. واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قال: وقال الحكم بن النعمان مولى الوليد بن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بن جمهور في عشرة؛ فيهم روح بن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين؛ أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس؛ وكان فيمن قدم برأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب؛ فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف. قال: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فجاء قوم بأرؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين؛ ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة!
قال: وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغني وعمرو الوادي؛ فلما تفرق عن الوليد أصحابه، وحصر، قال مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء؛ ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا يقتل أحد قبلي وقبلك؛ فيوضع رأسه بين رأسينا؛ ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال؛ فلا يعيبونه بشيء أشدّ من هذا فهربا.
وقتل الوليد بن يزيد يوم الخميس لليلتين بقيا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، كذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وكذلك قال هشام بن محمد ومحمد ابن عمر الواقدي وعلي بن محمد المدائني.
واختلفوا في قدر المده التي كان فيها خليفةً؛ فقال أبو معشر: كانت خلافته سنه وثلاثة أشهر، كذلك حدثني بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
وقال هشام بن محمد: كانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يومًا.
واختلفوا أيضًا في مبلغ سنه يوم قتل، فقال هشام بن محمد الكلبي: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقال محمد بن عمر: قتل وهو ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: قتل وهو ابن اثنتي وأربعين سنة. وقال آخرون: وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وقال آخرون: ابن خمس وأربعين سنة، وقال بعضهم: وهو ابن ست وأربعين سنة.
وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي؛ وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجالين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمسّ الدابة بيده.
وكان شاعرًا مشروبًا للخمر؛ حدثني أحمد؛ قال: حدثنا علي، عن ابن أبي الزناد، قال: قال أبي: كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكر الوليد، فتنقّصاه وعاباه عيبًا شديدًا، ولم أعرض في شيء مما كنا فيه؛ فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلًا، ثم قام. فلما مات هشام كتب في فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يابن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قال: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهري، وهما يعيبانني؟ قلت أذكر ذلك؛ فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائمًا على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فإنه نمّ إلي بما قالا؛ وايم الله لو بقي الفاسق - يعني الزهّري - لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. ثم قال يابن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك؛ فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني؛ فجاءوا بلإناء مغطّى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا؛ قال: فما زال على ذلك يتحدث ويستسقى وصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحًا.
خبر قتل خالد بن عبد الله القسري
وفي هذه السنة قتل خالد بن عبد الله القسري.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك
قد تقدم ذكرنا اللخبر عن عزل هشام إياه عن عماه ووليته العراق وخراسان واستعماله على العراق يوسف بن عمر؛ وكان - فيما ذكر - عمل لهشام على ذلك خمس عسرة سنة غير أشهر؛ وذلك أنه - فيما قيل - ولى العراق لهشام سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة. ولما عزله هشام وقدم عليه يوسف واسطًا أخذه وحبسه بها، ثم شخص يوسف بن عمر إلى الحيرة؛ فلم يزل محبوسًا بالحيرة تمام. ثمانية عشر شهرًا مع أخيه إسماعيل بن عبد الله وابنيه يزيد بن خالد وابن أخيه المنذر بن أسد بن عبد الله. واستأذن يوسف هشامًا في إطلاق يده عليه وتعذيبه، فلم يأذنن له حتى أكثر عليه واعتلّ عليه بانكسار الخراج وذهاب الأموال، فأذن له مرّة واحدة، وبعث حرسيًّا يشهد ذلك؛ وحلف: لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنّه؛ فدعا به يوسف؛ فجلس على دكان بالحيرة وحضرالناس، وبسط عليه؛ فلم يكلمه واحدة حتى شتمه يوسف فقال: يابن الكاهن - يعني شقّ بن صعب الكاهن - فقال خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي! ولكنك يابن السبّاء، إنما كان أبوك سبّاء خمر - يعني يبيع الخمر - ثم ردّه إلى حبسه، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال إحدى وعشرين ومائة، فنزل خالد في قصر إسماعيل بن عبد الله بدوران، خلف جسر الكوفة، وخرج يزيد بن خالد وحده؛ فأخذ على بلاد طيء؛ حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل والوليد؛ قد جهزهم عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ابن العاص، وبعث بالأثقال إلى قصر بني مقاتل، وكان يوسف قد بعث خيلا، فأخذت الزاد والأثقال والإبل وموالي خالد كانوا فيها، فضرب وباع ما أخذ لهم، ورد بعض الموالي إلى الرقّ، فقدم خالد قصر بني مقاتل؛ وقد أخذ كل شيء لهم، فسار إلى هيت، ثم تحمّلوا إلى القرية - وهي بإزاء باب الرُّصافة - فأقام بها بقيّة شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرّم وصفر؛ لا يأذن لهم هشام في القدوم عليه؛ والأبرش يكاتب خالدًا. وخرج زيد بن علي فقتل.
قال الهيثم بن عدي - فيما ذكر عنه -: وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعًا؛ حتى كانت همَّة أحدهم قوت عاليه؛ فلما ولى خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأي خالد؛ والدليل على ذلك نزول خالد بالقرية على مدرجة العراق يستنشي أخبارها.
فسكت هشام حتى فرغ من قراءة الكتاب، ثم قال للحكم بن حزن القيني - وكان على الوفد، وقد أمره يوسف بتصديق ما كتب به ففعل - فقال له هشام: كذبت وكذب من أرسلك؛ ومهما اتّهمنا خالدًا فلسنا نتّهمه في طاعة؛ وأمر به فوجئت عنقه. وبلغ الخبر خالدًا فسار حتى نزل دمشق فأقام حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد بن عبد الله؛ وعلى دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القسري، وكان متحملا على خالد؛ فلما أدربوا ظهر في دور دمشق حريق؛ كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يقال له أبو العمرّس وأصحاب له؛ فإذا وقع الحريق أغاروا يسرقون. وكان إسماعيل بن عبد الله والمنذر بن أسد بن عبد الله وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم؛ فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويخبره أنه لم يكن قطّ؛ وأنه عمل مولى خالد؛ يريدون الوثوب على بيت المال. فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد؛ الصغير منهم والكبير ومواليهم والنساء؛ فأخذ إسماعيل والمنذر ومحمد وسعيد من الساحل فقدم بهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم؛ وحبس أمّ جرير بنت خالد والرّائقة وجميع النساء والصبيان؛ ثم ظهر على أبي العمّرس؛ فأخذو من كان معه. فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل خراج دمشق إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمّرس ومن كان معه؛ سماهم رجلا رجلا، ونسبهم إلى قبائلهم وأمصارهم، ولم يذكر فيهم أحد من موالي خالد، فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنفه، ويأمره بتخلية سبيل جميع من حبس منهم، فأرسلهم جميعًا واحتبس الموالي رجاء أن يكلمه فيهم خالد إذا قدم من الصائفة. فلما أقبل الناس وخرجوا عن الدرب بلغ خالدًا حبس أهله، ولم يبلغه تخليتهم؛ فدخل يزيد بن خالد في غمار الناس حتى أتى حمص، وأقبل خالد حتى نزل منزله من دمشق، فلما أصبح أتاه الناس، فبعث إلى ابنتيه: زينب وعاتكة؛ فقال: إني قد كبرت وأحببت أن تليا خدمتي؛ فسرّتا بذلك - ودخل عليه إسماعيل أخوه ويزيد وسعيد ابناه، وأمر بالإذن، فقامت ابنتاه لتتنحّيا، فقال: وما لهما تتنحيّان، وهشام في كلّ يوم يسوقهنّ إلى الحبس! فدخل الناس، فقام إسماعيل وابناه دون ابنتيه يسترونهما، فقال خالد: خرجت غازيًا في سبيل الله؛ سامعًا مطيعًا، فخلفت في عقبي، وأخذ حرمى وحرم أهل بيتي؛ فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك! فما منع عصابةً منكم أن تقوم فتقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع! أخفتم أن تقتلوا جميعًا! أخافكم الله! ثم قال: مالي ولهشام! ليكفنّ عني هشام أو لأدعونّ إلى عراقي الهوى شأمي الدار حجازي الأصل - يعني محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس - وقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشامًا. فلما بلغه ما قال، قال: خرف أبو الهيثم.
وذكر أبو زيد أن أحمد بن معاوية حدثه عن أبي الخطاب، قال: قال خالد: لئن ساء صحاب الرُّصافة - يعني هشامًا - لننصبنّ لنا الشأمّى الحجازي العراقي، ولو نخر نخرةً تداعت من أقطارها.
فبلغت هشامًا، فكتب إليه: إنك هذّاءة هذرة، أببجيلة القليلة الذليلة تتهددّني! قال: فوالله ما نصره أحد بيد ولا بلسان إلا رجل من عبس فإنه قال:
ألا إنّ بحر الجود أصبح ساجيًا ** أسير ثقيف موثقًا في السلاسل
فأن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ** ولا تسجنوا معروفه في القبائل
فأقام خالد ويزيد وجماعة أهل بيته بدمشق، ويوسف ملح على هشام يسأله أن يوجّه إليه يزيد. وكتب هشام إلى كلثوم بن عياض يأمره بأخذ يزيد والبعثة به إلى يوسف، فوجه كلثوم إلى يزيد خيلًا وهو في منزله، فشدّ عليهم يزيد، فأفرجوا له، ثم مضى على فرسه، وجاءت الخيل إلى كلثوم فأخبروه، فأرسل إلى خالد الغد من يوم تنحّى يزيد خيلا، فدعا خالد بثيابه فلبسها. وتصارخ النساء، فقال رجل منهم: لو أمرت هؤلاء النسوة فسكتن! فقال: ولم؟ أما والله لولا الطاعة لعلم عبد بني قسر أنه لا ينال هذه منى، فأعلموه مقالتي؛ فإن كان عربيًا كما يزعم، فليطلب جده مني، ثم مضى معهم فحبس في حبس دمشق. وسار إسماعيل من يومه حتى قدم الرُّصافة على هشام، فدخل على أبي الزبير حاجبه فأخبره بحبس خالد، فدخل أبو الزبير على هاشم فأعلمه، فكتب إلى كاثوم يعنّفه، ويقول: خليت عمن أمرتك بحبسه، وحبست من لم آمرك بحبسه. ويأمره بتخلية سبيل خالد، فخلاه.
وكان هشام إذا أراد أمرًا أمر الأبرش فكتب به إلى خالد، فكتب الأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن عبد الرحمن بن ثويب الضني - ضنة سعد إخوة عذرة ابن سعد - قام إليك، فقال: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وأنت رحيم، والله حليم وأنت حليم.. حتى عد عشرًا؛ وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق عنده ذلك ليستحلنّ دمك؛ فاكتب إلي بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين. فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلًا من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرِّف ما كان فيه إلى غيره؛ قام إلى عبد الرحمن ابن ثويب، فقال: يا خال أني لأحبّك لعشر خصال: إن الله كريم يحب كل كريم، والله يحبك وأنا أحبك لحبّ الله إياك؛ حتى عدّد عشر خصال؛ ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين، وقوله: يا أمير المؤمنين، خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك؟ فقال أمير المؤمنين: بل خليفتي في أهلي، فقال ابن شقي: فأنت خليفة الله ومحمد رسوله؛ ولعمري لضلالة رجل من بجيلة إن ضلّ أهون على العامة والخاصّة من ضلال أمير المؤمنين. فأقرأ الأبرش هشامًا كتابه، فقال خرف أبو الهيثم.
فأقام خالد بدمشق خلافة هشام حتى هلك، فلما هلك هشام، وقام الوليد، قدم عليه أشراف الأجناد؛ فيهم خالد؛ فلم يأذن لأحد منهم. واشتكى خالد، فاستاذن له، فرجع إلى دمشق، فأقام أشهرًا، ثم كتب إليه الوليد: إنّ أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الألف ألف؛ التي تعلم، فاقدم على أمير المؤمنين مع رسوله؛ فقدم أمره ألّا يجعلك عن جهاز.
فبعث خالد إلى عدّة من ثقاته؛ منهم عمارة بن أبي كلثم الأزدي، فأقرأهم الكتاب، وقال: أشيروا علي؛ فقالوا: إنّ الوليد ليس بمأمون عليك؛ فالرأي أن تدخل دمشق، فتأخذ بيوت الأموال وتدعو إلى من أحببت؛ فأكثر الناس قومك؛ ولن يختلف عليك رجلان، قال: أو ماذا؟ قالوا: تأخذ بيوت الأموال، وتقيم حتى تتوثّق لنفسك، ققال: أو ماذا؟ قالوا: أو تتوارى. قال: أما قولكم: تدعو إلى من أحببت؛ فإني أكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، وأما قولكم: تتوثّق لنفسك، فأنتم لا تأمنون علي الوليد؛ ولا ذنب لي، فكيف ترجون وفاءه لي وقد أخذت بيوت الأموال! وأما التوارى؛ فوالله ما قنّعت رأسي خوفًا من أحد قطّ؛ فالآن وقد بلغت من السنّ ما بلغت! لا، ولكن أمضى وأستعين الله.
فخرج حتى قدم على الوليد فلم يدع به، ولم يكلّمه وهو في بيته؛ معه مواليه وخدمه، حتى قدم برأس يحيى بن زيد من خراسان، فجمع الناس في رواق، وجلس الوليد، وجاء الحاجب فوقف، فقال له خالد: إن حالي ما ترى؛ لا أقدر على المشي؛ وإنما أحمل في كرسي، فقال الحاجب: لا يدخل عليه أحد يحمل، ثم أذن لثلاثة نفر، ثم قال: قم يا خالد، فقال: حالى ماذكرت لك، ثم أذن لرجل أو رجلين؛ فقال: قم يا خالد، إن حالى ما ذكرت لك؛ حتى أذن لعشرة، ثم قال: قم يا خالد، وأذن للناس كلهم، وأمر بخالد فحمل على كرسيّه؛ فدخل به والوليد جالس على سريره. والموائد موضوعة، والناس بين يديه سماطان، وشبّة بن عقّال - أو عقال بن شبّة - يخطب، ورأس يحيى بن زيد منصوب، فميل بخالد إلى أحد السماطين، فلما فرغ الخطيب قام الوليد وصرف الناس، وحمل خالد إلى أهله؛ فلما نزع ثيابه جاءه رسول الوليد فردّه، فلما صار إلى باب السرادق وقف فخرج إليه رسول الوليد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: أين يزيد بن خالد؟ فقال: كان أصابه من هشام ظفر، ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله؛ فلما لم يظهر ظننّاه ببلاد قومه من السراة، وما أوشكه. فرجع إليه الرسول، فقال: لا ولكنك خلفته طلبًا للفتنة. فقال خالد للرسول: قد علم أمير المؤمنين أنّا أهل بيت طاعة، أنا وأبي وجدي - قال خالد: وقد كنت أعلم بسرعة رجعة الرسول؛ أنّ الوليد قريب حيث يسمع كلامي - فرجع الرسول، فقال: يقول لك أمير المؤمنين؛ لتأتينّ به أو لأزهقنّ نفسك. فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا أردت، وعليه درت؛ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه؛ فاصنع ما بدا لك! فأمر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه، وقال له: أسمعني صوته، فذهب به غيلان إلى رحله، فعذّبه بالسلاسل، فلم يتكلم، فرجع غيلان إلى الوليد، فقال: والله ما أعذّب إنسانًا؛ والله ما يتكلم ولا يتأوّه، فقال: اكفف عنه واحبسه عندك. فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر بمال من العراق، ثم أداروا الأمر بينهم، وجلس الوليد للناس ويوسف عنده؛ فتكلّم أبان بن عبد الرحمن النميري في خالد، فقال يوسف: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إنّ يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف؛ فإن كنت تضمنها وإلّا دفعتك إليه، فقال خالد: ما عهدت العرب تباع؛ والله لو سألني أن أضمن هذا - ورفع عودًا من الأرض - ما ضمنته، فرَ رأيك.
فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه ودرّعه عباءة ولحفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، وزميله أبو قحافة المري ابن أخي الوليد بن تليد - وكان عامل هشام على الموصل، فانطلق به حتى نزل المحدثة، على مرحلة من عسكر الوليد. ثم دعا به فذكر أمّه، فقال: وما ذكر الأمهات لعنك الله! والله لا أكلمك كلمة أبدًا. فبسط عليه، وعذّبه عذابًا شديدًا وهو لا يكلّمه كلمة. ثم ارتحل به حتى إذا كان ببعض الطريق بعث إليه زيد بن تميم القيني بشربة سويق حبّ رمّان مع مولى له يقال له سالم النفّاط، فبلغ يوسف فضرب زيدًا خمسمائة سوط، وضرب سالمًا ألف صوط. ثم قدم يوسف الحيرة فدعا به وبإبراهيم ومحمد ابني هشام فبسط على خالد، فلم يكلمه، وصبر إبراهيم ابن هشام وخرع محمد بن هشام. فمكث خالد يومًا في العذاب، ثم وضع على صدره المضرّسة فقتله من الليل، ودفن بناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرّم سنة ست وعشرين ومائة في قول الهيثم بن عدي، فأقبل عامر بن سهلة الأشعري فعقر فرسه على قبره، فضربه يوسف سبعمائة سوط.
قال أبو زيد: حدثني أبو نعيم قال: حدثني رجل، قال: شهدت خالدًا حين أتيَ به يوسف، فدعا بعود فوضع على قدميه، ثم قامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه؛ فوالله ما تكلّم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه ثم على صدره حتى مات، فوالله ما تكلم ولا عبس، فقال خلف بن خليفة لما قتل الوليد بن يزيد:
لقد سكنت كلب وأسباق مذحج ** صدى كان يزقو ليله غير راقد
تركن أمير المؤمنين بخالد ** مكبًا على خيشومه غير ساجد
فإن تقطعوا منّا مناط قلادة ** قطعنا به منكم مناط قلائد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ** شغلنا الوليد عن غناء الولائد
وإن سافر القسري سفرة هالك ** فإن أبا العباس ليس بشاهد
وقال حسان بن جعدة الجعفري يكذّب خلف بن خليفة في قوله هذا:
إن امرأً يدعي قتل الوليد سوى ** أعمامه لملىء النفس بالكذب
ما كان إلا امرأ حانت منيته ** سارت إليه بنو مروان بالعرب
وقال أبو محجن مولى خالد:
سائل وليدًا وسائل أهل عسكره ** غداة صبّحه شؤبوبنا البرد
هل جاء من مضر نفس فتمنعه ** والخيل تحت عجاج الموت تطرد
من يهجنا جاهلًا بالشعر ننقضه ** بالبيض إنا بها نهجو ونفتئد
وقال نصر بن سعيد الأنصاري:
أبلغ يزيد بني كرز مغلفغلة ** أني شفيت بغيب غير موتور
قطعت أوصال قنور على حنق ** بصارم من سيوف الهند مأثور
أمست حلائل قنور مجدعة ** لمصرع العبد قنور بن قنور
ظلّت كلاب دمشق وهي تنهشه ** كأن أعضاءه أعضاء خنزير
غادرن منه بقايا عند مصرعه ** أنقاض شلو على الأطناب مجرور
حكّمت سيفك إذ لم ترض حكمهم ** والسيف يحكم حكمًا غير تعذير
لا ترض من خالد إن كنت متئرًا ** إلا بكل عظيم الملك مشهور
أسعرت ملك نزال ثم رعتهم ** بالخيل تركض بالشم المغاوير
ما كان في آل قنور ولا ولدوا ** عدلًا لبدر سماء ساطع النور
ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص
وفي هذه السنة بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك؛ الذي يقال له يزيد الناقص؛ وإنما قيل: يزيد الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد ابن يزيد في أعطياتهم؛ وذلك عشرة عشرة، فلما قتل الوليد نقصهم تلك الزيادة؛ وردّ أعطياتهم إلى ما كانت عليه أيام هشام بن عبد الملك.
وقيل: أوّل من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد، حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: شتم مروان بن محمد يزيد بن الوليد فقال: الناقص بن الوليد؛ فسمّاه الناس الناقص لذلك.
ذكر اضطراب أمر بني مروان
وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة.
ذكر الخبر عما حدث فيها من الفتن
فكان في ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بن يزيد بعمّان. فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد قال: لما قتل الوليد خرج سليمان بن هشام من السجن، وكان محبوسًا بعمّان، فأخذ ما كان بعمّان من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر.
ذكر خلاف أهل حمص
وفيها كان وثوب أهل حمص بأسباب العباس بن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بن يزيد.
ذكر الخبر عن ذلك
حدثني أحمد عن علي، قال: كان مروان بن عبد الله بن عبد الملك عاملًا للوليد على حمص، وكان من سادة بني مروان نبلًا وكرمًا وعقلًا وجمالًا، فلما قتل الوليد بلغ أهل حمص قتله، فأغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله، فقال بعض من حضرهم: مازلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم؛ حتى جاء العباس بن الوليد، فمال إلى عبد العزيز بن الحجاج. فوثب أهل حمص فهدموا دار العباس وانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه فحبسوهم وطلبوه. فخرج إلى يزيد بن الوليد، وكاتبوا الأجناد، ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد؛ فأجابوهم. وكتب أهل حمص بينهم كتابًا؛ ألّا يدخلوا في طاعة يزيد؛ وإن كان وليًا عهد الوليد حيّين قاموا بالبيعة لهما وإلا جعلوها لخير من يعلمون؛ على أن يعطيهم العطاء من المحرّم إلى المحرّم، ويعطيهم للذرّية. وأمّروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين، فكتب إلى مروان بن عبد الله بن عبد الملك وهو بحمص في دار الإمارة، فلما قرأه قال: هذا كتاب حضره من الله حاضر. وتابعهم على ما أرادوا.
فلما بلغ يزيد بن الوليد خبرهم، وجّه إليهم رسلًا فيهم يعقوب بن هانىء، وكتب إليهم: إنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكنه يدعوهم إلى الشورى. فقال عمرو بن قيس السكوني: رضينا بولي عهدنا - يعني ابن الوليد بن يزيد - فأخذ يعقوب بن عمير بلحيته، فقال: أيها العشمة، إنك قد فيّلت وذهب عقلك؛ إن الذي تعني لو كان يتيمًا في حجرك لم يحلّ لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمّة! فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم.
وكان أمر حمص لمعاوية بن يزيد بن حصين، وليس إلى مروان بن عبد الله من أمرهم شيء، وكان معهم السمط بن ثابت، وكان الذي بينه وبين معاوية بن يزيد متباعدًا. وكان معهم أبو محمد السفياني فقال لهم: لوقد أتيت دمشق، ونظر إلي أهلها لم يخالفوني. فوجّه يزيد بن الوليد مسرور ابن الوليد والوليد بن روح في جمع كبير، فنزلوا حوّارين، أكثرهم بنو عامر من كلب. ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام فأكرمه يزيد، وتزوّج أخته أم هشام بنت هشام بن عبد الملك، وردّ عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، ووجّهه إلى مسرور بن الوليد والوليد بن روح، وأمرهما بالسمع والطاعة له. وأقبل أهل حمص فنزلوا قرية لخالد بن يزيد بن معاوية.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني عمرو بن محمد ويحيى بن عبد الرحمن البهراني، قالا: قام مروان بن عبد الله، فقال: يا هؤلاء؛ إنكم خرجتم لجهاد عدوّكم والطلب بدم خليفتكم، وخرجتم مخرجًا أرجو أن يعظم الله به أجركم، ويحسن عليه ثوابكم، وقد نجم لكم منهم قرن، وشال إليكم منهم عنق، إن أنتم قطعتموه اتبعه ما بعده، وكنتم عليه أحرى، وكانوا عليكم أهون، ولست أرى المضي إلى دمشق وتخليف هذا الجيش خلفكم. فقال السمط: هذا والله العدوّ القريب الدار؛ يريد أن ينقض جماعتكم؛ وهو ممايل للقدرية.
قال: فوثب الناس على مروان بن عبد الله فقتلوه وقتلوا ابنه، ورفعوا رأسيهما للناس؛ وإنّما أراد السمط بهذا الكلام خلاف معاوية بن يزيد، فلما قتل مروان بن عبد الله ولّوا عليهم أبا محمد السفياني، وأرسلوا إلى سليمان بن هشام: إنا آتوك فأقم بمكانك؛ فأقام. قال: فتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، ومضوا إلى دمشق، وبلغ سليمان مضيّهم، فخرج مغدًا، فلقيهم بالسليمانية - مزرعة كانت لسليمان بن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلًا.
قال علي: فحدثني عمرو بن مروان بن بشّار والوليد بن علي، قالا: لما بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بن الحجاج، فوجّهه في ثلاثة آلاف، وأمره أن يثبت على ثنيّة العقاب، ودعا هشام بن مصاد، فوجّهه في ألف وخمسمائة، وأمره أن يثبت على عقبة السلامة، وأمرهم أن يمدّ بعضهم بعضًا.
قال عمرو بن مروان: فحدثني يزيد بن مصاد، قال: كنت في عسكر سليمان، فلحقنا أهل حمص، وقد نزلوا السلمانيّة، فجعلوا الزيتون على أيمانهم، والجبل على شمائلهم، والجباب خلفهم؛ وليس عليهم مأتىً إلا من وجه واحد، وقد نزلوا أوّل الليل، فأراحوا دوابّهم، وخرجنا نسري ليتنا كلّها، حتى دفعنا إليهم؛ فلما متع النهار واشتدّ الحرّ، ودوابنا قد كلّت وثقل علينا الحديد، دنوت من مسرور بن الوليد، فقلت له - وسليمان يسمع كلامي: أنشدك الله يا أبا سعيد أن يقدم الأمير جنده إلى القتال في هذه الحال! فأقبل سليمان فقال: يا غلام، اصبر نفسك، فوالله لا أنزل حتى يقضيَ الله بيني وبينهم ما هو قاض. فتقدّم وعلى ميمنته الطفيل بن حارثة الكلبي، وعلى ميسرته الطفيل بن زرارة الحبشيّن فحملوا علينا حملةً، فانهزمت الميمنة والميسرة أكثر من غلوتين، وسليمان في القلب لم يزل من مكانه؛ ثم حمل عليهم أصحاب سليمان حتى ردّوهم إلى موضعهم؛ فلم يزالوا يحملون علينا ونحمل عليهم مرارًا، فقتل منهم زهاء مائتي رجل، فيهم حرب بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وأصيب من أصحاب سليمان نحو من خمسين رجلًا، وخرج أبو الهلباء البهراني - وكان فارس أهل حمص - فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه حيّة بن سلامة الكلبي فطعنه طعنة أذراه عن فرسه، وشدّ عليه أبو جعدة مولىً لقريش من أهل دمشق فقتله، وخرج ثبيت ابن يزيد البهراني، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه إيراك السغدي؛ من أبناء ملوك السغد كان منقطعًا إلى سليمان بن هشام - وكان ثبيت قصيرًا، وكان إيراك جسيمًا - فلما رآه ثبيت قد أقبل نحوه استطرد، فوقف إيراك ورماه بسهم فأثبت عضلة ساقه إلى لبده. قال: فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنية العقاب، فشد عليهم، حتى دخل عسكرهم فقتل ونفذ إلينا.
قال أحمد: قال علي: قال عمرو بن مروان: فحدثني سليمان بن زياد الغساني قال: كنت مع عبد العزيز بن الحجاج؛ فلما عاين عسكر أهل حمص، قال لأصحابه: موعدكم التلّ الذي في وسط عسكرهم؛ والله لا يتخلّف منكم أحد إلّا ضربت عنقه. ثم قال لصاحب لوائه: تقدّم، ثم حمل وحملنا معه؛ فما عرض لنا أحد إلا قتل حتى صرنا على التلّ، فتصدّع عسكرهم، فكانت هزيمتهم، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الملك القسري: الله الله في قومك! فكفّ الناس، وكره ما صنع سليمان وعبد العزيز؛ وكاد يقع الشرّ بين الذكوانيّة وسليمان وبين بني عامر من كلب، فكفوا عنهم؛ على أن يبايعوا ليزيد ابن الوليد. وبعث سليمان بن هشام إلى أبي محمد السفياني ويزيد خالد بن يزيد بن معاوية فأخذا، فمرّ بهما على الطفيل بن حارثة، فصاحا به: يا خالاه! ننشك الله والرحم! فمضى معهما إلى سليمان فحبسهما، فخاف بنو عامر أن يقتلهما، فجاءت جماعة منهم؛ فكانت معهما في الفسطاط، ثم وجّههما إلى يزيد بن الوليد معهم. ثم دخل سليمان وعبد العزيز إلى دمشق؛ ونزلا بعذراء. واجتمع أمر أهل دمشق، وبايعوا يزيد بن الوليد، وخرجوا إلى دمشق وحمص وأعطاهم يزيد العطاء، وأجاز الأشراف منهم معاوية بن يزيد بن الحصين والسمط بن ثابت وعمرو بن قيس وابن حُوَي والصقرين صفوان؛ واستعمل معاوية بن يزيد بن حصين من أهل حمص، وأقام الباقون بدمشق، ثم ساروا إلى أهل الأردن وفلسطين وقد قتل من أهل حمص يومئذ ثلثمائة رجل.
ذكر خلاف أهل الأردن وفلسطين
وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين والأردنّ على عاملهم فقتلوه.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمر يزيد بن الوليد معهم
حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني رجاء بن روح بن سلامة بن روح بن زنباع، قال: كان سعيد بن عبد الملك عاملًا للوليد على فلسطين، وكان حسن السيرة، وكان يزيد بن سليمان سيّد ولد أبيه، وكان ولد سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين، فكان أهل فلسطين يحبّونهم لجوارهم؛ فلما أتى قتل الوليد - ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بن روح بن زنباع - كتب إلى يزيد بن سليمان: إن الخليفة قد قثتل فاقدم علينا نولّك أمرنا. فجمع له سعيد قومه، وكتب إلى سعيد بن عبد الملك - وهو يومئذ نازل بالسبع: ارتحل عنّا، فإن الأمر قد اضطرب؛ وقد ولينا أرمنا رجلًا قد رضينا أمره. فخرج إلى يزيد بن الوليد، فدعا يزيد ابن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بن الوليد، وبلغ أهل الأردنّ أمرهم، فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك - وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح - وبلغ يزيد أمرهم، فوجّه إليهم سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني.
قال علي: قال عمرو بن مروان: حدثني محمد بن راشد الخزاعي أنّ أهل دمشق كانوا أربعة وثمانين ألفًا، وسار إليهم سليمان بن هشام. قال محمد بن راشد: وكان سليمان بن هشام يرسلني إلى ضبعان وسعيد ابني روح وإلى الحكم وراشد ابني جرو من بلقين، فأعدهم وأمنّيهم على الدخول في طاعة يزيد بن الوليد، فأجابوا.
قال: وحدثني عثمان بن داود الخولاني، قال: وجهني يزيد بن الوليد ومعي حذيفة بن سعيد إلى محمد بن عبد الملك ويزيد بن سليمان، يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنّيهما، فبدأنا بأهل الأردن ومحمد بن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة منهم؛ فكلّمته فقال بعضهم: أصلح الله الأمير! اقتل هذا القدري الخبيث، فكفهم عني الحكم بن جرو القيني. فأقيمت الصلاة فخلوت به، فقلت: إني رسول يزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلّا على رأس رجل من قومك، ولا درهم يخرج من بيت المال إلّا في يد رجل منهم؛ وهو يحمل لك كذا وكذا. قال: أنت بذاك؟ قلت: نعم: ثم خرجت فأتيت ضبعان بن روح، فقلت له مثل ذلك، وقلت له: إنه يوليك فلسطين ما بقيَ، فأجابني فانصرفت، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: سمعت محمد بن سعيد بن حسان الأردني، قال: كنت عينًا ليزيد بن الوليد بالأردنّ، فلما اجتمع له ما يريد ولّاني خراج الأردنّ، فلما خالفوا يزيد بن الوليد أتيت سليمان بن هشام، فسألته أن يوجّه معي خيلًا، فأشنّ الغارة على طبريّة، فأبى سليمان أن يوجّه معي أحدًا، فخرجت إلى يزيد بن الوليد، فأخبرته الخبر، فكتب إلى سليمان كتابًا بخطه، يأمره أن يوجه معي ما أردت؛ فأتيت به سليمان، فوجه معي مسلم بن ذكوان في خمسة آلاف، فخرجت بهم ليلًا حتى أنزلتهم البطيحة، فتفرّقوا في القرى، وسرت أنا في طائفة منهم نحو طبريّة، وكتبوا إلى عسكرهم، فقال أهل طبريّة: علام نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا! ومضوا إلى حجرة يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك، فانتهبوهما وأخذوا دوابّهما وسلاحهما، ولحقوا بقراهم ومنازلهم؛ فلما تفرّق أهل فلسطين والأردنّ، خرج سليمان حتى أتى الصنبرة، وأتاه أهل الأردنّ، فبايعوا ليزيد بن الوليد؛ فلما كان يوم الجمعة وجّه سليمان إلى طبرية، وركب مركبًا في البحيرة، فجعل يسايرهم حتى أتى طبريّة، فصلى بهم الجمعة، وبايع من حضر ثم انصرف إلى عسكره.
حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني عثمان بن داود، قال: لما نزل سليمان الصنبرة، أرسلني إلى يزيد بن الوليد، وقال لي: أعلمه أنك قد علمت جفاء أهل فلسطين والأسود بن بلال المحاربي الأردنّ. فأتيت يزيد، فقلت له ما أمرني به سليمان، فقال: أخبرني كيف قلت لضبعان بن روح؟ فأخبرته، قال: فما صنع؟ قلت: ارتحل بأهل فلسطين، وارتحل ابن جرو بأهل الأردنّ قبل أن يصبحا. قال: فليسا بأحقّ بالوفاء منا، ارجع فمرْه ألّا ينصرف حتى ينزل الرملة، فيبايع أهلها، وقد استعملت إبراهيم بن الوليد على الأردنّ وضبعان بن روح على فلسطين ومسرور بن الوليد على قنسرين وابن الحصين على حمص.
ثم خطب يزيد بن الوليد بعد قتل الوليد، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد ﷺ.
أيها الناس؛ إني والله ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا حرصًا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي؛ إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي؛ ولكني خرجت غضبًا لله ورسوله ودينه، داعيًا إلى الله وكتابه وسنة نبيه ﷺ؛ لمّا هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى، وظهر الجبّار العنيد، المستحلّ لكل حرمة، والرّاكب لكلّ بدعة؛ مع أنه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب؛ وإنه لابنُ عمّي في الحسب، وكفيّي في النسب؛ فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألّا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوّته، لا بحولي وقوتي.
أيّها الناس، إنّ لكم علي ألا أضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنة؛ ولا أكري نهرًا، ولا أكثر مالًا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدًا، ولا أنقل مالًا من بلدة إلى بلدة حتى أسدّ ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يعينهم؛ فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه؛ ممن هو أحوج إليه؛ ولا أجمّركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم؛ ولا أغلق بابي دونكم؛ فيأكل قويّكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم؛ وإنّ لكم أعطياتكم عندي في كلّ سنة وأرزاقكم في كلّ شهر؛ حتى تستدرّ المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيتُ لكم بما قلت؛ فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تخلعوني؛ إلا أن تستتيبوني؛ فإن تبت قبلتم مني، فإن علمتم أحدًا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه؛ فأنا أوّل من يبايعه، ويدخل في طاعته.
أيّها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد؛ إنما الطاعة طاعة الله؛ فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية؛ فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه الأفقم يزيد بن هشام. وبايعه قيس بن هانىء العبسي، فقال: يا أمير المؤمنين، اتّق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك؛ وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء. فبلغ مروان بن محمد قوله، فقال: ما له قاتله الله ذمّنا جميعًا وذمّ عمر! فلما وليَ موران بعث رجلًا، فقال: إذا دخلتَ مسجد دمشق فانظر قيس ابن هانىء، فإنه طالما صلّى فيه، فاقتله؛ فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيسًا يصلي فقتله.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولاها منصور بن جمهور.
ذكر الخبر عن عزل يوسف بن عمر وولاية منصور بن جمهور
ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشأم، ندب - فيما قيل - لولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولّاها منصور بن جمهور.
وأما أبو مخنف، فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بن عبد الملك بوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بن الوليد بن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب. وقدم منصور بن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لأهل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بن نباتة، فطرقه ليلًا فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بن يزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن الوليد بالعراق؛ وفي كورها، وأقام بقيّة رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه.
وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كان منصور بن جمهور أعرابيًا جافيًا غيلانيًا، ولم يكن من أهل الدين؛ وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحميّة لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق: قد وليتك العراق فسر إليه، واتّق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور؛ فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه. فدخل على يزيد بن الوليد يزيد بن حجرة الغساني - وكان دَيّنًا فاضلًا ذا قدر في أهل الشأم، قد قاتل الوليد ديانةً - فقال: يا أمير المؤمنين، أولّيت منصورًا العراق؟ قال: نعم، لبلائه وحسن معونته، قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ليس هناك في أعرابيّته وجفائه في الدين. قال: فإذا لم أولّ منصورًا في حسن معاونته فمن أولّي! قال: تولّى رجلًا من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود؛ ومالي لا أرى أحدًا من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قال: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلتُ قيسًا؛ فوالله ما عزّت إلا ذلّ الإسلام.
ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانيّة فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضريّة، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشأم، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يحبّ، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بن عبد الله البصري ومنصور ابن نصير - وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشأم - فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشأم أرصادًا، وأقام بالحيرة وجلًا. وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع؛ كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان كتابًا: أما بعد، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له؛ وإنّ الوليد بن يزيد بدّل نعمة الله كفرًا، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجّله إلى النار! وولي خلافته من هو خير منه، وأحسن هديًا؛ يزيد بن الوليد، وقد بايعه الناس، وولّى على العراق الحارث بن العباس بن الوليد، ووجّهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين؛ فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنّك منهم أحد، فاحبسهم قبلك. وإياك أن تخالف، فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به؛ فاختر لنفسك أو دع.
وقيل إنه لما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قوّاد أهل الشأم يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله. وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان، وأمره أن يفرّقها على القوّاد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به.
قال حريث بن أبي الجهم: كان مكثي بواسط؛ فما شعرت إلا بكتاب منصور بن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولّى أمره بواسط، فجمعت موالي وأصحابي، فركبنا نحوًا من ثلاثين رجلًا في السلاح؛ فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث إلا أمر مهم؛ ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بن الوليد.
قال: وذكرعمر بن شجرة أنّ عمرو بن محمد بن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بن غزّان - أو عزّان - الكلبي، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالًا عظيمًا يؤدّي منه في كل جمعة نجمًا، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطًا، فجفّت يده وبعض أصابعه، فلما ولي منصور ابن جمهور العراق ولّاه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بن محمد، فأوثقه وأمر به حرسًا يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفًا مع الحرس، فاتّكأ عليه مسلولًا حتى خالط جوفه، وتصايح الناس؛ فخرج ابن غزّان فقال: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: خفت العذاب، قال: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك. فلبث ثلاثًا ثم مات، وبايع ابن غزّان ليزيد؛ فقال يوسف بن عمر لسليمان بن سليم بن كيسان الكلبي حين أقرأه كتاب منصور بن جمهور: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشأم الحارث بن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بن جمهور إن قدم عليك، وما الرأي إلا أن تلحق بشأمك؛ قال: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك؛ فإذا قرب منصور وجّهتُ معك من أثق به. فلما نزل منصور بحيث يصبّح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بن سليم، فأقام به ثلاثًا، ثم وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء.
وقد قيل إنّ سليمان قال له: تستخفي وتدع منصورًا والعمل، قال: فعند من؟ قال: عندي، وأضعك في ثقة؛ ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال: أنت امرؤٌ من قريش، وأخوالك بكر بن وائل؛ فآواه. قال عمرو: فلم أر رجلًا كان مثل عتوه رعب رعبه؛ أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فوالله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إلي يومًا فأتيته، فقال: قد أحسنت وأجملت؛ وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قال: تخرجني من الكوفة إلى الشأم، قلت: نعم. وصبّحنا منصور بن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد. فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعّثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصّتهم، فجعلت لا أذكر رجلًا ممّن ذكره بسوء إلا قال: لله علي أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط؛ ثلثمائة سوط؛ فجعلت أتعجّب من طمعه في الولاية بعد؛ وتهدده الناس، فتركه سليمان بن سليم، ثم أرسله إلى الشأم فاختفى بها، ثم تحوّل إلى البلقاء.
ذكر علي بن محمد أن يوسف بن عمر وجّه رجلًا من بني كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مرّ بكم يزيد بن الوليد فلا تدعنّه يجوز. فأتاهم منصور بن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة. قال: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلّا سفيان بن سلامة بن سليم بن كيسان وغسّان بن قعاس العذري، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى. ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج.
قال: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بن الوليد؛ فحدثني أحمد بن زهير؛ قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم خالد بن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت محمد بن سعيد الكلبي - وكان من قوّاد يزيد بن الوليد - يقول: إنّ يزيد وجّهه في طلب يوسف بن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قال: فخرجت في خمسين فارسًا أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتّش، فلم نر شيئًا، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهنّ فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم؛ فلما قدم مروان الشأم وقرب من دمشق وليَ قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد - يكنى أبا الأسد - في عدّة من أصحابه؛ فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه.
وقيل: إن يزيد بن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجّه إليه خمسين فارسًا، فعرض له رجل من بني نمير، فقال: يا بن عمّ، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاىء، قال: لا، قال: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية؛ فتغيّظنا بقتلك، قال: مالي في واحدة مما عرضت علي خيار، قال: فأنت أعلم.
ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قال: قدم منصور بن جمهور واليًا فتركته والعمل، قال: لا، ولكنك كرهت أن تليَ لي. فأمر بحبسه. وقيل: إن يزيد دعا مسلم بن ذكوان ومحمد بن سعيد بن مطرّف الكلبي، فقال لهما؛ إنه بلغني أنّ الفاسق يوسف بن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلِقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابنًا له، فقال: أنا أدلّكما عليه، فقال: غنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلًا، فأخذا معهما خمسين رجلًا من جند البلقاء، فوجدوا أثره - وكان جالسًا - فلما أحسّ بهم هرب وترك نعله، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بن سعيد أن يرضي عنه كلبًا، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بن عمير وهانىء بن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزّها، ونتف بعضها - وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة - فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه - وإنها حينئذ لتجوز سرّته - وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة. فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقى عليك حجرًا! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلّا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا؛ وإن كان أضيق منه! قال: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لأوجّهه إلى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه.
ولما قتل يزيد بن الوليد الوليد بن يزيد، ووجّه منصور بن جمهور إلى العراق كتب يزيد بن الوليد إلى أهل العراق كتابًا يذكر فيه مساوىء الوليد، فكان مما كتب به - فيما حدثني أحمد بن زهير عن علي بن محمد: إنّ الله اختار الإسلام دينًا وارتضاه وطهّره، وافترض فيه حقوقًا أمر بها، ونهى عن أمور حرمها؛ ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأ: مل فيه كلّ منقبة خير وجسيم فضل؛ ثم تولّاه، فكان له حافظًا ولأهله المقيمين حدوده وليًا، يحوطهم ويعرفّهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدًا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق أو يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، إلّا كان كيده الأوهن، ومكره الأبور؛ حتى يتمّ الله ما أعطاه، ويدّخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوّه الأضلّ سبيلا، الأخسر عملًا. فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه؛ فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمّت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام.
ثم أفضى الأمر إلى عدوّ الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر؛ تكرمًا عن غشيان مثلها. فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتدّ فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير هحقها؛ مع أمور فاحشة، لم يكن الله ليمليَ للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرًا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخّيًا من الله إتمام الذي نويت؛ من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضًا، حتى أتيت جندًا، وقد وغرت صدورهم على عدوّ الله، لما رأوا من عمله؛ فإنّ عدوّ الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئًا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله؛ وكان ذلك منه شائعًا شاملًا، عريان لم يجعل الله فيه تسرًا، ولا لأحد فيه شكًا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه؛ وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا أن يكونوا قد أبقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة.
فابتعث الله منهم بعثًا يخبرهم، من أولى الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، حتى لقي عدوّ الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم ممن يقلدونه ممّن اتفقوا عليه، فلم يجب عدوّ الله إلى ذلك؛ وأبى إلا تتايعًا في ضلالته؛ فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزًا حكيمًا، وأخذه أليمًا شديدًا، فقتله الله على سوء عمله وعصبته؛ ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة؛ ودخل من كان معه سواهم في الحقّ الذي دعوا إليه، فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعدًا له ولمن كان على طريقته! أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجّل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم؛ إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه؛ فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بن جمهور؛ فقد ارتضيته لكم؛ على أنّ عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه؛ لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة؛ ولكم علي مثل ذلك؛ لأعملنّ فيكم بأمر الله وسنة نبيه ﷺ، واتبع سبيل من سلف من خياركم؛ نسأل الله ربنا ووليّنا أحسن توفيقه وخير قضائه.
ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور
وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بن الوليد ولّاها منصورًا مع العراق.
قال أبو جعر: قد ذكرت قبل من خبر نصر؛ وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجهًا إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد؛ فذكر علي بن محمد أنذ الباهلي أخبره، قال: قدم على نصر بشر بن نافع مولى سالم الليثي - وكان على سكك العراق - فقال: أقبل منصور بن جمهور أميرًا على العراق؛ وهرب يوسف بن عمر؛ فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الري، فأقبلتُ مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني؛ فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألّا يخبر أحدًا حتى أقدم على نصر فأخبره. ففعل؛ فأقبلنا جميعًا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنّا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني؛ فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به؛ فأته بجائزة؛ ثم أتاني يونس بن عبد ربّه وعبيد الله بن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بن أحوز فأخبرته. قال: وكان خبر يوسف عند نصر، فأتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء؛ فلما مضت ثلاث على ذلك؛ جعل علي ثمانين رجلًا حرسًا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدّرت، فلما كانت الليلة التاسعة - وكانت ليلة نوروز - جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجًا صينيًا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف. قال: فلما تيقّن نصر قتل الوليد ردّ تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روفقة الجواري في ولده وخاصّته، وقسم تلك الآنية في عوّام الناس، ووجّه العمال، وأمرهم بحسن السيرة.
قال: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان؛ فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.
ثم باح به بعد؛ فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور.
قال: وولّى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولّى يعقوب بن يحيى بن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكري على خوارزم؛ وهو الذي يقول فيه خلف:
أقول لأصحابي معًا دون كردر ** لمسعدة البكري غيث الأرامل
ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهراني؛ واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك:
أقول لنصر وبايعته ** على جل بكر وأحلافها
يدي لك رهن ببكر العرا ** ق سيدها وابن وصافها
أخذت الوثيقة للمسلمين ** لأهل البلاد وألافها
إذا آل يحيى إلى ما تريد ** أتتك الدماك بأخفافها
دعوت الجنود إلى بيعة ** فأنصفتها كل إنصافها
وطدت خراسان للمسلمين ** إن الأرض همت بإرجافها
وإن جمعت ألفة المسلمين ** صرفت الضراب لألافها
أجار وسلم أهل البلا ** د والنازلين بأطرافها
فصرت على الجند بالمشرقين ** لقوحًا لهم در أخلافها
فنحن على ذاك حتى تبين ** مناهج سبل لعرافها
وحتى تبوح قريش بما ** تجنّ ضمائر أجوافها
فأقسمت للمعبرات الرتا ** ع للعرو أوفى لأصوافها
إلى ما تؤدّي قريش البطا ** ح أخلافها بعد أشرافها
فإن كان من عز بز الضعيف ** ضربنا الخيول بأعرافها
وجدنا العلائف أنّى يكو ** ن يحمى أواري أعلافها
إذا ما تشارك فيه كبت ** خواصرها بعد إخطافها
فنحن على عهدنا نستديم ** قريشًا ونرضى بأحلافها
سنرضى بظلك كنا لها ** وظلك من ظل أكنافها
لعل قريشًا إذا ناضلت ** تقرطس في بعض أهدافها
وتلبس أغشية بالعراق ** رمت دلو شرق بخطافها
وبالأسد منا وإن الأسود لها لبد فوق أكتافها
فإن حاذرت تلفًا في النفا ** ر فالدهر أدنى لإتلافها
فقد ثبتت بك أقدامنا ** إذا انهار منهار أجرافها
وجدناك برًا رءوفًا بنا كرأمة أم وإلطافها
ولم تك بيعتنا خلسة ** لأسرع نسفة خطافها
نكاح التي أسرعت بالحلي ** ل قبل تخضب أطرافها
فكشفها البعل قبل الصدا ** ق فاستقبلته بمعتافها
قال: وكان نصر ولّى عبد الملك بن عبد الله السلمي خوارزم؛ فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط؛ ولقد كرّمتني الأمور وكرّمتها، أما والله لأضعنّ السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدُنّي غشمشمًا، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقة ورفض البكّارة في السنن الأعظم، أو لأصكّنكم صكّ القطامي القطا القارب يصكهنّ جانبًا فجانبًا.
قال: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجّهه منصور بن جمهور، فأخذه مولىً لنصر، يقال له حميد، كان على سكّة بنيسابور؛ فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفًا وكساه، وقال: إنّ الذي كسر أنفك مولىً لي وليس بكفء فأقصّك منه، فلا تقلْ إلّا خيرًا. قال: ما قبلت جائزتك، وأنا أريد ألا أذكر إلا خيرًا.
قال عصمة بن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسًا لربيعة وتميمًا للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها. فقال نصر: كلما أصلحت أمرًا أفسدتموه! قال أبو زيد عمر بن شبّة: حدثني أحمد بن معاوية عن أبي الخطاب، قال: قدم قدامة بن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بن سيّار من قبل منصور بن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قال: ووليَ منصور بن جمهور وهرب يوسف بن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قال: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسّع عليهما، ووجّه رجلًا حتى أتى فرأى منصورًا يخطب بالكوفة، فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قال: نعم؛ إنما نحن بين قيس واليمن، قال: فكيف لا يولاها رجل منكم! قال: لأنا كما قال الشاعر:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ** دعونا أبا غسان يومًا فعسكرا
فضحك نصر، وضمّه إليه.
قال: ولما قدم منصور بن جمهور العراق ولي عبيد الله بن العباس الكوفة - أو وجده واليًا عليها فأقرّه - وولّى شرطته ثمامة بن حوشب ثم عزله وولّى الحجاج بن أرطاة النخعي.
ذكر مخالفة مروان بن محمد
وفي هذه السنة كتب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد، أخي الوليد بن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.
ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه
حدثني أحمد عن علي، قال: كتب مروان إلى الغمر بن يزيد بعد قتل الوليد:
أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلّدهم، يعزّهم ويعزّ من يعزّهم، والحين عليى من ناوأهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين. وكان أهل الشأم أحسن خلقه فيه طاعة، وأذّه عن حرمه وأوفاه بعهده، وأشدّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرّت نعمة الله عليهم. قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإن دمه غير ضائع؛ وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردّ له.
فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى؛ فإني مطرق إلى أن أرى غيرًا فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم؛ أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعًا، والنقمة دولة تأتي من الله؛ ووقت مؤجل؛ ولم أشبه محمدًا ولا مروان - غير أن رأيت غيرًا - إن لم أشمّر للقدريّة إزاري، وأضربهم بسيفي جارحًا وطاعنًا، يرمي قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، أو يرمي بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه؛ وما إطراقي إلّا لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإنّ الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبًا ونصيرًا.
حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، عن مسلم بن ذكوان، قال: كلّمَ يزيد بن الوليد العباس بن الوليد في طفيل بن حارثة الكلبي، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها - وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئًا من ذلك عند العطاء - فأجابه وحمله على البريد. وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكلّ ما يكتب به. وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار. قال مسلم بن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلّمه في هذا الأمر. قال: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما؛ إن لكما ولمروان لقصّةً، قلنا: وما ذاك؟ قال: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزّة يكونون ألفًا؟ قلت: وأكثر، قال: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قال: كم ترى عدّة بني عامر؟ يعني بني عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرّك أصبعه، ولوى وجهه. قال مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات موالي؛ وهو شعب حصين، ووعاء أمين؛ إن شاشء الله. فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أنّ معه كتاب يزيد بن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك شيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح.
قال مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة؛ فلما صلّى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتدّ بصلاته، فلما استويت قائمًا جاءني خصي، فلما نظر إلي انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان؛ وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بن ذكوان مولى يزيد، قال: مولى عتقاة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قال: ذاك أفضل؛ وفي كلّ ذلك فضل؛ فاذكر ما بدا لك. قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه؛ فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصلّيت على نبيّه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامّة؛ وذكرت حاله كلها. فلما فرغت تكلم؛ فوالله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد؛ فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي؛ لا أريد بذلك إلا ما عند الله؛ والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه؛ ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب. وسألني عن أمر يزيد، فكبّرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك؛ وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم. فأقمت أيامًا، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قال: الحق بصاحبك، وقل له: سدّدك الله، امض على أمر الله؛ فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ستّ ليال أو سبع خارجة؛ وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز. قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلّا وقد أعطيتهم الرضا حتى أخبروني بذات أنفسهم. فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله؛ إنه قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: أنّي أصبت هذا العلم؟ قال: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم؛ حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات أنفسهم. فوّدعته وخرجت. فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضًا بقتل الوليد؛ وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابّة ودليلًا، فقدمت على يزيد بن الوليد.
ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق، وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر عن يزيد بن الوليد أنه قال لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها؛ فذكر عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الله بن عمر متألّهًا متألمًا، فقدّم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلًا وكتبًا إلى قوّاد الشأم الذين بالعراق، وخاف ألّا يسلّم له منصور بن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلّم له منصور بن جمهور، وانصرف إلى الشأم، ففرق عبد الله بن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم؛ فنازعه قوّاد أهل الشأم وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدوّنا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردتُ أن أردّ فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحقّ به؛ فنازعني هؤلاء فأنكروا عليبّ.
فخرج أهل الكوفة إلى الجبّانة، وتجمّعوا، فأرسل إليهم قوّاد أهل الشأم يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئًا مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بن عمر بالحيرة، وعبيد الله بن العباس الكندي بالكوفة؛ قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فأراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري، فأتاه فنحّى الناس عنه، وسكّنهم وزجر سفهاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضًا وبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، وأحسن جائزته، وولّاه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين.
ذكر وقوع الخلاف بين اليمانية والنزارية في خراسان
وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارّية، وأظهر الكرماني فيها الخلاف لنصر بن سيار، واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته.
ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك
ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أن عبد الله بن عمر لمّا قدم العراق واليًا عليها من قبل يزيد بن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان؛ قال: ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرماني من حبس نصر، فقال المنجّمون لنصر: إنّ خراسان سيكون بها فتنة؛ فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقًا وذهبًا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد؛ وكان أوّل من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نضر رجالًا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكندي فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأدزد - وكان يلقب أبا الشياطين - فتكلم، وقام حمّاد الصائغ وأبو السليل البكري، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية؛ عليكم بالطاعة والجماعة؛ فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به.
فصعد سلم بن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلّمه، فقال: ما يغني عنّا كلامك هذا شيئًا. ووثب أهل السوق إلى أسواقهم؛ فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قال: كأني بالرّجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري؛ وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شرّ لا يطاق، وكأني بكم مطرّحين في الأسواق كالجزر المنحورة؛ إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملّوها؛ وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدوّ، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان.
قال علي: قال عبد الله بن المبارك، قال نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلّم؛ وعسى أن يكون ذلك خيرًا لي. إنكم تغشون أمرًا تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم؛ والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قال من كان قبلكم:
استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ** فقد عرفنا خيركم وشركم
فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه. يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة. أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل لقول النابغة الذبياني:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم ** فإني في صلاحكم سعيت
وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعدي:
أبيت أرعى النجوم مرتفقًا ** إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة ** قد عمّ أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن ** بالشأم كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة ** دهماء ملتجة غياظلها
يمسي السفيه الذي يعنف بال ** جهل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في ظل مبهمة ** عمياء تغتالهم غوائلها
لا ينظر الناس في عواقها ** إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حب ** لى طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته ** فيها خطوب حمر زلازلها
قال: فلما أتى نصرًا عهده من قبل عبد الله بن عمر قال الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة؛ فانظروا لأموركم رجلًا - وإنما سمّي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن علي بن شبيب بن براري بن صنيم المعني - فقالوا: أنت لنا، فقالت المضريّة لنصر: الكرماني يفسد عليك؛ فأرسل إليه فاقتله، أو فاحبسه، قال: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بني من بناته وبنيه من بناتي؛ قالوا: لا، قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئًا، ويعلمون بها فيتفرّقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قال: فدعوه على حاله يتقينا ونتّقيه، قالوا لا، قال: فأرسل إليه فحبسه.
قال: وبلغ نصرًا أن الكرماني يقول: كانت غايتي في طاعة بني مروان أن يقلّد ولدي السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه. فقال له عصمة ابن عبد الله الأسدي: إنها بدء فتنة، فتجنّ عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بن النعمان الأزدي والفرافصة بن ظهير البكري، فإنه لم يزل متغضّبًا على الله بتفضيله مضر على ربيعة.
وكان بخراسان. وقال جميل بن النعمان: إنك قد شرّفته وإن كرهت قتله فادفعه إلي أقتله. وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بن فراس البهراني عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرماني مع أبي الزعفران مولى أسد بن عبد الله، فطلبه نصر فلم يقدر عليه. والذي كتب إلى الكرماني بقتل الوليد وقدوم منصور بن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار. وقيل: إن قومًا أتوا نصرًا، فقالوا: الكرماني يدعو إلى الفتنة. وقال أصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعًا لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهوّد. وكان نصر والكرماني متصافيينن، وقد كان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما وليَ نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيرها لحرب بن عامر بن أيثم الواشجي، فمات حرب فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى عزله، وصيّرها لجميل بن النعمان. قال: فتباعد ما بين نصر والكرماني فحبس الكرماني في القهندز وكان على القهندز مقاتل بن علي المرئي - ويقال المري.
قال: ولما أراد نصر حبس الكرماني أمر عبيد الله بن بسّام صاحب حرسه؛ فأتاه به، فقال له نصر: يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قال: بلى، قال ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قال بلى، ألم أرش عليًّا ابنك على كره من قومك! قال: بلى، قال: فبدّلت ذلك إجماعًا على الفتنة! قال الكرماني: لم يقل الأمير شيئًا إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بن عبد الله ما قد علم، فليستأن الأمير ويثبّت فلست أحب الفتنة. فقال عصمة بن عبد الله الأسدي: كذبت؛ وأنت تريد الشغب، ومالا تناله. وقال سلم بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم الغامدي: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: أرجه وأخاه، والله لا يقتلنّ الكرماني بقولك يابن أحوز وعلت الأصوات، فأمر نصر سليمان بحبس الكرماني، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلًا يكون معه. قال: فاختاروا يزيد النحوي؛ فكان معه في القهندز، وصيّر حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وهجم ابني مسعود. قال: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بن شعبة الجهضمي وخالد بن شعيب بن أبي صالح الحمداني، فكلماه فيه. قال: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يومًا، فقال علي بن وائل أحد بني ربيعة بن حنظلة: دخلت على نصر والكرماني جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان أبو الزعفران جاء! فوالله ما ورايته ولا أعلم مكانه.
وقد كانت الأزد يوم حبس الكرماني أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرماني ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بن حرملة اليحمدي والمغيرة بن شعبة وعبد الجبار بن شعيب بن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرماني يغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى؛ ليكفنّ عنا نصر أو لنبدأنّ بكم. وأتاهم عبد العزيز بن عباد بن جابر بن همام بن حنظلة اليحمدي في مائة، ومحمد بن المثنى وداود بن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزّة أم ولد نصر - وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى؛ فعند ذلك صيّروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحوي وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسّعه، وأتى ولد الكرماني، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرماني يزيد النحوي وحصين بن حكم فتعشيّا معه وخرجا، ودخل الكرماني السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره. قال فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوّامه - ويقال: بل ركب فرسه البشير - والقيد في رجله، فأتوابه قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه.
قال علي: وقال أبو الوليد زهير بن هنيد العدوي: كان مع الكرماني غلامه بسام، فرأى خرقًا على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه. قال: فأرسل الكرماني إلى محمد بن المثنى وعبد الملك بن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قرية حرب ابن عامر، وعليه ملحفة متقلدًا سيفًا، ومعه عبد الجبار بن شعيب وابنا الكرماني: علي وعثمان وجعفر غلامه، فأمر عمرو بن بكر أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معًا، وأمرهم أن يوافوه على باب الريّان بن سنان اليحمدي بنوش في المرج - وكان مصلّاهم في العيد - فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلّى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بن خليفة:
أصحروا للمرج أجلي للعمى ** فلقد أصحر أصحاب السرب
إن مرج الأزد مرج واسع ** تستوي الأقدام فيه والرّكب
وقيل إن الأزد بايعت لعبد الملك بن حرملة على كتاب الله عز وجل ليلة خرج الكرماني، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيّرا الأمر له، فصلى الكرماني. ولما هرب الكرماني أصبح نصر معسكرًا بباب مرو الروذ بناحية إبردانة، فأقام يومًا أو يومين.
وقيل: لما هرب الكرماني استخلف نصر عصمة بن عبد الله الأسدي وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانيًا، ثم سقط إلى هراة فكان هرويًا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت؛ ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ** فدلّ عليها صوتها حية البحر
ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإنّ ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق.
ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بن أحوز إلى الكرماني في بشر كثير. فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصرًا أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه. فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر فأتاه القاسم بن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له: إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره - وكان رأي نصر إخراجه - فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: أخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفّه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فكفّ عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة. وأتى الكرماني نصرًا، فدخل سرادقه فآمنه. ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج. وأتى نصرًا عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوّال سنة ست وعشرين ومائة؛ فخطب الناس، وذكرا ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب؛ فغضب الكرماني لابن جمهور، فعاد في جميع الرجال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعه في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجًا من المقصروة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءًا، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني. فقال الكرماني: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر. فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره. فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي، إني أخاف عليك عاقبة ما بدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالًا؛ فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد بذلك إلا الإنذار إليك. فقال الكرماني: إني أعلم أن نصرًا بدلم يقل هذا لك ولكنك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلمي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك. فرجع عصمة، وقال: ما رأيت علجًا أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه؛ ولكن من يحيى بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيمًا له من أصحابه. قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديدًا. وقال نصر لقديد بن منيع: انطلق إلليه، فأتاه فقال له: يا أبا علي، لقد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعًا، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال: يا قديد؛ إني لا أتهمك؛ وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، وقد قال رسول الله ﷺ: " البكري أخوك ولا تثق به "؛ قال: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهنًا، قال: من؟ قال: أعطه عليًّا وعثمان، قال: قمن يعطني؟ ولا خير فيه، قال يا أبا علي، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك. ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بن معقل الليثي: ما أخوفني أن يقع ييهذا الثغر بلاء، فكلم ابن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأميرح أنشدك الله أن تشأم عشيرتك؛ إن مروان بالشأم تقاتله الخوارج، والناس في فتنة والأزد سفهاء وهم جيرانك. قال: فما أصنع؟ إن علمت أمرًا يصلح الناس فدونك، فقدم عزم أنه لا يثق بي. قال: فأتى عقيل الكرماني، فقال: أبا علي، قد سننت سنة تطلببعدك من الأمراء، إني أرى أمرًا أخاف أن تذهب فيه العقول، قال الكرماني: إن نصرًا يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتززل، ونختار رجلًا من بكر بن وائل، نرضاه جميعًا فيلي أمرنا جميعًا حتى يأتي أمر من الخليفة؛ وهو يابى هذا. قال: يا أبا علي، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما سئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوافيه، فقال الكرماني: إني لاأتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثقبنص؛ فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص. قال: فهل لك في أمريجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قال: لا آمنه على حال، قال: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غدًا بمضيعة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قال: لا؛ ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتتركب منا مالا بقيّة بعده؛ فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن
أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان. كره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان.
خبر الحارث بن سريج مع يزيد
وفي هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحاررث بن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه ماله وولده
ذكر الخبر عن سبب ذلك
ذكر أن الفتنة لما وقعت بخرسان بين نصر والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرمانيّوغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إلليه مقاتل بن حيان النبطي وثعلبة بن صفوان البناني وأنس بن بجالة الأعرجي هدبة الشعراوي وربيعة القرشي ليردّوه عن بلاد الترك.
فذكر علي بن محمد عن شيوخه أن خالد بن زياد البدّي من أهل الترمذ وخالد بن عمر مولى بني عامر، خارجا إلى يزيد بن الوليد يطلبان الأمان للحارث بن سريج، فقما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سمّوني خدينة؟ قال: لا، قال: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت، وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح - وكان من خاصة يزيد بن الوليد - فكتب لهما إليه، فأدخلمها عليه، فقال له خالد بن زياد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله، وعمالك يغشمون ويظلمون! قال: لا أجد أعوانًا غيرهم، وإني لأغضهم، قال: يا أمير المؤمنين، ولّ أهل البيوتات، وضمّ إلى كل عامل رجلًا من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قال: أفعل، وسألاه أمانًا للحارث بن سريج، فكتب له: أما بعد، فإنا غضبنا الله، إذ عطلت حدود، وبلغ بعباده كل مبلغ، وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله عز وجلّ وسنة نبيه ﷺ، ولا قوّة إلا بالله؛ فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا؛ فأقبل آمنًا أنت ومن معك؛ فإنكم إخواننا وأعواننا. وقد كتبت إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بردّ ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم.
فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بن زياد: أصلح الله الأمير؟ ألا تأمر عمالك بسيرة أبيك؟ قال: أوليس سيرة عمر ظاهرة معروفة؟ قال: فما ينفع الناس منها ولا يعمل بها؟ ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فردّ ما كان أخذ لهم مما قدر عليه. ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجهّهم نصر إلى الحارث. وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة. فأسقط في يديه، فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة. فلما لقيا مقاتلًا بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكفّ عنه يزيد. قال: فأقبل الحارث يريد مرو - وكان مقامه بأرض الشرّك اثنتي عشرة سنة - وقدم معه القاسم الشيباني ومضرس بن عمران قاضيه وعبد الله بن سنان. فقدم سمرقند وعليها منصور بن عمر فلم يتلقّه، وقال: ألحسن بلائه وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار. وكتب إليه: لئن قدم الحارث على الأمير وقد ضرّ ببني أمية في سلطانهم؛ وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحًا عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأسًا، وأنفذهم غارة في الترك؛ ليفّرقن عليك بني تميم. وكان سردرخداه محبوسًا عند منصور بن عمر؛ لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده منصورًا، فحبسه، فكلم الحارث منصورًا فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفّى له.
كتاب إبراهيم الإمام إلى شيعة بني العباس
وفي هذه السنة - فيما زعم بعضهم - وجه إبراهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصيّه. فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى لهم الإمام محمد بن علي، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بن محمد.
ذكر بيعة إبرهيم بن الوليد بالعهد
وفي هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد لأخيه إبراهيم بن الوليد على الناس البيعة، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعد إبراهيم ابن الوليد؛ وكان السبب في ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن علي ابن محمد - أن يزيد بن الوليد مرض في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له: بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده. قال: فلم تزل القدرية يحثونه عل البيعة، ويقولون له: إنه لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك؛ حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، وولاها عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن عثمان. قال محمد بن عمر: يقال إن يزيد بن الوليد لم يوله، ولكنه افتعل كتابًا بولايته المدينة، فعزله يزيد عنها، وولاها عبد العزيز بن عمر، فقدمها لليلتين بقيتا من ذي القعدة.
ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد
وفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف على يزيد بن الوليد؛ وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهرًا أنه طالب بدم الوليد بن يزيد. فلما صار بحرّان بايع يزيد.
ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن صالح مولى عثمان بن عفان - وسألته عما شهد ما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بن محمد - قال: كان عبد الملك بن مروان بن محمد بن مروان حين انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، وعلى الجزيرة عبدة بن رباح الغساني عاملا للوليد عليها، فشخص منها - حيث بلغه قتل الوليد - إلى الشأم، ووثب عبد الملك بن مروان بن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بن عبد الله بن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطّلا حتى يحكم أمره؛ فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي - وهو رأس قيس - وثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين - وهو رأس اليمن - وكان سبب صحبة ثابت إياه أن مروان كان خلصه من حبس هشام بالرّصافة. وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه. وكان سبب حبس هشام ثابتًا ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية؛ إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بن عياض القسري، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه إليه، فأمر هشام حنظلة بتوجيهه إليه في الحديد، فوجّهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بن محمد على هشام في بعض وفاداته - وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا - فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية؛ ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه؛ وكان ممن كلمه فيه كعب بن حامد العبسي صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بن الضخم وسلمان بن حبيب قاضيه، فاستوهب مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجّه مروان ثابتًا مع إسحاق إلى أهل الباب، كتب إليهم كتابًا يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراري المسلمين.
قال: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلًا من أهل فلسطين يقال له حميد بن عبد الله اللخمي - وكان راضيًا فيهم وكان وليهم قبل ذلك - فحمدوا ولايته. فقاما فيهم بأمره، وأبلغهم رسالته، وقرآ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم وازوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتًا قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم وللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشأم بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم؛ فانخزلوا عن عسكرهم مع من فرّ ليلا وعسكروا على حدة. وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح؛ ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشأم؛ ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم علي فيه من سيرى! ألم ألكم بما تحبّون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشأم يزيد بن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نردّ إلى أجنادنا. فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم؛ وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمّة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم؛ وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم. فلما رأوا الجدّ منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده؛ وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران. قال: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل. ووكل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشأم والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يفسد ولا يظلم أحدًا من أهل القرى، ولا يرزأه شيئًا إلا بثمن، حتى ورد حرّان. ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتًا معه، ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيّف وعشرين ألفًا من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمد بن مروان من الجزرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجّه إليه محمد بن عبد الله بن علاثة ونفرًا من وجوه الجزيرة.
ذكر خبر وفاة يزيد بن الوليد
وفي هذه السنة مات يزيد بن الوليد، وكانت وفاته سلخ ذي الحجة من سنة ست وعشرين ومائة، قال أبو معشر ما حدثني به أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: توفي يزيد بن الوليد في ذي الحجة بعد الأضحى سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته في قول جميع من ذكرنا ستة أشهر، وقيل كانت خلافته خمسة أشهر وليلتين.
وقال هشام بن محمد: ولي ستة أشهر وأيامًا. وقال علي بن محمد: كانت ولايته خمسة أشهر واثني عشر يومًا.
وقال علي بن محمد: مات يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة.
وكانت ولايته فيما زعم ستة أشهر وليلتين، وتوفي بدمشق.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفّى فقال هشام توفي وهو ابن ثلاثين سنة.
وقال بعضهم: توفيَ وهو ابن سبع وثلاثين سنة. وكان يكنى أبا خالد وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار ابن كسرى. وهو القائل:
أنا ابن كسرى وأبي مروان ** وقيصر جدّي وجدّ خاقان
وقيل: إنه كان قدريًا. وكان - فيما حدثني أحمد، عن علي بن محمد في صفته - أسمر طويلًا، صغير الرأس، بوجهه خال. وكان جميلًا من رجل، في فمه بعض السعة، وليس بالمفرط.
وقيل له يزيد الناقص لنقصه الناس العشرات التي كان الوليد زادها الناس في قول الواقدي؛ وأما علي بن محمد فإنه قال: سبّه مروان بن محمد، فقال: الناقص ابن الوليد، فسمّاه الناس الناقص.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان في قول الواقدّي. وقال بعضهم: حجّ بالناس في هذه السنة عمر بن عبد الله ابن عبد الملك، بعثه يزيد بن الوليد، وخرج معه عبد العزيز وهو على المدينة ومكة والطائف.
وكان عامله على العراق في هذه السنة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى أحداث البصرة المسوّر بن عمر بن عبّاد. وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى خراسان نصر بن سيار الكناني.
خلافة أبي إسحاق إبراهيم بن الوليد ثم كان إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان غير أنه لم يتمّ له أمر. فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: لم يتمّ لإبراهيم أمره، وكان يسلّم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمرة؛ وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمرة؛ فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بن محمد فخلعه وقتل عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
وقال هشام بن محمد: استخلف يزيد بن الوليد أبا إسحاق إبراهيم بن الوليد؛ فمكث أربعة أشهر ثم خلع في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين ومائة، ثم لم يزل حيًّا حتى أصيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمه أمّ ولد.
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كانت ولاية إبراهيم بن الوليد سبعين ليلة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر مسير مروان إلى الشام وخلع إبراهيم بن الوليد
فمما كان فيها من ذلك مسير مروان بن محمد إلى الشأم والحرب التي جرت بينه وبين سليمان بن هشام بعين الجرّ.
ذكر ذلك والسبب الذي كانت عنه هذه الوقعة
قال أبو جعفر: وكان السبب ما ذكرتُ بعضه؛ من أمر مسير مروان بعد مقتل الوليد بن يزيد إلى الجزيرة من أرمينية، وغلبته عليها، مظهرًا أنه ثائر بالوليد، منكر قتله، ثم إظهاره البيعة ليزيد بن الوليد بعد ما ولّاه عمل أبيه محمد بن مروان، وإظهاره ما أظهر من ذلك، وتوجيهه وهو بحرّان محمد بن عبد الله بن علاثة وجماعة من وجوه أهل الجزيرة. فحدثني أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: لما أتى مروان موت يزيد أرسل إلى ابن علاثة وأصحابه فردّهم من منبج، وشخص إلى إبراهيم بن الوليد، فسار مروان في جند الجزيرة، وخلف ابنه عبد الملك في أربعين ألف من الرابطة بالرقة. فلما انتهى إلى قنسرين، وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له بشر، كان ولاه قنسرين فخرج إليه فصافّه، فنادى الناس، ودعاهم مروان إلى مبايعته، فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسيّة، وأسلموا بشرًا وأخًا له يقال له مسرور بن الوليد، - وكان أخا بشر لأمه وأبيه - فأخذه مروان وأخاه مسرور بن الوليد؛ فحبسهما وسار فيمن معه من أهل الجزيرة وأهل قنسرين، متوجّهًا إلى أهل حمص؛ وكان أهل حمص امتنعوا حين مات يزيد بن الوليد أن يبايعوا إبراهيم وعبد العزيز ابن الحجاج، فوجّه إليه إبراهيم عبد العزيز بن الحجاج وجند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم، وأغذّ مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص، رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه، وساروا بأجمعهم معه، ووجّه إبراهيم بن الوليد الجنود مع سليمان بن هشام، فسار بهم حتى نزل عين الجرّ، وأتاه مروان وسليمان في عشرين ومائة ألف فارس ومروان في نحو من ثمانين ألفًا فالتقيا، فدعاهم مروان إلى الكفّ عن قتاله، والتخلية عن ابني الوليد: الحكم وعثمان، وهما في سجن دمشق محبوسان، وضمن عنهما ألّا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما، وألّا يطلبا أحدًا ممن ولي قتله؛ فأبوا عليه، وجدّوا في قتاله؛ فاقتتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، واستحرّ القتل بينهم؛ وكثر في الفريقين. وكان مروان مجرّبًا مكايدًا، فدعا ثلاثة نفر من قوّاده - أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم يقال له عيسى - فأمرهم بالمسير خلف صفّه في خيله وهم ثلاثة آلاف، ووجّه معهم فعلة بالفؤوس، وقد ملأ الصفان من أصحابه وأصحاب سليمان بن هشام ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر جرّار، وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر، فيعقدوا جسورًا، ويجوزوا إلى عسكر سليمان، ويغيروا فيه.
قال: فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلّا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انكسروا؛ وكانت هزيمتهم، ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحردهم عليهم، فقتلوا منهم نحوًا من سبعة عشر ألفًا، وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم، فلم يقتلوا منهم أحدًا، وأتوا مروان من أسرائهم بمثل عدّة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم. فأخذ مروان عليهم البيعة للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم. بدينار دينار، وألحقهم بأهاليهم، ولم يقتل منهم إلّا رجلين يقال لأحدهما يزيد بن العقّار وللآخر الوليد بن مصاد الكلبيّان؛ وكانا فيمن سار إلى الوليد ووليَ قتله. وكان يزيد بن خالد بن عبد الله القسري معهم، فسار حتى هرب فيمن هرب مع سليمان بن هشام إلى دمشق؛ وكان أحدهما - يعني الكلبيّين - على حرس يزيد والآخر على شرطه؛ فإنه ضربهما في موقفه ذلك بالسياط، ثم أمر بهما فحبسا فهلكا في حبسه.
قال: ومضى سليمان ومن معه من الفلّ حتى صبّحوا دمشق، واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج رءوس من معهم، وهم يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة السكسكي والأصبغ بن ذؤالة الكلبي ونظراؤهم؛ فقال بعضهم لبعض: إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتى يقدم مروان ويخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدًا من قتلة أبيهما؛ والرأي أن نقتلهما. فولّوا ذلك يزيد بن خالد - ومعهما في الحبس أبو محمد السفياني ويوسف بن عمر - فأرسل يزيد مولىً لخالد يقال له أبا الأسد، في عدّة من أصحابه، فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد؛ وأخرج يوسف بن عمر ليقتلوه، وضربت عنقه. وأرادوا قتل أبي محمد السفياني، فدخل بيتًا من بيوت السجن فأغلقه، وألقى خلفه الفرش والوسائد، واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه، فدعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها، حتى قيل: قد دخلت خيل مروان المدينة وهرب إبراهيم بن الوليد، وتغيّب، وأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة.
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة، وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ابن مروان، فهزمه عبد الله بن عمر، فلحق بالجبال فغلب عليها.
ذكر الخبر عن سبب خروج عبد الله ودعائه الناس إلى نفسه
وكان إظهار عبد الله بن معاوية الخلاف على عبد الله بن عمر ونصبه الحرب له - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف - في المحرّم سنة سبع وعشرين ومائة. وكان سبب خروجه عليه - فيما حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن عاصم ابن حفص التميمي وغيره من أهل العلم - أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر قدم الكوفة زائرًا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، يلتمس صلته، لا يريد خروجًا، فتزوج ابنة حاتم بن الشرقي بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعي، فلما وقعت العصبيّة قال له أهل الكوفة: ادعُ إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، فدعا سرًا بالكوفة وابن عمر بالحيرة، وبايعه ابن ضمرة الخزاعي، فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه، فأرسل إليه: إذا نحن التقينا بالناس انهزمت بهم. وبلغ ابن معاوية، فلما التقى الناس قال ابن معاوية: إنّ ابن ضمرة قد غدر، ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس؛ فلا يهولنّكم انهزامه، فإنه عن غدر يفعل. فلما التقوا انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق معه أحد، فقال:
تفرقت الظباء على خداش ** فما يدري خداش ما يصيد
فرجع ابن معاوية إلى الكوفة؛ وكانوا التقوا ما بين الحيرة والكوفة، ثم خرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج فغلب على حلوان والجبال.
قال: ويقال قدم عبد الله بن معاوية الكوفة وجمع جمعًا، فلم يعلم عبد الله بن عمر حتى خرج في الجبّانة مجمعًا على الحرب، فالتقوا، وخالد بن قطن الحارثي على أهل اليمن، فشدّ عليه الأصبغ بن ذؤالة الكلبي في أهل الشأم، فانهزم خالد وأهل الكوفة وأمسكت نزار عن نزار ورجعوا، وأقبل خمسون رجلًا من الزيديّة إلى دار ابن محرز القرشي يريدون القتال، فقتلوا، ولم يقتل من أهل الكوفة غيرهم.
قال: وخرج ابن معاوية من الكوفة مع عبد الله بن عباس التميمي إلى المدائن، ثم خرج منها فغلب على الماهين وهمذان وقومس وأصبهان والرّي، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، وقال:
فلا تركبنّ الصنيع الذي ** تلوم أخاك على مثله
ولا يعجبنك قول امرىء ** يخالف ما قال في فعله
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى؛ فإنه زعم أن سبب ذلك أن عبد الله والحسن ويزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدموا على عبد الله بن عمر؛ فنزلوا في النخع، في دار مولى لهم، يقال له الوليد بن سعيد، فأكرمهم ابن عمر وأجازهم، وأجرى عليهم كلّ يوم ثلثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد ومن بعده عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك، فقدمت بيعتهما على عبد الله بن عمر بالكوفة، فبايع الناس لهما، وزادهم في العطاء مائة مائة؛ وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك؛ إذ أتاه الخبر بأنّ مروان بن محمد قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم بن الوليد، وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجري عليه، وأعدّه لمروان ابن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له؛ ويقاتل به مروان؛ فماج الناس في أمرهم، وقرب مروان من الشأم، وخرج إليه إبراهيم فقاتله مروان، فهزمه وظفر بعسكره وخرج هاربًا، وثبت عبد العزيز بن الحجاج يقاتل حتى قتل. وأقبل إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري هاربًا حتى أتى الكوفة؛ وكان في عسكر إبراهيم، فافتعل كتابًا على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، فأرسل إلى اليمانية، فأخبرهم سرًا أنّ إبراهيم بن الوليد ولّاه العراق، فقبلوا ذلك منه، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فباكره صلاة الغداة، فقاتله من ساعته، ومعه عمر بن الغضبان؛ فلما رأى إسماعيل ذلك - ولا عهد معه وصاحبه الذي افتعل العهد على لسانه هارب منهزم - خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء؛ ولم أحس أن يبلغ الأمر ما بلغ، فكفوا أيديكم. فتفرق القوم عنه، فقال لأهل بيته: إنّ إبراهيم قد هرب، ودخل مروان دمشق، فحّكي ذلك عن أهل بيته، فانتشر الخبر، واشرأبّت الفتنة، ووقعت العصبية بين الناس. وكان سبب ذلك أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا عظامًا، ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي وعثمان بن الخيبري أخا بني تيم اللات بن ثعلبة شيئًا، ولم يسوّهما بنظرائهما؛ فدخلا عليه؛ فكلّماه كلامًا غليظًا، فغضب ابن عمر، وأمر بهما، فقام إليهما عبد الملك الطائي - وكان على شرطه يقوم على رأسه - فدفعهما، فدفعاه وخرجا مغضبين. وكان ثمامة بن حوشب بن رويم الشيباني حاضرًا، فخرج مغاضبًا لصاحبيه، فخرجوا جميعًا إلى الكوفة، وكان هذا وابن عمر بالحيرة، فلما دخلوا الكوفة نادوا: يا آل ربيعة، فثارت إليهم ربيعة، فاجتمعوا وتنمّروا، وبلغ الخبر ابن عمر، فأرسل إليهم أخاه عاصمًا، فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم، وقال: هذه يدي لكم فاحكموا؛ فاستحيوا وعظّموا عاصمًا، وتشكّروا له، وأقبل على صاحبيهم فسكتا وكفّا، فلمّا أمسى ابنُ عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بن الغضبان بمائة ألف، فقسمها في قومه بني همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وأرسل إلى ثمامة بن حوشب بن رويم بمائة ألف، فقسمّها في قومه، وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة آلاف، وإلى عثمان بن الخيبري بعشرة آلاف.
قال أبو جعفر: فلما رأت الشيعة ضعفه اغتمزوا فيه، واجترءوا عليه وطمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وكان الذي ولي ذلك هلال ابن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس حتى أتوا المسجد، فاجتمعوا فيه وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من الشيعة لعبد الله بن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله، فأخرجوه من دار الوليد بن سعيد؛ حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بن عمر وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه، فيهم عمر بن الغضبان بن القبعثري ومنصور بن جمهور وإسماعيل بن عبد الله القسري ومن كان من أهل الشأم بالكوفة له أهل وأصل، فأقام بالكوفة أيامًا يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج يريد عبد الله بن عمر بالحيرة، وبرز له عبد الله بن عمر فيمن كان معه من أهل الشأم، فخرج رجل من أهل الشأم يسأله البراز، فبرز له القاسم بن عبد الغفار، فقال له الشامي: لقد دعوت حين دعوت، وما أظنّ أن يخرج إلي رجل من بكر بن وائل، والله ما أريد قتالك، ولكن أحببت أن ألقي إليك ما انتهى إلينا؛ أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن؛ لا منصور ولا إسماعيل ولا غيرهما إلا وقد كاتب عبد الله بن عمر، وجاءته كتب مضر، وما أرى لكم أيها الحي من ربيعة كتابًا ولا رسولًا، وليسوا مواقعيكم يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألّا تكون بكم الحزّة فافعلوا، فإني رجل من قيس، وسنكون غدًا بإزائكم؛ فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا أبغته، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أبلغتكم حالَ الناس. فدعا القاسم رجالًا من قومه، فأعلمهم ما قال له الرجل؛ وأنّ ميمنة ابن عمر من ربيعة، ومضر ستقف بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال عبد الله بن معاوية: إنّ هذه علامة ستظهر لنا إن أصبحنا؛ فإن أحبّ عمر بن الغضبان فليلقني الليلة؛ وإن منعه شغل ما هو فيه فهو عذر؛ وقل له: إني لأظن القيسي قد كذب، فأتى الرسول عمر بذلك، فردّه إليه بكتاب يعلمه أن رسولي هذا بمنزلتي عندي، ويأمره أن يتوثّق من منصور وإسماعيل، وإنما أراد أن يعلمهما بذلك. قال: فأبى ابنُ معاوية أن يفعل، فأصبح الناس غادين على القتال، وقد جعل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى منادٍ: من أتى برأس فله كذا وكذا، أو بأسير فله كذا وكذا، والمال عند عمر بن الغضبان.
والتقى الناس واقتتلوا، وحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة، ورجمت غوغاء الناس أهل اليمن من أهل الكوفة، فقتلوا فيهم أكثر من ثلاثين رجلًا، وقتل الهاشمي العباس بن عبد الله زوج ابنة الملاة.
ذكر عمر أن محمد بن يحيى حدثه عن أبيه، عن عاتكة بنت الملاة، تزوجت أزواجًا، منهم العباس بن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قتل مع عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في العصبيّة بالعراق. وقتل مبكر ابن الحواري بن زياد في غيرهم؛ ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بن معاوية حتى دخل نصر الكوفة، وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشأم، وحمل أهل القلب من أهل الشأم على الزيديّة فانكشفوا، حتى دخلوا الكوفة، وبقيت الميسرة وهم نحو خمسمائة رجل، وأقبل عامر بن ضبارة ونباتة ابن حنظلة بن قبيصة وعتبة بن عبد الرحمن الثعلبي والنضر بن سعيد بن عمرو الحرشي، حتى وقفوا على ربيعة، فقالوا لعمر بن الغضبان: أمّا نحن يا معشر ربيعة، فما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوّف عليكم مثلها؛ فانصرفوا. فقال عمر: ما كنت ببارح أبدًا حتى أموت؛ فقالوا: إن هذا ليس بمغنٍ عنك ولا عن أصحابك شيئًا، فأخذوا بعنان دابته فأدخلوه الكوفة.
قال عمر: حدثني علي بن محمد، عن سليمان بن عبد الله النوفلّي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا خراش بن المغيرة بن عطية مولى لبني ليث، عن أبيه، قال: كنت كاتب عبد الله بن عمر؛ فوالله إني لعنده يومًا وهو بالحيرة إذ أتاه آت فقال: هذا عبد الله بن معاوية قد أقبل في الخلق، فأطرق مليًا وجاءه رئيس خبّازيه، فقام بين يديه كأنه يؤذنه بإدراك طعامه، فأومأ إليه عبد الله: أن هاته. فجاء بالطعام، وقد شخصت قلوبنا، ونحن نتوقع أن يهجم علينا ابن معاوية ونحن معه، قال: فجعلت أتفقّده: هل أراه تغير في شيءمن أمره من مطعم أو مشرب أو منظر أو أمر أو نهي؟ فلا والله، ما أنكرت من هيئته قليلًا ولا كثيرًا؛ وكان طعامه إذا أتيَ به وضع بين كل اثنين منا صحفة. قال: فوضعت بيني وبين فلان صحفة، وبين فلان وفلان صحفة أخرى؛ حتى عدّ من كان على خوانه، فلما فرغ من غدائه ووضوئه، أمر بالمال فأخرج؛ حتى أخرجت آنية من ذهب وفضة وكسًا، ففرّق أكثر ذلك في قواده، ثم دعا مولى له أو مملوكًا كان يتبرّك به ويتفاءل باسمه - إمّا يدعى ميمونًا أو فتحًا أو اسمًا من الأسماء المتبرّك بها - فقال له: خذ لواءك، وامض إلى تلّ كذا وكذا فاركزه عليه؛ وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك. ففعل وخرج عبد الله وخرجنا معه؛ حتى صار إلى التلّ فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر عبد الله مناديًا، فنادى: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فوالله ما كان بأسرع من أن أتيَ برأس، فوضع بين يديه؛ فأمر له بخمسمائة، فدفعت إلى الذي جاء به، فلما رأى أصحابه وفاءه لصاحب الرأس، ثاروا بالقوم؛ فوالله ما كان إلا هنيهة حتى نظرت إلى نحو من خمسمائة رأس قد ألقيت بين يديه؛ وانكشف ابن معاوية ومن معه منهزمين، فكان أوّل من دخل الكوفة من أصحابه منهزمًا أبو البلاد مولى بني عبس وابنه سليمان بين يديه - وكان أبو البلاد متشيعًا - فجعل أهل الكوفة ينادونهم كل يوم؛ وكأنهم يعيرونهم بانهزامه؛ فجعل يصيح بابنه سليمان: امض ودع النواضح ينفقن. قال: ومرّ عبد الله بن معاوية فطوى الكوفة، ولم يعرّج بها حتى أتى الجبل.
وأما أبو عبيدة: فإنه ذكر أن عبد الله بن معاوية وإخوته دخلوا القصر فلما أمسوا قالوا لعمر بن الغضبان وأصحابه: يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا؛ وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم؛ فإن كنتم مقاتلين معنا قاتلنا معكم؛ وإن كنتم ترون الناس خاذلينا وإيّاكم؛ فخذوا لنا ولكم أمانًا؛ فما أخذتم لأنفسكم فقد رضينا لأنفسنا، فقال لهم عمر بن الغضبان: ما نحن بتاركيكم من إحدى خلّتين: إما أن نقاتل معكم، وإما أن نأخذ لكم أمانًا كما نأخذ لأنفسنا، فطيبوا نفسًا، فأقاموا في القصر، والزيدية على أفواه السكك يغدو عليهم أهل الشأم ويروحون، يقاتلونهم أيامًا. ثم إن ربيعة أخذت لأنفسها وللزيدّية ولعبد الله بن معاوية أمانًا؛ ألّا يتبعوهم ويذهبوا حيث شاءوا. وأرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان يأمره بنزول القصر وإخراج عبد الله بن معاوية، فأرسل إليه ابن الغضبان فرحّله ومن معه من شيعته ومن تبعه من أهل المدائن وأهل السواد وأهل الكوفة، فسار بهم رسل عمر حتى أخرجوهم من الجسر فنزل عمر من القصر.
ذكر خبر رجوع الحارث بن سريج إلى مرو
وفي هذه السنة وافى الحارث بن سريج مرو، خارجًا إليها من بلاد الترك بالأمان الذي كتب له يزيد بن الوليد، فصار إلى نصر بن سيار، ثم خالفه وأظهر الخلاف له، وبايعه على ذلك جمع كبير.
ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بعد قدومه عليه
ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أنّ الحارث سار إلى مرو، مخرجه من بلاد الترك، فقدمها يوم الأحد لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة، فتلقاه سلم بن أحوز، والناس بكشماهن، فقال محمد بن الفضل ابن عطية العبسي: الحمد لله الذي أقر أعيننا بقدومك، وردّك إلى فئة الإسلام وإلى الجماعة. قال: يا بني؛ أما علمت أنّ الكثير إذا كانوا على معصية الله كانوا قليلًا، وأنّ القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا كثيرًا! وما قرّت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله. فلما دخل مرو قال: اللهمّ إني لم أنوِ قطّ فى شىء مما بينى وبينهم إلّا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهمم. ولقاه نصر فأنزله قصر بخاراخذاه، وأجرى عليه نزلًا خمسين درهمًا في كلّ يوم، وكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر من كان عنده من أهله؛ أطلق محمد بن الحارث والألوف بنت الحارث وأمّ بكر؛ فلما أتاه ابنه محمد، قال: اللهمّ اجعله بارًا تقيًّا.
قال: وقدم الوضاح بن حبيب بن بديل على نصر بن سيّار من عند عبد الله بن عمر، وقد أصابه برد شديد، فكساه أثوابًا، وأمر له بقرى وجاريتين؛ ثم أتى الحارث بن سريج، وعنده جماعة من أصحابه قيام على رأسه، فقال له: إنّا بالعراق، نشهر عظم عمودك وثقله؛ وإني أحبّ أن أراه، فقال: ما هو إلا كبعض ما ترى مع هؤلاء - وأشار إلى أصحابه - ولكني إذا ضربت به شهرت ضربتني، قال: وكان في عموده بالشأمي ثمانية عشر رطلًا. قال: ودخل الحارث بن سريج على نصر، وعليه الجوشن الذي أصابه من خاقان، وكان خيّره بين مائة ألف دينار دنبكانيّة وبين الجوشن؛ فاختار الجوشن. فنظرت إليه المرزبانة بنت قديد؛ امرأة نصر بن سيار، فأرسلت إليه بجرز لها سمّور، مع جارية لها فقالت، أقرئي ابن عمي السلام، وقولي له: اليوم بارد فاستدفىء بهذا الجرز السمّور، فالحمد لله الذي أقدمك صالحًا. فقال للجارية: أقرئي بنت عمّي السلام، وقولي لها: أعارّية أم هدية؟ فقالت: بل هديّة؛ فباعه بأربعة آلاف دينار وقسمها في أصحابه. وبعث إليه نصر بفرش كثيرة وفرس، فباع ذلك كلّه وقسّمه في أصحابه بالسّويّة. وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة. وعرض نصر على الحارث أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وأرسل إلى نصر: إني لست من هذه اعلدنيا ولا من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في شيء؛ وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك.
وأرسل الحارث إلى الكرماني: إني أعطاني نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بالله عليه، وأعنتك إن ضمنت لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة.
وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه محمد بن حمران ومحمد ابن حرب بن جرفاس المنقريّان والخليل بن غزوان العدوي، وعبد الله ابن مجاعة وهبيرة بن شراحيل السعديّان، وعبد العزيز بن عبد ربّه الليثي، وبشر ابن جرموز الضبي، ونهار بن عبد الله بن الحتات المجاشعي، وعبد الله النباتي. وقال الحارث لنصر: خرجت من هذه المدينة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارًا للجور، وأنت تريدني عليه! فانضمّ إلى الحارث ثلاثة آلاف.
خلافة مروان بن محمد
وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بن محمد بالخلافة:
ذكر الخبر عن سبب البيعة له
حدثني أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد مولى عثمان بن عفان، قال: لما قيل: قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، فانتهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل عالية، وأتيَ بالغلامين مقتولين وبيوسف بن عمر فأمر بهم فدفنوا، وأُتي بأبي محمد السفياني محمولًا في كُبُوله، فسلم عليه بالخلافة، ومروان يومئذ يسلّم عليه بالإمرة، فقال له: مه، فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشده شعرًا قاله الحكم في السجن.
قال: وكانا قد بلغا، وولد لأحدهما وهو الحكم والآخر قد احتلم قبل ذلك بسنتين، قال: فقال الحكم:
ألا من مبلغٌ مروان عنّى ** وعمى الغمر طال بذا حنينا
بأني قد ظلمت وصار قومي ** على قتل الوليد متابعينا
أيذهب كلبهم بدمي ومالي ** فلا غثًا أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بني نزار ** كليث الغاب مفترس عرينا
ألم يحزنك قتل فتى قريش ** وشقهم عصي المسلمينا
ألا فاقر السلام على قريش ** وقيس بالجزيرة أجمعينا
وساد الناقص القدري فينا ** وألقى الحرب بين بني أبينا
فلو شهد الفوارس من سليم ** وكعب لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بني تميم ** لما بعنا تراث بني أبينا
أتنكث بيعتي من أجل أمي ** فقد بايعتم قبلي هجينا
فليت خئولتي من غير كلب ** وكانت في ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي ** فمروان أمير المؤمنينا
ثم قال: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان من أهل الشأم؛ فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير ورءوس أهل حمص، فبايعوه، فأمرهم أن يختاروا لولاية أجنادهم، فاختار أهل دمشق زامل بن عمرو الجبراني، وأهل حمص عبد الله بن شجرة الكندي، وأهل الأردنّ الوليد بن معاوية بن مروان، وأهل فلسطين ثابت بن نعيم الجذامي الذي كان استخرجه من سجن هشام وغدر به بأرمينية، فأخذ عليهم العهود المؤكّدة والأيمان المغلظلة على بيعته، وانصرف إلى منزله من حرّان.
قال أبو جعفر: فلما استوت لمروان بن محمد الشأم وانصرف إلى منزله بحرّان طلب الأمان منه إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهم، فقدم عليه سليمان - وكان سليمان بن هشام يومئذ بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة - فبايعوا مروان بن محمد.
ذكر الخبر عن انتقاض أهل حمص على مروان
وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشأم فحاربهم.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك
حدثني أحمد، قال حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح، قال: لما انصرف مروان إلى منزله من حران بعد فراغه من أهل الشأم لم يلبث إلا ثلاثة أشهر؛ حتى خالفه أهل الشأم وانتقضوا عليه؛ وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، وراسلَهم وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب؛ فشخص إليهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبي ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية السكسكي - وكان فارس أهل الشأم - وعصمة بن المقشعرّ وهشام بن مصاد وطفيل بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين ومائة. قال: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلًا، فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام؛ وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبيّة فيها قد ردموا أبوابها من داخل، وهو على عدّة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح في الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة؛ فلما كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وأفلت الأصبغ بن ذؤالة والسكسكي وأسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيّف وثلاثين رجلًا منهم، فأتيَ بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستمائة، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحوًا من غلوة. وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو أربعمائة، يقال له أبو هبّار القرشي فوجّه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث - واسمه مجزأة - وعمرو بن الوضّاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبّار وخيله من المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزّة من قرى اليمانية، ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزّة، فدلّ عليهما زامل، فأرسل إليهما، فقتلا قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما إلى مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين؛ حتى أتى مدينة طبريّة، فحاصر أهلها وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ ابن أخي عبد الملك بن مروان، فقاتلوه أيامًا، فكتب مروان إلى أبي الورد أن يشخص إليهم فيمدّهم. قال: فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزمًا، فجمع قومه وجنده؛ ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة رجال من ولده؛ وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه؛ - وهو بدير أيوب - جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيّب ثابت بن نعيم، فولّى الرماحس بن عبد العزيز الكناني فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة ابن ثابت - وكان أخبثهم - فلحق بمنصور بن جمهور، فأكرمه وولّاه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور؛ فوثب عليه فقتله، فبلغ منصورًا وهو متوجّه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها، ثم سمّره إليها، وبنى عليه.
قال: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقًا بعد شهرين، فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم؛ ثم حملوا إلى دمشق. فرأيتهم مقطّعين، فأقيموا على باب مسجدها؛ لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون بثابت، ويقولن: إنه أتى مصر؛ فغلب عليها، وقتل عامل مروان بها. وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله، وزوّجهما ابنتي هشام بن عبد الملك؛ أمّ هشام وعائشة، وجمع لذلك أهل بيته جميعًا؛ من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل الشأم بعثًا وقوّاهم، وولّى على كل جند منهم قائدًا منهم، وأمرهم باللّحاق بيزيد بن عمر بن هبيرة. وكان قبل مسيره إلى الشأم وجهه في عشرين ألفًا من أهل قنّسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيّره مقدّمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق؛ وقد استقامت له الشأم كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بن نعيم وبنيه والنّفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قال: فرأيتهم حين قتلوا وصلبوا. قال: واستبقى رجلًا منهم يقال له عمرو بن الحارث الكلبي، وكان - فيما زعموا - عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم، ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص ممايلي تدمر؛ بينهما مسيرة ثلاثة أيام؛ وبلغه أنهم قد عوّروا ما بينه وبينها من الآبار، وطمّوها بالصخر؛ فهيّأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه، فكلمه الأبرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما. وسألوه أن يعذر إليهم، ويحتجّ عليهم. فأجابهم إلى ذلك، فوجّه الأبرش إليهم أخاه عمرو بن الوليد، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجّه إليهم، ويؤجله أيامًا، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوّفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامّتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برّية كلب وباديتهم، وهم السكسكي وعضمة بن المقشعرّ وطفيل بن حارثة ومعاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته. وكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلي بمن بايعك منهم.
فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البريّة على سورية ودير اللثق، حتى قدم الرصافة ومعه سليمان بن هشام وعمه سعيد بن عبد الملك وإخوته جميعًا وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا بها يومًا، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم أيامًا ليقوى من معه من مواليه، ويجمّ ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى مروان، فنزل عند واسط على شاطىء الفرات في عسكر كان ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها، ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك ابن قيس الشيباني الحروري، فأقبل في نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم حتى حلّوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفي هذه السنة دخل الضحاك بن قيس الشيباني الكوفة.
ذكر الأخبار عن خروج الضحاك محكما ودخوله الكوفة ومن أين كان إقباله إليها
اختلف في ذلك من أمره، فأما أحمد، فإنه حدثني عن عبد الوهاب ابن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان سبب خروج الضحاك أنّ الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد ابن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة؛ فيهم الضحّاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشأم، فخرج بأرض كفر توثا، وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه؛ فلما تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري - وهو أحد قواده، وهو الذي هزم مروان - في نحو من مائة وخمسين فارسًا ليبيّته، فانتهى إلى عسكره وهم غارون، وقد أمر كلّ واحد منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به رأسه، ليعرف بعضهم بعضًا، فبكّروا في عسكرهم فأصابوهم في غرّة، فقال الخيبري:
إن يك بسطام فإني الخيبري ** أضرب بالسيف وأحمي عسكري
فقتلوا بسطامًا وجميع من معه إلّا أربعة عشر، فلحقوا بمروان، فكانوا معه فأثبتهم في روابطه، وولّى عليهم رجلًا منهم يقال له مقاتل، ويكنى أبا النعثل. ثمّ مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بها واختلاف أهل الشأم، وقتال بعضهم بعضًا مع عبد الله بن عمر، والنضر بن سعيد الحرشي - وكانت اليمانية من أهل الشأم مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضرّية، مع ابن الحرشي بالكوفة؛ فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشيّة.
قال: فمات سعيد بن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه؛ واستخلف الضحاك بن قيس من بعده؛ وكانت له امرأة تسمى حوماء، فقال الخيبري في ذلك:
سقى الله يا حوماء قبر ابن بهدل ** إذا رحل السارون لم يترحّل
قال: واجتمع مع الضحاك نحوٌ من ألف ثم توّنجه إلى الكوفة، ومرّ بأرض الموصل، فاتّبعه منها ومن أهل الجزيرة نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضرّية، وبالحيرة عبد الله بن عمر في اليمانية، فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة، فلما دنا إليه الضحاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشي، فصار أمرهم واحدًا، وبدًا على قتال الضحاك، وخندقًا على الكوفة، ومعهما يومئذ من أهل الشأم نحو من ثلاثين ألفًا، لهم قوّة وعدّة، ومعهم قائد من أهل قنّسرين، يقال له عبّاد بن الغزيّل في ألف فارس، قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي، فبرزوا لهم، فقاتلوهم، فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عباس الكندي، وهزموهم أقبح هزيمة، ولحق عبد الله بن عمر في جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشي - وهو النضر - وجماعة المضرّية وإسماعيل ابن عبد الله القسري إلى مروان، فاستولى الضحاك والجزريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد. ثم استخلف الضحاك رجلًا من اصحابه - يقال له ملحان - على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في عظم أصحابه إلى عبد الله بان عمر بواسط، فحاصره بها؛ وكان معه قائد من قوّاد أهل قنّسرين يقال له عطية الثعلبي - وكان من الأشدّاء - فلما تخوّف محاصرة الضحاك خرج في سبعين أو ثمانين من قومه متوجهًا إلى مروان، فخرج على القادسيّة، فبلغ ملحان ممره، فخرج في أصحابه مبادرًا يريده. فلقيه على قنطرة السَيلحين - وملحان قد تسرع في نحو من ثلاثين فارسًا - فقاتله فقتله عطية وناسًا من أصحابه، وانهزم بقيتهم حتى دخلوا الكوفة، ومضى عطية حتى لحق فيمن معه مروان.
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى، فإنه قال: حدثني أبو سعيد، قال: لما مات سعيد بن بهدل المرّي، وبايعت الشراة للضّحاك، أقام بشهرزور وثابت إليه الصفرية من كلّ وجه حتى صار في أربعة آلاف، فلم يجتمع مثلهم لخارجي قطّ قبله. قال: وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر، فانحطّ مروان من أرمينية حتى نزل الجزيرة، وولّى العراق النضر بن سعيد - وكان من قوّاد ابن عمر - فشخص إلى الكوفة، ونزل ابن عمر الحيرة، فاجتمعت المضرّية إلى النضر واليمانية إلى ابن عمر، فحاربه أربعة أشهر، ثم آمدّ مروان النضر بابن الغزيل، فأقبل الضحاك نحو الكوفة وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، فأرسل ابن عمر إلى النضر: هذا لا يريد غيري وغيرك، فهلمّ نجتمع عليه فتعاقدا عليه، وأقبل ابن عمر، فنزل تلّ الفتح وأقبل الضحاك ليعبر الفرات، فأرسل إليه ابن عمر حمزة بن الأصبغ بن ذؤالة الكلبي ليمنعه من العبور، فقال عبيد الله بن العباس الكندي: دعه يعبر إلينا، فهو أهون علينا من طلبه. فأرسل ابن عمر إلى حمزة يكفّه عن ذلك، فنزل ابن عمر الكوفة، وكان يصلي في مسجد الأمير بأصحابه، والنضر بن سعيد في ناحية الكوفة يصلّي بأصحابه، لا يجامع ابن عمر ولا يصلي معه؛ غير أنهما قد تكافآ واجتمعا على قتال الضحاك، وأقبل الضحاك حين رجع حمزة حتى عبر الفرات، ونزل النخيلة يوم الأربعاء في رجب سنة سبع وعشرين ومائة، فخفّ إليهم أهل الشأم من أصحاب ابن عمر والنضر، قبل أن ينزلوا، فأصابوا منهم أربعة عشر فارسًا وثلاث عشرة امرأة. ثم نزل الضحاك وضرب عسكره، وعبّى أصحابه، وأراح، ثم تغادوا يوم الخميس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكشفوا ابن عمر وأصحابه، وقتلوا أخاه عاصمًا؛ قتله البرذون بن مرزوق الشيباني، فدفنه بنو الأشعث بن قيس في دارهم، وقتلوا جعفر بن العباس الكندي أخا عبيد الله، وكان جعفر على شرطة عبد الله بن عمر، وكان الذي قتل جعفرًا عبد الملك بن علقمة بن عبد القيس، وكان جعفر حين رهقه عبد الملك نادى ابن عمّ له يقال له شاشلة، فكرّ عليه شاشلة، وضربه رجل من الصفرّية، ففلق وجهه.
قال أبو سعيد: فرأيته بعد ذلك كأنّ له وجهين، وأكبّ عبد الملك على جعفر فذبحه ذبحًا، فقالت أم البرذون الصفرية:
نحن قتلنا عاصمًا وجعفرا ** والفارس الضبّي حين أصحرا
ونحن جئنا لخندق المقعرا
فانهزم أصحاب ابن عمر، وأقبل الخوارج، فوقفوا على خندقنا إلى الليل ثم انصرفوا، ثم تغادينا يوم الجمعة؛ فوالله ما تتاممنا حتى هزمونا، فدخلنا خنادقنا، وأصبحنا يوم السبت؛ فإذا الناس يتسلللون ويهربون إلى واسط، ورأبوا قومًا لم يروا مثلهم قطّ أشدّ بأسًا؛ كأنهم الأسد عند أشبالها، فذهب ابن عمر ينظر أصحابه، فإذا عامّتهم قد هربوا حتحت الليل، ولحق عظمهم بواسط؛ فكان ممّن لحق بواسط النضر بن سعيد وإسماعيل بن عبد الله ومنصور ابن جمهور والأصبغ بن ذؤالة وابناه: حمزة وذؤالة، والوليد بن حسان الغساني وجميع الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن بقي من أصحابه مقيمًا لم يبرح.
ويقال إنّ عبد الله بن عمر لمّا وليَ العراق ولّى الكوفة عبيد الله بن العباس الكندي وعلى شرطه عمر بن الغضبان بن القبعثري، فلم يزالا على ذلك حتى مات يزيد بن الوليد، وقام إبراهيم بن الوليد، فأقرّ ابن عمر على العراق، فولّى ابن عمر أخاه عاصمًا على الكوفة، وأقرّ ابن الغضبان على شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بن معاوية فاتّهم عمر بن الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بن معاوية ولّى عبد الله بن عمر عمرَ بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الكوفة، وعلى شرطه الحكم بن عتيبة الأسدي من أهل الشأم، ثم عزل عمر بن عبد الحميد عن الكوفة، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بن حسان الغساني، ثم ولّى إسماعيل بن عبد الله القسري وعلى شرطه أبان بن الوليد، ثم عزل إسماعيل وولّى عبد الصمد بن أبان بن النعمان بن بشير الأنصاري، ثم عزل فولّى عاصم بن عمر، فقدم عليه الضحاك بن قيس الشيباني.
ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بن عبد الله القسري في القصر وعبد الله بن عمر بالحيرة وابن الحرشي بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة، وولّى ملحان بن معروف الشيباني عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة - حروري - فخرج ابن الحرشي يريد الشأم، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي فولى الضحاك على الكوفة حسان فولّى حسان ابنه الحارث على شرطه.
وقال عبد الله بن عمر يرثي أخاه عاصمًا لما قتله الخوارج:
رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ** غداة رمى للقوس في الكف منزعا
رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصمًا ** أخًا كان لي حرزًا ومأوًى ومفزعا
فإن تلك أحزان وفائض عبرة ** أذابت عبيطًا من دم الجوف منقعًا
تجرعتها في عاصم واحتسيتها ** فأعظم منها ما احتسى وتجرّعا
فليت المنايا كن خلفن عاصمًا ** فعشنا جميعًا أو ذهبن بنا معا
وذكر أن عبد الله بن عمر يقول: بلغني أنّ عين بن عين بن عين بن عين يقتل ميم بن ميم بن ميم بن ميم، وكان يأمل أن يقتله؛ فقتله عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا فلحقوا بواسط، قال لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب الناس! قال: أتلوّم وأنظر، فأقام يومًا أو يومين لا يرى إلا هاربًا، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرّحيل إلى واسط، وجمع خالد بن الغزيّل أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بن العباس الكندي إلى ما لقيَ الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبايعه؛ وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السندي يعيّره باعتباعه الضحاك، وقد قتل أخاه:
قل لعبيد الله لو كان جعفر ** هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتبع المرّاق والثّأر فيهم ** وفي كفه عضب الذباب صقيل
إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ** أباك، فماذا بعد ذاك تقول!
فلما بلغ عبيد الله بن العباس هذا البيت من قول أبي عطاء، قال أقول: أعضّك الله ببظر أمّك.
فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ** وطالب وتر، والذليل ذليل
تركت أخا شيبان يسلب بزّه ** ونجّاك خوّار العنان مطول
قال: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بن يوسف بواسط - فيما قيل - في اليمانية ونزل النضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بن نباتة وابناه محمد ونباتة في المضرّية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة والحيرة للضّحاك والشّراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن عمر والنّضر ابن سعيد الحرشي إلى ما كانت عليه قبل قدوم الضحاك يطلب النضر أن يسلم إليه عبد الله بن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، ويأتي عبد الله بن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النضر؛ وذلك أن جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصّبًا على الوليد حيث أسلم خالد بن عبد الله القسري إلى يوسف بن عمر حتى قتله؛ وكانت القيسية مع مروان، لأنه طلب بدم الوليد - وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمّه زينب بنت محمد بن يوسف ابنة أخي الحجاج - فعادت الحرب بين ابن عمر والنّضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيباني في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضًّا في الثراة إلى واسط، متبعًا لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار. فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت لمتهما عليه واحدة؛ ما انت بالوفة؛ فجعل النضر وقوّاده يعبرون الجسر، فيقاتلون الضحا وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون مع ابن عمر؛ فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا يومًا من تل الأيام، فاشتدّ قتالهم، فشدّ منصور بن جمهور على قائد من قواد الضحا، ان عظيم القدر في الشراة، يقال له عرمة بن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله. وبعث الضحاك قائدًا من قواده يدعى شوالًا من بني شيبان إلى باب الزاب، فقال اضرمه عليهم نارًا، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوّال ومعه الخيبري؛ أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بن علقمة، فقال لهم أين تريدون؟ فقال له شوّال نريد باب الزاب، أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فقال: أنا معك؛ فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من قوّاد الضحاك أيضًا وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضروه، فأخرج لهم عبد الله بن عمر منصور بن جمهور فى ستمائة فارس من كلب، فقاتلوهم أشد القتال، وجعل عبد الملك بن علقمة يشد عليهم وهو حاسر؛ فقتل منهم عدّة، فنظر إليه منصور بن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل عاتقه فقطعه حتى بلغ حرفقته؛ فخرّ ميّتًا، وأقبلت امرأة من الخوارج شادّة؛ حتى أخذت بلجام منصور بن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين، فضرب يدها - ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها - ونجا. فدخل المدينة الخيبري يريد منصورًا، فاعترض عليه ابن عمّ له من كلب، فضربه الخيبري فقتله؛ فقال حبيب بن خدرة مولى بني هلال - وكان يزعم أنه من أبناء ملوك فارس - يرثي عبد الملك بن علقمة:
وقائلة ودمع العين يجري ** على روح ابن علقمة السلام
أأدركك الحمام وأ، ت سار ** وكل فتى لمصرعه حمام
فلا رعش اليدين ولا هدان ** ولا وكل اللقاء ولا كهام
وما قتل على شار بعار ** ولكن يقتلون وهم كرام
طغام الناس ليس لهم سبيل ** شجاني يا بن علقمة الطغام
ثم إن منصورًا قال لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قطّ - يعني الشراة - فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا، واجعلنم بينك وبين مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلّوا عنا ومضوا إلى مروان، فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحًا يموضعك هذا؛ فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمنًا، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته جامًا مستريحًا؛ مع أن أمره وأمرهم سيطول، ويوسعونه شرًّا. فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوّم وننظر، فقال: أي شيء ننتظر؟ فما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقرّ، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدّهم وشغلناهم عنه؟ أما أنا فخارج لاحقٌ بهم. فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام الله - قال: وهي محنتهم - فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمتُ، فدعوا له بغداء فتغدّى، ثم قال لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزاب؟ يعني يوم ابن علقمة - فنادوا يا أمّ العنبر، فخرجت إليهم؛ فإذا أجمل الناس، فقالت له: أنت منصور؟ قال: نعم، قالت: قبح الله سيفك، أين ما تذكر منه؟ فوالله ما صنع شيئًا، ولا ترك - تعني ألّا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة - وكان منصور لا يعلم يومئذ أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قال: إن لها زوجًا - وكانت تحت عبيدة بن سوّار التغلبي - قال: ثم إنّ عبد الله بن عمر خرج إليهم في آخر شوّال فبايعه.
خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد
وفي هذه السنة - أعني سنة سبع وعشرين ومائة - خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك بن مروان مروان بن محمد ونصب الحرب.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني استأذنه سليمان بن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح أمره؛ فأذن له، ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوّادهم؛ حتى جاءوا الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه عند أهل الشأم وأولى بالخلافة، فاستزلّه الشيطان، فأجابهم، وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل الشأم فانقضوا إليه من كلّ وجه وجند؛ وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفًا إليه، وكتب إلى ابن ههبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهني من موالى سليمان وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريّهم فتحصّنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من العهود والمواثيق! فردّوا على رسله: إنا مع سليمان على من خالفه. فردّ إليهم: إنّي أحذرّكم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممّن تبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فتحلّوا بأنفسكم؛ ولا أمان لكم عندي. فأرسلوا إليه: إنا سنكفّ. ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتّبعه من أخريات الناس وشذّان الجند؛ فيسلونهم خيولهم وسلاحهم. وبلغه ذلك، فتحرّق عليهم غيظًا. واجتمع إلى سليمان نحوٌ من سبعين ألفًا من أهل الشأم والذّكوانية وغيرهم، وعسكر في قرية لبنى زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها. فلما دنا منه مروان قدّم السكسكي في نحو سبعة آلاف، ووجّه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدّتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديدًا، والتقى السكسكي وعيسى، وكلّ واحد منهما فارس بطل، فطّعنا حتى تقصّفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي مقدّم فرس صاحبه، فسقط لجامه في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه السكسكي، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه فأسره، وبارز فارسًا من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد الصقالبة. فأسره، وانهزمت مقدّمة مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى وطوى على تعبية، ولم ينزل حتى انتهى إلى سليمان، وقد تعبّأ له، وتهيّأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، وأتبعتهم خيوله تقتلهم وتأسرهم؛ وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفًا، وأمر ابنيه فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألّا يأتوا بأسير إلّا قتلوه إلّا عبدًا مملوكًا، فأحصيَ من قتلاهم يومئذ نيّف على ثلاثين ألفًا.
قال: وقتل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له خالد بن هشام المخزومي - وكان بادنًا كثير اللحم - فأدنيَ إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق؛ أما كان لك في خمر المدينة وقيانها ما يكفك عن الخروج مع الخرّاء تقاتلني! قال: يا أمير المؤمنين، أكرهني، فأنشدك الله والرّحم! قال: وتكذب أيضًا! كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله. فف وادّعى كثير من الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكفّ عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم.
قال: ومضى سليمان مفلولًا حتى انتهى إلى حمص؛ فانضمّ إليه من أفلت ممّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجّه مروان يوم هزمه قوّادًا وروابط في جريدة خيل، وتقدّم إليهم أن يسبقوا كلّ خبر؛ حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها إلى أن يأتيهم، حنقًا عليهم، فأتوهم فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى ترمّننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثّل بهم واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدّتهم جميعًا نحوًا من ثلثمائة. ثم شخص إلى سليمان ومن تجمّع معه بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان! هلمّوا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعًا. فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطّن نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولّى سليمان على شطرهم معاوية السكسكي، وعلى الشطر الثاني ثبيتًا البهراني. فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيّتوه إن أصابوا منه غرّة، وبلغه خبرهم وما كان منهم، فتحرّز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية، فراموا تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية تسمى تل منّس من جبل السمّاق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبية، فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنّبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، والتقى السكسكي وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلمي عن فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيرًا وهو واقف؛ فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منّا! فقال: استبقني فإني فارس العرب، قال: كذبت؛ الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل ممّن صبر معه نحو من ستة آلاف.
قال: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر، ونصب عليها نيفًا وثمانين منجنيقًا، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار وهم في ذلك يخرجون إليه كلّ يوم فيقاتلونه، وربما بيّتوا نواحي عسكره، وأغاروا على الموضع الذي يطمعون في إصابة العورة والفرضة منه. فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمّنهم على أن يمكنوه من سعيد بن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكي، كان يغير على عسكرهم، ومن حبشي كان يشتمه ويفتري عليه؛ فأجابهم إلى ذلك وقبله. وكانت قصّة الحبشي أنه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم! وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثّلوا به، وأمر بقتل المتسمّي السكسكي والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجّهًا إلى الضحاك.
وأما غير أبي هاشم مخلّد بن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بن هشام بعد انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلّد؛ والذي ذكره من ذلك أنّ سليمان بن هشام بن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هاربًا؛ حتى صار إلى عبد الله بن عمر، فخرج مع عبد الله بن عمر إلى الضحاك، فبايعه، وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضّض عليه، وقال: أنا سائر معكم في موالي ومن اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعي في بيعتهم الضحاك:
ألم تر أن الله أظهر دينه ** فصلّت قريش خلف بكر بن وائل
فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بن سعيد، فعلم أنه لا طاقة له بهم؛ فارتحل من ساعته يريد مروان بالشأم.
وذكر أبو عبيدة أن بيهسًا أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين ومائة، استقام لمروان الشأم ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر ابن هبيرة، فوجّهه عاملًا على العراق، وضمّ إليه أجناد الجزيرة، فأقبل حتى نزل سعيد بن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك. قال: فجعل الضحاك لنا ميسان وف إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي. واستعمل ابن عمر عليها مولاه الحكم بن النعمان.
فأما أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بن عمر صالح الضحاك على أنّ بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها، وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز وفارس، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفر توثا من أرض الجزيرة.
وقال أبو عبيدة: تهيأ الضحاك ليسير إلى مروان، ومضى النضر يريد الشأم، فنزل القادسيّة، وبلغ ذلك ملحان الشيباني عامل الضحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلّة من الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النضر. وقال ابن خدرة يرثيه وعبد الملك بن علقمة:
كائن كملحان من شار أخي ثقة ** وابن علقمة المستشهد الشاري
من صادق كنت أصفيه مخالصتي ** فباع داري بأعلى صفقة الدار
إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ** أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري
وبلغ الضحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنّى بن عمران من بني عائدة، ثم سار الضحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحطّ ابن هبيرة من نهر سعيد حتى نزل غزّة من عين التمر، وبلغ ذلك المثنّى بن عمران العائذي، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه منصوور بن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضحاك خلافًا على مروان، فالتقوا بغزّة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا أيامًا متوالية؛ فقتل المثنى وعزيز وعمرو - وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك - وهرب منصور، وانهزمت الخوارج، فقال مسلم حاجب يزيد:
أرت للمثنّى يوم غزّة حتفه ** وأذرت عزيرًا بين تلك الجنادل
وعمرًا أزارته المنية بعد ما ** أطافت بمنصور كفات الحبائل
وقال غيلان بن حريث في مدحه ابن هبيرة:
نصرت يوم العين إذ لقيتا ** كنصر داود على جالوتا
فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بن جمهور، أقبل لا يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعًا من اليمانية والصفرية ومن كان تفرّق منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعًا، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم، فقاتلهم أيامًا ثم هزمهم، وقتل البرذون بن مرزوق الشيباني، وهرب منصور ففي ذلك يقول غيلان بن حريث:
ويوم روحاء العذيب دففوا ** على ابن مرزوق سمام مزعف
قال: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضحاك ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بن سوّار التغلبي، فوجّهه إليهم، وانحطّ ابن هبيرة يريد واسطًا وعبد الله بن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن بن بشير العجلي، وأقبل عبيدة بن سوّار مغذًا في فرسان أصحابه، حتى نزل الصراة، ولحق به منصور بن جمهور؛ وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم فالتقوا بالصّراة في سنة سبع وعشرين ومائة.
وفي هذه السنة توجّه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظة وقحطبة بن شبيب - فيما ذكر - إلى مكة، فلقوا إبراهيم بن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكًا ومتاعًا كثيرًا، فأمرهم بدفع ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بن محمد: إنّ هذا مولاك.
وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم بن محمد يخبره أنه في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن سليمان، وهو رضًا للأمر. وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه؛ وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدّقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مروان على المدينة ومكة والطائف؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي، وكان من أمره وأمر عبد الله ابن عمر والضحاك الحروري ما قد ذكرت قبل. وكان بخراسان نصر بن سيار وبها من ينازعه فيها كالكرماني والحارث بن سريج.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة
ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان
فمما كان فيها من الأحداث قتل الحارث بن سريج بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك
قد مضى ذكر كتاب يزيد بن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بن سيار، وما كان من نصر إليه، واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له. فذكر علي بن محمد عن شيوخه، أنّ ابن هبيرة لما وليَ العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه. فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى البيعة أتاه سلم بن أحوز وخالد بن هريم وقطن بن محمد وعبّاد بن الأبرد بن قرّة وحمّاد بن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصيّر نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما أتى بك لئلا يجترىء عليك عدوّك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، وأطمعت فيهم عدوّهم، فنذكّرك الله أن تفرّق جماعتنا! فقال الحارث: إنّي لأرى في يدي الكرماني ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى حائط لحمزة بن أبي صالح السلمي بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر. فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب بن داود، وأمر جهم بن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتابًا سيّر فيه الحارث على الناس، فانصرفوا يكبّرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم بن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بن بسطام البرجمي، فوقع بينه وبين مغلّس بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم، فعزله. واستعمل إبراهيم بن عبد الرحمن، واختاروا رجالًا يسمون لهم قومًا يعملون بكتاب الله. فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من العمال، فيولّيهم الثغرين؛ ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما ما يرضونه من السير والسنن. فاستأذن سلم بن أحوز نصرًا في الفتك بالحارث، فأبى وولّى إبراهيم الصائغ، وكان يوجّه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود؛ فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أمر بني أميّة، فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر؛ فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك؛ وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني. فقال نصر: فقد استبان أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فأذكرك الله في عشرين ألفًا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم. وعرض نصر على الحارث أن يولّيه ما وراء النهر، ويعطيه ثلثمائة ألف؛ فلم يقبل؛ فقال له نصر: فإن شئت فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك، وإن شئت فخلّ بيني وبينه؛ فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك؛ فإذا جزت الري فأنا في طاعتك.
قال: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن يحكم بينهم مقاتل بن حيان وجهم بن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون الأمر شورى. فلم يقبل نصر. وكان جهم يقصّ في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصرًا، ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصيّر سلمًا في المدينة في منزل ابن سوّار، وضمّ إليه الرابطة وإلى هدبة بن عامر الشعراوي فرسًا، وصيّره في المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بن يزيد بن حيّان السلمي، وحوّل السلاح والدّواوين إلى القهندز، واتّهم قومًا من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من اتّهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولّاهم واصطنعهم عن يمينه؛ ثم تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم؛ كيف أظفر الله به؛ ثم قال: أحمد الله وأذم من على يساري؛ وليت خراسان فكنت يا يونس بن عبد ربّه ممن أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بن عبد الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرجالة، فوليتكم إذ ووليتكم واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقلّ، ثم ملأتم الحارث علي، فهلّا نظرتم إلى هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء الذين عن يمينه. فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم.
وقدم على نصر من كورخراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة؛ منهم عاصم بن عمير الصريمي وأبو الذيال الناجي وعمرو الفادوسبان السغدي البخاري وحسان بن خالد الأسدي من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن معقل الليثي ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسعد الصغير في فرسان.
وكتب الحارث بن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه قوم كثير؛ فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه الحارث، فأتى نصرًا هبيرة بن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا الحسن بن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بن سريج عدوّ الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وأرسل من ليلته عاصم بن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بن عبد الرحمن: ما نفعل شعارَنا غدا؟ فقال مقاتل بن سليمان: إن الله بعث نبيًا فقاتل عدوًا له، فكان شعاره " حم لا ينصرون "، فكان شعارهم " حم لا ينصرون "، وعلامتهم علي الرماح الصوف.
وكان سلم بن أحوز وعاصم بن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بن مالك والجماعة في طرف الطخارّية ويحيى بن حضين وربيعة في البخاريّين. ودلّ رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا منصور - بشعار الحارث - وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بن مسعود الناجي، فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا قبة سلم بن أحوز فقاتلهم عصمة بن عبد الله الأسدي وخضر بن خالد والأبرد بن داود من آل الأبرد بن قرّة، وعلى باب بالين حازم بن حاتم، فقتلوا كلّ من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع؛ ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع ومنزل إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلمي إلّا الدوابّ والسلاح؛ وذلك ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.
قال: وأتى نصرًا رسول سلم يخبره دنوّ الحارث منه، وأرسل إليه: أخّره حتى نصبح، ثم بعث إليه أيضًا محمد بنم قطن بن عمران الأسدي، أنه قد خرج عليه عامّة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم.
وكان الذي أهاج القتال، أنّ غلامًا للنضر بن محمد الفقيه يقال له عطية، صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب اعلحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا، فرمى غلامًا لعاصم في عينه فمات؛ فقاتلهم ومعه عقيل بن معقل فهزمهم، فانتهوا إلى الحارث وهو يصلّي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم؛ فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخاريّة، فدنا منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه؛ فضرب الحارث أحدهما بعموده فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيّان، فنهاه عن القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بن عامر الحماني ومحمد بن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم؛ فلما دنا منه رمى به فرسه؛ فدخل حانوتًا، وضرب برذونه على مؤخره فنفق. قال: وركب سلم حين أصبح إلى باب نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر مناديًا، فنادى: من جاء برأس فله ثلثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد الله بن مجّاعة بن سعد، فقتلوه. وانتهى سلم إلى عسكر الحارث؛ وانصرف إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهيًا حتى أدخل المدينة على هذا الدبّوسي؛ فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بن بسام إلى باب درسنكان - وهو القهندز - فوجده مردومًا، فصعد عبد الله بن مزيد الأسدي السور ومعه ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكّل بالباب أبا مطهّر حرب بن سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بن سريج، واسمه يزيد بن داود، وأتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلًا من الجزّارين كان دلّ الحارث على النقب؛ فقال المنذر الرقاشي ابن عمّ يحيى بن حضين، يذكر صبر القاسم الشيباني:
ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ** في عصبة قاتلوا صبرًا فما ذعروا
هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ** حتى أتاهم غياث الله فانتصروا
فقاسم بعد أمر الله أحرزها ** وأنت في معزل عن ذاك مقتصر
ويقال: لما غلظ أمر الكرماني والحارث أرسل نصر إلى الكرماني، فأتاه على عهد، وحضرهم محمد بن ثابت القاضي ومقدام بن نعيم أخو عبد الرحمن ابن نعيم الغامدي وسلم بن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرماني أن أسعد الناس بذلك؛ فوقع بين سلم بن أحوز والمقدام كلام؛ فأغلظ له سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغدي بن عبد الرحمن الحزمي، فقال سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مست السيف لم ترجع إليك يدك، فخاف الكرماني أن يكون مكرًا من نصر، فقام وتعلقوا به، فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة.
قال فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إمامًا، فأرسل إليه نصر: كيف يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك وغزوت المسلمين بالمشركين! أتراني أتضرّع إليك أكثر مما تضرّعت!. قال فأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهميّة، فقال لسلم: إن لي ولثًا من ابنك حارث؛ قال: ما كان ينبغي له أن يفعل؛ ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إلي عيسى بن مريم ما نجوت؛ والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك؛ والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت؛ وأمر عبد ربّه بن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز - وكان جهم يكنى أبا محرز. وأسر يومئذ هبيرة بن شراحيل وعبد الله بن مجّاعة فقال: لا أبقى الله من استبقاكما، وإن كنتما من تميم. ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند دار قديد بن منيع فقتل. قال: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه حاتمًا إلى الكرماني، فقال له محمد بن المثنّى: هما عدوّاك، دعهما يضطربان؛ فبعث الكرماني السغدي بن عبد الرحمن الحزمي معه، فدخل السغدي المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازة الكرماني، ومع الكرماني داود ابن شعيب الجدّاني ومحمد بن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى بهم الكرماني، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بن محمد بن عزيز أبو خلف، فلمّا كان الغد سار الكرماني إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل سعد بن سلم المراغي، وأخذوا علم عثمان بن الكرماني؛ فأوّل من أتى الكرماني بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة النضر ابن غلّاق السغدي وعبد الواحد بن المنخّل. ثم أتاه سوادة بن سريج وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذري، أتوه ببيعة الحارث بن سريج.
وأول من بايع الكرماني يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني، فوجه الكرماني إلى الحارث بن سريج سورة بن محمد الكندي إلى أسمانير والسغدي بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعبًا أو صعيبًا، وصبّاحًا، فدخلوا المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرماني إلى باب حرب بن عامر، ووجّه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال. قال: والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد؛ حتى وصلوا إلى الكرماني، فأخذ اللواء بيده فقاتل به، وحمل الخضر بن تميم وعليه تهجفاف، فرموه بالنّشاب، وحمل عليه حبيش مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه؛ فشبّ به فرسه، وحمل فطعن حبيشًا فأذراه عن برذونه، فقتله رجّالة الكرماني بالعصي.
قال: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرسًا، وصرع تميم ابن نصر، فأخذوا له برذونين؛ أخذ أحدهما السغدي بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر الخضر، ولحق الخضر بسلم بن أحوز، فتناول من ابن أخيه عمودًا فضربه فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بن الحدّاد إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدي، وكان يحمى أصحاب نصر؛ فأدركه صالح بن القعقاع الأزدي، فقال له عصمة: تقدّم يا مزني، فقال صالح: أثبت يا حصي - وكان عقيمًا - فعطف فرسه فشبّ فسقط، فطعنه صالح فقتله.
وقاتل ابن الديليمري، وهو يرتجز؛ فقتل إلى جنب عصمة. وقتل عبيد الله بن حوتمة السلمي، رمى مروان البهراني بجرزة؛ فقتل؛ فأتى الكرماني برأسه فاسترجع - وكان له صديقًا - وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم فعرفه فتركه. واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرّية اليمن، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن؛ قد دخل الحارث السوق، وقتل ابن الأقطع؛ ففتّ في أعضاد المضرّية. وكان أوّل من انهزم إبراهيم بن بسام الليثي، وترجّل تميم بن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن بن جامع الكندي، وقتلوا هيّاجًا الكلبي ولقيط بن أخضر؛ قتله غلام لهانىء البزّار.
قال: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهّبوا للقتال، وهدموا الحيطان ليتّسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بن قطن إلى الكرماني: إنك لست مثل هذا الدبّوسي، فاتّق الله، لا تشرع في الفتنة. قال: وبعث تميم بن نصر شاكريّته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع؛ فرماهم أصحاب الكرماني من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بن معقل لمحمد بن المثنّى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرماني! هلّم نرجع إلى بلدنا بطخارستان، فقال محمد: إنّ نصرًا لم يفِ لنا، فلسنا ندع حربه. وكان أصحاب الحراث والكرماني يرمون نصرًا وأصحابه بعرّادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم يحوّله، فوجه إليهم سلم ابن أحوز فاقتلهم؛ فكان أوّل الظفر لنصر، فلما رأى الكرماني ذلك أخذ لواءه من محمد بن محمد بن عميرة، فقاتل به حتى كسره. وأخذ محمد بن المثنى والزّاغ وحطّان في كارابكل، حتى خرجوا على الرزيق، وتميم بن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بن المثنى لتميم حين انتهى إليه: تنحّ يا صبي. وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا أعين مولى نصرن وقتلوه؛ وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفرًا من شاكريّته. وحمل الخضر بن تميم على سلم بن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز على صدره وأخرى على منكبه؛ وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في ثمانية، فمنعهم من دخول السوق.
قال: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيّرونني بانهزامكم؛ وأنا كافّ؛ فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني، فبعث إليه نصر يزيد النحوي أو خالدًا يتوثّق منه؛ أن يفي له بما أعطاه من الكفّ. ويقال: إنما كفّ الحارث عن قتال نصر أن عمران بن الفضل الأزدي وأهل بيته وعبد الجبار العدوي وخالد بن عبيد الله بن حبيب العدوي وعامة أصحابه نقموا على الكرماني فعله بأهل التبوشكان؛ وذلك أن أسدًا وجهّه إليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلًا وألقاهم في نهر بلخ، وقطع أيدي ثلثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد، فنقموا على الحارث عونه الكرماني، وقتاله نصرًا. فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: إن مضر، لا تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرماني؛ لا يتفقان على أمر، فالرأي تركهما؛ فإنهما يختلفان. وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدوي وعمر بن أبي الهيثم الصغدي، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرماني؟ فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسيًا؛ ما أحلك هذا المحلّ! فلما رجع نصر إلى مرو أمر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام بها، ومعه مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسلم بن أحوز وسنان الأعرابي، فقال نصر لنسائه: إنّ الحارث سيخلفني فيكنّ ويحميكنّ. فلما قرب من نيسابور أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمرًا قد كان الله أطفأه؟ وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامري، فأرسل إليه نصر بن سيار سنانًا الأعرابي ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز، فكلموهم فخرجوا، فتلقوا نصرًا بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله فداك! هذا الحي من قيس؛ فإنما كانت عاتبة، فقال نصر:
أنا ابن خندف تنميني قبائلها ** للصالحات وعمّي قيس عيلانا
وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بن عبد ربّه ومحمد بن قطن وخالد بن عبد الرحمن في نظرائهم.
قال: وتقدّم عبّاد بن عمر الأزدي وعبد الحكيم بن سعيد العوذي وأبو جعفر عيسى بن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم: أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك؛ طالت ولايتها في ولايتك، وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء. فقال عبّاد: أتستقبل الأمير بنهذا الكلام! قال: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بن جرز - وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية، فإنه قد أطلّ أمرٌ عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين. وجّهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر علي. فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد. فوصله نصر. قال: وكان سلم بن أحوز يقول: ما رأيت قومًا أكرم إجابةً، ولا أبذل لدمائهم من قيس.
قال: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرمانىّ، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقًا لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بن حيّان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرماني في خيمة في العسكر، فكلّمه معمّر بن مقاتل بن حيّان - أو معمر بن حيان - فخلاه، فأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرماني الناس، وآمنهم غير محمد بن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بن أبي داود بن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه؛ ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرماني في مصلّى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهمّ الكرماني به، ثم كفّ عنه، فأقام أيامًا. وخرج بشر بن جرموز الضبي بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنّة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذْ كنت مع الكرماني، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبيّة، فلست مقاتلًا معك. واعتزل في خمسة آلاف وخمسمائة - ويقال في أربعة آلاف - وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحقّ ولا نقاتل إلّا من يقاتلنا. وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني، وبعث الحارث ابنه محمدًا فحمل ثقله من دار تميم بن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر؛ أن الزموا الحارث مناصحةً فأتوه؛ فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إلي بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه. وكان من مدبّري عسكر الكرماني مقاتل بن سليمان، فأتاه رجل من البخاريّين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البيّنة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بن شيخ الأزدي، فأمر مقاتل فصكّ له إلى بيت المال. قال: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرماني: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرّم الله من دمائكم؛ فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحراث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحةً في عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله؛ ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدوّ، فاتقوا الله وراجعوا الحقّ، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها.
فأقاموا أيامًا، فأتى الحارث بن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بن أبي الهيثم، فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقالوا: غدرت. فأقام القاسم الشيباني وربيع التيمي في جماعة، ودخل الكرماني من باب سرخس، فحاذى الحارث؛ ومرّ المنخّل بن عمرو الأزدي فقتله السميدع؛ أحد بني العدويّة، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرماني على ميمنته داود بن شعيب وإخوته: خالدًا ومزيدًا والمهلب، وعلى ميسرته سورة بن محمد بن عزيز الكندي، في كندة وربيعة. فاشتدّ الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرسًا فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بن جرموز وقطن بن المغيرة بن عجرد، وكفّ الكرماني، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرماني مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس. وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يومًا، قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب. وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء. فقتل كذك سنة ثمان وعشرين ومائة. وأصاب الكرماني صفائح ذهب للحارث فأخذها وحبس أمّ ولده ثم خلّى عنها، وكانت عند حاجب بن عمرو بن سلمة بن سكن بن جون بن دبيب. قال: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم: بم تستحل ماله؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان، فأتى به منزله.
قال علي:، قال زهير بن الهنيد: خرج الكرماني إلى بشر بن جرموز، وعسكر خارجًا من المدينة؛ مدينة مرو، وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرماني، فأقام الكرماني أيامًا بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدّم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن يقاتله، فقال للحارث: تقدّم. وندم الحارث على اتباع الكرماني، فقال: لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردّهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس؛ حتى أتى عسكر بشر في قرية الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل المضريّون ينسلّون من عسكر الكرماني إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بن أبي عبد الله، مولى بني سليم؛ فإنه قال: والله لا أتبع الحارث أبدًا فإني لم أره إلا غادرًا والمهلّب بن إياس، وقال: لا أتبعه فإني لم أره قطّ إلا في خيل تطّرد. فقاتلهم الكرماني مرارًا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرّةً لهؤلاء ومرّة لهؤلاء، فالتقوا يومًا من أيامهم، وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي، فخرج سكران على برذون للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم؛ حتى تخلص، وعار البرذون، فلما رجع لامه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول ذلك لمكان برذونك، امرأتي طالق إن لم آتك ببرذون أفره من برذونك من عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: أي برذون في عسكرهم أفره؟ قالوا: برذون عبد الله ابن ديسم العنزي - وأشاروا إلى موقفه - حتى وصل إليه، فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلّق مرثد عنان فرسه في رمحه، وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بن الحسن مرثدًا، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال: خذه، قال: أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك أيامًا، ثم ارتحل الحارث ليلًا، فأتى حائط مرو فنقب بابًا، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضريّة للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرّة، فترجّل. فقال: أنا لكم فارسًا خير مني لكم راجلًا، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل اعلحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل:
يا مدخل الذلّ على قومه ** بعدًا وسحقًا لك من هالك!
شؤمك أردى مضرًا كلّها ** وغض من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها ** تطمع في عمرو ولا مالك
ولا بني سعد إذا ألجموا ** كل طمر لونه حالك
ويقال: بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة المازّني.
وقالت أم كثير الضبيّة:
لا بارك الله في أنثى وعذّبها ** تزوجت مضربًا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة ** أحللتموها بدار الذلّ والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ** حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ** هذا المزوني يجبيكم على قهر
وقال عبّاد بن الحارث:
ألا يا نصر قد برح الخفاء ** وقد طال التمنّي والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مرو ** تقضّى في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم ** على مضر وإن جار القضاء
وحمير في مجالسها قعود ** ترقرق في رقابهم الدماء
فإن مضر بذا رضيت وذلت ** فطال لها المذلّة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا ** فحل على عساكرها العفاء
وقال:
ألا يا أيها المرء ال ** ذي قد شفّه الطرب
أفق ودع الذي قد كن ** ت تطلبه ونطّلب
فقد حدثت بحضرتنا ** أمور شأنها عجب
الأزد رأيتها عزّت ** بمرو وذلت العرب
فجاز الصفر لمّا كا ** ن ذاك وبهرج الذهب
وقال أبو بكر بن إبراهيم لعلي وعثمان ابني الكرماني:
إني لمرتحل أريد بمدحتي ** أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
سبقا الجياد فلم يزالا نجعةً ** لا يعدم الضيف الغريب قراهما
يستعليان ويجريان إلى العلا ** ويعيش في كنفيهما حيّاهما
أعنى عليًّا إنّه ووزيره ** عثمان ليس يذلّ من والاهما
جريًا لكيما يلحقا بأبيهما ** جري الجياد من البعيد مداهما
فلئن هما لحقا به لمنصب ** يستعليان ويلحقان أباهما
ولئن أبرّ عليهما فلطالما ** جريا فبذّهما وبذّ سواهما
فلأمدحنّهما بما قد عاينت ** عني وإن لم أحص كلّ نداهما
فهما التقيّان المشار إليهما ** الحاملان الكاملان كلاهما
وهما أزالا عن عريكة ملكه ** نصرًا ولا في الذلّ إذ عاداهما
نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ** وتقسّمت أسلابه خيلاهما
والحارث بن سريج إذا قصدوا له ** حتى تعاور رأسه سيفاهما
أخذا بعفو أبيهما في قدره ** إذ عزّ قومهما ومن والاهما
وفي هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله؛ فإني قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك؛ فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجّه أبا مسلم على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبدًا، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة، ثم قال: يا عبد الرحمن، إنك رجل منّا أهل البيت؛ فاحتفظ وصيّتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحلّ بين أظهرهم؛ فإن الله لا يسمّ هذا الأمر إلا بهم؛ وانظر هذا الحي من ربيعة فاتّهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر؛ فإنهم العدوّ القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء؛ وإن استطعت ألّا تدع بخراسان لسانًا عربيًا فافعل، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله، ولا تخالف هبذا الشيخ - يعني سليمان بن كثير - ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني.
ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجي
وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجي، فيما قال أبو مخنف، ذكر ذلك هشام بن محمد عنه.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك
ذكر أنّ الضحاك لما حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وبايعه منصور بن جمهور، ورأى عبد الله بن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه؛ إن مقامكم علي ليس بشيء؛ هذا مروان فسر إليه؛ فإن قاتلته فأنا معك، فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه.
فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقيَ مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا.
وأما أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، فقال فيما حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم عنه أن الضحاك لما قتل عطية الثعلبي صاحبَه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السيلحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر بواسط، وجّه مكانه من أصحابه رجلًا يقال له مطاعن؛ واصطلح عبد الله بن عمر والضحاك عن أن يدخل في طاعته؛ فدخل وصلى خلفه، وانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط، ودخل الضحاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكّنوه منها؛ فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهرًا، حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ عامل لمروان؛ وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة يقال له القطران بن أكمه، ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا، واستولى الضحاك على الموصل وكورها. وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط الجزيرة، فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه؛ وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلّف بحرّان قائدًا في ألف أو نحو ذلك؛ وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين، فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة من مع الضحاك؛ فهم فيما بلغنا عشرون ومائة ألف، يرزق الفارس عشرين ومائة والراجل والبغال المائة والثمانين في كلّ شهر؛ وأقام الضحاك على نصيبين محاصرًا لها، ووجّه قائدين من قوّاده يقال لهما عبد الملك بن بشر التغلبي، وبدر الذكواني مولى سليمان بن هشام، في أربعة آلاف أو خمسة آلاف حتى وردا الرقة، فقاتلهم من بها من خيل مروان؛ وهم نحو من خمسمائة فارس، ووجّه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلًا من روابطه؛ فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضحاك منصرفين إليه، فاتبعتهم خيله، فاستسقطوا من ساقتهم نيّفًا وثلاثين رجلًا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة، ومضى صامدًا إلى الضحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا، فقاتله يومه ذلك؛ فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجّل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه، وأحدقت بهم خيول مروان فألحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك إلى عسكرهم؛ ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحاك أن الضحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل. وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بخبره ومقتله، فبكوه وناحوا عليه، وخرج عبد الملك بن بشر التغلبي القائد الذي كان وجّهه في عسكرهم إلى الرقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فأعلمه أنّ الضحاك قتل، فأرسل معه رسلًا من حرسه، معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلّبا القتلى حتى استخرجوه، فاحتملوه حتى أتوا به مروان، وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحاك أنهم قد علموا بذلك، وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة، فطيف به فيها.
وقيل: إن الخيبري والضحاك إنما قتلا في سنة تسع وعشرين ومائة.
ذكر الخبر عن مقتل الخيبري وولاية شيبان
وفي هذه السنة كان أيضًا - في قول أبي مخنف - قتل الخيبري الخارجي، كذلك ذكر هشام عنه.
ذكر الخبر عن مقتله
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره بايعوا الخيبري، وأقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد، وصافّوه وصافّهم، وسليمان بن هشام يومئذ في مواليه وأهل بيته مع الخيبري؛ وقد كان قدم على الضحاك وهو بنصيبين؛ وهم في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوّج فيهم أخت شيبان الحروري الذي بايعوه بعد قتل الخيبري، فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة، فهزم مروان وهو في القلب، وخرج مروان من المعسكر هاربًا، ودخل الخيبري فيمن معه عسكره، فجعلوا ينادون بشعارهم: يا خيبري يا خيبري، ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان، فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبري على فرشه. وميمنة مروان عليها ابنه عبد الله ثابتة على حالهاا، وميسرته ثابتة عليها إسحاق بن مسلم العقيلي، فلما رأى أهل عسكر مروان قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيد من أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبري وأصحابه جميعًا في حجرة مروان وحولها، وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزمًا، فانصرف إلى عسكره وردّ خيوله عن مواضعها ومواقفها، وبات ليلته تلك في عسكره. فانصرف أهل عسكر الخيبري فولّوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ. وكان مروان يوم الخيبري بعث محمد بن سعيد، وكان من ثقاته وكتابه إلى الخيبري، فبلغه أنه ما لأهم وانحاز إليهم يومئذ، فأتيَ به مروان أسيرًا فقطع يده ورجله ولسانه.
وفي هذه السنة وجّه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز؛ كذلك قال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وقال الواقدي: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وآخذ نعيم بن ثابت الجزامي فقتله في شوال سنة ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف - فيما ذكر - في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وبالعراق عمّال الضحاك وعبد الله بن عمر، وعلى قضاء البصرة ثُمامة بن عبد الله، وبخراسان نصر بن سيّار وخراسان مفتونة.
خبر أبي حمزة الخارجي مع عبد الله بن يحيى
وفي هذه السنة لقي أبو حمزة الخارجي عبد الله بن يحيى طالب الحق فدعاه إلى مذهبه.
ذكر الخبر عن ذلك
حدثني العباس بن عيسى العقيلي، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال: كان أوّل أمر أبي حمزة - وهو المختار بن عوف الأزدي السبّليمي من البصرة - قال موسى: كان أول أمر أبي حمزة أنه كان يوافي كلّ سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد وإلى خلاف آل مروان. قال: فلم يزل يختلف في كلّ سنة حتى وافى عبد الله بن يحيى في آخر سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل، أسمع كلامًا حسنًا، وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان.
وقد حدثني محمد بن حسن أن أبا حمزة مرّ بمعدن بني سليم وكثير بن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد سبعين سوطًا، ثم مضى إلى مكّة، فلما قدم أبو حمزة المدينة حين افتتحها تغيّب كثير حتى كان من أمرهم ما كان.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر هلاك شيبان بن عبد العزيز الحروري
فمن ذلك ما كان من هلاك شيبان بن عبد العزيز اليشكري أبي الدلفاء.
ذكر الخبر عن سبب مهلكه
وكان سبب ذلك أنّ الخوارج الذين كانوا بإزاء مروان بن محمد يحاربونه لمّا قتل الضحاك بن قيس الشيباني رئيس الخوارج والخيبري بعده، ولّوا عليهم شيبان وبايعوه؛ فقاتلهم مروان، فذكر هشام بن محمد والهيثم بن عدي أنّ الخيبري لما قتل قال سليمان بن هشام بن عبد الملك للخوارج - وكان معهم في عسكرهم: إنّ الذي تفعلون ليس برأي؛ فإن أخذتم برأيي، وإلا انصرفت عنكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: إنّ أحدكم يظفر ثم يستقتل فيقتل، فإني أرى أن ننصرف على حاميتنا حتى ننزل الموصل، فنخندق. ففعل وأتبعه مروان والخوارج في شرقي دجلة ومروان بإزائهم؛ فاقتتلوا تسعة أشهر، ويزيد بن عمر بن هبيرة بقرقيسيا في جند كثيف من أهل الشأم وأهل الجزيرة، فأمره مروان أن يسير إلى الكوفة، وعليها يومئذ المثنّى بن عمران؛ من عائذة قريش من الخوارج.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان مروان بن محمد يقاتل الخوارج بالصّف، فلما قتل الخيبري وبويع شيبان، قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ، وجعل الآخرون يكردسون بكراديس مروان كراديس تكافئهم وتقاتلهم، وتفرّق كثير من أصحاب الطمع عنهم وخذلوهم، وحصلوا في نحو من أربعين ألفًا، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى مدينة الموصل، فيصيّروها ظهرًا وملجأً وميرةً لهم، فقبلوا رأيه، وارتحلوا ليلًا، وأصبح مروان فأتبعهم؛ ليس يرحلون عن منزل إلا نزله؛ حتى انتهوا إلى مدينة الموصل، فعسكروا على شاطىء دجلة من عسكرهم إلى المدينة؛ فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، فأقام ستة أشهر يقاتلهم بكرة وعشيّةً.
قال: وأتيَ مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، يقال له أمية بن معاوية بن هشام، وكان مع عمه سليمان بن هشام في عسكر شيبان بالموصل؛ فهو مبارز رجلًا من فرسان مروان، فأسره الرجل فأتيَ به أسيرًا، فقال له: أنشدك الله والرحِم يا عمّ! فقال: ما بيني وبينك اليوم من رحم، فأمر به - وعمه سليمان وإخوته ينظرون - فقطعت يداه وضربت عنقه.
قال: وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بن سوّار خليفة الضحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم فهزمهم؛ وعليهم يومئذ المثنّى بن عمران من عائذة قريش والحسن بن يزيد؛ ثم تجمّعوا له بالكوفة بالنّخيلة، فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصّراة ومعهم عبيدة؛ فقاتلهم فقتل عبيدة، وهزم أصحابه، واستباح ابن هبيرة عسكرهم، فلم يكن لهم بقيّة بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها، وكتب إليه مروان بن محمد من الخنادق يأمره أن يمدّه بعامر بن ضبارة المرّي، فوجّهه في نحو من ستة آلاف أو ثمانية؛ وبلغ شيبان خبرهم ومن معه من الحرورية، فوجّهوا غليه قائدين في أربعة آلاف، يقال لهما ابن غوث والجون، فلقوا ابن ضبارة بالسنّ دون الموصل، فقاتلوه قتالَا شديدًا، فهزمهم ابن ضبارة، فلما قدم فلهم أشار عليهم سليمان بالارتحال عن الموصل، وأعلمهم أنه لا مقام لهم إذ جاءهم ابن ضبارة من خلفهم، وركبهم مروان من بين أيديهم؛ فارتحلوا فأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس، ووجّه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة نفر من قوّاده في ثلاثين ألفًا من روابطه؛ أحدهم مصعب بن الصحصح الأسدي وشقيق وعطيف السليماني، وشقيق الذي يقول فيه الخوارج:
قد علمت أختاك يا شقيق ** أنك من سكرك ما تفيق
وكتب إليه يأمره أن يتبعهم، ولا يقلع عنهم حتى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتى وردوا فارس، وخرجوا منها وهو في ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم، فتفرّقوا، وأخذ شيبان في فرقته إلى ناحية البحرين، فقتل بها، وركب سليمان فيمن معه من مواليه وأهل بيته السفن إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حرّان، فأقام بها حتى شخص إلى الزاب.
وأمّا أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه - قال: أمر مروان يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان في جنود كثيرة من الشأم وأهل الجزيرة بقرقيسيا - أن يسير إلى الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ رجل من الخوارج يقال له المثنّى بن عمران العائذي؛ عائذة قريش، فسار إليه ابن هبيرة على الفرات حتى انتهى إلى عين التمر، ثم سار فلقي المثنى بالروحاء، فوافى الكوفى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فهزم الخوارج، ودخل ابن هبيرة الكوفة ثم سار إلى الصراة، وبعث شيبان عبيدة بن سوّار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقي الصراة، وابن هبيرة في غربيّها، فالتقوا، فقتل عبيدة وعدّة من أصحابه؛ وكان منصور بن جمهور معهم في دور الصراة، فمضى حتى غلب على الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط؛ فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجّه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز، وبعث إليه سليمان داود بن حاتم، فالتقوا بالمريان على شاطىء دجيل، فانهزم الناس، وقتل داود بن حاتم. وفي ذلك يقول خلف بن خليفة:
نفسي لداود الفدا والحمى ** إذ أسلم الجيش أبا حاتم
مهلّبي مشرق وجهه ** ليس على المعروف بالنادم
سألت من يعلم لي علمه ** حقًا وما الجاهل كالعالم
قالوا عهدناه على مرقب ** يحمل كالضرغامة الصارم
ثم انثنى منجدلًا في دم ** يسفح فوق البدن الناعم
وأقبل القبط على رأسه ** واختصموا في السيف والخاتم
وسار سليمان حتى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس. وأقام ابن هبيرة شهرًا. ثم وجّه عامر بن ضبارة في أهل الشأم إلى الموصل؛ فسار حتى انتهى إلى السنّ فلقيه بها الجون بن كلاب الخارجي، فهزم عامر بن ضبارة حتى أدخله السنّ فتحصّن فيها، وجعل مروان يمدّه بالجنود يأخذون طريق البرّ؛ حتى انتهوا إلى دجلة، فقطعوها إلى ابن ضبارة حتى كثروا. وكان منصور بن جمهور يمدّ شيبان بالأموال من كور الجبل؛ فلما كثر من يتبع ابن ضبارة من الجنود؛ نهض إلى الجون بن كلاب فقتل الجون، ومضى ابن ضبارة مصعدًا إلى الموصل.؛ فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر بن ضبارة نحوه، كره أن يقيم بين العسكرين؛ فارتحل بمن معه وفرسان الشأم من اليمانية. وقدم عامر بن ضبارة بمن معه على مروان بالموصل، فضمّ إليه جنودًا من جنوده كثيرة، وأمره أن يسير إلى شيبان؛ فإن أقام أقام؛ وإن سار سار؛ وألّا يبدأه بقتال؛ فإن قاتله شيبان قاتله؛ وإن امسك أمسك عنه، وإن ارتحل اتّبعه؛ فكان على ذلك حتى مرّ على الجبل، وخرج على بيضاء إصطخر، وبها عبد الله بن معاوية أيامًا، ثم ناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية، فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه، فلقي شيبان بجيرفت من كرمان، فاقتتلوا قتالًا شديدًا وانهزمت الخوارج، واستبيح عسكرهم؛ ومضى شيبان إلى سجستان، فهلك هبا؛ وذلك في سنة ثلاثين ومائة.
وأما أبو عبيدة فإنه قال: لما قتل الخيبري قام بأمر الخوارج شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فحارب مروان، وطالت الحرب بينهما؛ وابن هبيرة بواسط قد قتل عبيدة بن سوار ونفى الخوارج ومعه رءوس قوّاد أهل الشأم وأهل الجزيرة. فوجّه عامر بن ضبارة في أربعة آلاف مددًا لمروان، فأخذ على باب المدائن، وبلغ مسيره شيبان، فخاف أن يأتيهم مروان، فوجّه إليه الجون بن كلاب الشيباني ليشغله، فالتقيا بالسنّ، فحصر الجون عامرًا أيامًا.
قال أبو عبيدة: قال أبو سعيد: فأحرجناهم والله، واضطررناهم إلى قتالنا؛ وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا؛ فلم ندع لهم مسلكًا. فقال لهم عامر: أنتم ميّتون لا محالة؛ فموتوا كرامًا، فصدمونا صدمة لم يقم لها شيء، وقتلوا رئيسنا الجون بن كلاب، وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان، وابن ضبارة في آثارنا؛ حتى نزل منّا قريبًا؛ وكنا نقاتل من وجهين؛ نزل ابن ضبارة من ورائنا ممّا يلي العراق، ومروان أمامنا مما يلي الشأم؛ فقطع عنا المادّة والميرة، فغلت أسعارنا؛ حتى بلغ الرغيف درهمًا؛ ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغالٍ ولا رخيص. فقال حبيب بن خدرة لشيبان: يا أمير المؤمنين؛ إنك في ضيق من المعاش؛ فلو انتقلت إلى غير هذا الموضع! ففعل ومضى شهرزور من أرض الموصل، فعاب ذلك عليه أصحابه؛ فاختلفت كلمتهم.
وقال بعضهم: لما ولي شيبان أمر الخوارج رجع بأصحابه إلى الموصل فاتّبعه مروان ينزل معه حيث نزل فقاتله شهرًا ثم انهزم شيبان حتى لحق بأرض فارس، فوجه مروان في أثره عامر بن ضبارة فقطع إلى جزيرة ابن كاوان، ومضى شيبان بمن معه حتى صار إلى عمان، فقتله جلندي بن مسعود ابن جيفر بن جلندي الأزدي.
ذكر إظهار الدعوة العباسية بخراسان
وفي هذه السنة أمر إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبا مسلم، وقد شخص من خراسان يريده حتى بلغ قومس، بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم بإظهار الدعوة والتسويد.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان الأمر فيه
قال علي بن محمد عن شيوخه: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خُراسان، حتى وقعت العصبيّة بها؛ فلما اضطرب الحبل، كتب سليمان بن كثير إلى أبي سلمة الخلّال يسأله أن يكتب إلى إبراهيم، يسأله أن يوجّه رجلًا من أهل بيته. فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبا مسلم. فلما كان في سنة تسع وعشرين ومائة، كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه ليسأله عن أخبار الناس، فخرج في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفسًا من النقباء، فلما صار بالدّندانقان من أرض خراسان عرض له كامل - أو أبو كامل - قال: أين تريدون؟ قالوا: الحجّ، ثم خلا به أبو مسلم، فدعاه فأجابهم، وكفّ عنهم، ومضى أبو مسلم إلى بيورد، فأقام بها أيامًا، ثم سار إلى نسا؛ وكان بها عاصم بن قيس السلمي عاملًا لنصر بن سيار الليثي؛ فلما قرب منها أرسل الفضل بن سليمان الطوسي إلى أسيد بن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فمضى الفضل فدخل قريةً من قرى نسا، فلقي رجلًا من الشيعة يعرفه، فسأله عن أسيد، فانتهره، فقال: يا عبد الله، ما أنكرت من مسأتلي عن منزل رجل؟ قال: إنه كان في هذه القرية شرّ، سعيَ برجلين قدما إلى العامل، وقيل إنهما داعيان، فأخذهما، وأخذ الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب بن سعيد والمهاجر بن عثمان؛ فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكّب الطريق، وأخذ في أسفل القرى، وأرسل طرخان الجمّال إلى أسيد، فقال: ادعه لي ومن قدرت عليه من الشيعة، وإياك أن تكلم أحدًا لم تعرفه، فأتى طرخان أسيدًا فدعاه، وأعلمه بمكان أبي مسلم، فأتاه فسأله عن الأخبار، قال: نعم، قدم الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعد بكتب من الإمام إليك، فخلّفا الكتب عندي وخرجا، فأخذا فلا أدري من سعى بهما! فبعث بهما العامل إلى عاصم بن قيس، فضرب المهاجرين عثمان وناسًا من الشيعة. قال: فأين الكتب؟ قال: عندي، قال: فأتني بها فأتاه بالكتب فقرأها.
قال: ثم سار حتى أتى قومس، وعليها بيهس بن بديل العجلي، فأتاهم بيهس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: الحجّ، قال: أفمعكم فضل برذون تبيعونه؟ قال أبو مسلم: أما بيعًا فلا؛ ولكن خذ أي دوابّنا ششئت؛ قال: اعرضوها علي، فعرضوها، فأعجبه برذون منها سمند، فقال أبو مسلم: هو لك، قال: لا أقبله إلّا بثمن، قال: احتكم، قال: سبعمائة، قال: هو لك. وأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام إليه وكتاب إلى سليمان بن كثير؛ وكان في كتاب أبي مسلم: إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألفاك كتابي، ووجّه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم. فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى الإمام، فلما كانوا بنسا عرض لهم صاحب مسلحه في قرية من قرى نسا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أردنا الحجّ، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه، فأوصلهم إلى عاصم بن قيس السلمي، فسألهم فأخبروه، فقال: ارتحلوا وأمر المفضل بن الشرقي السلمي - وكان على شُرطته - أن يزعجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم، فأجابه، وقال: ارتحلوا على مهل، ولا تعجلوا. وأقام عندهم حتى ارتحلوا.
فقدم أبو مسلم مرو في أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، وكان فيه أن أظهر دعوتك ولا تربّص، فقد آن ذلك. فنصبوا أبا مسلم، وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم. ونزل أبو مسلم قريةً من قرى خزاعة يقال لها سفيذنج، وشيبان والكرماني يقاتلان نصر بن سيار، فبثّ أبو مسلم دعاته في الناس، وظهر أمره، وقال الناس: قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كلّ وجه، فظهر يوم الفطر في قرية خالد بن إبراهيم. فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بن مجاشع المرائي، ثم ارتحل فنزل بالين - ويقال قرية اللين - لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام اثنين وأربعين يومًا؛ فكان أوّل فتح أبي مسلم من قبل موسى بن كعب في بيودر، وتشاغل بقتل عاصم بن قيس، ثم جاء فتح من قبل مروروذ.
قال أبو جعفر: وأما أبو الخطاب فإنه قال: كان مقدم أبي مسلم أرض مرو منصرفًا من قومس، وقد أنفذ من قومس قحطبة بن شبيب بالأموال التي كانت معه والعروض إلى الإمام إبراهيم بن محمد، وانصرف إلى مرو، فقدمها في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة لتسع خلون منه يوم الثلاثاء، فنزل قرية تدعى فنين على أبي الحكم عيسى بن أعين النقيب، وهي قرية أبي داود النقيب، فوجّه منها أبا داود ومعه عمرو بن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ بإظهار الدعوة في شهر رمضان من عامهم، ووجّه النضر بن صبيح التميمي ومعه شريك بن غضي التميمي إلى مرو الروذ بإظهار الدعوة في شهر رمضان، ووجّه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بن عطيّة إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوّهم دون الوقت، فعرض لهم بالأذى والمكروه فقد حلّ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجرّدوها من أغمادها، ويجاهدوا أعداء الله ومن شغلهم عدوّهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت.
ثم تحوّل أبو مسلم عن منزل أبي الحكم عيسى بن أعين، فنزل على سليمان ابن كثير الخزاعي في قريته التي تدعى سفيذنج من ربع خرقان لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة اعتقدوا اللواء الذي بعث به الإمام إليه الذي يُدعى الظلّ، على رمح طوله أربعة عشر ذراعًا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعًا، وهو يتلو: " أُذنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير "، ولبس السوّاد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، منهم غيلان بن عبد الله الخزاعي - وكان صهر سليمان على أخته أم عمرو بنت كثير - ومنهم حميد بن رزين وأخوه عثمان بن رزين، فأقوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان ربع خرقان - وكانت العلامة بين الشيعة - فتجمعوا له حين أصبحوا مغذّين، وتأويل هذين الاسمين: الظلّ والسحاب، أن السحاب يطبّق الأرض؛ وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظلّ أن الأرض لا تخلو من الظلّ أبدًا، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر.
وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة؛ وكان أوّل من قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح الهرمزفرّي عيسى بن شبيل في تسعمائة رجل وأربعة فرسان، وم أهل هرمزفرة سليمان بن حشان وأخوه يزدان بن حسان والهيثم بن يزيد بن كيسان؛ وبويع مولى نصر بن معاوية وأبو خالد الحسن وجردى ومحمد بن علوان، وقدم أهل السقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم الجوباني في ألف وثلثمائة راجل وستة عشر فارسًا. ومنهم من الدعاة أبو العباس المرّوزي وخذام بن عمّار وحمزة بن زنيم، فجعل أهل السقادم يكبّرون من ناحيتهم وأهل السقادم مع محرز بن إبراهيم يجيبونهم بالتكبير؛ فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج؛ وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين. وأمر أبو مسلم أن يرمّ حصن سفيذنج ويحصّن ويدرّب؛ فلما حضر العيد يوم الفطر بسفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرًا في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة - وكانت بنو أميّة تبدأ بالخطبة والأذان، ثم الصلاة بالإقامة على صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسًا في الجمعة والأعياد - وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يكبّر الركعة الأولى ست تكبيرات تباعًا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعًا. ثم يقرأ ويركع بالسادسة. ويفتتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات. فلما ضقى سليمان بن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعدّه لهم أبو مسلم الخراساني، فطعموا مستبشرين. وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بن سيار يكتب: للأمير نصر؛ فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: أما بعد، فإن الله تبارك أسماؤه وتعالى ذكره عيّر أقوامًا في القرآن فقال: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلّا نفورًا. استكبارًا في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيء إلّا بأهله فهل ينظرون إل سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنه الله تحويلًا.
فتعاظم نصرٌ الكتاب وأنه بدأ بنفسه، وكسر له إحدى عينيه وأطال الفكرة وقال: هذا كتاب له جواب. فلما استقرّ بأبي مسلم معسكره بالماخوان أمر محرز ابن إبراهيم أن يخندق خندقًا بجيرنج، ويجتمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة، فيقطع مادّة نصر بن سيار من مرور وذوبلخ وكورطخارستان. ففعل ذلك محرز بن إبراهيم، واجتمع له في خندق نحو من ألف رجل، فأمر أبو مسلم أبا صالح كامل بن مظفر أن يوجه رجلًا إلى خندق محرز بن إبراهيم لعرض من فيه وإحصائهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم، فوجّه أبو صالح حميدًا الأزرق لذلك، وكان كاتبًا، فأحصى في خندق محرز ثمانمائة رجل وأربعة رجال من أهل الكفّ؛ وكان فيهم من القوّاد المعروفين زياد بن سيّار الأزدي من قرية تدعى أسبوادق من ربع خرقان، وخذام بن عمار الكندي من ربع السقادم ومن قرية تدعى بالأوايق، وحنيفة بن قيس من ربع السقادم، ومن قرية تدعى الشنج، وعبدويه الجردامذ بن عبد الكريم من أهل هراة، وكان يجلب الغنم إلى مرو، وحمزة بن زنيم الباهلي من ربع خرقان من قرية تدعى ميلاذجرد، وأبو هاشم خليفة بن مهران من ربع السقادم من قرية تدعى جوبان وأبو خديجة جيلان بن السغدي وأبو نعيم موسى بن صبيح. فلم يزل محرز بن إبراهيم مقيمًا في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو، وعطل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بمارسرجس يريد نيسابور؛ فضمّ إليه محرز بن إبراهيم أصحابه؛ وكان من الأحداث، وأبو مسلم بسفيذنج، وكان نصر بن سيار وجّه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهرًا من ظهوره، فوجّه إليه أبو مسلم مالك ابن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بن قيس، فالتقوا بقرية تدعى آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله ﷺ، فاستكبروا عن ذلك، فصافّهم مالك وهو في نحو من مائتين من أوّل النهار إلى وقت العصر.
وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى فوجّههم إلى مالك بن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوى بهم أبو نصر، فقال يزيد مولى نصر بن سيار لأصحابه: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الأمداد، فاحملوا على القوم؛ ففعلوا، وترجّل أبو نصر وحضّ أصحابه، وقال: إني لأرجو أن يقطع الله من الكافرين طرفًا، فاجتلدوا جلادًا صادقًا، وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان أربعة وثلاثون رجلًا، وأسر منهم ثمانية نفر، وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر عميد القوم فأسره، وانهزم أصحابه، فوجّه أبو نصر عبد الله الطائي بأسيره في رجال من الشيعة، ومعهم الأسرى والرءوس، وأقام أبو نصر في معسكره بسفيذنج، وفي الوفد أبو حماد المروزي وأبو عمرو الأعجمي، فأمر أبو مسلم بالرءوس فنصبت على باب الحائط الذي في معسكره، ودفع يزيد الأسلمي إلى أبي إسحاق خالد بن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن تعاهده، وكتب إلى أبي نصر بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم، فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالمًا، وأعطنا عهد الله ألّا تحاربنا وألّا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت؛ فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق. وقال أبو مسلم: إنّ هذا سيردّ عنكم أهل الورع والصلاح. فإنّا عندهم على غير الإسلام.
وقدم يزيد على نصر بن سيار؛ فقال: لا مرحبًا بك؛ والله ما ظننت استبقاك القوم إلّا ليتخذوك حجة علينا، فقال يزيد: فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني ألّا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرًا، ويدعون إلى ولاية رسول الله ﷺ؛ وما أحسب أمرهم إلا سيعلو؛ ولولا أنك مولاي أعتقتني من الرقّ ما رجعتُ إليك، ولأقمت معهم. فهذه أول حرب كانت بين الشيعة وشيعة بني مروان.
وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مروروذ، وقتل عامل نصر بن سيّار الذي كان عليها؛ وكتب بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر علي بن محمد أن أبا الحسن الجشمي وزهير بن هنيد والحسن ابن رشيد أخبروه أن خازم بن خزيمة لما أراد الخروج بمروروذ أراد ناس من تميم أن يمنعوه، فقال: إنما أنا رجل منكم، أريد مرو لعلي أن أغلب عليها، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت فقد كفيتكم أمري. فكفّوا عنه، فخرج فعسكر في قرية يقال لها كنج رستاه، وقدم عليهم من قبل أبي مسلم النضر بن صبيح وبسام بن إبراهيم. فلما أمسى خازم بيّت أهل مروروذ، فقتل بشر بن جعفر السعدي - وكان عاملًا لنصر بن سيار على مروروذ - في أول ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم عبد الله بن سعيد وشبيب بن واج.
قال أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولًا خلاف قولهم؛ والذي قال في ذلك: أنذ إبراهيم الإمام زوّج أبا مسلم لما توجّه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى الننقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم - فيما زعم - من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرمانًا لإدريس بن معقل العجلي، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بن علي، ثم لإبراهيم بن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن علي فقدم خراسان وهو حديث السنّ، فلم يقبله سليمان بن كثير وتخوّف ألّا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردّوه - وأبو داود خالد بن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ - فلما انصرف أبو داود، وقدم مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجّهه، فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجّهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجّتكم في ردّه؟ فقال سليمان بن كثير: لحداثة سنه، وتخوّفًا ألّا يقدر على القيام بهذا الأمر؛ فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟ فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا؛ قال: أفتشكون أنّ الله تعالى نزّل عليه كتابه فأتاه به جبريل الروح الأمين، أحلّ فيه حلاله، وحرّم فيه حرامه، وشرّع فيه شرائعه، وسنّ فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أن الله عز وجل قبضه إليه بعد ما أدّى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قال: أفتظنّون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلّفه؟ قالوا: بل خلّفه، قال: أفتظنونه خلّفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قال: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالًا، ورأى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قال: لست أقول لكم فعلتم؛ ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون وفيما لا يكون. قال: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبي ﷺ؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أنهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله ﷺ؟ قالوا: لا، قال: فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم؛ ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود؛ وولّوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا. ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود. وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبثّ الدعاة في أقطار خراسان؛ فدخل الناس أفواجًا، وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها. وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة - وهي سنة تسع وعشرين ومائة -، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال؛ وقد كان اجتمع عنده ثلثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامّتها عروضًا من متاع التجار؛ من القوهي والمروي والحرير والفرند، وصيّر بقيته سبائك ذهب وفضة وصيّرها في الأقبية المحشوّة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بن شبيب والقاسم بن مجاشع وطلحة بن رزيق؛ ومن الشيعة واحد وأربعون رجلًا، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلًا، وحمل على كلّ بغل رجلًا من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بن سيار حتى انتهوا إلى أبيورد.
فكتب أبو مسلم إلى عثمان بن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلًا، ثم ارتحلوا من أبيورد؛ حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس؛ من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان - قرية أسيد - فلقي بها رجلًا من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شرّ طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجر بن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بن قيس بن الحروري، فحبسهم. وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من أهل نسا؛ فأخبره أبو مالك أنّ الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية؛ فإذا في الكتاب إليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه؛ وأن يظره الدعوة. فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه.
وبلغ ذلك عاصم بن قيس الحروري، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاجّ الذين يريدون بيت الله، ومعه عدّة من أصحابه من التجار، وسأله أن يخلّي سبيل من احتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطًا على نفسه؛ أن يصرف من معه من العبيد وما معه من الدوابّ والسلاح، على أن يخلّوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم. فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه؛ فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام؛ وأمرهم بإظهار الدعوة؛ فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بن عبد الله الخزاعي وزريق بن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد. ثم سار فيمن بقي من أصحابه ومعه قحطبة ابن شبيب؛ حتى نزلوا تخوم جرجان؛ وبعث إلى خالد بن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشيعة، فقدما عليه؛ فأقام أيامًا حتى اجتمعت القوافل. وجهّز قحطبة بن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها؛ ثم وجّهه إلى إبراهيم بن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها؛ ثم سار حتى أتى مرو ممتنكرًا، فنزل قرية تدعى فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان؛ وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر. ووجّه أبا داود وعمرو بن أعين إلى طخارستان، والنضر بن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بن عيسى، وموسى بن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلّى بهم القاسم بن مجاشع التميمي يوم العيد؛ في مصلّى آل قنبر؛ في قرية أبي داود خالد بن إبراهيم.
ذكر تعاقد أهل خراسان على قتال أبي مسلم
وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم؛ وذلك حين كثر تبّاع أبي مسلم وقويَ أمره.
وفيها تحوّل أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان.
ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيه
قال علي: أخبرنا الصبّاح مولى جبريل، عن مسلمة بن يحيى، قال: لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه؛ لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم؛ وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم؛ لأنه دعا إلى خلع مروان بن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة؛ فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا؛ ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فأعفونا. قالوا: والله ما نعرف لك نسبًا، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل؛ وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرّغ أحد هذين؛ قال أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله.
فرجع الفتية فأتوا نصر بن سيار فحدثوه، فقال: جزاكم الله خيرًا، مثلكم تفقّد هذا وعرفه، وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضًا؛ فأرسل إليه نصر: إن شئت فكفّ عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه؛ ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه. فهمّ شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم؟ تكلّمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه؛ فقال: هذا لذاك إذًا. فكتبوا إلى علي بن الكرماني: إنك موتور؛ قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان؛ وإنما تقاتل لثأرك؛ فامنع شيبان من صلح نصر؛ فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور؛ وأيم الله ليتفاقمنّ هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه.
فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل الليثي، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزمًا، وغلب النضر على هراة. قال: فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: إنّ هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم؛ قالوا: فما الرأي؟ قال: صالحوا نصرًا، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرًا وتركوكم؛ لأنّ الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرًا صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: قدّموهم قبلكم ولو ساعة؛ فتقرّ أعينكم بقتلهم. فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتابًا، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرماني، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة؛ وكتبوا بينهم كتابًا؛ فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرًا، فتوادعنا ثلاثة أشهر؛ فقال ابن الكرماني: فإني ما صالحت نصرًا؛ وإنما صالحه شيبان؛ وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله. فعاوده القتال؛ وأبي شيبان أن يعينه، وقال: لا يحلّ الغدر. فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرماني: إني أحبّ أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يومًا، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بن الكرماني في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر؛ وأتى لحجرة علي فوقف، فأذن له فدخل، فسلّم على علي بالإمرة، وقد اتخذ له علي منزلًا في قصر لمخلّد بن الحسن الأزدي، فأقام يومين، ثم انصرف إلى ع