تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/تصدير


تصدير

لسنا بحاجة إلى كثير شرح لنبين خطر الفلسفة اليونانية في تاريخ الفكر؛ فقد يكفي أن نذكر أنها فلسفة الشرق الأدنى منذ فتوح الإسكندر، وأنها فلسفة الغرب منذ استولى الرومان على بلاد اليونان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، فعرفوا نبوغ المغلوبين وأخذوا عنهم أسباب الحضارة المادية والعقلية ومنها الفلسفة، واصطنع المفكرون المسيحيون هذه الفلسفة ثم اصطنعها المفكرون المسلمون، ودخلت المدارس في الشرق والغرب فكونت العقول وهيمنت على وضع العلوم.

أجل لقد وجد العقل مع الإنسان وبقي هو هو في جوهره، واستخدمته الأمم الشرقية في الماضي السحيق فاستحدثت الصناعات والعلوم والفنون ولقنتها لليونان، فأغنتهم عن بذل الجهد والوقت في استكشافها بأنفسهم، وفضلًا عن الفنون والعلوم نجد عند الأمم الشرقية القديمة قصصًا دينية وأفكارًا في العالم والحياة إذا اعتبرنا موضوعها ومغزاها رأيناها حقيقة بأن تُسَمَّى فلسفية؛ فقد نظروا في أسمى المسائل مثل الوجود والتغير والخير والشر والأصل والمصير، فكان التوحيد والشرك، وكانت الثنائية الفارسية، وكانت وحدة الوجود عند الهنود، وكان غير ذلك، ولم تخرج الفلسفة فيما بعد عن هذه النظريات الكبرى، بل قد نستطيع أن نجد لكل فكرة يونانية مثيلة شرقية تقدمتها أو أصلًا قد تكون نبتت منه.

غير أنا إذا لحظنا صيغة القول ومنهج البحث عند الشرقيين لم نَدْعُ هذا الضرب من المعرفة والتفكير علمًا وفلسفة، بل دعوناه ما قبل العلم والفلسفة؛ فإن علومهم جميعًا من حساب وهندسة وفلك وغيرها لم تكن تعدو ملاحظات تجريبية أدت إليها حاجات عملية، وفيها تعثر وتردد يدلان على أنه لم يكن لدى أصحابها أية فكرة عامة عن المبادئ والعلل والبرهان، هذا رأي العلماء المحدثين1 بل هذا رأي عالمنا الكبير البيروني2 الذي وعى العلم القديم كله، وخبر الهند، ووقف على «مقولاتها» فهو يقول: «وكانوا (أي الهنود) يعترفون لليونانيين بأن ما أعطوه من العلم أرجح من نصيبهم منه … كنت أقف من منجميهم مقام التلميذ من الأستاذ؛ لعجمتي فيما بينهم، وقصوري عما هم فيه من مواضعاتهم، فلما اهتديت قليلًا لها أخذت أوقفهم على العلل وأشير إلى شيء من البراهين، وألوح لهم الطرق الحقيقية في الحسابات فانثالوا عليَّ متعجبين وعلى الاستفادة متهافتين … فكادوا ينسبونني إلى السحر … أقول: إن اليونانيين … كانوا على مثل ما عليه الهنود من العقيدة … «ولكنهم» فازوا بالفلاسفة … نقحوا لهم الأصول … ولم يَكُ للهند أمثالهم ممن يهذب العلوم، فلا تكاد تجد لذلك لهم خاص كلام إلا في غاية الاضطراب وسوء النظام … إني ما أشبه ما في كتبهم من الحساب ونوع التعاليم إلا بصدف مخلوط بخزف … والجنسان عندهم سيان؛ إذ لا مثال لهم لمعارج البرهان».


  1. «الكتب الهندية والبهلوية مصنفات عملية مقتصرة على منطوق القواعد وشرح استعمال الجداول خالية عن البراهين وبيان العلل» الأستاذ نلينو في كتابه «علم الفلك، تاريخه عند العرب» ص٢١٤ طبع روما ١٩١١، وانظر التفصيل الوافي عند: A. Rev, La science orientale avant les Grecs Bulletin de la Société française de philosophie, janvier fêvrier 1931.
  2. أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (٣٥١–٤٤٠ه/٩٦٢–١٠٤٨م) في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» ص١٢-١٣ طبع ليبسيك ١٩٢٥.