تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الفاتحة


بسم الله الرحمن الرحيم

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } * { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } * { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

{بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }

باء الجر تأتي لمعان: للإلصاق، والاستعانة، والقسم، والسبب،والحال، والظرفية، والنقل. فالإلصاق: حقيقة مسحت برأسي، ومجازاً مررت بزيد. والاستعانة: ذبحت بالسكين. والسبب:

{ فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا }

. والقسم:بالله لقد قام. والحال: جاء زيد بثيابه. والظرفية: زيد بالبصرة. والنقل: قمت بزيد. وتأتي زائدة للتوكيد: شربن بماء البحر. والبدل:فليت لي بهم قوماً أي بدلهم. والمقابلة: اشتريت الفرس بألف. والمجاوزة: تشقق السماء بالغمام أي عن الغمام. والاستعلاء: من أنتأمنه بقنطار. وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة، وزاد فيها كونها للتعليل. وكنى عن الاستعانة بالسبب، وعن الحال، بمعنى مع، بموافقةمعنى اللام. ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها، وسم بكسر السين وضمها، وسمي كهدي، والبصري يقول: مادته سين وميم وواو،والكوفي يقول: واو وسين وميم، والأرجح الأول. والاستدلال في كتب النحو: أل للعهد في شخص أو جنس، وللحضور، وللمحالصفة، وللغلبة، وموصولة. فللعهد في شخص: جاء الغلام، وفي جنس: اسقني الماء، وللحضور: خرجت فإذا الأسد، وللمح: الحارث، وللغلبة: الدبران.وزائدة لازمة، وغير لازمة، فاللازمة: كالآن، وغير اللازمة: باعد أم العمر من أسيرها، وهل هي مركبة من حرفين أم هيحرف واحد؟ وإذا كانت من حرفين، فهل الهمزة زائدة أم لا؟ مذاهب والله أعلم لا يطلق إلا على المعبود بحقمرتحل غير مشتق عند الأكثرين، وقيل مشتق، ومادته قيل: لام وياء وهاء، من لاه يليه، ارتفع. قيل: ولذلك سميت الشمسإلاهه، بكسر الهمزة وفتحها، وقيل: لام وواو وهاء من لاه يلوه لوهاً، احتجب أو استتار، ووزنه إذ ذاك فعل أوفعل، وقيل: الألف زائدة ومادته همزة ولام، من أله أي فزع، قاله ابن إسحاق، أو أله تحير، قاله أبو عمر،وأله عبد، قاله النضر، أو أله سكن، قاله المبرد. وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطاً، كما قيل في ناس أصلهأناس، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام، وكلا القولين شاذ. وقيل: مادته واو ولام وهاء، من وله، أي طرب، وأبدلتالهمزة فيه من الواو نحو أشاح، قاله الخليل والقناد، وهو ضعيف للزوم البدل. وقولهم في الجمع آلهة، وتكون فعالاً بمعنىمفعول، كالكتاب يراد به المكتوب. وأل في الله إذا قلنا أصله الإلاه، قالوا للغلبة، إذ الإله ينطلق على المعبود بحقوباطل، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق، فصار كالنجم للثريا. وأورد عليه بأنه ليس كالنجم، لأنه بعد الحذف والنقلأو الإدغام لم يطلق على كل إله، ثم غلب على المعبود بحق، ووزنه على أن أصله فعال، فحذفت همزته عال.وإذا قلنا بالأقاويل السابقة، فأل فيه زائدة لازمة، وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل.أقبل جاء من عند الله. وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال، وهو اختيارأبي بكر بن العربي والسهيلي، وهو خطأ، لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالاً، وامتناع تنوينه لا موجب له، فدل علىأن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين. وينفرد هذا الإسم بأحكام ذكرت في علم النحو، ومن غريب ماقيل: إن أصله لاها بالسريانية فعرب، قال:كحلفة من أبي رياح      يسمعها لاهه الكبار

قال أبويزيد البلخي: هو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون لاها، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله. ومن غريب ما قيلفي الله أنه صفة وليس اسم ذات، لأن اسم الذات يعرف به المسمى، والله تعالى لا يدرك حساً ولا بديهة،ولا تعرف ذاته باسمه، بل إنما يعرف بصفاته، فجعله اسماً للذات لا فائدة في ذلك. وكان العلم قائماً مقام الإشارة،وهي ممتنعة في حق الله تعالى، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو،وقيل طرحت تخفيفاً، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط. {ٱلرَّحْمَـٰنُ }: فعلان من الرحمة، وأصل بنائه من اللازم منالمبالغة وشذ من المتعدي، وأل فيه للغلبة، كهي في الصعق، فهو وصف لم يستعمل في غير الله، كما لم يستعملاسمه في غيره، وسمعنا مناقبه، قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ووصف غير الله به من تعنت الملحدين، وإذا قلت الله رحمن،ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام، وهو أن أصل الإسم الصرف، والآخر إلى أصل خاص، وهو أن أصلفعلان المنع لغلبته فيه. ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء، قاله ثعلب.> {ٱلرَّحِيمِ }:فعيل محوّل من فاعل للمبالغة، وهو أحد الأمثلة الخمسة، وهي: فعال، وفعول، ومفعال، وفعيل، وفعل، وزاد بعضهم فعيلاً فيها: نحوسكير، ولها باب معقود في النحو، وقيل: وجاء رحيم بمعنى مرحوم، قال العملس بن عقيل:فأما إذا عضت بك الأرض عضة      فإنك معطوف عليك رحيم

قال علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبوالعالية، وعطاء، وابن جبير، ومحمد بن يحيـى بن حبان، وجعفر الصادق، الفاتحة مكية، ويؤيده {وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءانَٱلْعَظِيمَ }. والحجر مكية، بإجماع. وفي حديث أبي: إنها السبع المثاني والسبع الطوال، أنزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أنفرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }. وقال أبو هريرة،وعطاء بن يسار، ومجاهد، وسواد بن زياد، والزهري، وعبد الله بن عبيد بن عمير: هي مدنية، وقيل إنها مكية مدنية.الباء في بسم الله للاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وموضعها نصب، أي بدأت، وهو قول الكوفيين، وكذا كل فاعل بدىءفي فعله بالتسمية كان مضمر إلا بدأ، وقدره الزمخشري فعلاً غير بدأت وجعله متأخراً، قال: تقديره بسم الله أقرأ أوأتلو، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص، وليس كما زعم. قال سيبويه: وقد تكلمعلى ضربت زيداً ما نصه: وإذا قدمت الإسم فهو عربي جيد كما كان ذلك، يعني تأخيره عربياً جيداً وذلك قولكزيداً ضربت. والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير، سواء مثله في ضرب زيد عمر، أو ضرب زيداً عمر، وانتهى. وقيلموضع اسم رفع التقدير ابتدائي بأبت، أو مستقر باسم الله، وهو قول البصريين، وأي التقديرين أرجح يرجح الأول، لأن الأصلفي العمل للفعل، أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد. والإسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان، إنكان محسوساً، وفي الأذهان، إن كان معقولاً من غير تعرض ببنيته للزمان، ومدلوله هو المسمى، ولذلك قال سيبويه: (فالكل اسموفعل وحرف)، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلاً على ذلك المعنى، فقد اتضحت المباينة بين الإسم والمسمى والتسمية. فإذا أسندت حكماًإلى اسم، فتارة يكون إسناده إليه حقيقة، نحو: زيد اسم ابنك، وتارة لا يصح الإسناد إليه إلا مجازاً، وهو أنتطلق الإسم وتريد به مدلوله وهو المسمى، نحو قوله تعالى:

{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ }

{ وَسَبّحْ ٱسْمَ رَبّكَ }

{ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ }

. والعجب من اختلاف الناس، هل الإسم هو عين المسمى أوغيره، وقد صنف في ذلك الغزالي، وابن السيد، والسهيلي وغيرهم، وذكروا احتجاج كل من القولين، وأطالوا في ذلك. وقد تأولالسهيلي، رحمه الله، قوله تعالى: {سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ } بأنه أقحم الإسم تنبيهاً على أن المعنى سبح ربك، واذكر ربكبقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، لأن الذكر بالقلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالإسم، والذكر باللسانمتعلقة اللفظ. وقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء } بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة، فكأنهم لميعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها، وهذا من المجاز البديع. وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال، فلوكتبت باسم القاهر أو باسم القادر. فقال الكسائي والأخفش: تحذف الألف. وقال الفراء: لا تحذف إلا مع {بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِٱلرَّحِيمِ }، لأن الاستعمال إنما كثر فيه، فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.والرحمن صفة لله عند الجماعة. وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل، وزعم أن الرحمن علم، وإن كان مشتقاً من الرحمة،لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، بل هو مثل الدبران، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية، فجاء على بناءلا يكون في النعوت، قال: ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله، قال تعالى:

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ }

وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت، فتعين البدل. قال أبو زيد السهيلي: البدل فيه عندي ممتنع،وكذلك عطف البيان، لأن الإسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها، ألا تراهم قالوا: وما الرحمن،ولم يقولوا: وما الله، فهو وصف يراد به الثناء، وإن كان يجري مجرى الإعلام. {ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قيل دلالتهماواحد نحو ندمان ونديم، وقيل معناهما مختلف، فالرحمن أكثر مبالغة، وكان القياس الترقي، كما تقول: عالم نحرير، وشجاع باسل، لكنأردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف، واختاره الزمخشري. وقيل الرحيمأكثر مبالغة، والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة، فلذلك جمع بينهما، فلا يكون من باب التوكيد. فمبالغة فعلان مثل غضبانوسكران من حيث الامتلاء والغلبة، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة، ولذلك لا يتعدى فعلان، ويتعدى فعيل. تقولزيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلاً، قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك، حكاه ابن سيده عن العرب. ومن رأى أنهمابمعنى واحد، ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر، احتاج أنه يخص كل واحد بشيء، وإن كان أصل الموضوع عنده واحداًليخرج بذلك عن التأكيد، فقال مجاهد: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وروى ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال: الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة . وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه. وقال القرطبي: رحمنالآخرة ورحيم الدنيا. وقال الضحاك: لأهل السماء والأرض. وقال عكرمة: برحمة واحدة وبمائة رحمة. وقال المزني: بنعمة الدنيا والدين. وقالالعزيزي: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار، ونعم الحواس، والنعم العامة، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم، وقال المحاسبي: برحمةالنفوس ورحمة القلوب. وقال يحيـى بن معاذ: لمصالح المعاد والمعاش. وقال الصادق: خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق، وعام اللفظبصيغة خاصة في مغفرة المؤمن. وقال ثعلب: الرحمن أمدح، والرحيم ألطف، وقيل: الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد،والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد. وقال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص بهالله، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى:

{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }

. ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عنإنعامة على عباده، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم، أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفةفعل؟ وقال قوم: هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك، فتكون على هذا صفة ذات، وينبني على هذاالخلاف خلاف أخر، وهو أن صفات الله تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان؟وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب، وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر، لأن الإنسانقد يدفع الشر عمن لا يرق عليه، ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه. وفي البسملة من ضرور البلاغةنوعان: أحدهما: الحذف، وهو ما يتعلق به الباء في بسم، وقد مر ذكره، والحذف قيل لتخفيف اللفظ، كقولهم بالرفاءوالبنين، باليمن والبركة، فقلت إلى الطعام، وقوله تعالى في تسع آيات أي أعرست وهلموا واذهب، قال أبو القاسم السهيلي: وليسكما زعموا، إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفاً، ولكن في حذفه فائدة، وذلك أنهموطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله، لم يكنذكر الله مقدماً، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى، كما تقول في الصلاة الله أكبر، ومعناه من كل شيء، ولكنيحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود القلب، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل. ومنالحذف أيضاً حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط، وذلك لكثرة الاستعمال. النوع الثاني: التكرار في الوصف،ويكون إما لتعظيم الموصوف، أو للتأكيد، ليتقرر في النفس. وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة، وذكروا اختلافالعلماء في ذلك، وأطالوا التفاريع في ذلك، وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع، هذا كتب الفقه، وكذلك تكلم بعضهمعلى التعوذ، وعلى حكمه، وليس من القرآن بإجماع. ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي، إلا إذا كان لفظالقرآن يدل على ذلك الحكم، أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات. واختلف في وصل الرحيم بالحمد، فقرأ قوممن الكوفيين بسكون الميم، ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة، والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد. وحكى الكسائي عنبعض العرب أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف، كأنك سكنت الميم وقطعت الألف، ثم ألقيت حركتها على الميموحذفت ولم تر، وهذه قراءة عن أحد. {ٱلْحَمْدُ } الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده، ونقيضهالذم، وليس مقلوب مدح، خلافاً لابن الأنباري، إذ هما في التصريفات متساويان، وإذ قد يتعلق المدح بالجماد، فتمدح جوهرة ولايقال تحمد، والحمد والشكر بمعنى واحد، أو الحمد أعم، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله، والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال،أصحها أنه أعم، فالحامد قسمان: شاكر ومثن بالصفات. {لِلَّهِ } اللام: للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ،وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد، وللإنتهاء، وللإستعلاء مثل: ذلك المال لزيد، أدوم لك ما تدوملي، ووهبت لك ديناراً،

{ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا }

، الجلباب للجارية، لزيد عم،

{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }

، قلت لك،ولله عيناً، من رأى، من تفوق،

{ هَيْتَ لَكَ }

{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }

{ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ }

، كتب لخمس خلون، لدلوك الشمس،

{ سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ }

{ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ }

. {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الرب: السيد، والمالك، والثابت، والمعبود، والمصلح،وزاد بعضهم بمعنى الصاحب، مستدلاً بقوله:فدنا له رب الكلاب بكفه      بيض رهاف ريشهن مقزع

وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له، كالأنام، واشتقاقه من العلم أو العلامة، ومدلوله كل ذي روح، قاله ابنعباس، أو الناس، قاله البجلي، أو الإنس والجن والملائكة، قاله أيضاً ابن عباس، أو الإنس والجن والملائكة والشياطين، قاله أبوعبيدة والفراء، أو الثقلان، قاله ابن عطية، أو بنو آدم، قاله أبو معاذ، أو أهل الجنة والنار، قاله الصادق، أوالمرتزقون، قاله عبد الرحمن بن زيد، أو كل مصنوع، قاله الحسن وقتادة، أو الروحانيون، قاله بعضهم، ونقل عن المتقدمين أعدادمختلفة في العالمين وفي مقارها، الله أعلم بالصحيح. والجمهور قرأوا بضم دال الحمد، وأتبع ابراهيم بن أبي عبلة ميمه لامالجر لضمة الدال، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام، وهي أغرب، لأن فيه إتباع حركة معربلحركة غير إعراب، والأول بالعكس. وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الإتباع في مرفوع أو منصوب، ويكون الإعراب إذ ذاكعلى التقديرين مقدراً منع من ظهوره شغل الكلمة بحركة الإتباع، كما في المحكى والمدغم. وقرأ هارون العتكي، ورؤبة، وسفيان بنعيينة الحمد بالنصب. والحمد مصدر معرف بأل، إما للعهد، أي الحمد المعروف بينكم لله، أو لتعريف الماهية، كالدينار خير منالدرهم، أي: دينار كان فهو خير من أي درهم كان، فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها، أو لتعريف الجنس، فيدل علىاستغراق الأحمدة كلها بالمطابقة. والأصل في الحمد لا يجمع، لأنه مصدر. وحكى ابن الأعرابي: جمعه على أحمد كأنه راعى فيهجامعه اختلاف الأنواع، قال:وأبلج محمود الثناء خصصته      بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي

وقراءة الرفعأمكن في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأن الحمدمستقر لله تعالى، أي حمده وحمد غيره. ومعنى اللام في لله الاستحقاق، ومن نصب، فلا بد من عامل تقديره أحمدالله أو حمدت الله، فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله، وأشعر بالتجدد والحدوث، ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها،وأقيمت مقامها، وذلك في الأخبار، نحو شكراً لا كفراً. وقدر بعضهم العامل للنصب فعلاً غير مشتق من الحمد، أي أقولالحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعاً وذئباً، والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه. وفيقراءة النصب، اللام للتبيين، كما قال أعني لله، ولا تكون مقوية للتعدية، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عملهفيه. قالوا سقياً لزيد، ولم يقولوا سقياً زبداً، فيعملونه فيه، فدل على أنه ليس من معمول المصدر، بل صار علىعامل آخر. قرأ زيد بن علي وطائفة {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بالنصب على المدح، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها،وضعفت إذ ذاك. على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي أنه قرأ {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }بنصب الثلاثة، فلا ضعف إذ ذاك، وإنما تضعف قراءة نصب رب، وخفص الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعدالقطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلاً، ولا سيما على مذهب الأعلم، إذ لا يجيز في الرحمنأن يكون صفة، وحسن ذلك على مذهب غيره، كونه وصفاً خاصاً، وكون البدل على نية تكرار العامل، فكأنه مستأنف منجملة أخرى، فحسن النصب. وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله، كأنه قيل نحمد الله ربالعالمين، ضعيف، لأنه مراعاة التوهم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه. ومن زعم أنه نصبه على البدل فضعيف للفصلبقوله الرحمن الرحيم، ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر، أو اسم فاعل حذفت ألفة، فأصله راب، كماقالوا رجل بار وبر، وأطلقوا الرب على الله وحده، وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار. وأل في العالمين للاستغراق،وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع، والذي أختاره أنه ينطلقعلى المكلفين لقوله تعالى:

{ إِنَّ فِى ذَلِكَ * الاْيَـٰتِ لّلْعَـٰلَمِينَ }

، وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك. {ٱلرَّحْمَـٰنِٱلرَّحِيمِ } تقدم الكلام عليهما في البسملة، وهما مع قوله {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } صفات مدح، لأن ما قبلهما علم لميعرض في التسمية به اشتراك فيخصص، وبدأ أولاً بالوصف بالربوبية، فإن كان الرب بمعنى السيد، أو بمعنى المالك، أو بمعنىالمعبود، كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر، فناسب ذلك الوصف بالرحمانيةوالرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زل، ويقوى رجاؤه إن هفا، ولا يصح أن يكون الرب بمعى الثابت، ولابمعنى الصاحب، لامتناع إضافته إلى العالمين، وإن كان بمعنى المصلح، كان الوصف بالرحمة مشعراً بقلة الإصلاح، لأن الحامل للشخص علىإصلاح حال الشخص رحمته له. ومضمون الجملة والوصف إن من كان موصوفاً بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقاً للحمد. وخفض الرحمنالرحيم الجمهور، ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني،فالخفض على النعت، وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان، وتقدم شيء من هذا. والنصب والرفع للقطع. وفي تكرارالرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما، وجعل مكي تكرارها دليلاًعلى أن التسمية ليست بآية من الفاتحة، قال: إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد، وهذالا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية. قال: والفصل بينهما بالحمد لله رب العالمين كلا فصل، قال: لأنه مؤخريراد به التقديم تقديره الحمد لله، الرحمن الرحيم، رب العالمين، وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى، ومجاورة الملكبالملك أولى. قال: والتقديم والتأخير كثير في القرآن، وكلام مكي مدخول من غير وجه، ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذاعن ذكره. والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة، ثم ذكر شيئين، أحدهماملكه يوم الجزاء، والثاني العبادة. فناسب الربوبية للملك، والرحمة العبادة. فكان الأول للأول، والثاني للثاني. وقد ذكر المفسرون في علمالتفسير الوقف، وقد اختلف في أقسامه، فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك. وقد صنف الناس في ذلك كتباً مرتبة علىالسور، ككتاب أبي عمرو الداني، وكتاب الكرماني وغيرهما، ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك. {مَـٰلِكَ} قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض، عاصم، والكسائي، وخلف في اختياره، ويعقوب، وهي قراءة العشرة إلا طلحة، والزبير، وقراءةكثير من الصحابة منهم: أُبي، وابن مسعود، ومعاذ، وابن عباس، والتابعين منهم: قتادة والأعمش. وقرأ ملك على وزن فعل بالخفضباقي السبعة، وزيد، وأبو الدرداء، وابن عمر، والمسور، وكثير من الصحابة والتابعين. وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة، وعاصمالجحدري، ورواها الجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو، وهي لغة بكر بن وائل. وقرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بنصالح، عن ورش، عن نافع. وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان النهدي، والشعبي، وعطية، ونسبها ابن عطية إلى أبيحياة. وقال صاحب اللوامح: قرأ أنس بن مالك، وأبو نوفل عمر بن مسلم بن أبي عدي ملك يوم الدين، بنصبالكاف من غير ألف، وجاء كذلك عن أبي حياة، انتهى. وقرأ كذلك، إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص،وعائشة، ومورق العجلي. وقرأ ملك فعلاً ماضياً أبو حياة، وأبو حنيفة، وجبير بن مطعم، وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي،وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري، فينصبون اليوم. وذكر ابن عطية أن هذه قراءة يحيـى بن يعمر، والحسن وعلي بنأبي طالب. وقرأ مالك بنصب الكاف الأعمش، وابن السميفع، وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الملك قاضي الهند. وذكر ابن عطيةأنها قراءة عمر بن عبد العزيز، وأبي صالح السمان، وأبي عبد الملك الشامي. وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكاًبالنصب والتنوين. وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين عون العقيلي، ورويت عن خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم، وبنصب اليوم.وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة، وأبو حياة، وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبيروح عون بن أبي شداد العقيلي، ساكن البصرة. وقرأ مليك على وزن فعيل أُبي، وأبو هريرة، وأبو رجاء العطاردي. وقرأمالك بالإمالة البليغة يحيـى بن يعمر، وأيوب السختياني، وبين بين قتيبة بن مهران، عن الكسائي. وجهل النقل، أعني في قراءةالإمالة، أبو علي الفارسي فقال: لم يمل أحد من القراءة ألف مالك، وذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوزإلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض. وذكر أيضاً أنه قرىء في الشاذ ملاك بالألف والتشديد للام وكسر الكاف. فهذه ثلاثعشرة قراءة، بعضها راجع إلى الملك، وبعضها إلى الملك، قال اللغويون: وهما راجعان إلى الملك، وهو الربط، ومنه ملك العجين.وقال قيس بن الخطيم:ملكت بها كفى فانهرت فتقها      يرى قائماً من دونها ما وراءها

والأملاكربط عقد النكاح، ومن ملح هذه المادة أن جميع تقاليبها الستة مستعملة في اللسان، وكلها راجع إلى معنى القوة والشدة،فبينها كلها قدر مشترك، وهذا يسمى بالإشتقاق الأكبر، ولم يذهب إليه غير أبي الفتح. وكان أبو علي الفارسي يأنس بهفي بعض المواضع وتلك التقاليب: ملك، مكل، كمكل، لكم، كمل، كلم. وزعم الفخر الرازي أن تقليب كمكل مهمل وليس بصحيح،بل هو مستعمل بدليل ما أنشد الفراء من قول الشاعر:فلما رآني قد حممت ارتحاله      تملك لو يجدي عليه التملك

والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة، ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق. والملك هوالقهر على من تتأتى منه الطاعة، ومن لا تتأتى منه، ويكون ذلك منه باستحقاق، فبينهما عموم وخصوص من وجه. وقالالأخفش: يقال ملك من الملك، بضم الميم، ومالك من الملك، بكسر الميم وفتحها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذاالمعنى. وروي عن بعض البغداديين لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد. {يَوْمٍ }، اليوم هو المدة منطلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويطلق على مطلق الوقت، وتركيبه غريب، أعني وجود مادة تكون فاء الكلمة فيها ياء وعينهاواواً لم يأت من ذلك سوى يوم وتصاريفه ويوح اسم للشمس، وبعضهم زعم أنه بوج بالباء، والمعجمة بواحدة من أسفل.{ٱلدّينِ } الجزاء دناهم كما دانوا، قاله قتادة، والحساب

{ ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ }

، قاله ابن عباس والقضاء

{ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ }

، والطاعة في دين عمرو، وحالت بيننا وبينك فدك، قاله أبو الفضل والعادة، كدينك من أمالحويرث قبلها، وكنى بها هنا عن العمل، قاله الفراء والملة،

{ وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً }

{ إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ }

، والقهر، ومنه المدين للعبد، والمدينة للأمة، قاله يمان بن رئاب. وقال أبو عمرو الزاهد: وإن أطاع وعصى وذل وعزوقهر وجار وملك. وحكى أهل اللغة: دنته بفعله ديناً بفتح الدال وكسرها جازيته. وقيل: الدين المصدر، والدين بالكسر الإسم، والدينالسياسة، والديان السايس. قال ذو الإصبع عنه: ولا أنت دياني فتحزوني، والدين الحال. قال النضر بن شميل: سألت أعرابياً عنشيء، فقال: لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك، والدين الداء عن اللحياني وأنشد:يا دين قلبك من سلمى وقد دينا     

ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة، فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها، أومليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة، وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة،ويدل عليه قراءة من قرأ ملك يوم الدين فعلاً ماضياً، وإن كان بمعنى الاستقبال، وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجدفهو مشكل، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة، وإنأضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة، لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة، لأن البدلبالصفات ضعيف. وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل، إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال، جاز فيه وجهان: أحدهما ماقدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه، إذ يكون منوياً فيه الانفصال من الإضافة، ولأنه عمل النصب لفظاً. الثاني:أن يتعرف به إذا كان معرفة، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفاً بهذا الوصف، وكان تقييده بالزمان غير معتبر، وهذاالوجه غريب النقل، لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه. قال سيبويه، رحمه الله تعالى،وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة، وذلك معروف فيكلام العرب، انتهى. واستثنى من ذلك باب الصفة المشبهة فقط، فإنه لا يتعرف بالإضافة نحو حسن الوجه. ومن رفع الكافونون أو لم ينون فعلى القطع إلى الرفع. ومن نصب فعلى القطع إلى النصب، أو على النداء والقطع أغرب لتناسقالصفات، إذ لم يخرج بالقطع عنها. ومن قرأ ملك فعلاً ماضياً فجملة خبرية لا موضع لها من الإعراب، ومن أشبعكسرة الكاف فقد قرأبنا درأ وبما ذكر أنه لا يجوز إلا في الشعر، وإضافة الملك أو الملك إلى يوم الدينإنما هو من باب الاتساع، إذ متعلقهما غير اليوم. والإضافة على معنى اللام، لا على معنى في، خلافاً لمن أثبتالإضافة بمعنى في، ويبحث في تقرير هذا في النحو، وإذا كان من الملك كان من باب.طباخ ساعات الكرى زاد الكسل     

وظاهر اللغة تغاير الملك والمالك كما تقدم، وقيل هما بمعنى واحد كالفره والغاره، فإذا قلنا بالتغاير فقيل مالكأمدح لحسن إضافته إلى من لا تحسن إضافة الملك إليه، نحو مالك الجن والإنس، والملائكة والطير، فهو أوسع لشمول العقلاءوغيرهم، قال الشاعر:سبحان من عنت الوجوه لوجهه      ملك الملوك ومالك العفر

قال الأخفش، ولا يقال هناملك، ولقولهم مالك الشيء لمن يملكه، وقد يكون ملكاً لا مالكاً نحو ملك العرب والعجم، قاله أبو حاتم، ولزيادته فيالبناء، والعرب تعظم بالزيادة في البناء، وللزيادة في أجزاء الثاني لزيادة الحروف، ولكثرة من عليها من القراء، ولتمكن التصرف ببيعوهبة وتمليك، ولإبقاء الملك في يد المالك إذا تصرف بجور أو اعتداء أو سرف، ولتعينه في يوم القيامة، ولعدم قدرةالملوك على انتزاعه من الملك، ولكثرة رجائه في سيده بطلب ما يحتاج إليه، ولوجوب خدمته عليه، ولأن المالك يطمع فيه،والملك يطمع فيك، ولأن له رأفة ورحمة، والملك له هيبة وسياسة. وقيل ملك أمدح وأليق إن لم يوصف به اللهتعالى لإشعاره بالكثرة ولتمدحه بمالك الملك، ولم يقل مالك الملك، ولتوافق الابتداء والاختتام في قوله

{ مَلِكِ ٱلنَّاسِ }

، والاختتام لايكون إلا بأشرف الأسماء، ولدخول المالك تحت حكم الملك، ولوصفه نفسه بالملك في مواضع، ولعموم تصرفه فيمن حوته مملكته، وقصرالملك على ملكه، قاله أبو عبيدة، ولعدم احتياج الملك إلى الإضافة، أو مالك لا بد له من الإضافة إلى مملوك،ولكنه أعظم الناس، فكان أشرف من المالك. قال أبو علي: حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيءبقوله {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، فقراءة مالك تقرير، قال أبو علي، ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل تقدم العام، ثمذكر الخاص منه

{ ٱلْخَـٰلِقُ ٱلْبَارِىء ٱلْمُصَوّرُ }

، فالخالق يعم، وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة،ومنه

{ وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

، بعد قوله

{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }

، وإنما كرر تعظيماً لها، وتنبيهاً على وجوب اعتقادها، والردعلى الكفرة الملحدين، ومنه {الرحمن الرحيم}، ذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله

{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }

، انتهى. وقال ابن عطية: وأيضاً فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك، كقوله:ومـن قبـل ربيتنـي فصفـت ربـوب     

وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ ملك. والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملكزمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيه، وأهل النار فيها، ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر،كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين. لكنه لما كان اليوم ظرفاً للأمر، جاز أن يتسع فيتسلط عليهالملك أو المالك، لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف. وفائدة تخصيص هذه الإضافة، وإن كان الله تعالى مالك الأزمنةكلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام منقيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به، أو على أنهيوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخوّلهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك قال تعالى:

{ وَكُلُّهُمْ * ءاتِيَةٌ *يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْداً }

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }

. قال ابن السراج: إن معنى {مَـٰلِكِ يَوْمِٱلدّينِ } إنه يملك مجيئه ووقوعه، فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة، وليس طرفاً اتسعفيه، وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة، قال ابن مسعود،وابن عباس، وقتادة، وابن جريج وغيرهم: يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب. قال أبو علي: ويدل على ذلك

{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ }

، و

{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

. وقال مجاهد: يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين،وفي قوله: {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب، ولما اتصف تعالى بالرحمة، انبسط العبد وغلب عليهالرجاء، فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل، وأن لعمله يوماً تظهر له فيه ثمرته من خيروشر. {إِيَّاكَ }، إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها، فيكون ضمير نصب منفصلاً لا اسماً ظاهراًأضيف خلافاً لزاعمه، وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده؟ واللواحق حروف، أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها،أو اللواحق وحدها، وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر، أقوال ذكرت في النحو. وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأالجمهور، وبفتح الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الفضل الرقاشي، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء، وبها قرأ عمرو بن فائد، عن أُبي،وبإبدال الهمزة المكسورة هاء، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء، وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي، وذهاب أبي عبيدة إلى أن إيا مشتقضعيف، وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو، وإن كان إماماً في اللغات وأيام العرب. وإذا قيل بالاشتقاق، فاشتقاقه من لفظ،أو من قوله:فا ولذكـراهـا إذا مـا ذكـرتهـا     

فتكون من باب قوة، أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله:لـم يبق هـذا الدهـر مـن إيائه     

قولان، وهل وزنه إفعل وأصله إ أو و أو إ أو ي أو فعيل فأصلهأو يو أو او يـي أو فعول، وأصله إو وو أو اويـي أو فعلى، فأصله أووى أواويا، أقاويل كلها ضعيفة،والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو، وإضافة إيا لظاهر نادر نحو: وإيا الشواب، أو ضرورة نحو:دعني وإيا خالد، واستعماله تحذيراً معروف فيحتمل ضميراً مرفوعاً يجوز أن يتبع بالرفع نحو: إياك أنت نفسك. {نَعْبُدُ }،العبادة: التذلل، قاله الجمهور، أو التجريد، قاله ابن السكيت، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف، نحو: عبدت الرجل ذللته، وعبدت اللهذللت له. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو المتوكل: إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول، وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال.وقرأ زيد بن علي، ويحيـى بن وثاب، وعبيد بن عمير الليثي: نعبد بكسر النون. {نَسْتَعِينُ }، الاستعانة، طلب العون،والطلب أحد معاني استفعل، وهي اثنا عشر معنى، وهي: الطلب، والاتحاد، والتحول، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك،ومطاوعة افعل وموافقته، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد، والاغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم، واستعبده، واستنسر واستعظمه واستحسنه، وإنلم يكن كذلك، واستشلى مطاوع اشلى، واستبل موافق مطاوع ابل، واستكبر موافق تكبر، وأستعصم موافق اعتصم، واستغنى موافق غنى، واستنكفواستحيا مغنيان عن المجرد، واسترجع، واستعان حلق عانته، مغنيان عن فعل، فاستعان طلب العون، كاستغفر، واستعظم. وقال صاحب اللوامح: وقدجاء فيه وياك أبدل الهمزة واواً، فلا أدري أَذالك عن الفراء أم عن العرب، وهذا على العكس مما فروا إليهفي نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة، واستثقالاً للكسرة على الواو. وفي وياك فروا منالهمزة إلى الواو، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع، وبكون استفعل أيضاً لموافقة تفاعل وفعل.حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم: تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد، أي احتبست به، قال ويقال:مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت، احتبست، انتهى. فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل. وفتح نون نستعين قرأبها الجمهور، وهي لغة الحجاز، وهي الفصحى. وقرأ عبيد بن عمير الليثي، وزر بن حبيش، ويحيـى بن وثاب، والنخعي، والأعمش،بكسرها، وهي لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه. وقال أبو جعفر الطوسي:هي لغة هذيل، وانقلاب الواو ألفاً في استعان ومستعان، وياء في نستعين ومستعين، والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف،ويعدى استعان بنفسه وبالباء. إياك مفعول مقدم، والزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص، فكأنه قال: ما نعبدإلا إياك، وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله اتلوا، وذكرنا نص سيبويه هناك. فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناءوالاهتمام بالمفعول. وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض، فقدما الأهم، وإياك التفات لأنه انتقالمن الغيبة، إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه. والانتقال من فنون البلاغة، وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أوالتكلم، ومن الخطاب للغيبة أو التكلم، ومن التكلم للغيبة أو الخطاب. والغيبة تارة تكون بالظاهر، وتارة بالمضمر، وشرطه أن يكونالمدلول واحداً. ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله تعالى؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام، والاقتدار علىالتصرف فيه. وقد ذكر بعضهم مزيداً على هذا، وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع، ونتكلم على ذلك حيث يقعلنا منه شيء، وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور،أقبل الحامد مخبراً بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره، أنه وغيره يعبده ويخضع له. وكذلك أتى بالنون التيتكون له ولغيره، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين، كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره. ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصافجليلة، مخبراً عنه أخبار الغائب، ويكون ذلك الشخص حاضراً معك، فتقول له: إياك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطفعلى بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا. ومن ذهب إلىأن ملك منادى، فلا يكون إياك التفاتاً لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة، كما قال:يا دار مية بالعلياء فالسند      أقوت وطال عليها سالف الأبد

ومن الخطاب بعد النداء:ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى      ولا زال منها بجرعائك القطر

ودعوى الزمخشريفي أبيات امرىء القيس الثلاثة أن فيه ثلاثة التفاتات غير صحيح، بل هما التفاتان: الأول: خروج من الخطاب المفتتحبه في قوله:تطاول ليلك بالاثمد      ونام الخلي ولم ترقد

إلى الغيبة في قوله:وبات وباتت له ليلة     كليلة ذي العائر الأرمد

الثاني: خروج من هذه الغيبة إلىالتكلم في قوله: وذلك من نبأ جاءني. وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين. إن الأول هوالانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية، وإضمار قولواقبل الحمد لله، وإضمارها أيضاً قبل إياك لا يكون معه التفات، وهو قول مرجوح. وقد عقد أرباب علم البديع باباًللالتفات في كلامهم، ومن أجلهم كلاماً فيه ابن الأثير الجزري، رحمه الله تعالى. وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنياًللمفعول مشكلة، لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتاً، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضميرالمرفوع، فكأنه قال أنت، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد،وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة، وهو ينظر إلى قول الشاعر:أأنت الهلالي الذي كنت مرة      سمعنا به والأرحبي المغلب

وإلى قول أبي كثير الهذلي:يا لهف نفسي كان جلدة خالد      وبياض وجهك للتراب الأعفر

وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع، وهو أصل موضوع اللغةأو الطاعة، كقوله تعالى:

{ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ }

، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي، أي عندعائي، أو التوحيد إلا ليعبدون أي ليوحدون، وكلها متقاربة المعنى. وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلىالله تعالى، وبين ما يطلبه من جهته. وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها، وأطلقالعبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه. وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقاً في جملتين، وكلمنهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين، فإنه كان يحتمل أن يكون إخباراً بطلبلعون، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب.. ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة،كقول بعضهم: إياك نعبد بالعلم، وإياك نستعين عليه بالمعرفة، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. وفي قوله: نعبد قالوارد على الجبرية، وفي نستعين رد على القدرية، ومقام العبادة شريف، وقد جاء الأمر به في مواضع، قال تعالى:

{ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ }

{ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }

، والكناية عن أشرف المخلوقين . قال تعالى:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ }

{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا }

، وقال تعالى، حكاية عن عيسى، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، قال:

{ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ }

، وقال تعالى وتقدس:

{ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى }

فذكر العبادة عقيب التوحيد، لأن التوحيد هو الأصل، والعبادة فرعه.وقالوا في قوله: إياك. رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع، فإنه خطاب لموجود حاضر. {ٱهْدِنَا }، الهداية: الإرشادوالدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين،

{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ }

أو الإلهام

{ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }

، قالالمفسرون: معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو الدعاء، ولكل قوم هاد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلىثاني معمولة باللام

{ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }

أو إلى

{ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

ثم يتسع فيه فيعدى إليهبنفسه، ومنه {ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ }، ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه. ويكون في موضع رفع ونصب وجر.{ٱلصّرٰطِ } الطريق، وأصله بالسين من السرط، وهو اللقم، ومنه سمي الطريق لقماً، وبالسين على الأصل قرأ قبل ورويس، وإبدالسينه صاداً هي الفصحى، وهي لغة قريش، وبها قرأ الجمهور، وبها كتبت في الإمام، وزاياً لغة رواها الأصمعي عن أبيعمرو، وأشمامها زاياً لغة قيس، وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته. وقال أبو يعلى: وروي عن أبي عمرو، والسينوالصاد والمضارعة بين الزاي والصاد، ورواه عنه العريان عن أبي سفيان، وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة.قال بعض اللغويين: ما حكاه الأصمعي في هذه القراءة خطأ منه إنما سمع أبا عمرو يقرؤها بالمضارعة فتوهمها زاياً، ولميكن الأصمعي نحوياً فيؤمن على هذا. وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد، وقال أبو جعفر الطوسيفي تفسيره، وهو إمام من أئمة الإمامية: الصراط بالصاد لغة قريش، وهي اللغة الجيدة، وعامة العرب يجعلونها سيناً، والزاي لغةلعذرة، وكعب، وبني القين. وقال أبو بكر بن مجاهد، وهذه القراءة تشير إلى أن قراءة من قرأ بين الزاي والصادتكلف حرف بين حرفين، وذلك صعب على اللسان، وليس بحرف ينبني عليه الكلام، ولا هو من حروف المعجم. لست أدفعأنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح وأوسع، ويذكر ويؤنث، وتذكيره أكثر. وقال أبو جعفر الطوسي: أهل الحجازيؤنثون الصراط كالطريق، والسبيل والزقاق والسوق، وبنو تميم يذكرون هذا كله ويجمع في الكثرة على سرط، نحو كتاب وكتب، وفيالقلة قياسه أسرطه، نحو حمار وأحمره، هذا إذا كان الصراط مذكراً، وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع وشمالوأشمل. وقرأ زيد بن علي، والضحاك، ونصر بن علي، عن الحسن: اهدنا صراطاً مستقيماً، بالتنوين من غير لام التعريف، كقوله:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرٰطِ ٱللَّهِ }

. {ٱلْمُسْتَقِيمَ }، استقام: استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد، وهذا أحدمعاني استفعل، وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد، وهو قام، والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج. {صِرَاطَ ٱلَّذِينَ} اسم موصول، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة، وبعض العرب يجعله بالواو وفي حالة الرفع، واستعماله بحذف النون جائز،وخص بعضهم ذلك بالضرورة، إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها، وسمع حذف أل منه فقالوا: الذين، وفيما تعرفبه خلاف ذكر في النحو، ويخص العقلاء بخلاف الذي، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره. {أَنْعَمْتَ }، النعمة: لينالعيش وخفضه، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها، وسميت النعامة للين سهمها: نعم إذا كان في نعمة، وأنعمت عينه أيسررتها، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه، أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه، إلا أنه ضمنمعنى التفضل، فعدى بعلى، وأصله التعدية بنفسه. أنعمته أي جعلته صاحب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرونمعنى، هذا أحدها. والتعدية، والكثرة، والصيرورة، والإعانة، والتعريض، والسلب، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه، وبلوغ عدد أو زمان أومكان، وموافقة ثلاثي، وإغناء عنه، ومطاوعة فعل وفعل، والهجوم، ونفي الغريزة، والتسمية، والدعاء، والاستحقاق، والوصول، والاستقبال، والمجيء بالشيء والتفرقة مثلذلك أدنيته وأعجبني المكان، وأغد البعير وأحليت فلاناً، وأقبلت فلاناً، واشتكيت الرجل، وأحمدت فلاناً، وأعشرت الدراهم، وأصبحنا، وأشأم القوم، وأحزنهبمعنى حزنه، وأرقل، وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب، وأفطر مطاوع فطرته، وأطلعت عليهم، وأستريح، وأخطيته سميته مخطئاً، وأسقيته، وأحصدالزرع، وأغفلته وصلت غفلتي اليه، وافقته استقبلته بأف هكذا مثل هذا. وذكر بعضهم أن أفعل فعل، ومثل الاستقبال أيضاً بقولهم:أسقيته أي استقبلته بقولك سقياً لك، وكثرت جئت بالكثير، وأشرقت الشمس أضاءت، وشرقت طلعت. التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكرالمفرد، وهي حرف في أنت، والضميران فهو مركب. {عَلَيْهِمْ }، على: حرف جر عند الأكثرين، إلا إذا جرت بمن،أو كانت في نحو هون عليك. ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف، ولذلك لم يعدها في حروف الجر، ووافقهجماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازاً، وزيد أن تكون بمعنى عن، وبمعنى الباء، وبمعنى في، وللمصاحبة، وللتعليل،وبمعنى من، وزائدة، مثل ذلك

{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }

{ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }

، بعد على كذا حقيق عليأن لا أقول على ملك سليمان

{ وآتى المال على حبه }

{ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ }

{ حَـٰفِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ }

أبى الله إلا أن سرحة مالك      على كل أفنان العضاه تروق

أيتروق كل أفنان العضاة. هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل، ويكون في موضع رفع ونصب وجر. وحكى اللغويون في عليهمعشر لغات ضم الهاء، وإسكان الميم، وهي قراءة حمزة. وكسرها وإسكان الميم، وهي قراءة الجمهور. وكسر الهاء والميم وياء بعدها،وهي قراءة الحسن. وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد وكذلك بغير ياء، وهي قراءة عمرو بن فائد. وكسرالهاء وضم الميم واو بعدها، وهي قراءة ابن كثير، وقالون بخلاف عنه. وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاءوالميم وواو بعدها، وهي قراءة الأعرج والخفاف عن أبي عمرو. وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها. كذلكبغير ياء. وقرىء بهما، وتوضيح هذه القراءآت بالخط والشكل: عليهم، عليهم عليهموا، عليهمي، عليهم، عليهم، عليهمي، عليهم، عليهموا. وملخصها ضمالهاء مع سكون الميم، أو ضمها بإشباع، أو دونه، أو كسرها بإشباع، أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم، أوكسرها بهشباع، أو دونه، أو ضمها بإشباع، أو دونه، وتوجيه هذه القراءآت ذكر في النحو. اهدنا صورته صورة الأمر، ومعناهالطلب والرغبة، وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملاً، وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطالب، لا علىفور، ولا تكرار، ولا تحتم، وهل معنى اهدنا ارشدنا، أو وفقنا، أو قدمنا، أو ألهمنا، أو بين لنا أو ثبتنا؟أقوال أكثرها عن ابن عباس، وآخرها عن علي وأُبي. وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط، ومعنى الصراط القرآن، قاله علي وابنعباس: وذكر المهدوي أنه روي عن رسول الله أنه فسره بكتاب الله أو الإيمان وتوابعه، أوالإسلام وشرائعه، أو السبيل المعتدل، أو طريق النبي ، وأبي بكر وعمر، قاله أبو العالية والحسن، أوطريق الحج، قاله فضيل بن عياض، أو السنن، قاله عثمان، أو طريق الجنة، قاله سعيد بن جبير، أو طريق السنةوالجماعة، قاله القشيري، أو طريق الخوف والرجاء، قاله الترمذي، أو جسر جهنم، قاله عمرو بن عبيد. وروي عن المتصوفةفي قوله تعالى: {ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }أقوال، منها: قول بعضهم: {ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطاًبالصراط، وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند الحيرة من أشهار الصفات الأزلية، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا فيالصفات الأزلية. وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ، ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد. وقد شحنت التفاسيربأقوالهم، ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها. وقد رد الفخر الرازي علىمن قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه، قال: لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولميكن لهم القرآن ولا الإسلام، يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها. وهذه الرد لا يتأتى لهإلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون، وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم، واتصال ناباهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلىالطريق الواضح، لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة. ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصحله بلوغ مقصوده؟ وقرأ الحسن، والضحاك: صراطاً مستقيماً دون تعريف. وقرأ جعفر الصادق: صراط مستقيم بالإضافة، أي الدين المستقيم. فعلىقراءة الحسن والضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرٰطِ ٱللَّهِ}، وعلى قراءة الصادق وقراءآت الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء، وهما بعين واحدة،وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل {ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } كان فيه بعض إبهام، فعينه بقوله: {صِرَاطَ ٱلَّذِينَ }ليكون المسؤول الهداية إليه، قد جرى ذكره مرتين، وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم، فيكونذلك أثبت وأوكد، وهذه هي فائدة نحو هذا البدل، ولأنه على تكرار العامل، فيصير في التقدير جملتين، ولا يخفى مافي الجملتين من التأكيد، فكأنهم كرر واطلب الهداية. ومن غريب القول أن الصراط الثاني ليس الأول، بل هو غيره،وكأنه قرىء فيه حرف العطف، وفي تعيين ذلك اختلاف. قيل هو العلم بالله والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد، وقيلالتزام الفرائض واتباع السنن، وقيل هو موافقه الباطن للظاهر في إسباغ النعمة. قال تعالى:

{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً }

وقرأ: صراط من أنعمت عليهم، ابن مسعود، وعمر، وابن الزبير، وزيد بن علي. والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكةأو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا، أو النبي أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أو المؤمنون،قاله ابن عباس. أو الأنبياء والمؤمنون، أو المسلمون، قاله وكيع، أقوال، وعزا كثيراً منها إلى قائلها ابن عطية، فقال: قالابن عباس: والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، انتزعوا ذلك من آية النساء. وقال ابن عباس أيضاً: هم المؤمنون.وقال الحسن: أصحاب محمد . وقالت فرقة: مؤمنو بني إسرائيل. وقال ابن عباس: أصحاب موسى قبل أنيبدلوا. وقال قتادة: الأنبياء خاصة. وقال أبو العالية: محمد وأبو بكر وعمر، انتهى. ملخصاً ولم يقيدالأنعام ليعم جميع الأنعام، أعني عموم البدل. وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة، وقيل بأن نجاهم من الهلكة، وقيل بالهداية واتباعالرسول، وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه، وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد. واختلف هل لله نعمةعلى الكافر؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم. وموضع عليهم نصب، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل، أو ما جرى مجراه، غيرمبني للمفعول. وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها، أي طلبنا منك الهداية، إذ سبق إنعامك، فمنإنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا، كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة ونذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج، فيكون ذلكآكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائه. وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهرى، ويجوز إقرارها معه على لغة، ومضمون هذهالجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم، لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينهفقد حصلت له الهداية، لكن يسأل دوامها واستمرارها. {غَيْرِ } مفرد مذكر دائماً وإذا أريد به المؤنث جاز تذكيرالفعل حملاً على اللفظ، وتأنيثه حملاً على المعنى، ومدلوله المخالفة بوجه مّا، وأصله الوصف، ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظاً أومعنى، وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف، وإن أضيف إلى معرفة. ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحداً تعرفبإضافته إليه، وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة، قد يقصد بها التعريف، فتصير محضة، فتتعرف إذ ذاكغير بما تضاف إليه إذا كان معرفة، وتقرير هذا كله في كتب النحو. وزعم البيانيون أن غير أو مثلاً فيباب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه، قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه، ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك، مما لايقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه، ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان منمقتضى القياس، وموجب العرف أن يفعل ما ذكر، وقوله:غيـري بـأكثر هـذا النـاس ينخـدع     

غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر،وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو: يكون للمكرمات مثلك، وينخدع بأكثر هذا الناس غيري، فأنت ترى الكلاممقلوباً على جهته. {ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }، الغضب: تغير الطبع لمكروه، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته. لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائداً، ولا يكون إسماً خلافاً للكوفيين. {وَلاَ ٱلضَّالّينَ }، والضلال: الهلاك، والخفاء ضل اللبن في الماء، وقيلأصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي، وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه، وأضللت الشيء ضيعته، وأضل أعمالهم، وضلغفل ونسي، وأنا من الضالين، {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا }، والضلال سلوك غير القصد، ضل عن الطريق سلك غير جادتها، والضلالالحيرة، والتردد، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة، وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأموروبالمحبة، وسيأتي ذلك في مواضعه، والجر في غير قراءة الجمهور. وروى الخليل عن ابن كثير النصب، وهي قراءة عمر، وابنمسعود، وعلي، وعبد الله بن الزبير. فالجر على البدل من الذين، عن أبي علي، أو من الضمير في عليهم، وكلاهماضعيف، لأن غيرا أصل وضعه الوصف، والبدل بالوصف ضعيف، أو على النعت عن سيبويه، ويكون إذ ذاك غير تعرفت بماأضيفت إليه، إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه، في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلافي الصفة المشبهة، أو على ما ذهب إليه ابن السراج، إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع، أو على أنالذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم. قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة، وهذا هدم لما اعتزموا عليه منأن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير فيعليهم، وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره، وهو خطأ، لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع لهلا يجوز، أو على الاستثناء، قاله الأخفش، والزجاج وغيرهما، وهو استثناء منقطع، إذ لم يتناوله اللفظ السابق، ومنعه القراء منأجل لا في قوله {وَلاَ ٱلضَّالّينَ }، ولم يسوغ في النصب غير الحال، قال لأن لا تزاد إلا إذا تقدمالنفي، نحو قول الشاعر:ما كان يرضى رسول الله فعلهم      والطيبان أبو بكر ولا عمر

ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة، أي زائدة مثلها في قوله تعالى:

{ مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجد }

وقول الراجز:فما ألوم البيـض أن لا تسخــرا     

وقول الأحوص:ويلجئني في اللهو أن لا أحبه     واللهو داع دائب غير غافل

قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه، وقال غيره معناه إرادة أن لاأحبه، فلا فيه متمكنة، يعني في كونها نافية لا زائدة، واستدلوا أيضاً على زيادتها ببيت أنشده المفسرون، وهو:أبى جوده لا البخل واستعجلت به     نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وزعموا أن لا زائدة، والبخلمفعول بأبي، أي أبى جوده البخل، ولا دليل في ذلك، بل الأظهر أن لا مفعول بأبي، وأن لفظة لا لاتتعلق بها، وصار إسناداً لفظياً، ولذلك قال: واستعجلت به نعم، فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت، وهو إسناد لفظي، والبخل بدلمن لا أو مفعول من أجله، وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل، وهذا تقدير سهل، وعليهم في موضعرفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله، وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل، إذا حذف خلاف ذكر في النحو.ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو، ولا في قوله: {وَلاَ ٱلضَّالّينَ } لتأكيد معنىالنفي، لأن غير فيه النفي، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبةغير، ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين. وقرأ عمر وأبي وغير الضالين، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصبوالخفض، ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين، والتأكيد فيها أبعد، والتأكيد في لا أقرب، ولتقارب معنى غير منمعنى لا أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال: وتقول أنا زيداً غير ضارب، مع امتناع قولك أنا زيداً مثلضارب، لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب، يريد أن العامل إذا كان مجروراً بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدمعليه ولا على المضاف، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير، فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا،فكما أن لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها، فكذلك غير. وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها، ليقويبها التناسب بين غير ولا، إذ لم يذكر فيها خلافاً. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جداً، بناه علىجواز أنا زيداً لا ضارب، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو، وكون اللفظ يقارباللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه، ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب، ولم يسمع أنازيداً غير ضارب. وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه، وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفاً، قالالتقدير غير صراط المغضوب عليهم، وأطلق هذا التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير،فيكون صفة لقوله الصراط، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف، والأصل العكس، أو صفة للبدل، وهو صراط الذين، أو بدلاًمن الصراط، أو من صراط الذين، وفيه تكرار الإبدال، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها، إلا أنهم ذكرواذلك في بدل النداء، أو حالاً من الصراط الأول أو الثاني. وقرأ أيوب السختياني: ولا الضألين، بإبدال الألف همزةفراراً من التقاء الساكنين. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز، وجاءت منه ألفاظ، ومع ذلك فلا ينقاس هذاالإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس، نص على أنه لا ينقاس النحويون، قال أبو زيد: سمعت عمرو بن عبيديقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة. قال أبوالفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير:إذا مـا العوالي بالعبيـط احمـأرت     

وقول الآخر:وللأرض إما سودها فتجلت      بياضاً وإما بيضها فادهأمت

وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة، ينبغي أن ينقاس ذلك، وجعل الإنعامفي صلة الذين، والغضب في صلة أل، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه،والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالإسم في صلةأن ليشمل سائر الأزمان، وبناه للمفعول، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه، لأنهمقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول علىموصول مثله لتوافق آخر الآي. والمراد بالإنعام، الإنعام الديني، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل. وقيلالمغضوب عليهم: اليهود، والضالّون النصارى، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد. وروي هذا عن عدي بن حاتم،عن رسول الله ، وإذا صح هذا وجب المصير إليه، وقيل اليهود والمشركون، وقيل غير ذلك. وقدروي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم، بتركحسن الأدب في أوقات القيام بخدمته، ولا الضالين، برؤية ذلك، وقيل غير هذا. والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام منالعاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به، فيكون منصفات الأفعال، وقدم الغضب على الضلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام، ومناسبةذكره قرينة، لأن الإنعام يقابل بالانتقام، ولا يقابل الضلال الإنعام فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه، والانتقام إيصال الشر إلىالمغضوب عليه، فبينهما تطابق معنوي، وفيه أيضاً تناسب التسجيع، لأن قوله ولا الضالين، تمام السورة، فناسب أواخر الآي، ولو تأخرالغضب، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي. وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنىمن مغايرة جمع الوصفين، الغضب عليه، والضلال لمن أنعم الله عليه، وإن فسر اليهود والنصارى. فالتقديم إما للزمان أو لشدةالعداوة، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى. وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيانفوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب،وكان عالماً بافتنان الكلام، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام. وأما من لا اطلاع له على كلام العرب، وجسا طبعهحتى عن الفقرة الواحدة من الأدب، فسمعه عن هذا الفن مسدود، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود. قالوا: وفي هذه السورةالكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:. النوع الأول: حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم،على قول من عدها منها، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها، مفتتحاً باسم الله، وإن كان أولها الحمد لله، فحمدالله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثروالنظام، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ظاهر وخفي على ماقسم في علم البديع. النوع الثاني: المبالغة في الثناء، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر. النوع الثالث:تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله:

{ لاَ رَيْبَ فِيهِ }

ومعناه النهي. النوع الرابع: الاختصاص باللام التي في لله، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به، إذ هو مستحقلها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم، وتفرده فيه بالملك والملك، قال تعالى:

{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ }

، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه. النوع الخامس: الحذف، وهو على قراءة مننصب الحمد ظاهر، وتقدم، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه؟ قال بعضهم؟ ومنه حذف العامل الذي هوفي الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر، قال: ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب، التقديرغير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه، إذكروا أو اقرؤا، فتقديرهاقرؤوا سورة الحمد، وأما من قيد الرحمن، والرحيم، ونعبد، ونستعين، وأنعمت، والمغضوب عليهم، والضالين، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة.النوع السادس: التقديم والتأخير، وهو في قوله نعبد، ونستعين، والمغضوب عليهم، والضالين، وتقدم الكلام على ذلك. النوع السابع: التفسير، ويسمىالتصريح بعد الإبهام، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم. النوع الثامن: الالتفات، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين،اهدنا. النوع التاسع: طلب الشيء، وليس المراد حصوله بل دوامه، وذلك في اهدنا. النوع العاشر: سرد الصفات لبيان خصوصية فيالموصوف أو مدح أو ذم. النوع الحادي عشر: التسجيع، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين فيالوزن والروي، قوله تعالى: {ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }، وقوله تعالى: {نَسْتَعِينُ وَلاَ ٱلضَّالّينَ }، انقضى كلامناعلى تفسير الفاتحة. وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن، وجوزهالجمهور. والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه. عند الجمهور المكيون والكوفيون {بِسْمِ اللَّهِٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } آية، ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، وسائر العادين، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية،وعدوا {صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية، وشذ عمرو بن عبيد، فجعل آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، فهي على عدة ثمانآيات، وشذ حسين الجعفي، فزعم أنها ست آيات. قال ابن عطية: وقول الله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي }

هو الفصل في ذلك. ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية، وشذ ابن المبارك فقال: إنهاآية في كل سورة، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية. وذكر المفسرونعدد حروف الفاتحة، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول. وذكروا أحاديث في فضل بسم الله الرحمن الرحيم، اللهأعلم بها، وذكروا للتسمية أيضاً نزول ما لا يعد سبباً، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، والسبعالمثاني، والواقية، والكافية، والشفاء، والشافية، والرقية، والكنز، والأساس، والنور، وسورة الصلاة، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التفويض. وذكروا أنما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة، والكلام على هذا كله من باب التذييلات، لا أن ذلك من علم التفسيرإلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله ،فذلك يضطر إليه علم التفسير. وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها، والاختلاف في مدلولها، وحكمها في الصلاة، وليست من القرآن، فلذلكأضربنا عن الكلام عليها صفحاً، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عنعلم التفسير حذفناها من كتابنا هذا، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة، والله تعالى أعلم.