تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة قريش


بسم الله الرحمن الرحيم

{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } * { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } * { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } * { ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }

قريش: علم اسم قبيلة، وهم بنو النضر بن كنانة، فمن كان من بنيالنضر فهو من قريش دون بني كنانة. وقيل: هم بنو فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده فهر فليسبقرشي.

قال القرطبي: والقول الأول أصح وأثبت، وسموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق، والتقريش: التجمع والالئتام، ومنه قول الشاعر:

إخوة قرشوا الذنوب علينا     في حديث من دهرهم وقديم

كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصيبن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً، ومنه قوله:

أبونا قصي كان يدعى مجمعا     به جمع الله القبائل من فهر

وقال الفراء: التقرش: التكسب، وقد قرش يقرش قرشاً، إذا كسب وجمع، ومنه سميت قريش.وقيل: كانوا يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها، والقرش: التفتيش، ومنه قول الشاعر:

أيها الناطق المقرش عنا     عند عمرو وهل لذاك بقاء

وسأل معاوية بن عباس: بم سميت قريش قريشاً؟ فقال: بدابة فيالبحر أقوى دوابه يقال لها القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، ومنه قول تبع:

وقريش هي التي تسكن البحــــر بهـا سميت قـريش قريشـا تأكل الغث والسمين ولا تتــــرك فيها لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حيّ قريش     يأكلون البلاد أكلاً كميشا ولهم آخر الزمان نبي

وفي الكشاف: دابة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار. فإن كان قريش منمزيد فيه فهو تصغير ترخيم، وإن كان من ثلاثي مجرد فهو تصغير على أصل التصغير. الشتاء والصيف فصلان معروفان منفصول السنة الأربعة، وهمزة الشتاء مبدلة من واو، قالوا: شتا يشتو، وقالوا: شتوة، والشتاء مفرد وليس بجمع شتوة. {لإِيلَـٰفِقُرَيْشٍ * إِيلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشّتَاء وَٱلصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ }.هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول الضحاك وابن السائب. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، ولا سيما أنجعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم، وهو قول الأخفش، أو بإضمار فعلنا ذلك لإيلاف قريش، وهو مروي عن الأخفش حتى تطمئنفي بلدها. فذكر ذلك للامتنان عليهم، إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في البلاد والأقاليم، ولم تجتمع لهم كلمة.قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به، وهمافي مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر: أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأوليين: والتين،والمعنى أنه أهلك أهل الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيبوهم زيادة تهيب، ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمنفي رحلتهم، انتهى. قال الحوفي: ورد هذا القول جماعة، وقالوا: لو كان كذا لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر؛وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على غير ما قال، يعني الأخفش والكسائي والفراء، تتعلق بأعجبوا مضمرة، أياعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله هو الذيأطعمهم وآمنهم لا آسفهم، أي فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة أبيهم حيث قال:

{ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ }، وآمنهم بدعوته حيث قال:{ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا } ، ولا تشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا. وقال الخليل بن أحمد:تتعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ }، والمعنى لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة. {فَلْيَعْبُدُواْ }: أمرهم أن يعبدوهلأجل إيلافهم الرحلة. قال الزمخشري: فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إمالا فليعبدوا لإيلافهم على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدةالتي هي نعمة ظاهرة، انتهى. وقرأ الجمهور: {لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ }، مصدر آلف رباعياً؛ وابن عامر: لالاف على وزن فعال، مصدرألف ثلاثياً. يقال: ألف الرجل الأمر إلفاً وإلافاً، وآلفه غيره إياه إيلافاً، وقد يأتي ألف متعدياً لواحد كإلف، قال الشاعر:

من المؤلفات الرمل أدماء حرة     شعاع الضحى في متنها يتوضح

ولم يختلف القراء السبعةفي قراءة إيلافهم مصدراً للرباعي. وروي عن أبي بكر، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين، فيهما الثانية ساكنة، وهذا شاذ، وإنكان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوالالاستثقال بحذف الهمزة فيه، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر. وروى محمد بنداود النقار عن عاصم: إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها، والصحيح رجوععاصم عن الهمزة الثانية، وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري: لإلف قريش؛ وقرأ فيما حكى ابن عطيةالفهم. قال الشاعر:

زعمتم أن إخوتكم قريشا     لهم إلف وليس لكم إلاف

جمع بينمصدري ألف الثلاثي. وعن أبي جعفر وابن عامر: إلا فهم على وزن فعال. وعن أبي جعفر وابن كثير: إلفهم علىوزن فعل، وبذلك قرأ عكرمة. وعن أبي جعفر أيضاً: ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع، لما أبدل الثانية ياء حذفالأولى حذفاً على غير قياس. وعن عكرمة: ليألف قريش؛ وعنه أيضاً: لتألف قريش على الأمر، وعنه وعن هلال بن فتيان:بفتح لام الأمر، وأجمعوا هنا على صرف قريش، راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيثوالعلمية. قال الشاعر:

وكفـى قـريش المعضـلات وسـادهـا    

جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف، وكينونة هذه للإحياء أكثر،وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن. وقرأ الجمهور: {رِحْلَةَ } بكسر الراء؛ وأبو السمال: بضمها، فبالكسر مصدر، وبالضم الجهة التييرحل إليها، والجمهور على أنهما رحلتان. فقيل: إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح، ومنه قول الشاعر:

سفرين بينهما له ولغيره     سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقال ابن عباس: رحلة إلى اليمن، ورحلة إلىبصرى. وقال: يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم. وقال الزمخشري:وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا     فإن زمانكم زمن خميص

انتهى، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة، ومثله:

حمـامـة بطـن الـوادييـن تـرنمي    

يريد: بطني الواديين، أنشده أصحابناعلى الضرورة. وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل. قال ابن عطية: وهذا قول مردود. انتهى، ولا ينبغي أن يرد، فإنأصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم: بنو عبد مناف هاشم، كان يؤلف ملك الشام، أخذ منه خيلاً، فأمن به فيتجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة؛ والمطلب إلى اليمن؛ ونوفل إلى فارس. فكان هؤلاء يسمون المجبرين، فتختلف تجرقريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة، فإذا كان كذلك جاز أنيكون لهم رحل أربع، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم:

يا أيها الرجل المحول رحله     هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون العهد من آفاقها
والراحلون لرحلة الإيلاف والرائشون وليس يوجد رائش     والقائلون هلمّ للأضياف والخالطون غنيهم لفقيرهم

فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر، وإيلافهم بدل من{لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ }، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به، وهو رحلة، أي لأن ألفوا رحلة تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراًبعظيم النعمة فيه. {هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ }: هو الكعبة، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها، ومن هناللتعليل، أي لأجل الجوع. كانوا قطاناً ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم، وذلك بدعوةإبراهيم عليه السلام. قال تعالى:

{ يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء } . {ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن }: فضلهم على العرب بكونهم يأمنونحيث ما حلوا، فيقال: هؤلاء قطان بيت الله، فلا يتعرض إليهم أحد، وغيرهم خائفون. وقال ابن عباس والضحاك: {ٱلَّذِى أَطْعَمَهُممّن }: معناه من الجذام، فلا ترى بمكة مجذوماً. قال الزمخشري: والتنكير في جوع وخوف لشدتهما، يعني أطعمهم بالرحلتين منجوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقرأالجمهور: {مّنْ خوْفٍ }، بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع: بإخفائها، وكذلك مع العين، نحو من على، وهي لغةحكاها سيبويه. وقال ابن الأسلت يخاطب قريشاً:

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا     بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاء ومصدق
غداة أبي مكسوم هادي الكتائب كثيبة بالسهل تمشي ورحلة     على العادقات في رؤوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود المليك بين ساق وحاجب فولوا سراعاً هاربين ولم يؤب     إلى أهله ملجيش غير عصائب