جامع العلوم والحكم/الحديث السادس والعشرون

ملاحظات: الحديث السادس والعشرون


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة . رواه البخاري ومسلم

هذا الحديث خرجاه من رواية همام بن منبه عن أبي هريرة وخرجه البزار من رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال للإنسان ثلاثمائة وستون عظما أو ستة وثلاثون سلامي عليه في كل يوم صدقة قالوا فمن لم يجد قال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قالوا فمن لم يستطع قال يرفع عظما عن الطريق قالوا فمن لم يستطع قال فليعن ضعيفا قالوا فمن لم يستطع ذلك قال فليدع الناس من شره.

وخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي قال خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن ذكر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله وعزل حجرا عن طريق المسلمين أو عزل شوكة أو عزل عظما أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر عدد تلك الستين والثلاث المائة السلامي أمسى من يومه وقد زحزح نفسه من النار.

وخرج مسلم أيضًا من رواية أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر عن النبي قال يصبح على كل سلامي أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتا الضحي يركعهما.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث بريدة عن النبي قال في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا عليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة قالوا ومن يطيق ذلك يا نبي الله قال النخاعة في المسجد يدفنها والشيء ينحيه عن الطريق فإن لم يجد فركعتا الضحى يجزئك.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي قال على كل مسلم صدقة قالوا فإن لم يجد قال فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا فإن لم يستطع أو لم يفعل قال يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا فإن لم يفعل قال فليأمر بالمعروف قالوا فإن لم يفعل قال فليمسك عن الشر فإنه صدقة.

وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال على كل منسم من ابن آدم صدقة كل يوم فقال رجل من القوم ومن يطيق هذا قال أمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة والحمل على الضعيف صدقة وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة وخرجه البزار وغيره وفي مسنده رواية على كل ميسم من الإنسان صدقة كل يوم أو صلاة فقال رجل هذا أشد ما يتشابه فقال إن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر صلاة أو صدقة وحملك عن الضعيف صلاة إنحاؤك القذر عن الطريق صلاة وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صلاة وفي رواية البزار وإماطة الأذى عن الطريق صدقة أو قال صلاة قال بعضهم يريد بالميسم كل عضو على حدة مأخوذ من الوسم وهو العلامة إذ ما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله عز وجل فيجب على العبد الشكر على ذلك والحمد لله على خلقه سويا صحيحا وهذا هو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام كل يوم لأن الصلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء.

وخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي قال على كل سلامي أو على كل عضو من بني آدم في كل يوم صدقة ويجزي من ذلك كله ركعتا الضحي ويروى من حديث أبي الدرداء عن النبي قال على كل نفس في كل يوم صدقة قيل فإن كان لا يجد شيئًا قال أليس بصيرا شهما فصيحا صحيحا قال بلى قال يعطي من قليلة وكثيرة وإن نصرك للمنقوص صدقة وإن سمعك للمنقوص سمعه صدقة وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي حديث أبي ذر الذي خرجه ابن حبان في صحيحه أن النبي قال ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها قال إن أبواب الخير لكثيرة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل على حاجته وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف فهذا كله صدقة منك على نفسك فقوله على كل سلامي من الناس عليه صدقة قال أبو عبيد السلامي في الأصل عظم يكون في فرسن البعير قال فكأن معنى الحديث على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة يشير أبو عبيد إلى أن السلامي اسم لبعض العظام الصغار التي في الإبل ثم عبر بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره فمعنى الحديث عنده على كل عظم من عظام بني آدم صدقة وقال غيره السلامي عظم في طرف اليد والرجل وكني بذلك عن جميع عظام الجسد والسلامي جمع وقيل هو مفرد وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما تسمى السمسمانيات وبعضهم يقول هي ثلاثة مائة وستون عظما يظهر منها للحس مائتان وخمسة وستون عظما والباقية صغار لا تظهر وتسمى السمسمانية وهذه الأحاديث تصدق هذا القول ولعل السلامي عبر بها عن هذه العظام الصغار كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد بهذا حيث قال فيها أو ستة وثلاثون سلامي وقد خرجه غير البزار وقال فيه إن في ابن آدم ستمائة وستين عظما وهذه الرواية غلط وفي حديث عائشة وبريدة ذكر ثلاث مائة وستين مفصلا ومعنى الحديث أن تركب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ليكون ذلك شكرا لهذه النعمة قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} الانفطار وقال عز وجل {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} الملك وقال {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} النحل وقال {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} البلد.

قال مجاهد هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر.

وقرأ الفضل هذه الآية ليلة فبكى فسئل عن بكائه فقال هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يعدد من هذا الضرب.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمان الفارسي قال إن رجلًا بسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله عز وجل ويثني عليه حتى لم يكن له فراش إلا بوري فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط للآخر من الدنيا فقال لصاحب البوري أرأيتك أنت على ما تحمد الله عز وجل قال أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطى الخلق لم أعطهم إياه قال وما ذاك قال أرأيت بصرك أرأيت لسانك أرأيت يديك أرأيت رجليك وبإسناده عن أبي الدرداء أنه كان يقول الصحة غناء الجسد.

وعن يونس بن عبيد أن رجلًا شكا إليه ضيق حاله فقال له يونس أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم قال الرجل لا قال فبيدك مائة ألف درهم قال لا قال فرجليك قال لا قال فذكره نعم الله عليه فقال يونس أرى عندك مئين ألوفًا وأنت تشكو الحاجة.

وعن وهب بن منبه قال مكتوب في حكمة آل داود العافية الملك الخفي.

وعن بكر المزني قال يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك وفي بعض الآثار كم من نعمة لله في عرق ساكن وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة ويطالب بها كما قال تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.

وخرج الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم فيقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه النعيم الأمن والصحة وروي عنه مرفوعًا وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم التكاثر قال النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم وهو قوله تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.

وخرج الطبراني من رواية أيوب بن عقبة وفيه ضعف عن عطاء عن ابن عمر عن النبي من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة فقال رجل كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله قال إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته وروي ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف أيضًا عن أنس عن النبي قال يؤتى بالنعم يوم القيامة وبالحسنات والسيئات فيقول الله لنعمة من نعمه خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها وبإسناده عن وهب بن منبه قال عبدالله عابد خمسين عامًا فأوحى الله عز وجل إني قد غفرت لك قال يا رب وما تغفر لي ولم أذنب فأذن الله عز وجل لعرق في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يصل ثم سكن وقام فأتاه ملك فشكا إليه ما لقي من ضربات العرق فقال الملك إن ربك عز وجل يقول عبادتك خمسين سنة لم تعدل سكون ذلك العرق.

وخرج الحاكم هذا المعنى مرفوعًا من رواية سلمان بن هرم الفرشي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي أن جبرائيل أخبره أن عابدا عبدالله على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة ثم سأل ربه أن يقبضه وهو ساجد قال فنحن نمن عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا ونجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله عز وجل ادخلو عبدي الجنة برحمتي فيقول العبد يا رب بعملي ثلاث مرات ثم يقول الله للملائكة قيسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعم الجسد له فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي ربه برحمتك أدخلني الجنة برحمتك أدخلني الجنة فيدخله الجنة قال جبرائيل إنما الأشياء برحمة الله يا محمد وسلمان بن هرم قال العقيلي هو مجهول وحديثه غير محفوظ وروى الخرائطي بإسناد فيه نظر عن عبدالله بن عمرو مرفوعًا يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول للملائكة انظروا في عمل عبدي ونعمتي عليه فينظرون فيقولون ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك عليه فيقول انظروا في عمله سيئه وصالحه فينظرون فيجدونه كفافا فيقول عبدي قد قبلت حسناتك وغفرت سيئاتك وقد وهبت لك نعمتي فيما بين ذلك والمقصود أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم النحل وطلب منهم الشكر والرضا به منهم قال سليمان التيمي إن الله أنعم على العباد على قدره وكلفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه وبالحمد بألسنتهم عليها كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث عبدالله بن غنام رضي الله عنه عن النبي أنه قال من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته وفي رواية النسائي عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.

وخرج الحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله شكرها قبل أن يشكرها وما أذنب عبد ذنبا فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره وقال أبو عمرو الشيباني قال موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور يا رب إن أنا صليت فمن قبلك وإن أنا تصدقت فمن قبلك وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك فكيف أشكرك قال الآن شكرتني وعن الحسن قال قال موسى عليه السلام يا رب كيف يستطيع ابن آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له فقال يا موسى علم أن ذلك مني فحمدني عليه فكان ذلك شكرا لما صنعته وعن أبي الجلد قال قرأت في مسئلة داود عليه السلام أنه قال يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك قال فأتاه الوحي أن يا داود أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني قال بلى قال فإني أرضى بذلك منك شكرا قال وقرأت في مسئلة موسى عليه السلام قال يا رب كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازى بها عملي كله قال فأتاه الوحي قال يا موسى الآن شكرتني وقال أبو بكر بن عبدالله ما قال عبد قط الحمد لله مرة إلا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله فما جزى تلك النعمة جزاءها أن يقول الحمد لله فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد نعماء الله وقد روى ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا إلى رسول الله ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا أيضًا وروي هذا عن الحسن البصري من قوله وكتب بعض عمال عمر بن عبدالعزيز إليه إني بأرض قد كثرت فيها النعم حتى لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر فكتب إليه عمر إني قد كنت أراك أعلم بالله لما أنت إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل قال الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} النمل وقال تعالى {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} إلى قوله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} الزمر أي نعمة أفضل من دخول الجنة وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول أعني قول من قال إن الحمد أفضل من النعمة وعن ابن عيينة أنه خطأ قائله وقال لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب عز وجل ولكن الصواب قول من صوبه فإن المراد بالنعم النعم الدنيوية كالعافية والرزق والصحة ودفع المكروه ونحو ذلك والحمد لله هو من النعم الدينية وكلاهما نعمة من الله لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من النعمة الدنيوية على عبده فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكر كانت بلية كما قال أبو حازم كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر كانت هذه النعمة خيرًا من تلك النعم وأحب إلى الله عز وجل فإن الله يحب المحامد ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحب إليهم من أموالهم فهم يبذلونها طلبا للثناء والله عز وجل أكرم الأكرمين وأجود الأجودين فهو يبذل نعمه لعباده ويطلب منهم الثناء بها وذكرها منهم والحمد عليها ويرضى منهم بذلك شكرا عليها وإن كان ذلك كله من فضله عليهم وهو غير محتاج إلى شكرهم لكنه يحب ذلك من عباده حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه ومن فضله سبحانه أنه نسب الحمد والشكر إليهم وإن كان من أعظم نعمه عليهم وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال واستقرض منهم بعضه ومدحهم بإعطائه والكل ملكه ومن فضله ولكن كرمه اقتضى ذلك.

ومن هنا يعلم معنى الأثر الذي جاء مرفوعًا وموقوفا الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافيء مزيده ولنرجع الآن إلى تفسير حديث كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعني أن الصدقة على ابن آدم من هذه الأعضاء في كل يوم من أيام الدنيا فإن اليوم قد يعبر به عن مدة أزيد من ذلك كما يقال يوم صفين وكانت مدة أيام وعن مطلق الوقت كما قال تعالى {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} هود.

وقد يكون ذلك ليلًا ونهارًا فإذا قيل كل يوم تطلع فيه الشمس علم أن هذه الصدقة على ابن آدم في كل يوم يعيش فيه من أيام الدنيا وظاهر الحديث يدل على أن هذا الشكر بهذه الصدقة واجب على المسلم كل يوم ولكن الشكر على درجتين إحداهما واجب وهو أن يأتي بالواجبات ويتجنب المحرمات فهذا لا بد منه ويكفي في شكر هذه النعم ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود من حديث أبي الأسود الديلي قال كنا عند أبي ذر فقال يصبح على كل سلامي من أحدكم في كل يوم صدقة فله بكل صلاة صدقة وصيام صدقة وحج صدقة وتسبيح صدقة وتكبير وتحميد صدقة فعد رسول الله من هذه الأعمال الصالحات وقال يجزيء أحدكم من ذلك ركعتا الضحى وقد تقدم في حديث أبي موسى المخرج في الصحيحين فإن لم يفعل فليمسك عن الشر فإنه له صدقة وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئًا من الشر وإنما يكون مجتنبا للشر إذا قام بالفرائض واجتنب المحارم فإن أعظم الشر ترك الفرائض ومن هنا قال بعض السلف الشكر ترك المعاصي قال بعضهم الشكر أن لا يستعان بشيء من النعم على معصيته وذكر أبو حازم الزاهد شكر الجوارح كلها أن تكف عن المعاصي وتستعمل في الطاعات ثم قال وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه فلم يلبسه فلم ينفعه ذلك من البرد والحر والثلج والمطر وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم لينظر العبد في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك وليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله عز وجل حق على العبد أن يعمل بالنعمة التي في بدنه لله عز وجل في طاعته ونعمة أخرى في الرزق حق عليه أن يعمل لله عز وجل فيما أنعم عليه من الرزق في طاعته فمن عمل بهذا كان قد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه ورأى الحسن رجلًا يتبختر في مشيه فقال لله في كل عضو منه نعمة اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك الدرجة الثانية من الشكر الشكر المستحب وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات وهذه درجة السابقين المقربين وهي التي أرشد إليها النبي في هذه الأحاديث التي سبق ذكرها، وكذلك كان النبي يجتهد في الصلاة ويقوم حتى تنفطر قدماه فإذا قيل لم تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول أفلا أكون عبدًا شكورا وقال بعض السلف لما قال الله عز وجل {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} سبأ لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي وهذا مع أن بعض الأعمال التي ذكرها النبي واجب إما على الأعيان كالمشي إلى الصلاة عند من يرى وجوب الصلاة في الجماعات في المساجد وإما على الكفاية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإغاثة اللهفان والعدل بين الناس إما في الحكم بينهم أو في الإصلاح.

فقد روي من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال أفضل الصدقة إصلاح ذات البين وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي من الصدقة منها ما نفعه متعد كالإصلاح وإعانة الرجل على دابته بحمله عليها لرفع متاعه عليها والكلمة الطيبة ويدخل فيها السلام وتشميت العاطس وإزالة الأذى عن الطريق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفن النخاعة في المسجد وإعانة ذي الحاجة الملهوف وإسماع الأصم وتبصير المنقوص بصره وهداية الأعمى أو غيره الطريق وجاء في بعض رواية أبي ذر وبيانك عن الأرتم صدقة يعني من لا يطيق الكلام إما لآفة في لسانه أو لعجمة في لغته فبين عنه ما يحتاج إلى بيانه ومنه ما هو قاصر النفع كالتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والمشي إلى الصلاة وصلاة ركعتي الضحى وإنما كانتا مجزئتين عن ذلك كله لأن في الصلاة استعمال الأعضاء كلها في الطاعة والعبادة فتكون كافية في شكر سلامي هذه الأعضاء وبقية كلام هذه الخصال المذكورة أكثرها استعمال لبعض أعضاء البدن خاصة فلا تكمل الصدقة بها حتى يأتي منها بعدد سلامي البدن وهي ثلاثمائة وستون كما في حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبويها.

وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال أتدرون أي الصدقة أفضل أو أخير قالوا الله ورسوله أعلم قال المنحة تمنح أخاك الدراهم أو ظهر دابة أو لبن الشاة أو لبن البقرة والمراد بمنحة الدراهم قرضها ومنحة ظهر الدابة إفقارها وهو إعارتها لمن يركبها ومنحة لبن الشاة أو البقرة أن تمنحه بقرة أو شاة يشرب لبنها ثم يعيدها إليه وإذا أطلقت المنيحة لم تنصرف إلا إلى هذا وخرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي قال من منح لبن أو ورق أو أهدي زقاقا كان له مثل عتق رقبة وقال الترمذي معنى قوله من منح منحة لبن أو ورق إنما يعني به قرض الدراهم، وقوله وأهدي زقاقا إنما يعني به هداية الطريق وهو إرشاد السبيل وخرجه البخاري من حديث حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي قال سمعت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله أربعون خصلة أعلاها منحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها أو تصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان بن عطية فعددنا ما دون منحة العنز من رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال حق الإبل حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها ومنحتها وحمل عليها في سبيل الله.

وخرج الإمام أحمد من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي قال كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إنائه.

وخرج الحاكم وغيره بزيادات وهي ما أنفق المرء على نفسه وأهله كتب له به صدقة وما وقى به عرضه كتب له به صدقة وكل نفقة أنفقها المؤمن فعلى الله خلفها ضامن إلا نفقة في معصية أو بنيان.

وفي المسند عن أبي جري الجهني قال سألت النبي عن المعروف فقال لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك بوجه منطلق ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس باليد واللسان كما في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قلت فإن لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لأخرق قلت أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل قال فكف شرك عن الناس فإنها صدقة وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله دلني على عمل إذا عمل به العبد دخل به الجنة قال يؤمن بالله قال قلت يا رسول الله إن مع الإيمان عملًا قال يرضخ مما رزقه الله قلت فإن كان معدما لا شيء له قال يقول قولًا معروفا بلسانه قلت فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه قال فيعين مغلوبا قلت فإن كان ضعيفا لا قدرة له قال فليصنع لأخرق قلت فإن كان أخرق فالتفت إلى فقال ما تريد أن تدع في صاحبك شيئًا من الخير فليدع الناس من أذاه قلت يا رسول الله إن هذا كله ليسير قال والذي نفسي بيده ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد ما عند الله إلا أخذت بيده يوم القيامة فأدخلته الجنة فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث عبدالله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة وهذا كما في قوله عز وجل {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء.

وقد روي عن الحسن وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه وإن لم يكن له فيه نية سئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه فيعطيه حياء هل له فيه أجر فقال إن ذلك لمن المعروف وإن في المعروف لأجرًا خرجه حميد بن زنجويه.

وسئل ابن سيربن عن الرجل يتبع الجنازة لا يتبعها حسبة يتبعها حياء من أهلها أله في ذلك أجر فقال أجر واحد بل له أجران أجر الصلاة على أخيه وأجر لصلته الحي خرجه أبو نعيم في الحلية ومن أنواع الصدقة أداء حقوق المسلم على المسلم بعضها مذكور في الأحاديث الماضية.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنازة وإجابة الدعوة وتشميت العاطس.

وفي رواية لمسلم للمسلم على المسلم ست قيل ما هن يا رسول الله قال إذا لقيته تسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فانبعثه.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله بسبع بعيادة المريض وأتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام.

وفي رواية لمسلم وإرشاد الضال بدل إبرار القسم ومن أنواع الصدقة المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم قال ابن عباس رضي الله عنهما من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة ومنها إنظار المعسر.

وفي المسند وسنن ابن ماجه عن بريدة مرفوعًا من أنظر معسرا فله كل يوم صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثله صدقة ومنها الإحسان إلى البهائم كما قال النبي لما سئل عن سقيها قال في كل كبد رطبة أجر وأخبر النبي أن بغيا سقت كلبا يلهث من العطش فغفر لها وأما الصدقة القاصرة على نفس العامل فمثل أنواع الذكر من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والاستغفار والصلاة على النبي ، وكذلك تلاوة القرآن والمشي إلى المساجد والجلوس فيها لانتظار الصلاة أو لاستماع الذكر ومن ذلك التواضع في اللباس والمشي والهدي والتبذل في المهنة واكتساب الحلال والتحري فيه ومنها أيضًا محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها والندم والتوبة من الذنوب السالفة والحزن عليها واحتقار النفس والازدراء بها ومقتها في الله عز وجل والبكاء من خشية الله تعالى والتفكر في ملكوت السموات والأرض وفي أمور الآخرة ومافيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في القلب وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب كالخشية والمحبة والرجاء والتوكل وغير ذلك وقد قيل إن هذا التفكر أفضل من نوافل الأعمال البدنية روي ذلك عن غير واحد من التابعين منهم سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبدالعزيز وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه وقال كعب لأن أبكي من خشية الله أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.

جامع العلوم والحكم
المقدمة | الحديث الأول | الحديث الثاني | الحديث الثالث | الحديث الرابع | الحديث الخامس | الحديث السادس | الحديث السابع | الحديث الثامن | الحديث التاسع | الحديث العاشر | الحديث الحادي عشر | الحديث الثاني عشر | الحديث الثالث عشر | الحديث الرابع عشر | الحديث الخامس عشر | الحديث السادس عشر | الحديث السابع عشر | الحديث الثامن عشر | الحديث التاسع عشر | الحديث العشرون | الحديث الحادي والعشرون | الحديث الثاني والعشرون | الحديث الثالث والعشرون | الحديث الرابع والعشرون | الحديث الخامس والعشرون | الحديث السادس والعشرون | الحديث السابع والعشرون | الحديث الثامن والعشرون | الحديث التاسع والعشرون | الحديث الثلاثون | الحديث الحادي والثلاثون | الحديث الثاني والثلاثون | الحديث الثالث والثلاثون | الحديث الرابع والثلاثون | الحديث الخامس والثلاثون | الحديث السادس والثلاثون | الحديث السابع والثلاثون | الحديث الثامن والثلاثون | الحديث التاسع والثلاثون | الحديث الأربعون | الحديث الحادي والأربعون | الحديث الثاني والأربعون | الحديث الثالث والأربعون | الحديث الرابع والأربعون | الحديث الخامس والأربعون | الحديث السادس والأربعون | الحديث السابع والأربعون | الحديث الثامن والأربعون | الحديث التاسع والأربعون | الحديث الخمسون