حرب في الكنائس/الفصل الثالث: تحريم الأيقونات وإبطالها ٧٥٤ - ٧٧٥


الفصل الثالث
تحريم الأيقونات وإبطالها
٧٥٤ - ٧٧٥


التحريم: وما نعلمه عن موقف المحرمين مأخوذ من أقوال المحللين من أقوال يوحنا الدمشقي والبطريرك نيقيفوروس وآباء المجمع المسكوني السابع. ولم يتفق الآباء المحرمون على موقف واحد ولم يبرموا شيئاً باجماع الكلمة. فالمعتدلون منهم أبقوا على أيقونة السيد المسيح في الكنائس وغيرها شرط أن تبقى عالية بعيدة المنال وشرط ألا يُسجَد لها. ولكن معظم المحرمين حرموا كل تصوير مقدس وأوجبوا تحطيمه.

واحتج المحرّمون على المحللين بنصوص الأسفار وأقوال الآباء. وأهم النصوص التي تذرعوا بها الوصية الثانية: «لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض أسفل ولا مما في المياه من تحت الأرض»1 وآية التثنية: «لئلا تفسدوا وتعملوا لكم تمثالاً منحوتاً على شكل صورة ما من ذكر أو انثى أو شكل شيء من البهائم التي على الأرض أو شكل طائر ذي جناح مما يطير في السماء أو شكل شيء مما يدب على الأرض أو شيء من السمك مما في الماء تحت الأرض». والآية بعدها: «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً صورة ما»2. ورصَّع المحرمون مراراً بما جاء في المزمور المئة والثالث عشر: «أما أوثانهم ففضة وذهب صنع أيدي البشر. لها أفواه ولا تتكلم. لها عيون ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع. لها أنوف ولا تشم. لها أيدٍ ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي ولا تصوّت بحناجرها. مثلها ليكن صانعوها وجميع المتكلمين عليها». واستشهدوا أيضاً بما جاء في نبوة إرميا: «فإن واحداً يقطع شجرة من الغابة فتنحتها يد النجار بالقدوم. ثم تزين بالفضة والذهب وتوثق بالمسامير والمطارق لثلا تتحرك. فلا تخافوا من مثل هذه فإنها لا تسيء ولا في وسعها أيضاً أن تُحسن»3. نقول احتجَّ المحرمون بهذه النصوص مراراً وتكرارا ولكنهم لم يبرروا ولم يبحثوا أمر موقفهم من الصور والتماثيل غير الدينية. ثم احتجوا بقول السيد: «ولكن تأتي ساعة وهي الآن حاضرة إذ الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين له لأن الله روح والذين يسجدون له فالبروح والحق ينبغي أن يسجدوا»4. ووجدوا في كلام بولس في محفل أريوس باغوس بينة على صحة التحريم. فقد قال بولس في أثينة: «فإذا كنا نحن ذرية الله فلا ينبغي أن نحسب اللاهوت شبيهاً بالذهب أو الفضة أو الحجر أو سائر ما ينقش بصناعة الإنسان واختراعه»5. وأشاروا إلى ما قاله هذا الرسول نفسه إلى أهل غلاطية فحسبوه دليلاً آخر على التحريم: «أما أنا فحاشی لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صلب العالم لي وأنا صلبت للعالم»6.

واستعان المحرمون بالأدب الأبوقريفي وبأقوال بعض الآباء لإثبات رأيهم فأكدوا أن يوحنا الحبيب لام أحد تلاميذه لأنه صوَّره7. وقد جمع العلامة الألماني شفارلوسي أقوال الآباء التي رجع إليها المحرمون في جدلهم مع المحللين. فلتراجع في محلها8. وأمعنوا في التيه فغيروا وبدلوا بعض نصوص الآباء ليناضلوا ويدافعوا. فجعلوا القديس نيلوس ينصح أوليمبيوذوروس أن يكتفي بإقامة صليب في حنية الكنيسة التي أنشأ وأن يطلي بالكلس جميع جدرانها. والواقع أن نيلوس نصح أوليمبيوذوروس أن يقيم صليباً في الحنية وأن يزين الجدران بمشاهد من النصوص المقدسة9. وبالغوا في أهمية مجموعة من الرسائل التي نهت عن إكرام الأيقونات ونسبوها إلى القديس أبيفانيوس أسقف سلابينة قبرص (٠٣٦٧-٤٠٣) ثم ظهر فيما بعد أن هذه الرسائل مزورة تزويراً10. ولا عبرة لما جاء في تأييد صحتها بقلم العلامة كارل هول الألماني لأنه تطرف في الاجتهاد فجاءت استنتاجاته ضعيفة غير مقبولة11.

وناقش المحرمون وناظروا من طريق اللاهوت فاعتبروا المحللين خارجين على قرارات المجامع المسكونية واقعين في الهرطقة. وتلخص حججهم في هذا الميدان هكذا: لا يمكن تصوير اللاهوت بالمادة بما هو زائل وسفلي. وإذا كان لا يمكن تصوير الله بالمادة فإنه لا يمكن تصوير المسيح بالمادة لأنه صورة الآب. والإشارة هنا إلى الآية التاسعة من الفصل الرابع من إنجيل يوحنا: «من رآني فقد رأى الآب». فإذا ما صورناه فإنما نصور ناسوته ولاهوته في آنٍ واحد فنخلط الناسوت باللاهوت ونقع في ضلالة نسطوريوس. وصورة المسيح الوحيدة هي جسمه ودمه في الأفخاريستية12.

المحرمون والصليب: ووقر المحرمون الصليب وعظموه تعظيماً. وجردوه من كل رسم عليه وسجدوا وتعبدوا. وأقاموه في حنايا الكنائس ونقشوه في سقوفها وصنعوه من المعدن وكتبوا عليه الآيات وحفظوه في الكنائس والمتاحف. وظهر على مسكوكاتهم قائماً فوق درجات معينة وحفروه في أختامهم13. وآثروا شكل صليب قسطنطين في الفوروم صليب انتصاره فأصبح شعار النصر والسلطة14.

اجتهاد قسطنطين وخروجه: ويرى العلماء الباحثون أن قسطنطين الخامس نفسه اجتهد في موضوع الأيقونات وصنَّف. وجاء في سيرة نيقيطاس لرئيس دير المذيكيون (أوليمبوس) أن قسطنطين أعد خطباً للدعاية تضمنت آراءه في تحريم الأيقونات15. ولكن العلماء رجال الاختصاص، وفي طليعتهم أوستروغورسكي الأستاذ في جامعة بلغراد، يرون أن قسطنطين قمَّش ونقَّب وبحث بالتعاون مع بعض الأساقفة فأطل على مجمع هيرية في السنة ٧٥٤ بثلاث عشر رسالة في وجوب التحريم كان لها أثر بليغ في نفوس الأساقفة أعضاء هذا المجمع16. ونهج قسطنطين في معالجة موضوعه نهجاً خريستولوجياً خصوصياً فجعل من تحريم الأيقونات مشكلة عقائدية من الطراز الأول.

ولا يفهم موقف قسطنطين فهماً علمياً كاملاً إلا على ضوء أقوال الآباء قبله. فإقليمس الإسكندري ( ٢١٥) فرق بين الحقيقة والفن، وقال أن الحقيقة لا تنفصل عن المعقول. وبالتالي فمن يعبد المصنوع من المادة يحط من قدر جوهر الله المعقول. وصورة الله بيننا هي النفس الطاهرة الصالحة17. ولام كلسوس الفيلسوف الوثني النصارى في إعراضهم عن التماثيل والصور، فانبرى أوريجانس الإسكندري ( ٢٥٤) يقول في الرد: إن ماثيلنا وعطايانا ليست من صنع الصناع الغشماء وإنما هي فينا من صنع كلمة الله. هي الفضائل صورة «بكر كل خلق» العدل والفطنة والشجاعة والحكمة وفي داخل كل من يتشبه به في هذه الأمور تمثال «على صورة الخالق» يقام بتأمل الله والاقتداء به بقلب نقي، وقصارى القول أن جميع المسيحيين يحاولون إنشاء مثل هذه المذابح والتماثيل، لا تلك التي لا حياة لها ولا إحساس، متكلين عليه الذي هو على صورة الخالق، وهكذا فإن روح المسيح يحل على أولئك الذين يصبحون «مشابهين لصورته»18.

هذا كلام عالم النصرانية العظيم في القرن الثالث. وأثر بولس ظاهر فيه ولا سيما في العبارات «بكر كل خلق» (كولوسي ١٥:١) و«على صورة الخالق» (كولوسي ١:٣) و« مشابين لصورته» (إفسس ١:٥) وشارك مثوديوس أوليمبوس وأرنوبيوس وأستيريوس أماسية19 أوريجانس في هذا فرأوا في الإنسان الصالح الفاضل صورة الخالق الحقيقية وقالوا مع بولس في الفصل الثالث من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: «أما تعلمون أنكم هيكل الله وأن الله مستقر فيكم».

وفي أوائل القرن الرابع كتبت قسطندية أخت قسطنطين الكبير وزوجة ليكينيوس شريكه في الحكم إلى أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين ومؤرخ الكنيسة الأول تطلب منه صورة السيد المسيح. فأجابها هذا الأسقف أنه للسيد رسمين morphai أحدهما إلهي والآخر بشري. وأضاف أن الرسم الإلهي لا يعلمه إلا الآب وبالتالي فإنه لا يمكن تصويره. أما الرسم البشري فإنه امتزج بالمجد الإلهي فابتُلع ابتلاعاً. وبعد أن شجب استعمال الصور في الأوساط المسيحية المهرطقة خلص أفسابيوس إلى القول: «وفي نظرنا نحن فإن هذه العادات محرمة. نحن نعترف أن السيد المخلص هو الله ونسعى لرؤيته بتطهير قلوبنا بكل نشاط لنتمكن من مشاهدته بعد الوصول إلى هذه الطهارة لأنه «طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله». وإذا كنتم أنتم المسرفين تحترمون صور مخلصنا قبل أن تتمكنوا من مشاهدته وجهاً لوجه فأفضل المصورين كلمة الله نفسها»20. وهكذا فإن أفسابيوس وافق أوريجانس فربط قضية تصوير المخلص بالعقيدة اللاهوتية وآثر النص المكتوب على الصورة المرسومة.

ثم كان ما كان أمر الطبيعة الواحدة والطبيعتين والمشيئة الواحدة والمشيئتين وتقديم الطبيعة الإلهية والمشيئة الإلهية على الطبيعة البشرية والمشيئة البشرية في المسيح فمال بعض من قال بهذا التقديم إلى تحريم تصوير الإله «غير المنظور». وكان في طليعة هؤلاء فيلوكسينس أسقف منبج ( ٥٢٣) وصديق سويروس الأنطاكي وحليفه. فانه اعترض على تصوير المسيح والملائكة والروح القدس (بهيئة حمامة)21. وأدى استمساك الكنيسة الجامعة بالطبيعتين والمشيئتين إلى القول بتصوير المسيح الإنسان لأنه يرمز إلى التجسد ميزة الدين الجديد.

وفي السنة ٦٩٢ جلس الآباء في القسطنطينية في المجمع البنذيكتي للاشتراع فقالوا في القانون الثاني والثمانين: «يظهر الحمل في بعض الأيقونات الموقرة مشاراً إليه بأصبع السابق متخذاً رسماً للنعمة. وفي ذلك توقع لمجيء الحمل الحقيقي المسيح إلهنا. ونحن نعترف بأن الرسوم القديمة والرموز المسلمة في الكنيسة هي نماذج الحقيقة ومثلها وبأنها تكمل الناموس وتتمه. ولكن لكي يظهر الكمال للشعب كله ويتبين حتى في الصور فإننا ترتب منذ الآن أن يوضع شكل ناسوت المسيح الهنا الحمل الذي رفع خطايا العالم نصب الأعين بدلاً من الحمل القديم، فإننا ندرك بذلك سمو تواضع الإله الكلمة ونذكر حياته في الجسد وآلامه وموته الخلاصي وما تأتى عن ذلك من افتداءٍ للعالم»22.

وجاء يوحنا الدمشقي ( ٧٤٩) ففرق بين الأصنام والأيقونات ثم أبان أن الله خص اليهود وحدهم في تحريم السجود للأصنام لأنهم كانوا عرضة للارتداد. أما المسيحيون فإنهم بعد أن لمسوا التجسد الإلهي لمساً أصبحوا في مأمن من الضلال لأن غير المنظور صار منظوراً: «واعبد مع الملك الإله أرجوان الجسد، لا كوشاح ولا كإقنوم رابع، وإنما كمظهر للإله… وهكذا فإني أصور الإله غير المنظور لا كإله غير منظور وإنما كإله صار منظوراً لأجلنا»23. ولا يخفى أن يوحنا أشار بالتعبيرين «الوشاح والأقنوم الرابع» إلى هرطقتي اليعاقبة والنساطرة.

وأحب قسطنطين الخامس أن يجادل المعلمين ويناقشهم على مستوى أئمتهم فاتجه في تفكيره، فيما يظهر، اتجاه أبوليناريوس اللاذقي في نزاعه مع من قال بالطبيعتين. والإشارة هنا إلى ما جاء في كتاب الأنكفاليوسيس Anacephalaeosis حيث قال أبوليناريوس: «وهل نعبد أيضاً ناسوت المسيح أو لا؟ فإذا كنا لا نعبده فلماذا نقول أن الناسوت اتحد باللاهوت ولماذا نعتمد بموته؟ وإذا كنا نعبد الإنسان كما نعبد الله فنكون قد ألحدنا في مساواة الخالق بالمخلوق»24. وبعبارة أخرى فإن أبوليناريوس احتج على اخصامه بالقول أن الاعتراف بالطبيعتين على طريقتهم يؤدي إما إلى عدم اتحاد الطبيعتين أو إلى عبادة طبيعة المسيح البشرية. وكان يوحنا الدمشقي قد عالج هذه البدعة في كتابه الإيمان بقوله: وأولئك الذين يدعون أنه إذا كان للمسيح طبيعتان فاما أن نعبد المخلوق مع الخالق أو أن نعبد طبيعة واحدة من الاثنتين»25. فتبنى قسطنطين الخامس هذه الحجة واستبدل الإشارة فيها إلى الطبيعة البشرية بتصوير الناسوت فقال إن من يصور المسيح يرتكب واحدة من اثنتين إما القول بانفصال الطبيعتين وإما نسبة خصائص الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية - وحدد الصورة الحقيقية فأوجب أن تكون من نفس جوهر المصور وخلص إلى القول بأن المسيح صورة واحدة فقط هي الخبز والخمر جسده ودمه. ووصم من صوَّر جسد المسيح وأكرم صورته بالقول بأقنوم رابع وبالخروج على مقررات المجامع وبالقول بإمكانية حصر الله والإحاطة به وهو خروج وإلحاد. وأضاف: «وهكذا فإن أخصامي هم إما نساطرة وإما يعاقبة!»26 ويرى بعض العلماء أن قسطنطين جاري اليعاقبة ولكنه لم يجهر بقولهم. ودليلهم على ميله إلى القول بالطبيعة الواحدة أنه آثر اللفظ Prosopon «الوجه» على اللفظ upostasis «الأقنوم» والعبــارة ex duo phuseon «من طبيعتين»، على العبارة en duo phusesin «في طبيعتين» 27. ويرى هؤلاء العلماء في تبجيل ميخائيل السرياني لقسطنطين دليلاً آخر على جنوحه نحو اليعاقبة.

فميخائيل رأى فيه «رجلاً مثقفاً استصوب بملء إرادته التعابير التي دونها الأرثوذكسيون»! أي اليعاقبة28. ولم يقف قسطنطين عند هذا الحد فإنه لم يعترف بشفاعة العذراء والقديسين ولم يرضَ عن استعمال اللفظ «القديس» agios في الإشارة إليهم29. وأشار إلى السيدة والدة الإله بالعبارة والدة المسيح فشايع النساطرة!30

مجمع المبطلين: (٧٥٤) وبعد أن تثبت قسطنطين من موقف جيشه وموقف عاصمته ومجاراة الإكليروس وبعد أن وضَّب ملفاته دعا إلى مجمع حمل لقب المسكوني ليتخذ قراراً مسكونياً بشجب تصوير المسيح والقديسين وإكرام صورهم.

ويختلف العلماء في تاريخ انعقاد هذا المجمع. فإن بيوري وهوبرت يريان أن إسطفانوس الثاني بابا رومة علم بما تم في هذا المجمع قبل استغاثته بالإفرنج على اللومبارديين فيذهبان إلى القول بأن المجمع عقد في السنة ٧٥٣31. ولكن الأب غرومل بعد اطلاعه على محفوظات البطريركية المسكونية جعل تاريخ الانعقاد بين العاشر من شباط والثامن من آب السنة ٧٥٤32.

ولبي الدعوة ثلاث مئة وثمانية وثلاثون أسقفا! وامتنعت رومة والإسكندرية وأنطاكية وأورشليم عن الاشتراك، وتوفي البطريرك القسطنطيني أنسطاسيوس قبيل انعقاد هذا المجمع فترأس الجلسات ثيودوروس متروبوليت أفسس أحد زعماء حركة التحطيم منذ عهد لاوون الثالث وابن الإمبراطور أنسطاسيوس الثاني المخلوع، وأشهر الأعضاء سيسينيوس متروبوليت برجه وباسيليوس متروبوليت أنطاكية بسيدية. ومكان الاجتماع قصر هيرية Hieria على ضفة البوسفور الآسيوية بالقرب من خلقيدونية.

واتخذ الأعضاء لمجمعهم لقب المجمع المسكوني السابع. وزاولوا الأعمال ستة أشهر متتالية. ولعل السبب في ذلك امتناع جمهور الأساقفة عن موافقة قسطنطين في بعض ما ذهب إليه ولا سيما في موقفه من قضية الطبيعتين ومن القول أن السيدة هي والدة الإله والدليل على أنهم لم يشايعوه في هذا قولهم «إن مريم والدة الإله هي فوق الخليقة كلها وإنها تشفع مع جميع القديسين بالبشر»33.

وجاء في أوروس oros هذا المجمع أي في قراره النهائي أن الشيطان جرَّ الكنيسة إلى عبادة الأوثان وأن المسيح حرك الفسالسة الاتقياء وسلَّحهم بنعمة الروح القدس ليقضوا على عبادة الأوثان الجديدة على صور المسيح التي اتخذت شكلاً هرطوقياً وعلى الإساءة إلى العذراء والقديسين بتصوير أجسادهم الأرضية. وحرم المجمع كل من يصور أيقونة أو يكرمها أو يضعها في كنيسة من الكنائس أو في بيت من البيوت أو يقتنيها أو يخفيها. وأوجب معاقبة المعارضين واعتبرهم خارجين على القانون وأعداء الله وللعقيدة التي علم بها الآباء. وخص المجمع الفسيلفس والبطريرك بتنفيذ قراراته. فمنع أي تغيير في الكنائس دون موافقة الفسيلفس أو البطريرك، وحرم تدنيس الكنائس ونهبها أو تخريب ما فيها.

وفي الثامن من آب انتقل المجمع إلى كنيسة السيدة في بلاخيرنة فقدَّم الفسيلفس البطريرك الجديد قسطنطين الثاني34. وفي السابع والعشرين ذهب الفسيلفس والبطريرك إلى الفوروم فتُليت بحضورهما قرارات المجمع ورُشق جرمانوس «عابد الخشب» بالحرم وكذلك يوحنا الدمشقي «صديق الإسلام وعدو الدولة ومحرف الأسفار المقدسة» وجاورجيوس القبرصي35. وتسلح الفسيلفس بقرارات المجمع فاعتبر كل معارض لها خارجاً على الدين والدولة36.

غيظ قسطنطين وبلاؤه: وتقوى قسطنطين بهذه القرارات ولكنه لم يبدأ فور ظهورها بالاضطهاد، فالخطر البلغاري قضى بالتريث والمحافظة على السلم في داخل الدولة. وفي السنة ٧٦١ قضى بطرس البلاخيرني وأندراوس الكلبي تحت أسياط الجلادين لأنهما عارضا الفسيلفس ورأيا فيه والنساً أويوليانوساً جديداً37. ثم انتصر قسطنطين على البلغاريين فأصدر في السنة ٧٦٦ الثيسموس كاثوليكوس Thesmos Katholikos وهو قانون أوجب على جميع الرعايا أن يقسموا بالله بأنهم لن يعبدوا الأيقونات38. وكان البطريرك قسطنطين الثاني أول الحالفين. فإنه علا الأمبون في كنيسة الحكمة الإلهية وأمسك ذخيرة الصليب المقدس وأقسم أنه لم ولن يعبد الأيقونات وامتنع كثيرون، وبينهم الأعيان والضباط والجنود، عن الحلف، فحلَّ بهم العذاب ملوناً تلويناً39. وصب قسطنطين غيظه وبلاءه على الرهبان. فكم عين قلع وكم يد وأذن قطع فضلاً عن قتلهم. واستعرض مرة فئة منهم في ميدان الهيبودروم وأوجب على كل منهم أن يمسك بيد امرأة في أثناء العرض. ثم استعرض في الميدان نفسه عشرين وجيهاً وموظفاً بتهمة التآمر على الفسيلفس واتباع أسطفانوس الجد أو الأصغر. وبعد إهانتهم سمل أعينهم وضرب عنق اثنين منهم. وفي الخامس عشر من تشرين الأول سنة ٧٦٧ أمر بقطع رأس البطريرك قسطنطين الثاني. فنفذ الأمر في الهيبودروم وعرض رأس البطريرك عند مدخل البطريركية وجرت جثته إلى البلاجية مقر المجرمين والكفرة40. وأقام الفسيلفس الخصيّ نيقيطاس بطريركاً على القسطنطينية وبلغ الاضطهاد الذروة فنبشت عظام القديسة الشهيرة أفيمية من مرتيريون خلقيدونية، حيث اجتمع الآباء القديسون في السنة ٤٥١ ليقروا أعمال المجمع المسكوني الرابع، ورميت في البحر فحملتها الأمواج إلى جزيرة لمنوس41. وحرمت الصلاة للقديسين ونبشت قبورهم42. وفي السنة ٧٧٠ جمع ميخائيل لاخانوذراكون حاكم إزمير وإفسس رهبان ولايته وراهباتها وأمرهم بأن يرتدوا الأبيض ويتزوجوا حالاً. ومن لم يطع فتسمل عيناه ويقصى إلى قبرص. فاستشهد بعضهم وأطاع آخرون43. فهنأه قسطنطين قائلاً: لقد وجدت في شخصك رجلاً يحب ما أحب وينفذ جميع رغباتي44. وصادر قسطنطين أملاك الأديرة وضمها إلى أملاك الدولة. وفر عدد كبير من الرهبان إلى إيطالية وجنوبي روسية وشاطئ لبنان وفلسطين. ويقدر الأستاذ أندريف الروسي عدد الذين فروا إلى إيطاليا بخمسين ألفاً45.

أسطفانوس الأصغر: (٧٦٤) وأشهر الشهداء في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة الجامعة أسطفانوس الأصغر أو الجديد كما ينص التقليد، وقد سبقت الإشارة إلى مولده وحداثته ودخوله الدير المقدس. وحرص قسطنطين الفسيلفس على استمالته وأوفد إليه كليستوس أحد رجال البلاط. ولكن أسطفانوس رد الرسول والهدايا وصرح أن إكرام الأيقونات صحيح حسن. فغضب قسطنطين وسجنه في دير منفرد. وضيق عليه في المأكل والمشرب. ثم سخَّر كليستوس رهباناً ليفتروا عليه في أخلاقه الشخصية. فتألم أسطفانوس ولكنه بقي صامتاً مسلماً أمره لله. ثم عاد الفسيلفس وأرسل إليه بعض الأساقفة ليحملوه على الانضمام إليهم فلم يفلحوا فرفسه أحدهم برجله فقبل الإهانة بهدوء وسكينة. ونقل من جزيرة خريسوبول إلى جزيرة بروكونيزس فلجأ إلى أحد كهوفها. فتبعه بعض الرهبان من تلاميذه وحولوا الكهف المقفر إلى كنيسة منعشة بأنغامها ونشائدها، فاستقدمه الفسيلفس وازدراه ووبخه وشتمه. فأخذ أسطفانوس قطعة من النقود تحمل رسم قسطنطين وداسها فغضب الفسيلفس. فقال القديس: «إذا كنت تغضب لإهانة صورتك فكيف لا يغضب السيد المسيح ووالدته الطاهرة وملائكته وقديسوه لما يفعل عمالك بالأيقونات». فأمر الفسيلفس بسجنه مع اللصوص والقتلة. فوجد القديس بين هؤلاء ثلاث مئة وأربعين راهباً. فتحول السجن إلى دير. ولبث أسطفانوس سنة كاملة فيه. فأمر الفسيلفس بقتله ضرباً بالحصي ولكن الجند تهيبوا. فجُرَّ بالأزقة والشوارع. ومرَّ أمام كنيسة القديس ثيوذوروس فرسم شارة الصليب ففجأه أحدهم بضربة على رأسه فنقله الله إلى دار كرامته46.


  1. سفر الخروج ٤:۲۰
  2. سفر التثنية ٤: ۱٤-٥٫۱۹: ۷-۸
  3. نبوة إرميا ٣:١٠-٦
  4. إنجيل يوحنا ٦: ٢٣-٢٥
  5. أعمال الرسل ۲۹:۱۷
  6. رسالة بولس إلى أهل غلاطية ١٤:٦
  7. Mansi, XIII, Col. 169.
  8. SCHWARLOSE, K., Der Bilderstreit, 84-86,
  9. MILLET, G., Les Iconoclastes et la Croix. A propos d'une Inscription de Cappadoce, Bull. Corr. Hell., 1910, 99.
  10. OSTROGORSKY, G., Studien zur Gesch. des Byz. Bilderstreites, 67-69; Die PseudoEp-i- phanischen Schriften, 47-61.
  11. HOLL, K., Die Schrifte des Epiphanius, Gesammelte Aufsatze zur Kirchengeschichte; BREHIER, L., Querelle des Images, op. cit., V, 465-466.
  12. BREHIER, L., op. cit., 466.
  13. MILLET, G., Les Iconoclastes et la Croix, Bull. Corr. Hell., 1910, 96-109; GRABAR, A., L'Empereur dans l'Art Byzantin, Paris, 1936; EBERSOLT, J., Sceaux Byzantins, Rev. Nu- mismatique, 1914, 139; JERPHANION, G., Eglises Rupestres de Cappadoce, II, 154-158.
  14. GRABAR, A., Théologie de la Victoire Impériale, Rev. Hist., 1933; Victoire Impériale dans l'Empire Chrétien, Rev. Hist. Philol. Rel., 1933.
  15. Acta Sanctorum, Aprilis, 18-27.
  16. OSTROGORSKY, G., The Byz. State, 152-153; Bilderstreit, 8 ff.
  17. CLEMENT OF ALEXANDRIA, Stromata I, VI,. 5
  18. ORIGENES, Contra Gelsum, VIII, 17-19.
  19. ASTERIUS OF AMASEA, De Divite et Lazare, Patr. Gr., Vol. 90, Col. 168.
  20. Patr. Gr., Vol. 20, Col. 1545-1550; FLOROVSKY, G., Origen, Eusebius and the Icono- clastic Controversy, Church History, 1950, 77-96.
  21. DOBSCHUTZ, Ernest von, Christusbilder, Untersuchengen zur Christlichen Legende, 33;. OSTROGORSKY, G., Studien, 24-28; TISSERANT, E., Philoxenus, Dic. Th. Cath., XII, 1509-1532
  22. Mansi, XI, Col. 977-980.
  23. Patr. Gr., Vol. 94, Col. 1236; De Fide Orthodoxa, III, 8; P.G., Vol. 94, Col.1013-1016.
  24. LIETZMANN, Ed., Apollinaris von Laodicea und seine Schule, I, 28, 245.
  25. De Fide Orthodoxa, III, 8; P.G., Vol. 94, Col. 1105.
  26. OSTROGORSKY, G., Studien zur Gesch. des Byz. Bilderstreits, 8-40; ALEXANDER, P., Patriarch Nicephorus, Ecc. Policy and Image Worship in the Byz. Emp., Oxford, 1958, 48-53.
  27. OSTROGORSKY, G., op. cit., 19, 25-26.
  28. Michel le Syrien (Chabot), II, 523.
  29. Vita Nicetae, XXVIII.
  30. THEOPHANES, Chron., a. 6218, 6258-6259.
  31. BREHIER, L., Querelle des Images, op. cit., 468.
  32. GRUMMEL, Echos d'Orient, 1934, 406-407.
  33. Mansi, XIII, Col. 335, 347-348.
  34. THEOPHANES, Chron., a. 6245; NICEPHORE, Brev., 66.
  35. THEOPHANES, Chron., a. 6245; NICEPHORE, Brev., 66.
  36. BREHIER, L., op. cit., 470; DIEHL, C., Séances, Acad. Inscrip. et Belles-Lettres, 1915, 138.
  37. THEOPHANES, Chron., a. 6253.
  38. DOLGER, F., Reg., 324; THEOPHANES, Chron., a. 6257.
  39. THEOPHANES, Chron., a. 6257; NICEPHORE, Brev., 73.
  40. THEOPHANES, Chron., a. 6257, 6259.
  41. THEOPHANES, Chron., a. 6258.
  42. DOLGER, F., Reg., 327; HAMARTOLOS, G., (Boor), 751.
  43. THEOPHANES, Chron., a. 6262.
  44. THEOPHANES, Chron., a. 6263.
  45. ANDREEV, I., Gerlanus and Tarasius, 78.
  46. Vita Stephani, P.G., Vol. 100, Col. 1145-1180; VASILIEVSKY, V.G., The Life of Stephen the Younger, "Works," II, 1909.
    اطلب أيضاً موجزاً لطيفاً في السنكسار لسيادة المطران ميشال عساف ج ۱ ص ۱۱۷ - ۱۲۳ تحت ۲۸ تشرين الثاني.