دمعة وابتسامة (1914)/الحيوان الأبكم


الحيوان الأبكم

«وفي نظرات الحيوان الابكم كلام نفهمه نفس الحكيم»
(شاعر هندي)

في عشية يوم تغلبت فيهِ تخيلاتي عَلَى عاقلتي مررت باطراف احياء المدينة ووقفت امام منزل مهجور تداعت اركانه وحطت دعائمه ولم يبقَ منهُ سوى اثر يخبر عن هجر طويل ويدل على زوال محزن. فرأيت كلباً يتوسد الرماد وقد ملأَت القروح جسمهُ الضعيف واستحكمت العلل بهيكله المهزول، فصار يرمق الشمس الجانحة نحو الغروب بعين وسمت عليها اشباح الذل وبدت فيها مظاهر القنوط واليأس، فكأنهُ درى بان الشمس قد اخذت تسترجع حرارة انفاسها عن تلك البقعة المهجورة البعيدة عن الاولاد مضطهدي الحيوان الضعيف. فصار يرمقها بعين آسفة مودّعة. فاقتربت منهُ عَلَى مهل واذاً لو عرفت النطق بلسانه فاعزيه في شدائده وأَبدي له شفقة في بؤسه، ولما دنوت منهُ خافني وتحرك ببقايا حياة قاربت الانحلال مستنجداً بقوائم شلتها العلة وراقبها الفناء. واذ لم يقوَ عَلَى النهوض نظر اليَّ نظرة فيها مرارة استرحام وحلاوة استعطاف – نظرة فيها انعطاف وملامة – نظرة قامت مقام النطق، فكانت افصح من لسان الانسان وابلغ من دموع المرأَة. ولما تلاقت عيناي بعينيه الحزينتين تحركت عواطفي وتمايلت تأثيراتي فجسمت تلك النظرات وابتدعت لها اجساداً من كلام متعارف بين البشر. نظرات مفادها: «كفى ما بي يا هذا. وكفى ما عانيت من اضطهاد الناس، وما قاسيت من ألم الامراض. امضِ واتركني وسكينتي استمد من حرارة الشمس دقائق الحياة فقد هربت من مظالم ابن آدم وقسوته والتجأت إلى رماد اكثر نعومة من قلبه واختبأت بين خرائب اقل وحشة من نفسهِ. اذهب عني، فما انت الا من سكان ارض ما برحت ناقصة الاحكام، خالية من العدل.. انا حيوان حقير، لكنني خدمت ابن آدم وكنت في منزله مخلصاً ووفياً، وفي رفقته متربصاً وجاسوساً. كنت شريكاً في احزانهِ، ومغبوطاً في افراحه، متذكراً ايام بعده، مترحباً عند مجيئه، وكنت اكتفي بفتات مائدته واسعد بعظم جرّده باضراسه. ولكن لما شختُ وهرمتُ وانشبت الامراض في جسمي اظافرها نبذني وابعدني عن داره وصيرني ملعبة لصبيان الازقة القساة، وهدفاً لنبال العلل، ومحطاً لرحال الاقذار. انا، يا ابن آدم، حيوان ضعيف، لكني وجدت نسبة كائنة بيني وبين الكثيرين من اخوانك البشر الذين، اذا ما ضعفت قواهم، قلَّ رزقهم وساءَ حالهم. انا مثل جنود يحاربون عن الوطن في شبيبتهم ويستثمرون الأرض في كهولتهم، حتى إذا ما جاء شتاء الحياة وقَلَّ نفعهم، أبعدوهم ونسوهم. أنا مثل امرأة تجملت صبيَّة لتفريج قلب الشبيبة، وسهرت زوجة في الليالي لتربية الأطفال، وتعبت امرأة لإيجاد رجال المستقبل، ولكن لما شاخت وعجزت أصبحت نسيًا منسيًّا، وأمرًا مكروها، آه ما أظلمك يا ابن آدم وما أقساك!».

كانت نظرات ذلك الحيوان تتكلم، وقلبي يفهم، ونفسي تتراوح بين شفقتي عليه وتصوراتي بأبناء جلدتي، ولما أغمض عينيه لم أشأ إزعاجه فذهبتُ...