دمعة وابتسامة (1914)/حكاية


حكاية

***

عَلَى ضفة ذلك النهر، في ظل اشجار الجوز والصفصاف جلس ابن زرَّاع يتامل في المياه الجارية بسكينة وهدوء . فتى ربي بين الحقول حيث يتكلم كل شيء عن الحب . حيث الاغصان تتعانق ، والازهار تتمايل ، والطيور تتشبب. حيث الطبيعة باسرها تكرز بالروح. ابن عشرين رأَى بالامس عَلَى الينبوع صبية جالسة بين الصبايا فاحبها ثم علم انها ابنة الامير فلام قلبه وشكى نفسه الى نفسهِ ، لكن الملامة لا تميل بالقلب عن الحب ، والعذل لا يصرف النفس عن الحقيقة، والانسان بين قلبه ونفسه كغصن لين في مهب ريح الجنوب وريح الشمال . نظر الفتى فرأَى زهرة البنفسج قد نبتت بقرب زهرة الاقحوان ثم سمع الهزار يناجي الشحرور فبكى لوحدته وانفراده ثم مرت ساعات حبه امام عينيهِ مرور الاشباح فقال وعواطفه تسيل مع كلماته ودموعه :

— « هو ذا الحب يستهزئ بي . ها قد جعلني سخرية وقادني الى حيث الامال تعد عيوباً والاماني – مذلة . الحب الذي عبدته قد رفع قلبي الى قصر الامير وخفض منزلتي الى كوخ الزارع وسار بنفسي الى جمال حورية تحيط بها الرجال ويحميها الشرف الرفيع ... انا طائع ايها الحب فماذا تريد ؟ قد اتبعتك عَلَى سبل نارية فلذعني اللهيب . قد فتحت عينيَّ فلم ارَ غير الظلمة ، واطلقت لساني فلم اتكلم بغير الاسى . قد عانقني الشوق ايها الحب بمجاعة روحية لن تزول بغير قبل الحبيب . انا ضعيف ايها الحب فلمَ تخاصمني وانت القوي؟ لماذا تظلمني وانت العادل وانا البريء ؟ لماذا تذلني ولم يكن غيرك ناصري ؟ لماذا تتخلى عني وانت موجدي؟ ان جرى دمي بغير مشيئتك فاهرقه ، وإن تحركت قدماي عَلَى غير طرقك فشلها – افعل مشيئتك بهذا الجسد وخلِّ نفسي تفرح بهذه الحقول المستأْمنة بظل جناحيك ... الجداول تسير الى حبيبها البحر ، والازهار تبتسم لعشيقها النور ، والغيوم تهبط نحو مريدها الوادي ، وأنا وبي ما لا تعرفه الجداول ولا تسمع به الازهار ولا تدركه الغيوم قد رأَيتني وحيداً في محبتي منفرداً في غرامي بعيداً عن التي لا تريدني جنديا في كتائب ابيها ولا ترضاني خادماً في قصرها . »

وسكت الفتى هنيهة كأنه يريد ان يتعلم الكلام من خرير النهر وحفيف أوراق الغصون ثم عاد فقال:

– «  وانت يا من اخاف من اسمها ان ادعوها باسمها ، ايتها المحجوبة عني بستائر العظمة وجدران الجلال ، ايتها الحورية التي لا اطمع بلقائها الاَ في الابدية حيث المساواة، يامن تطيعها الصوارم وتنحني امامها الرقاب وتنفتح لها الخزائن والمساجد ! قد ملكت قلباً قدسه الحب واستعبدت نفساً شرّفها الله وخلبت عقلاً كان بالامس حراً بحرية هذه الحقول فصار اليوم اسيراً بقيود هذا الغرام . رأَيتك ايتها الجميلة فعرفت سبب مجيئي الى هذا العالم، ولما عرفت رفعة منزلتك ونظرت الى حقارتي علمت ان للالهة اسراراً لا يعرفها الانسان وسبلاً تذهب بالارواح الى حيث المحبة تقضي بغير الشرائع البشرية . ايقنت لما نظرت الى عينيك ان هذه الحياة فردوس بابه القلب البشري ، ولما رأَيت شرفك وذلي يتصارعان صراع مارد ورئبال علمت ان هذه الارض لم تعد وطناً لي . ظننت لما وجدتك جالسة بين نسائك ، كالوردة بين الرياحين، ان عروس احلامي قد تجسدت وصارت بشراً مثلي، ولما تخبرت مجد ابيك وجدت ان دون اجتناء الورد اشواكاً تدمي الاصابع ، وان ما تجمعه الاحلام تفرقه اليقظة ... »

وقام اذ ذاك ومشى نحو الينبوع منخفض الجناح ، كسير القلب ، مجسماً الاسى والقنوط بهذه الكلمات:

– «تعال ياموت وانقذني، فالارض التي تخنق اشواكها ازهارها لا تصلح للسكن. هلم وخلصني من ايام تخلع الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف العالمي مكانه . خلصني ياموت ! فالابدية اجدر بلقاء المحبين من هذا العالم . هناك ياموت انتظر حبيبتي وهناك اجتمع بها . »

بلغ الينبوع وقد جاء المساء واخذت الشمس تلم وشاحها الذهبي عن الحقل فجلس يذرف الدموع عَلَى حضيض وطئته اقدام ابنة الامير وقد حنى رأسه عَلَى صدره كانه يمنع قلبه عن الخروج.

في تلك الدقيقة ظهرت من وراء اشجار الصفصاف صبية تجر اذيالها على الاعشاب ووقفت بجانب الفتى ووضعت يدها الحريرية على رأْسه فنظر اليها نظرة نائم ايقظه شعاع الشمس. فرأى ابنة الامير واقفة حذاءه فجثا على ركبتيهِ مثلما فعل موسى عندما رأى العليقة مشتعلة امامه ولما اراد الكلام ارتج عليهِ فنابت عيناه الطافحتان بالدمع عن لسانه.

ثم عانقته الصبية وقبلت شفتيهِ، وقبلت عينيهِ راشفة المدامع السخينة وقالت بصوت الطف من نغمة الناي:

– «قد رأَيتك يا حبيبي في احلامي ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي فانت رفيق نفسي الذي فقدته ونصفي الجميل الذي انفصلت عنهُ عندما حكم عليَّ بالمجيء الى هذا العالم . قد جئت سراً يا حبيبي لالتقي بك وها انت الآن بين ذراعيَّ ، فلا تجزع ! قد تركت مجد والدي لاتبعك الى اقاصي الارض واشرب معك كأس الحياة والموت . قم يا حبيبي فنذهب الى البرية البعيدة عن الانسان » ومشى الحبيبان بين الاشجار تخفيهما ستائر الليل ولا يخيفهما بطش الامير ولا اشباح الظلمة .

هناك في اطراف البلاد عثر روّاد الامير عَلَى هيكلين بشريين في عنق احدهما قلادة ذهبية وبقربها حجر كتبت عليه هذه الكلمات :

« قد جمعنا الحب فمن يفرقنا ، واخذنا الموت فمن يرجعنا  »