دمعة وابتسامة (1914)/في مدينة الأموات


في مدينة الاموات

***

تملصت بالامس من غوغاء المدينة وخرجت امشي في الحقول الساكنة حتى بلغت اكمة عالية البستها الطبيعة اجمل حلاها· فوقفت وقد بانت المدينة بكل ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل .

جلست اتامل عن بعد في اعمال الانسان فوجدت أكثرها عناء ، فحاولت في قلبي الا افتكر بما صنعه ابن آدم وحولت عينيَّ نحو الحقل كرسيَِ مجد الله فرأَيت في وسطه مقبرة ظهرت فيها الاجداث الرخامية المحاطة باشجار السرو هناك بين مدينة الاحياء ومدينة الاموات جلست أُفكر – أُفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه وفي السكينة السائدة والهدو المستقر في تلك . من الجهة الواحدة آمال وقنوط، ومحبة وبغضة ، وغنى وفقر ، واعتقاد وجحود ، ومن الأخرى تراب في تراب تقلب الطبيعة بطنه ظاهراً وتبدع منه نباتاً ثم حيواناً وكل ذلك يتم في سكينة الليل .

بينا انا مستسلم لعوامل هذه التأَملات استلفت ناظري جمع غفير يسير الهويناء تتقدمه الموسيقى وتملأ الجو الحاناً محزنة · موكبٌ جمع بين الفخامة والعظمة وآلف بين اشكال الناس . جنازة غني قوي . رفات ميت تتبعها الاحياء وهم يبكون ويولولون ويبثون بالهواء الصراخ والعويل .

بلغوا الجبانة فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون وانفرد الموسيقيون ينفخون الابواق وبعد قليل انبرى الخطباء فأَبنوا الراحل بمنتقيات الكلام ثم الشعراء فرثوه بمنتخبات المعاني وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعهِ الحفارون والمهندسون وحوله اكاليل الازهار المنمقة بايدي المتفننين ·

رجع الموكب نحو المدينة وانا انظر من بعيد وافتكر

ومالت الشمس نحو الغروب واستطالت خیالات الصخور والاشجار واخذت الطبيعة تخلع اثواب النور ·

في تلك الدقيقة نظرت فرأيت رجلين يقلان تابوتاً خشبياً ووراءهما امرأة ترتدي اطماراً بالية وهي حاملة عَلَى منكبيها طفلاً رضيعاً وبجانبها كلب ينظر اليها تارةً والى التابوت اخرى – جنازة فقير حقير وراءها زوجة تذرف دموع الاسى وطفل يبكي لبكاء امه وكلب امين يسير وفي مسيره حزن وكآبة.

وصل هولاء الى المقبرة واودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الاجداث الرخامية ثم رجعوا بسكينة مؤثرة والكلب يتلفت نحو محط رحال رفيقه حتى اختفوا عن بصري وراء الاشجار

فالتفتُّ إذ ذاك نحو مدينة الاحياء وقلت في نفسي : – تلك للاغنياء الاقوياء . ثم نحو مدينة الاموات وقلت : – هذه للاغنياء الاقوياء. فاين موطن الفقير الضعيف يا رب ؟

قلت هذا ونظرت نحو الغيوم المتلبدة المتلونة اطرافها بذهب من اشعة الشمس الجميلة. وسمعت صوتاً من داخلي يقول ... هناك .